أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إحسان طالب - التطرف الديني و الإسلام السياسي - الجزء الخامس: مأزق العقل الأصولي















المزيد.....


التطرف الديني و الإسلام السياسي - الجزء الخامس: مأزق العقل الأصولي


إحسان طالب

الحوار المتمدن-العدد: 1930 - 2007 / 5 / 29 - 12:19
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


إن بحثنا محاولة للدخول و الغوص أعمق ما يمكن نحو قاعدة و أس العقل الأصولي وهي في ذات الوقت ليست سياحة في بنية و تركيبة العقل العربي ، و مقصودنا هو الفكر المكتوب بالعربية أو المترجم إليها و المستند إلى ثقافتها و تراثها بصرف النظر عن أصول الكاتب العرقية باعتبار أن بنية ذلك العقل أكثر مرونة و اتساعا و يظل أفقه و مجالاته أقل ضيقا من القوالب و القواعد النهائية التي بني عليها الفكر الديني السياسي .

فالعقل العربي من وجهة نظر أركون يبقى قادرا على النهوض والانطلاق ارتكازا على ما خلفه من نتاج تراكم و استمر بدء من معتزلة المأمون إلى محمد أركون ذاته ، في حين أن العقل الأصولي بانتماءاته العرقية المختلفة ما زال قاصرا و ربما عاجزا عن فك أو كسر طوق المحددات الأصولية و مرجعياتها .

يمتلك العقل الأصولي كغيره رؤية عامة وتصورا ً خاصا ً به، لكنه هنا نهائيا ً لا يرتضي ولا يمتلك سوى الاستفادة من تجربة بناء الدولة الدينية في المدينة المنورة كمثل أعلى ونموذج يحتذي به على مر العصور

وبالرغم من براغماتية ذلك العقل المعهودة إلا أنه يسير وفقا ً لأحكام واجتهادات قياسية لا تغادر تلك التجربة ولا تتجاوزها .

فالتكتيك الذي مرت به الدعوة في مكة من السرية إلى العلنية المحدودة القائمة على إدخال المجتمع بشكل تدريجي نحو قواعد صلبة تكتسب صفة الكمال والتمام بحيث يكون صعبا ً وربما مستحيلا ً تجاوزه . ما زال متبعا في الفكر السياسي الديني الحديث الذي ترسخ استنادا ً إلى أطروحات حسن ألبنا الذي ظل معارضا للديمقراطية .و بناءها الأساسي القائم على حرية التفكير والاعتقاد ، و أكد ذلك و بينه سيد قطب في كتابه معالم في الطريق ، فخوض غمار التجربة الديمقراطية تحت راية نظام لا تنطبق عليه مواصفات الحاكمية التي ابتدعها سيد قطب يعد أمرا ً مخالفا ً للقواعد والأصول ، إلا أن الاستناد إلى الأسلوب التدريجي في التحريم أو ترتيب الفروض سمح بالقياس جواز إتيان تلك المخالفة أي المشاركة في سلطة لا تحكم بما أنزل الله على مبدأ الاستعانة بغير المسلم أو الفاسق لمحاربة العدو . وهنا يمكن القول بأن خطوة مرحلية فيها مخالفة للأحكام مقبولة في فترة معينة تبيحها الضرورة . وبذلك يجوز للإخوان المسلمين أن يشاركوا في انتخابات تؤكد الاستطلاعات بأنهم سيفوزون بها وبالتالي وجودهم في البرلمان خطوة تساعد على القرب من الهدف الأسمى وهو الدولة والسلطة المنضبطة بشكل كامل بالمرجعية الشرعية ، وعد دخولهم في انتخابات تأكد الاستطلاعات فوزهم بها مرحلة و جسرا يتم من خلاله السير نحو الاستئثار والانغلاق .

الإخوان المسلمون خاضوا الانتخابات في مصر بغية الوصول إلى البرلمان والتأثير فيه كخطوة تكتيكية يمكن بعدها تجاوز مفاهيم الديمقراطية السياسية في مرحلة متقدمة تليها خطوات نحو السيطرة والعودة إلى مفاهيم الإمارة والخلافة وهذا شيء طبيعي لأنها قمة وربما نهاية للمشاركة السياسية فالفكر الديني السياسي نخبوي لا يثق طويلا باختيارات الأكثرية وقناعاتها لأن الهدف المركزي يتعارض مع التعددية والحرية وقبول الآخر وذلك ببساطة شديدة فالسجال الفكري الأصولي لا يرتضي قبول أي تغيير جذري كونه مثقل ومقيد بمرجعية وأصولية جوهرية منبثقة من مفهوم الركن الأول المقصود به هنا التوحيد . فالإلوهية بمفهومها الأصولي تعني حصر المرجعية التشريعية بالنص المقدس وهنا تكمن العقدة المركزية . ففي بلد كسورية مثلا ً تتعدد فيه الأديان والمذاهب يغدو فيه الاحتكام إلى الشعب أمرا ً ضروريا و حاسما إلا أنه غير ممكن في ظل المرجعية العليا للنص الذي يفرق بين الناس استنادا لانتماءاتهم الدينية . وكل المحاولات التي شهدها الفكر الليبرالي العربي المستند إلى أصولية إصلاحية تجديدية بدء ً من الكواكبي ومرورا ً بمحمد عبده ورشيد رضا ( في بداياته ) ووصولا ً إلى الجابري وحسن حنفي , لم يتمكن رغم بحثه الجاد الصادق من كسر طوق تلك المرجعية أو تجاوزها .

فمفهوم الدولة الحديثة القائم في جزء أساسي منه على اعتبار الشعب مصدر السلطات لا بد و أن يتصادم مع مفهوم الإلوهية الأنفة الذكر ، فالنص المقدس الذي أنزل ليحكم ويتحكم وينظم الصغائر والكبائر في حياة الأفراد والجماعات ثابت وأصيل في مستويات يعتبر تجاوزها خروجا ً مرفوضا ً على التصور الشامل للفكر السياسي الديني . وبالرغم من انتقاد وحتى نقد فكرة الحاكمية الذي ابتدعها سيد قطب من خلال رؤيته للنص ( ومن لم يحكم بما أنزل الله أولئك هم الكافرون ) فإن العلاقة المترتبة على بنية العبودية تلزم الباحث في الفكر الديني بمحاولة إيجاد قراءات وتفاسير جديدة ومتجددة للنص الثابت والنهائي الغير قابل للتعديل أو الإضافة .وفي الوقت الذي تنتشر فيه الديمقراطية بوتائر متباينة في كافة أرجاء العالم ويتوافق انتقال السلطة وتبادل الحكم مع رغبات الشعوب بدء ً من دول الاتحاد السوفييتي السابق كجورجيا وأوكرانيا ووصولا ً إلى أمريكا اللاتينية وعودة اليسار إلى السلطة في انتخابات ديمقراطية في بوليفيا ونيكاراغوا ، ما زال المتدينون في العالم العربي والإسلامي يتساءلون عن جدوى الديمقراطية وهل تم تنصيب أبو بكر خليفة للمسلمين - قبل ما قرب من أربعة عشر قرنا ً – بالوصية أم بالشورى وهل يمكن عد تجربة ابن الخطاب نموذجا ً لمجالس شورى حديثة وذلك عند تسميته ستة مرشحين يختارون بمفردهم واحدا ً منهم كخليفة وقائد عام للدولة والشعب وتطبيقا ً لمبدأ الشورى الذي لا ينصص على الرجوع إلى الشعب ولا يعطي مؤشرات أو دلائل يمكن الاستفادة منها لإقرار مبدأ الانتخابات .

تلك المحاولات الجادة التي عمل عليها كبار المفكرين الإصلاحيين لم تفلح في استنباط فكر سياسي متطور من ( وأمرهم شورى بينهم ) ولم تفلح في إسناد الديمقراطية السياسية إلى نص شرعي واصطدمت الاجتهادات بإرث تاريخي تراكمي طويل ومكثف من قراءات وتأويلات رسخت وقرت في قاع الوعي والوجدان الديني ، ولم يتمكن العلماء الشرعيين الذين فسروا النص بطريقة كلاسيكية قامت على التقليد في مستوياتها العامة والإتباع في مستوى النخبة المسلحة بالعلوم والمعارف المؤهلة لتناول النص بشكل مباشر من إيجاد نظام سياسي مستقل ومتطور وحتى المحاولات المعاصرة لفهم المرجعية التشريعية في منحى يوصل إلى ابتكار أو إبداع مفاهيم حديثة أو رؤية مخالفة للمأثور اصطدمت بذلك الإرث الثابت .

فسعي جمال ألبنا ( كمثال ) لفهم لا أكراه في الدين بصورة تسمح بحرية الاعتقاد أو الانتقال والتغيير ارتطم بمرجعيات معتبرة عدت الوصول إلى ليبرالية فكرية ارتدادا خطيرا يؤول إلى نقد المعتقد ، وما الحملة التي شنها شيوخ من الأزهر على عمر خالد عندما اعتبر النص سالف الذكر مبررا لإشاعة الحرية الاعتقادية إلا دليل على مدى صعوبة وربما استحالة الرؤى التجديدية والإصلاحية لمفاهيم النص القديم .

وباعتبار أن الهدف الرئيسي من مشاركة الأحزاب الأصولية في اللعبة السياسية هو إقامة الدولة الإسلامية التي تطبق قوانين وأنظمة الشريعة بحذافيرها كان التفكير بإيجاد حلول للأزمات وحالات التخلف والفقر يأتي تاليا ً فالإسلام هو الحل ومقتضى ذلك ببساطة طبقوا الإسلام الصحيح وستحل كل مشاكل الشعوب والأوطان والأمم .

فمسألة الاحتباس الحراري التي تهدد الأرض و تؤرق العلماء و السياسيين ليس بمشكلة ذي بال في فكر الإسلام السياسي لأنه ببساطة تصل إلى حد السذاجة الإسلام هم الحل وتليا لا يأخذ الاهتمام بالقضايا الكونية قدرا كافيا من التركيز طالما أنه لا يتعارض مباشرة مع الضوابط و المقدسات المرجعية ، العالم الإسلامي شهد ثورة عارمة و عنفا مستفيضا ردا على تجاوز للخطوط الحمراء المرسومة حول النبي الكريم محمد في حين أنه لا يحرك ساكنا قبالة التخريب و التدمير البيئي الذي تمارسه الأنظمة الحاكم في العديد من الدول العربية و الإسلامية، "تلوث مياه النيل في مصر و حرائق الغابات في سوريا كأمثلة مباشرة "

ولم تعد الأحزاب والجماعات الدينية ملزمة بتقديم مطروحات ومشاركات أو مشاريع وبرامج حقيقية لتغيير ما يعانيه الوطن والمواطن من إخفاقات اجتماعية وسياسية واقتصادية فالحل شمولي كلي استنادا إلى قاعدة تمام وكمال الشرع المنزل فكل شيء موجود فيه ( ما تركت شيئا يقربكم من الله إلا وأمرتكم به وما تركت شيئا يبعدكم عن الله إلا ونهيتكم عنه ) .

و هنا تبدأ الإشكالية لدى العقل الأصولي ، فالأوليات و ترتيبها و أهميتها تقوم مبدئيا على تقديم الدين أي المعتقد الديني على ما سواه و تنظر إليه في رتبة أعلى من الحياة و الإنسان لذلك يبرر الإسلام السياسي الانتحار الهادف للإيقاع بالعدو أو إلحاق الأذى و الضرر به .

"حث فضيلة العلامة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي المصلين في درس التراويح بمسجد الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله- على التمسك بالكليات الخمس التي جاء الإسلام من أجل الحفاظ عليها وحمايتها وهي لا تقوم الحياة أو تستقيم إلا بها وهي المحافظة على الدين، والنفس، والنسل والنسب، والعقل والمال، مؤكدا أن أسمى هذه الضرورات هو الدين لأنه عبارة عن عقائد وعبادات وأخلاق أساسها العقيدة، وجوهرها التوحيد لقوله تعالى «ألا تشركوا به شيئا» وقوله سبحانه أيضا «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه» وقوله جل شأنه «لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا»." نقلا عن موقع القرضاوي



"أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام فضيلة الشيخ الدكتور سعود الشريم المسلمين بتقوى الله سبحانه فهي العدة في الأمور والزاد إذا بُعثر ما في القبور وحُصل ما في الصدور.

وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها يوم أمس في المسجد الحرام «عباد الله إن الشريعة الإسلامية الغراء هي الشريعة الخاتمة التي أكمل الله بها الدين وأتم بها النعمة وجعلها صالحة للخلافة في الأرض في كل زمان ومكان لا تبلى نصوصها ولا تهتز قواعدها ولأجل ذا صارت هي الأساس في حفظ الضرورات الخمس للحياة البشرية وهي الدين والنفس والعرض والعقل والمال فهي شريعة جلي تسعى لتحصيل المصالح وجلبها لتلك الضرورات كما أنها في الوقت نفسه تقوم بالدفع قبل الرفع لأي مفسدة تخل بضرورة من الضرورات بل الضرورات الخمس برمتها. " (جريدة الرياض : السبت 8 رجب 1426هـ - 13 أغسطس 2005م - العدد 13564

": الشريعة وُضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي الدين والنفس والنسل والمال والعقل، كما يقول الإمام الشاطبي في الموافقات، وثلاثٌ من هذا الضرورات الخمس، وهي النفس والنسل والعقل لا تكتمل المحافظة عليها إلا بحفظ الصحة؛"الدكتور حسين عبد الرزاق الجزائري

وعليه تكون مكانه الإنسان كقيمة مجردة من الانتماء الديني تالية لقيمة الدين الصحيح المجرد و بذلك تصبح قيم الحرية و الديمقراطية و المساواة اعتبارية في مستويات دنيا لا ترتقي و لا تصل إلى كونها أوليات إنسانية يستحقها الفرد و الإنسان بصرف النظر عن و وشائجه الإيمانية و العرقية .و بذلك يفتقد الإسلام السياسي لقاعد المشاركة و التواصل الضرورية لاستمرار اللعبة الديمقراطية و تبادل السلطة .



كما تتجلى إشكالية العقل الأصولي في مرجعيته فهي السقف الذي لا يصح خرقه أو تجاوزه بشموليتها و استغراقها الأفقي و ألعامودي ، وفي ظل السيطرة المطلقة و العصمة و الكمال كصفات مركزية للنص تتحدد مهمة العقل الإنساني في الانقياد و الإتباع للمصدر الذي لا يأتيه الباطل لا من بين يديه و لا من خلفه لذلك يكون إي إشغال لملكات العقل خارج دائرة الكلانية المرجعية عبثا و ضلالا . فالعقل ما وافق صحيح المنقول و ما انطوى تحت راية تفسير و تأويل السلف للنص.

هذا التصور و تلك الرؤية التي هيمنت وسيطرت على فكر الأصولية السياسية المعاصرة قبلت و أشيعت على أنها إرث منقول و ممارسة قديمة توالت عبر الأنظمة الإسلامية التي مارست الحكم عبر التاريخ ، إلا أن الواقع لم يكن كذلك و لم تتم لم الأمور بتلك الطرية عبر التاريخ الفكري و السياسي الإسلامي . ويصر دعاة الأصولية الجديدة على مقولة مفادها أن كل التوجيهات و النصوص الشرعية يجب تطبيقها والعمل بها دون انتقاء أو اجتزاء، و يؤكدون على السير وفق منهج السلف ومن حاد عنه خرج عن الملة وانحرف عن الصراط المستقيم .
والواقع التاريخي منذ عهد الصديق حتى الخلافة العثمانية كان خلاف ذلك . فالتطبيق الحرفي للتوجيهات والأصول لم يكن كاملا بل مجتزئا وانتقائيا، وخاصة في القضايا الكبرى. والفكرة الأساسية في هذا المجال أن التاريخ العملي للدول الإسلامية يؤكد أنها كانت تطبق فقط ما تراه مناسبا في حين أنها تجتهد فيما يلاءم مصلحة الدولة أو الفئة الحاكمة، بغض النظر عن التقييم الأخلاقي لهذه الدولة إن كانت عادلة أو جائرة، ناجحة أم فاشلة .
ولنبدأ باستعراض بعض الأمثلة : في مرحلة نقل السلطة من النبي (ص) إلى أبو بكر الصديق ، استطاع الصديق بمكانته العالية بين الصحابة وقربه الشديد من الرسول(ص) تثبيت سلطته ووقف كل أشكال المعارضة الداخلية وأقصد هنا كل الطامحين نحو الخلافة من آل البيت و الأنصار وزعامات قريش القديمة. واستتب الأمر للصديق في مكة و المدينة ، إلا أن بوادر الثورة والخروج على سلطة الدولة الفتية كانت قد ظهرت إبان مرض النبي (ص) ، ولم يأمر النبي بقتال المرتدين ولم يوصي بذلك من بعده أبدا رغم وضوح توجهات زعيمهم مسيلمة ابن حبيب الذي يراسل النبي (ص) وهو يدعي النبوة.
كتب مسيلمة الكذاب : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك، إني أشركت في الأمر معك ولنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ، لكن قريشا قوم يعتدون. وحمل رسالة مسيلمة إلى رسول الله (ص) رجلان فقال الرسول للرجلين حين قرأ الكتاب فما تقولان أنتما فقالا كما يقول فأجاب الرسول (ص) لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما .
ولما آلت الخلافة إلى الصديق قويت شوكة مسيلمة وراح يجمع حوله الناس والقبائل وبعثوا وفدا لأبي بكر على أن يقيموا الصلاة ولا يؤتون الزكاة. فاعتبر أبو بكر الأمر ردة عن الإسلام وخشي أن يداهمه المرتدون ويغزوا مكة في أقرب وقت ، فأمر بالاستعداد وتجهيز الجيوش فعارضه كثيرون واحتجوا بأن رسول الله (ص) قاتل الناس بأمر من الوحي الذي انقطع بوفاة الرسول (ص)، فقال أبو بكر : والله لأخرجن لهم وحدي ولأقاتلهم ما استمسك السيف بيدي ولا أرضى نقض الإسلام على عهدي. وكتب كتابا واحدا:
من أبو بكر خليفة رسول الله إلى من بلغه كتابي هذا من عامة وخاصة، وأكد في رسالته على أسس التوحيد وكرر الشواهد المبينة لحتمية موت النبي (ص) وطالب فيه المرتدين بالعودة وهددهم بالقتل والقتال. وأمر بقراءة كتابه في كل مجمع وأن تسبق الرسل بالكتاب الجند.
لما اعترض الصحابة على رأي الصديق بقتال مانعي الزكاة احتجوا بمسألتين، الأولى أن النبي (ص) إنما قاتل بعد أن جاء الإذن من السماء وهذا أمر لا يمكن تحقيقه لانقطاع الوحي.
والثانية قولهم كيف تقاتل من أقر بالشهادتين والصلاة.
لم يكن في معرض رد أبي بكر على معارضيه أدلة شرعية بل رد بأمرين اثنين: الأول لأقاتل من فرق بين الصلاة والزكاة، والثاني كان يرى في ترك الزكاة نقضا لعهد الدين ويأبى أن يكون ذلك النقض في عهده، وكانت خشيته الكبرى أن يتمكن المرتدون من السيطرة على الدولة وتغيير النظام.
من هنا نرى ذهاب أبي بكر لقتال المرتدين، إنما جاء باجتهاد بالرأي رغم المعارضة القوية لذلك وكما هو معلوم فإن عمر ابن الخطاب كان معارضا للقتال رغم ميله الدائم إلى حل الخلافات بالسيف، إلا أن أبو بكر كان أشد عزيمة وأمضى رأيا، وسفه رأي عمر بقوله:
أخوار في الجاهلية جبان في الإسلام.
في هذا الأمر الجلل وأمام الخطر الجاثم الذي أدركه الصديق بقوله: لا تدرون أيأتونكم نهارا أو ليلا، لم يجلس الخليفة ويبحث في الأصول والأدلة بل أمضى رأيه رغم حجة المعارضين القوية
ورفض التفاوض أو التنازل .
مما سبق نرى أن الاجتهاد بالرأي كان أقوى من الاستناد إلى النصوص في قضية كبرى كانت تهدد مستقبل الدولة الفتية.
جمع القرآن تم في عهد الصديق: وعلى عكس ما كان الأمر في حروب الردة فإن عمر (الفاروق) كان مؤيدا للفكرة في حين كان الصديق معارضا لها، وأسس رأيه في معارضة الأمر برده إلى النبي (ص) وقال: كيف أفعل أمرا ما فعله رسول الله (ص). وتذكر الروايات أن الفاروق خشي ضياع القرآن لكثرة ما قتل من الحفاظ في حروب الردة، لذلك أصر على جمع القرآن وما زال يحدث الصديق حتى وافق على الأمر.
وبمقارنة دقيقة بين حروب الردة وجمع القرآن نلاحظ تبادل الأدوار بين المؤيدين والمعارضين ، فأشد المتحمسين لحروب الردة كان أبو بكر الذي عارض في البداية جمع القرآن، في حين أن عمر بن الخطاب الذي كان أشد المتحمسين لجمع القرآن كان على رأس المعارضين في قتال المرتدين، وفي النهاية كان الرأي والاجتهاد هو الفيصل رغم أن الأمرين ظاهريا يتعارضا مع المنهج السلفي الأصولي، فالاجتهاد في المسألتين كان خارج النص. والرأي الصائب في كلا الحالتين كان مع الطرف الذي لم ينغلق ضمن النص بل بحث خارجه وأشغل الفكر وأعمل العقل بحرية وشجاعة دون الخوف من التكفير والتأثيم والتجهيل.
والمؤكد أن المسلمين منذ ذلك العصر حتى الآن يرون صوابي قتال المرتدين وجمع القرآن رغم ما حدث من خلاف بالرأي وتعارض بين القادة في بداية الأمر، فالكل يرى أن هذين العملين هما أجل الأعمال التي قام بها الخلفاء بعد موت النبي (ص).
ذلك بالرغم من الخلافات المذهبية الكبيرة بين الطوائف الإسلامية، إلا أن هذين الأمرين ليسا محل نزاع أو شقاق ولا يوجد أحد أثار شكوكا حول موقف الصديق حيالهما، في حين نرى الافتراق في مسألة الخلافة وميراث النبي (ص) بلغت حدا بعيدا جدا ما زال البحث فيه دائرا إلى يومنا هذا.
وإذا كان انتقال السلطة من علي - رضي الله عنه - إلى معاوية محل خلاف، فإن انتقال السلطة من معاوية إلى يزيد محل اتفاق على رأي واحد يقول أن هذا التسليم كان خلافا للأصول الشرعية والقواعد النبوية ومع ذلك استمرت الدولة الأموية ووطدت أركانها وحكمت المسلمين من عام 41 هجري إلى عام 132هجرى , والمعلوم انه خلال حكم الأمويين تم فتح جميع البلدان المتاخمة لحدود الدولة الإسلامية و المعلوم أيضا أن دولة الأندلس إنما أسسها الأمويون ووطدها عبد الرحمن بن معاوية بن هشام عام 138هجري ,بعد دخوله إليها ثائرا على الخلافة العباسية , ويعد عبد الرحمن حسب التقييم الفقهي خارجا على الشرعية مباح الدم , لكنه أبقى على الدولة العربية في الأندلس وجعلها خارجة عن الحكم العباسي حتى انهيارها وخروج العرب من اسبانيا .
وهنا نعود إلى ما بدأنا به لنبين إن التطبيق الحرفي و الكامل لكل التوجيهات والأصول الشرعية وهم لا وجود له , والأجدر بنا أن نتحلى بالشجاعة والقدرة لنقول :
إن المسلمين في تاريخهم الطويل كانوا يطبقون ما يرونه مناسبا وفق المصلحة الخاصة أحيانا والعامة أحيانا آخري . و دأب على ذلك قادة المسلمين من أقرب المقربين إلى الرسول (ص) حتى ابن لادن الذي ابتدع نظرية التفكيك و التركيب فسعى إلى تفكيك و تهديم المجتمعات التي يراها كافرة ليقيم أو يركب عليها مجتمعه الأصولي الصلب. و هو من أشد الأصوليين تمسكاً بالتطبيق الكامل و الحرفي إلا أنه ليس كذلك. بل طبق ما أيد تحكمه بالشعب الأفغاني و ترك جانباً أحكاماً متفقاً عليها لأنها لا تؤيد مصالحه و من ذلك أضرب مثالاً واحداً فقط: و هو الحكم القائل:
قلب بدء أي غزوة لابد من إنذار و بيان و مهلة و هذا حكم متفق عليه و مبدئي لدى جميع المسلمين طرحه ابن لادن جانباً و غدر و خان وخدع في أحداث 11 أيلول الماضية لأنه أراد نصراً سريعاً و مدوياً يرضي غروره و يوطد سيطرته.



وعلى الصعيد العلمي و المعرفي تتعمق أزمة العقل الأصولي فهو ملزم بإشراك النص و الانقياد له و القياس عليه ، فكل الابتكارات والاكتشافات والاختراعات والانجازات البشرية قديمة كانت أم حديثة في أي من مجالات العلم والمعرفة لا تستحق القبول ولا تنال الرضا ما لم تكن ضمن الإطار الذي حدده النص ، فأي انجاز طبي لا يتاح العمل به إلا بعد فتوى تعتبره موافقا للنص وتفسيراته وتأويلاته الموروثة وكل اكتشاف جيولوجي يعارض منطوق أو مفهوم النص مرفوض مهما كانت رصانته العلمية و دلا لته التجريبية . وكل نظام اقتصادي محرم ما لم يفتي مرجع ديني بحله .

فبعد عقود طويلة من تعامل الدول العربية و الإسلامية مع النظام النقدي العالمي متجاوزين الصرخات المتشددة بتحريم التعامل البنكي ، يصر التطرف الديني الجديد على اعتبار الهيئات المالية و النقدية محرمة ما لم تصدر فتى من رجل دين بجوازها , و إمعان في الانغلاق و التزمت أسبغ على معاملات نقدية كانت محرمة صفة الإسلامية فغدت مباحة بل و مستحبة ك التأمين و الأسهم و البورصة و البنوك .

كذلك كل فكر حديث أو معرفة توصل إليه العقل الإنساني مرفوضة ما لم يدل عليه نص شرعي ، فنظرية النشوء والارتقاء مثلا ً ما زالت محاربة للاعتقاد بمعارضتها لتصور أو تأويل النص ورؤيته عن الكون والحياة وكل الاكتشافات الجيولوجية الداعمة لها والمؤيدة لما وصلت إليه لا قيمة لها في حين أن أي نص مهما تعارض مع الواقع العلمي والعملي مقبول ومؤكد لمجرد كونه نص شرعي .

هنا تكمن المعضلة الكبرى للأصولية فهي ثابتة جامدة لها الفوقية والمرجعية لكل العلوم والمعارف، وبناءا عليه تكون كل الانجازات الحضارية الفكرية والعقلية الإنسانية محل شك أو رفض . و بدلا من الاعتراف بمنجزات العلم و المعرفة تحايل الأصوليون الجدد على تلك المعضلة بالاستيلاء على المكتشفات و المخترعات الحديثة و امتلاكها بدعوة أن النص سبق و دل عليها ووصل إليها قبل غيره يزمن سحيق وما كتابات الدكتور زغلول النجار في الإعجاز العلمي للقران و الكريم و السنة النبوية إلا دليل على تحايل العقل الأصولي لتغطية اشكالياته مع العلم والمعرفة الإنسانية .

لقد كانت تلك الرؤيا سبباً في محدودية التفكير الأصولي المعاصر و ترسيخ مأزقه بحيث انحسرت وظيفة العقل المتمثلة في الإيداع و الابتكار و النقد و غدا واجبه الأول و الأهم العمل و البحث في إيجابيات الموروث و محاسنه, و درء الشبهات عنه و الذود عن حياض السلف وتنزيه المنقول و تقديسه .

نهاية الجزء الخامس و يله الجزء السادس





#إحسان_طالب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصيدة تحجر


المزيد.....




- ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم ...
- عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي ...
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات ...
- الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ ...
- بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م ...
- مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ ...
- الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - إحسان طالب - التطرف الديني و الإسلام السياسي - الجزء الخامس: مأزق العقل الأصولي