عايد سعيد السراج
الحوار المتمدن-العدد: 1937 - 2007 / 6 / 5 - 06:33
المحور:
الادب والفن
بخفة ورشاقة وعفوية تأتيك الجملة هامسة , يتدخل العقل فيضعها في مكانها الصحيح , هكذا ببساطة وعفوية وبلا أي ِّ مواربة أو تدخل مباشر , , يأتيك النص العارف لبواطن العمل , و يترك الكاتب شخوصه تعبر عن حالاتها وإنسانيتها , لا تكلّف ولا ادعاء , وبغير تلاعب في المفردة , تستقر الأشياء إلى مستقرِّها وانسيابيتها , فتلوذ كلّ الأماكن لديه في بيوتها , فالشخوص بشر طيبون وادعون ملمومون بحيواتهم وأمانيهم الطيبة الودودة , التي امتلأت حياة , فأناسه غالباً ما يكونون مظلومين بالحياة أو منها, وعلى وسائد همومهم , يفصلون أمانيهم فلنستمع ماذا يقول الكاتب في مجموعته القصصية المعنونة / البحث عن عبد الله العريان / والمهداة – إلى صديقته ورفيقة الدرب / كفاء علوني / وإلى ابنته فرح ناز – المستقبل – ( تحولات القطارات – من الحركة ابتلعها القطار وهي تحمل ( فرح ناز ) تركه واقفاً يتابعه وهو يعوي , تحت رذاذ المطر والبرد , كان وحيداً يواسي نفسه , بهدوء ٍ مر ابتلعَ ريقهُ , دَفَنَ ألَمَهُ النابضُ قسراً0 آخر ما شاهد يداً غضة تلوح , ابتسامة فرح ناز الطفولية , فكّت قيد فمه, وتَبَسّم بحزن ٍ – وداعاً 0 يبلل المطر وجه المدينة , يغسلها بعد صيف حار , تتساقط حبات المطر على زجاج النوافذ بقسوة , العيون تلاحق بعضها بعضاً , تتحول ساحة الانتظار إلى سرية, يختلط الحشد , ويندفع ليتوزع داخل القطار القادم من الشرق , يتحول القطار إلى سرية, كل الأشياء المحيطة به , قذيفة تنزلق على السكة بقوة , تندفع جهة حلب في الليل المشحون بالأنباء ) هكذا هو القطار ,السفر, الرحلة ,الحركة, الزمن المتحرك, الزمن الذي يفصلك عن الحياة , عن الثابت المقدّس , عن الأهل , عن من تحب , ويحرك الجغرافيا من تحت قدميك , فلا لك سوى التذكر – تدخل الواقع اللحظي مع الماضي القريب والبعيد , الماضي الذي يأسرك فتروح معه إلى دفء الحياة ونبض الوجود الإنساني المملوء بالحنين , فالنوافذ مفتوحة رغم حركة القطار , ليؤكد لك تشظي الزمن , وتضاد اللحظي مع الواقع المتحرك الذي يتخطى الواقع القاسي / واقع الجغرافيا / لتــُعاش الهواجس داخل الذاكرة التي تصطرع مع رائحة الحرب , وقسوة الوداع , / تحولات خليل جاسم الحميدي / ( من ورق الحميدي يسيل الدم بغزارة , يجرف أمامه الولاء والقصور العفنة , صار الدم, ضاء برأس ( بارعة ) شلال يصبّ من قلب والده الصياد , الذي يعود عند المساء وعلى كتفيه جلود ذئاب , فواجع امتحنته النار والماء, وزع نفسه , دخل الغرف شم رائحة الدم المترع من فم الحميدي , النازّ من جسمه النحيل , المتصبب من جبينه الواسع , المتقاطر من خصلات شعر ( بارعة ) بين أكياس الخيش المرصوفة حول مرابض الرشاشات , ) فالتحولات هنا عوالم متناقضة ومتصارعة لروح ولحم ِ ودم ِ كائن ٍبشري , الأرق النفسي من حالة التأهب لملاقاة / العدو / فالجو النفسي غير الظاهر يجعل الكتابة هنا – أشبه بالنار والماء – فكلاهما حياة , فمن الماء كل شيء حي , ومن النار الدفق الأول لكينونة الحياة , فرغم التضاد بينهما – خرجت منهما الحياة , فالحب , والقلب , والحرب , ثالوث الفعل الداخل للنص , المُحرِّك الذي يجعل الأشياء تتلاقح فيخرج منها ما غُرس بأديم الأرض , فالأرض حبلى بالأضحية دم الحمام , فالحمام , أو ( الحمامتان ) هما رمز للذبح العظيم , حين غياب الهدف , فالدم ليس له انتماء , إن كان دم الحمام أم دم البشر, لأنهما أمام الذبح سواء , وهكذا يُطَهّر الكائن بالدم , وكأن لا طهارة بلا دم ولو كان الذبح عبثياً ( ( أي قتل / الحمامة البيضاء / التي هي رمز للنقاء والطهر , ورمزية الحمام هنا هي رفض الموت , يتفجّر الدم ليعلن للملأ عن الفضيحة , فضيحة القتل العبثي, لكائن أختار الدم طهارة , ويفاجؤك الكاتب هنا بقتلٍ من نوع آخر ( رمزية السلام ) وعبثية الحرب , وقدسية الدم البشري وطهارته , وافتداءه بدم الطير 0 دم الحمام 0
أما القصة الثانية في مجموعة / البحث عن عبدالله العريان / فهي قصة / دُمّل شرقي/ فهنا أيضاً يظل الدم هو الوحيد الغاسل للثارات وأحقاد النفوس , هو المطهرِّ لدمّل البشر , هؤلاء الذين اكتنزو ا الأحقاد , والأوجاع والآلام قيحَّا ينزّ طالما لم يُـفـْـقأ هذا الدّمل, الذي نسجت عليه عناكب الثارات, والأحقاد والأمراض الاجتماعية , كل وحشية هذا الكائن البشري , لم يكن الصبي الميت سوى سرب الحمام وديع ليس له من فلسفة الكره الاجتماعي أي ذنب,سوى أنه خُلق في هكذا وسط كما يحمل المرء الاسم الذي لم يختاره , وكذلك الأهل والواقع الاجتماعي الذي لم يختارهما – ويذهب هكذا بصمت ٍ لم نر احتجاجه ولا لماذا قـُـتل , إذ يُخبئ الكاتب علينا ذلك كله ليعطي للحالة سكونيتها ولا جدواها , فلا أحد يتعاطف معه في البدء , وكأنما مات منتحراً , إذ الفاعل في لحظة الفعل كان غير ظاهر , فلا وجود إلا لجثةٍ وخنجر , وميت مشكوك بموته , أو حي مشكوك بحياته , فالكل المحيط هيّاب مشكك بالحالة , وكأنه اعتاد عليها ( هذه نهاية ابن آدم جيفة ) – الكبار معتادون على ذلك أو هكذا يبدو للقارئ, ويظل المنلوج الداخلي بين الجمهرة , والولد الذي يحتج غير هيّاب رغم صدِّ الكبار , ولا ينفع تحمسه رغم أنّ الرجل المطعون كان يلفظ أنفاسه, فالإشارة هي دم ينبجس من صدره , وخنجر رمز للقتل وأداة الجريمة ولا مجرم , إلا في آخر القصة حيث الجواب ( الحمدالله توقف سيل الدم ما بينكم وبين عشيرة الأحمدية , أنت تعلم أنّ لعشيرة الأحمدية رجل عندكم وقد أخذوه , المهم جئنا إليك لنعزيك ونطلب منك أن تسقط حقك الشخصي أمام قاضي التحقيق ) اتسعت عيناه , حدّق بالجميع , وعندها حاول الوقوف ارتجف , مئات الليرات تطايرت فوق رأسه ) انبهار الوالد وصدمته وسكوته , لأن الذي جرى ويجري , ضمن مفهوم العادات والتقاليد فوق كلّ شيء وأيّ شيء , إذ يحمدون الله على قتل شاب برئ ليقف جريان الدم , هذا هو الثأر وقوانينه غير الأخلاقية في مجتمع أضحى الجهل والعصبية سمات له , وهكذا يستطيع – بسّام الحافظ – أن يدخل عميقاً إلى عوالم الحياة الاجتماعية لنمط حياتي عشائري , في صفحات القصة القليلة ليجعلك تقف مبهوراً أمام الذي يجري 0
* أما مجموعة – مكابدات أبي الطيّب الزعلان – وهي المجموعة الثانية للقاص عام 1994 م والغلاف للفنان – جابر جبرائيل – والإهداء إلى زوجته – كفا ءعلوني – التي هي أكثر من حبيبه حسب الإهداء , وبذلك يكون الكاتب أهدى لزوجته المجموعتين القصصيتين اللتين صدرتا , وهذا نادر لدى الأدباء , إذ يبدو أن العلاقة التي تربط الأديب بزوجه هي علاقة متميزة ومثالية , وهذه ليست ظاهرة صحية فقط بل أيضاً نادرة ومتميزة 0 أما قصة أبي الطيب الزعلان فهي تتحدث عن رجل بسيط يعمل سقاءاً للأرض , ويستمر أبو الطيب بسرد حكايته أمام الكاميرا, حيث نكون أمام قصة درامية ذات دلالات نفسية عميقة , فأنت لا ترى رصد الكاميرا لوجه بطل القصة , بل ترى العمق النفسي والروحي لهذا الرجل المأزوم بالقهر , والذي يريك الكاتب عذاباته الإنسانية , ومن خلاله يستمرّ في إدانة الواقع الاجتماعي المقهور , والقاهر في الوقت نفسه , حيث الرجل تضيق به الأرض والماء التي هي رمز الحياة والخصب تذهب إلى أرض الغير, فدراسة هذه الشخصية البسيطة والمركبة بآن, بفعل الظرف المكاني والزماني التي تعيش , تعطيك جملة التحولات الجغرافية للمنطقة التي أثرت على الحياة الاجتماعية , فأعطانا الكاتب هذا النموذج الاجتماعي / لأبي الطيب / الذي يصلح لأن يكون شخصية سينمائية , وهذا ما جعله يستخدم الكاميرا بحركاتها المختلفة / زوم / حركة / رصد نفسي, وكأنه أراد أن يظهر لنا هذا الرجل الطيب الودود المسالم , غير المحتج إلا تأففاً , والصادق في سرد الأحداث البسيطة والعادية لدرجة الإيهام ببساطة الحدث وسذاجته , ليفاجؤك في نهاية العمل أن كل هذه التراكمات الكمية , صارت إلى تراكم كيفي أدى إلى اقتلاع الجذور , فالرجل الطيب أضاع كل شيء , ولم يكسب أخيراً إلا ابتسامة مقدم البرنامج واهتزاز الصورة , التي تعاطفت معه, أكثر من الواقع المُضاع , ويُـقطع البث , حيث لا زال أبو الطيب يبحث عن قبر والده الذي ذهب إلى الحرب ولم يعد , فضياع الزوجة والبيت والأب هو ضياع كامل للجذور , ولا زال هذا الرجل الطيب الذي يصل بطيبته إلى درجة البله , يبحث ويبحث غير مدرك من التغير الخطير الذي جرى حوله , لأنّ كل الذي جرى حوله , حدث بفعل خارجي كما الريح أو الإعصار الذي يقتلع كل شيء , ولم تعد السماء هي ذات السماء التي عاش , ولا الأرض لها رائحة الأرض , فكل شيء تغير , وهو لايعرف الطريق إلى المدينة , هذه القصة المحبوكة بشكل جيد وبأسلوب سَلِس ٍ وببساطة غير متكلفة تجعل من الكاتب, غواصاً ماهراً لاصطياد ليس الحكايات فقط بل أيضاً للدخول إلى عوالم شخوصه, والدخول إلى أعماقهم ومعرفة صغائر حياتهم, بطريقة فيها الكثير من البساطة والظرف , مع الاحتجاج على الظلم المحيط بهم, دون التدخل في الشخصية أو التلاعب على المفردة , وهذا ما يذكرنا بأعمال أدباء كبار مثل / عزيز نيسن / ( التركي ) وحسيب كيّالي السوري وآخرين , فوداعة الشخصية وطيبتها وخشونة العيش التي تعيش , تجعلك تتعاطف معها , ومساحة الحرية في طرح الأفكار يطرح عوالم واسعة للقص, ومساحات غير ضيقة للتعامل مع الشخوص والنصوص , واستخدام الأسلوب المسرحي الإخراجي في حركة الشخوص , وتوظيف أشياء صغيرة في العمل بشكل حركي ( مثل : الكاميرا تلتقط حركة يده اليسرى , تتناوب في حركة الرأس , تستقر على اليد , ثم تبعد000 لم يشد الشرطي قدور أذنيّ وقتها , بل همس بداخلها ) ويهمس – بسّام الحافظ , في دواخلنا ليحرك فينا بقايا إنسانيتنا لتكون أكثر آنسنة وعدلاً علّنا ننحاز إلى جانب الحق 0
* أما مجموعة – آخر أخبار المغمورين – وهي المجموعة الثالثة للكاتب – فمنها الآتي ( ظل الشيطان يلعب بعقلي , حتى ضحك عليّ وأقنعني بالذهاب إلى مدينة حلب ) وبعد دخوله المدينة رأى مجموعة واقفة تنظر إلى رجل يحرك كشتبان على قطعة خشبية , وهكذا يرى الخرزة الزرقاء تحت الكشتبان الأول , وبعد أن يأكل الطعم , تصغر حلب بعينه ويعود إلى أهله هارباً من مدينة حلب , وبعد العودة يطالب بحقه من الإرث, ويبدأ بالتعرف على القضاء , وهكذا يعيش مع أحداث قصته ( قضايا تحت الكشتبان ) وإذ باللعبة نفسها , كلٌ يلعب كشتبانه على طريقته , وإذ هي الدنيا لعبة كشتبان , كل له دور في هذه اللعبة , فاللاعب السيد , وسماسرته , وأحجار النرد التي لا يميزها سوى لونها الأحمر والأزرق , والأخ يدير اللعبة ولكن ليس بالقانون والحق الأخوي , بل بقانون / الكشتبان / ويظل السيد – طنون بن عفّاطة – هو اللعبة والملعوب به , و( الخوش بوش ) هو سيد الملاذات , وندخل مع الكاتب بسّام الحافظ , إلى هذا العالم المملوء بالمرارات والأسى , ويصبح اللاعب الأمهر , هو اللعبة ذاتها , وكأن الحياة لعبة تبدأ بلا نهاية , والمضحوك عليه فيها هو الإنسان , الإنسان الطيب ابن الأرض والنقاء , والتزاحم البشري , يقتل القيم ويذبح الإنسان على مفاصل الفوضى , فالكل يبحث عن المال والسلاح واحد أبدي, هو لعبة الكشتبان التي تتساوى عندها كل القيم , فالقصة رقراقة حميمية غير متكلّفة تجري إلى دواخل نفس القارئ, بهدوء وعفوية , حاملة ً قيمها وسموها الإنساني , ورافضة كل أشكال الاستغلال والظلم , الذي جوهره الغش والاحتيال , أنت لا بد أن تتعاطف مع أبطال بسّام الحافظ لأنهم من لحم ودم , وهو بذلك كوّن لنفسه أسلوباً خاصاً به ومتميزاً , فلو عُمّمَت كتاباته لكان لها شأن كبير , وهذا ما جعلني أفهم لأول مرة لماذا يحارب هذا الكاتب , الذي بزّ جميع أقرانه في كتابته الواقعية ذات الطابع الساخر , والجوهر الإنساني العميق , ويظلّ لاعب الكشتبان هو الذي يضع الخرزة في أصبعه الوسطى , وستظل لعبة الكشتبان دائرة حائرة , ويظل لاعب الكشتبان يؤكد أن الكشتبان هو اللاعب والآخر هو الخرزة , قصص الأديب : بسّام الحافظ قصص ممتعة شيقة ذوات دلائل عميقة تستحق القراءة 0
* صدر للكاتب الأعمال التالية : - 1- البحث عن عبدالله العريان – مجموعة قصصية 1984 –2- مكابدات أبي الطيب الزعلان – مجموعة قصصية 1994 -3- آخر أخبار المغمورين – مجموعة قصصية تحت الطبع0
* يعمل في الإخراج المسرحي وله مجموعة من المسرحيات التي لم تصدر بعد 0
#عايد_سعيد_السراج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟