حسام تمّام وباتريك هايني*
Husam TAMMAM et Patrick HAENNI
شهدت الساحة السياسية المصرية تحولات اساسية في النصف الثاني من التسعينات. فالمفارقة ان الاعتداء الكبير والدامي الذي استهدف السياح الاجانب في الاقصر عام 1997 شكل نهاية للعنف الذي كانت تمارسه المجموعات الاسلامية. فالجيل الاسلامي الجديد انضوى خلف مبادئ الديموقراطية الليبيرالية على قاعدة برامج جميع الاحزاب التي حاولت ان تؤسس نفسها تحت الراية الدينية كحزب "الوسط" و"الاصلاح" و"الشريعة".
من جهتهم، فإن "الاخوان المسلمون"، وهم الحزب الاكبر المتأرجح وضعه بين القمع والتساهل، فأنهم يهادنون شياطين الامس: يتحالفون مع الماركسيين العلمانيين في حزب التجمع التقدمي الوحدوي (اليساري)خلال حملات الدعم للقضية الفلسطينية كما يتفقون مع حزب الرئيس حسني مبارك في اطار التجمع الضخم في مدرج القاهرة ضد التدخل الاميركي في العراق بتاريخ 27 شباط/فبراير 2003.
ادت هذه التطورات جميعها الى دك اسس المزايدات بين الاسلام الرسمي والاسلام السياسي والتي دفعت بالاسلمة قدما طوال ربع قرن. فمختلف الافرقاء فقدوا صدقيتهم في هذه "الحرب الباردة" حيث وجهت الانتقادات للازهر، قطب الاسلام الرسمي، بسبب تواطؤه مع النظام اذ تنظر شبيبة المدن غالبا الى العلماء على انهم من طراز قديم "يعيشون في برجهم العاجي". "الاخوان المسلمون"وبسبب علاقتهم ـ الحقيقية ام المفترضة ــبتجربة العنف التي ادمت مصر طوال خمس سنوات فقدوا الهالة التي كانوا يتمتعون بها في الثمانينات. اما الجماعات المتطرفة فقد خرجت من الساحة او نأت بنفسها الى اطراف العالم الاسلامي (تحالف تنظيم الجهاد مع تيار السيد اسامة بن لادن عن طريق الدكتور أيمن الظواهري).
برز ضمن هذا الاطار اطراف دينيون جدد: الدعاة الحديثون بأسلوبهم الذي يذكر بمبشّري التلفزيون في الولايات المتحدة، الفنانات التائبات العائدات الى الدين، داعيات بورجوازيات هن في اساس تقليد "الصالون الاسلامي" المنتشر في هذه الاوساط الغنية، مجموعات التبشير الموسيقية، المثقفون الاسلاميون "المستقلون".
يلتقي هؤلاء الفاعلون المختلفون في اربع نقاط: فهم جميعا قادمون من قطاعات التعليم العلمانية، اكتسبوا ثقافتهم الدينية بأنفسهم، انهم شباب قادمون من اوساط متميزة ومندمجة اجتماعيا، انهم يسيرون في مسعى توفيقي بين نماذج ثقافية مختلفة وبين المرجعية الاسلامية التي تفقد مركزيتها، واخيرا يؤكدون القطيعة المزدوجة مع الاسلام الرسمي من جهة والاسلام السياسي من جهة اخرى. ويتم الانتقال نحو قيم غير ثورية خاصة بشباب المهن الحرة المدينيين (yupies) الذين يعيشون زمانهم ويؤمنون بقيم لا تحمل آمالا بالغد المشرق كالفردية والسعي الى الملذات والرفاهية والاستهلاك. مختصر الكلام نحن في حقبة الخروج من السياسة.
ولعل ما يرمز الى هذه الظاهرة هو الحجاب الاسلامي، زينة " الصحوة الاسلامية" في السبعينات. فهو لم يعد يحمل معنى الرفض للغرب كما في بداياته وبات يرسم صورة لشكل من الاسلام وليس للتوجه الاسلامي: انتهت حقبة الهوس بالهوية وجاء عصر التمفصل على وقائع العولمة واعادة التكون من خلال السوق والنمط الاستهلاكي.
واذا كان الحجاب ما زال معروضا للبيع في باحات المساجد فإنه بات ملكا لقطاع الملبوسات الجاهزة وهو يلبس في المحلات الخاصة ببيعه وفق معايير الموضة الدولية التي تتبناه وذلك بدءا باسماء المحلات نفسها سواء بالانكليزية -Muhajaba Home, al-Salam Shopping center أم بالفرنسية Flash ou L’Amour. وكلها صفات لم تكن واردة في برنامج تأكيد الهوية الاسلامية ولا تتماشى مع اخلاقيات الحياء الشائعة!
ان "المتحجبة الليبيرالية" التي ترتاد هياكل الموضة هذه قد تسببت بالغيظ للاصوليين "فهي ترتدي حجابا موقعا من دور الازياء الباريسية وتتكلم مع اولادها بالانكليزية"، تدينها المناضلات في صفوف "الاخوان المسلمين"كما الدعاة الذين يهددون بالله العلي العظيم الذي يرى ويعرف كل شيء.
كذلك عرف الانشاد الديني المسار نفسه من نزع الطابع الايديولوجي عنه ومطابقته مع العولمة. فهذا التقليد الموروث من الحركات الصوفية كان عاد الى الواجهة مطلع السبعينات مع الحركات الاسلامية داخل حرم الجامعات. وكان الانشاد يستوحي كتابات المناضلين في سجونهم واشادة بالجهاد والاستشهاد والبطولة وادانة للسلطة الاعتباطية. طوال عقد من الزمن وكما بالنسبة للحجاب في بداياته في الجامعات، كانت السياسة ماثلة في كل شيء: كلمات تركز على نقد الدولة ولا استخدام للآلات الموسيقية المعتبرة متنافية مع الشريعة. بالتالي وتحت تأثير الاناشيد الوطنية الاسلامية خلال الانتفاضة الاولى (1987) بدأ تلحين الانشاد عن طريق الطبلة وآلات الجوقة وصولا الى المبرمج الالكتروني.
نشأت مجموعتان في نهاية الثمانينات وتكاثرت الطلبات عليهما في الاوساط الاسلامية للمشاركة في "الزيجات الاسلامية" التي بدأت تنتشر. فتغيرت موضوعات الانشاد وظهر الحب والسعادة والشعر بسبب بروز جيل غير مناضل واستجابة لتركيبة العرس التي لا تتناسب مع الشعارات الكفاحية.
من ثم وابتداء من النصف الثاني من التسعينات تحولت هذه المجموعات الى الاحتراف وتوسعت مجموعة الآلات المستعملة وشاعت الحفلات المدفوعة بينما دخلت هذه الفرق الى الاسواق من طريق الكاسيتات. من فريقين معروفين في مطلع التسعينات ارتفع العدد بعد عشرة اعوام الى الخمسين. بدأوا يتخلون عن اغاني الجهاد ليدخلوا في سياق منافسة مع نجوم الغناء الشعبي المصري. ويراوحون على غرار هؤلاء بين الرومنسية والاندفاع الوطني المرتبط بقضيتي فلسطين والعراق. مع ابتعاد الفرق عن التسميات الدينية ("الوعد" او "الجيل")استمر الانشاد في الذوبان مع ايقاعات غير عربية كموسيقى البوب الانكلو سكسونية والجاز او الراب.
في حالتي الحجاب والانشاد ادى الدخول الى عالم الاستهلاك والسوق والتوافق مع النماذج غير العربية (البوب الانكلو سكسوني، الموضة العالمية) الى شكل من اشكال التمرد ليس فقط على البوريتانية التي انبثقت عنها هذه الظواهر في السبعينات والثمانينات بل ايضا وخصوصا لمبدأ البعد الايديولوجي للدين.
ليس هذا الانقلاب عرضيا اذ يمكن رسم مسارات مشابهة للاقتصاد الاسلامي المندمج اكثر مع الموجة المالية العالمية او للاعمال الخيرية الاسلامية التي يعاد النظر فيها في اطار رؤية نيوليبيرالية كشبكة امان ترافق حركة تراجع الدولة التي تلقى الموافقة من الاسلاميين. يمكن ملاحظة هذه التطورات داخل فئة من البورجوازية التقية مما يذكّر بشكل من اشكال "العصر الجديد" الديني المعروف في الغرب حيث تتم الاستعارة بالطريقة نفسها من الروحانيات الاسيوية.
السيدة ماجدة عامر، داعية شابة من الوسط البورجوازي في القاهرة مشغوفة بالشاكراس(1) واليوغا والحمية العضوية والممارسة التأملية. وتلقى محاضرتها في الاسلام والطب البديل صدى حماسياً لدى نساء المجتمع الراقي اللواتي يقصدن مسجد ابو بكر الصديق القائم في ضاحية هليوبوليس المترفة.
التجسيد الاكمل لهذا التحول يأتي من التبشير الملطف للسيد عمر خالد وهو شاب في السادسة والثلاثين يدعو الى "الاخلاقية البروتستانتية" و"الاهتمام بالذات".في فترة اربع سنوات تمكن ابن العائلة المحترمة هذا من فرض نفسه كالداعية الاكثر شعبية في العالم العربي وصولا الى ضواحي المدن الفرنسية. اما سر نجاحه فهو في وقوفه خارج المنافسة بين الاسلام السياسي والاسلام الرسمي ليعرض منتجا دينيا متوافقا مع التطلعات الحديثة للبورجوازية المدينية، اي ايمان اجتماعي يشدد على السلام الداخلي والتوازن الروحي ورفض لممارسة دينية يكتفي فيها الطقس بذاته وعدم القبول بصورة إله القصاص...
كما يرفض السلوك الذي يتميز به الشيخ التقليدي اذ يفضل الذقن الحليقة على اللحية والطقم وربطة العنق على الجلابية البيضاء واللهجة المصرية على العربية الفصحى. يمارس القطيعة مع الدعوة السلفية التقليدية مدافعا عن تبشير ملطف في ظل الله ــ المحبة. انه الاول الذي نقل نموذج المبشرين التلفزيونيين الاميركيين ليدخل مبدأ الحوار الديني على الشاشة في العالم العربي لتتعمم الطريقة من بعده على من يسمون انفسهم "الدعاة الجدد" امثال خالد الجندي والحبيب علي وصفوت حجازي...
اما رسالته الكبيرة فهي ضرورة "المصالحة بين الدين والحياة".فالعمل بالسلوك الديني لا يفترض تضحيات كبرى بل بعض "الترتيبات"، وان تكون متدينا لا يعني ان تتخلى عن ملذات الحياة. لذلك يحب خالد ان تلتقط له الصور في ثياب الرياضة صحبة بعض نجوم الكرة تجسيدا للتوازن بين الجسدي والروحي. نبتعد هنا عن الجهاد او حتى عن السياسة وهذا ما ادركه احد مشايخ الازهر الذي يصف دعوة خالد بانها "دايت" كما يقال عن المشروبات الغازية الخالية من السكر، بينما تصف اوساط "الاخوان المسلمين"خطابه بأنه "اسلام مكيّف".
ليس لدى خالد من مشروع سوى رفع المستوى الاخلاقي لدى شبيبة القاهرة والاسكندرية المنفتحين على الحداثة من خلال خطاب ديني يحمل قيم تحقيق الذات على النمط الليبيرالي الجديد: الطموح والثروة والنجاح والمثابرة في العمل والفاعلية والاهتمام بالذات. ويقترح عليهم نموذج الثروة الفاضلة والخلاص بالافعال كما يوضح ذلك في احدى مقولاته:"الثروة هدية من السماء والمسلم الثري ينفق ثروته في سبيل الله واعمال البر".
تلك هي نية خالد الذي توجه الى جمهوره في لحظة حماسة قائلا:"اريد ان اصبح غنيا كي ينظر الناس اليّ ويقولوا: هذا رجل متدين وغني ـ فيحبون الله من خلال ثروتي. اريد المال وافضل الثياب كي يتعلق الناس بدين الله".وهو يقيّم باستمرار الجهد ويطالب باستخدام الوقت بطريقة فعالة وينتقد التسلية غير المجدية و... الافراط في النوم.
في سياق نزعته البناءة يعتبر خالد "ان النقطة الاولى في بناء الحياة الجدية هي ضرورة تحديد الاهداف وترجمتها خطيا في مكان ما".ومن الوحي نفسه يدعو جمهوره كي يكون "منتجا في مساعدة الاصدقاء ومنتجا في انجاز الاعمال ومنتجا في تنمية المجتمع". ويصل الى الدفاع عن الطموح:"ان احد البراهين على محبة الله هو ان يدفعك الى الطموح لترتقي باستمرار وترتفع اكثر فأكثر في المجتمع".
وهذا ما حصل لخالد في طبيعة الحال، اذ تتمتع اليوم خطبه بحقوق النشر وقد أسس شركات عدة لتوزيع الكاسيتات ويعمل مستشارا لدى محطة "اقرأ" التلفزيونية السعودية ويطلب منه الانضمام الى مجالس ادارة في البنوك الاسلامية. تحول خالد الى سلعة اعلامية بعد ان تحول الى رجل اعمال ديني يقدس قيم السوق في اطار دعوة غير مسيسة. ولم تتردد محطة "ال. بي. سي" لمؤسسيها من الميليشيات المسيحية اللبنانية في التضحية بولاءاتها الطائفية على مذبح الربح المقدس لتبث في رمضان المنصرم البرنامج الحواري الاسلامي لخالد بعنوان "ونلقى الاحبة" من اجل توسيع نسبة مشاهديها في الخليج ورفع عائداتها الاعلانية.
ليس هذا النوع من الدعاة ظاهرة محض مصرية، فدور النشر الاسلامية تعتمد منذ خمسة اعوام مفهوم الادارة الحديثة. وها هو السيد محمد عبد الجواد احد قدامى "الاخوان المسلمين"يقدم نماذج عن هذا التوجه بصيغته الاسلامية في كتيبات باللغة العربية حول "اسرار الادارة الناجحة خلال حياة الرسول" او "ادارة الرسول للعلاقات الانسانية".وفي المغرب، تلقّن بعض الكتيبات من النوع نفسه كيف توضع "البركة" في خدمة الاعمال التجارية او "الاسرار العشرة للنجاح الشخصي" كما تعلمها احدى دور النشر الاسلامية في الخليج. وفي اندونيسيا لم يعد السيد عبدالله جيمنستيار الداعية الاكثر انفتاحا في جاكرتا يكتفي بالخطب الدينية بل يكمل بإعطاء دروس في ادارة الاعمال والتحفيز.
كذلك تصل الموجة الى المؤسسات الدينية الرسمية، ففي وزارة الاوقاف تشدد مشاريع الاصلاح على الدور الاجتماعي للمسجد وعلى اهمية المجتمع المدني والاكتفاء الذاتي. ان احدى حلقات الدراسة في الازهر تطرقت الى ضرورة اعادة صياغة الدعوة انطلاقا من تعاليم التسويق الاميركية.
يمكن النظر ايجابيا الى هذه الاشكال الجديدة لتأكيد المرجعية الدينية كما يمكن ان تثير الابتسام رغبة التوفيق مع ثقافات اخرى في كل مظاهر "الصحوة الاسلامية".بيد اننا لا نشهد صعودا للنزعة الاسلامية الانسانية بقدر ما نرى اعادة تسويق اسلامية لليبيرالية الاقتصادية في اطار تتفاقم فيه الفروقات الاجتماعية لتؤكد ضرورة ايجاد بديل قادر على مقاومة العولمة الليبيرالية. اما نفحة المقاومة الوحيدة ضد آيات الفكر الاسلامي الواحد فتأتي من الاهتمام المتزايد للمثقفين الاسلاميين الشباب بحركات العولمة الاخرى كما تبرهن على ذلك منظمة "الجنوب" ذات الاتجاه العالمثالثي والتي تنبئ ربما باعادة تشكيل يوتوبيا قائمة على الاسلام لكن متحررة من هواجس الهوية.
--------------------------------------------------------------------------------
* على التوالي صحافي في موقع "islamonline"، وباحث في مركز التوثيق والدراسات الاقتصادية والقانونية والاجتماعية في القاهرة..
1ـ عبارة سنسكريتية تعني بحسب الطب الشرقي مركزا للطاقة يؤمّن التوازن النفسي والصحي.
جميع الحقوق محفوظة 2003© , العالم الدبلوماسي و مفهوم