إبراهيم الحسيني
الحوار المتمدن-العدد: 1929 - 2007 / 5 / 28 - 10:12
المحور:
الادب والفن
وترفرف الراية السوداء .
ضباب كثيف , وهواء مندى , الليل جبل , القاهرة نائمة ,نوافذ تبدو في العتمة كفتحات جحور , حراس الأبراج يتبادلون صياحا :
- خمسة تمام .
- ستة تمام .
كلبان بوليسيان أسودان يربضان أمام بوابة حديدية ضخمة ,يقف خلفيهما , جنديان , يمسكان سلستين , تنتهيان عند طوقين من جلد سميك عند رقبتي الكلبين .رجل وحيد في مقهاه , يغسل الكبايات والفناجين , يغير ماء الشيش . بخار ماء يتسرب من حواف غطاء براد ضخم , يمتلئ بمياه تسخن , تحت نار " بوتاجاز " أعور.أكشاك وحوانيت مغلقة . شيخ معمم ينحدر صوب مسجد الرفاعي , يفتح بابا عتيقا بهتت زخارفه , يخلع حذاءه , يرفعه تحت إبطه ,ويلج , تبتلعه ظلمة كثيفة , يتنحنح , يسعل , ويسمع صدى سعاله , يضئ نورا شاحبا , ثم يتوجه إلى باب خلفي ضيق , يصعد بتؤدة سلما حلزونيا , يقوده إلى المئذنة .سور عالي من حجارة جبلية , يمتد فوقه أسلاك شائكة وزجاج مهشم يومض . فئران وعرس , قطط وسحال . بغل يفترش الأرض على أحد جانبيه , يلوى عنقه للخلف , حوله بقايا برسيم وتبن وفول " مدشوش " . صبيان أسمالهما بالية , أرجلهما متسخة ,يتكوران متداخلين , يغطان في " خرج " معلق أسفل كارو متربة ,يتنفسان بهدوء وعمق , و ذراعيهما وسادتان .
امرأة وحيدة تجلس " مفرشحة " على رصيف " درب سعادة " , ذات سمنة خفيفة , سكرانة منهكة , تسند مؤخرة رأسها على جدار بيت مهجور ومتداع , ترتفع " جيبتها " عن فخذين متهدلين مكدومين . لم تتخلف ليلة منذ سنوات , لا يعلم أحد مداها , لا يعوقها مرض أو سفر , برد أو مطر, بعد الثالثة , وقبل الفجر تأتى , يشم النزلاء حلف الأسوار, تتسلل إليهم رائحتها , تصلهم حشرجة أنفاسها, يحسون ملمس خطوها, ويتناوب اليقظة منهم في الدور الثالث القفز على البطاطين إلى النوافذ المسيخة , يقرفصون كالقرود, يتأملون الفخذين وفرجة الثديين بشوق واشتهاء , يلقون إليها أرقام تليفونات ورسائل تلغرافية , تجرى , تلاحق الرسائل , يمينا وشمالا , تنحني لتلتقطها , وتدسها تحت"السوتيان",يداهمها حراس الأسوار, يحيطونها, ويخطف أحدهم حقيبتها :
- عملتي بكام الليلة ؟
ثم يخرج محتوياتها : مناديل ورقية, سجائر أجنبية, مراية, ولاعة, مزيل للعرق, مكياجات حمراء,صفراء,بنية, بنفسجية, برتقالية , وصورة فوتوغرافية يتجاهلونها .
- زباينك دايما مأشفرين
يقتسمون ما لم تخفه من جنيهاتها, وهم يتحرشون بها من أمام ومن خلف, هازئين, يمدون أياديهم إلى نهديها ومؤخرتها وبين فخذيها,تدفعهم بعصبية :
- تعبانة يا ولاد الكلب .
وتتهالك على الرصيف , تشعل سيجارة من سيجارة .
وعند أول ضوء, تتساند على بعضها, وتنهض, تنفض التراب عن مؤخرتها, تضع كفيها مفتوحين حول فمها, فيخرج الزفير مدخنا , وبكل مالها من قوة وعزم, تنادى :
- يا عزيز .. يا عزيز ..
لا أحد يجيب .
تجرجر قدميها المتورمتين بتثاقل وإهمال, وهى تتلفت وراءها :
- يمكن .
وتفض الرسائل المطوية , رسالة تلو الأخرى .
" جلال مترحل وادي النطرون. سامى رايح طنطا. رفعت راجع الحضرة. جرجس في مديرية التحرير. عاطف ودوه المرج. و شاكر في طره "
وما تزال تنفض التراب عن مؤخرتها. والرجل الوحيد في مقهاه , يرص الكراسي , يمسح المناضد , وصمت مطبق يخدشه عواء الكلاب :
عوووو ... عووو ...
العصفور
خرجوا جميعاً وبقيت وحدي , وعلى غير العادة رمقني الحارس بمودة :
- تصبح على خير .
وضرب المفتاح في الباب, تك.. تك, أغلق الزنزانة.
والحق, الحق , أقول لكم :
كنت أتطلع إلى الورقة في يد الحارس, وهو ينادى اسما اسما ,إلى أن انتهى, تلفت حولي, وكد ت أنفجر في البكاء, لكنى تماسكت, فهؤلاء أحبة, وأنت رجل . تمددت على فراشي,في بلادة وشجن, كتلة شمعية باردة مخنوقة بالبكاء.
ما أقسي هذه اللحظة.. لحظة انعدام اليقين , بين الفرحة بانعتاق الآخرين, وحزن الأسر والفراق, شددت البطانية على وجهي , لكنى – صدقوني- لم أنم, ولم تغمض عيناى , ولم تنتبني ولو غفوة, كنت في كامل الإدراك وتمام اليقظة, ضعف, انكسار, وهم ,خيال, حقيقة, قوة , بهجة, تمزق , انفجار, انشطار, لم أدر إلا وأنا مازلت ممددا على فراشي, واقفا أدور في الزنزانة , أجمع ملابسي والمنشفة وفرشاة ومعجون الأسنان وماكينة الحلاقة , في الحقيبة , التي نفضت, أو نفض هو, عنها الغبار, ورأيتني أخرج, والأبواب لا تزال مغلقة, من باب الزنزانة إلى العنبر, ومن بوابة العنبر إلى الفناء الكبير, ومن بوابة الفناء الكبير إلى الإدارة, ومن بوابة الإدارة إلى السور الخارجي, ومن بوابة السور الخارجي إلى الشارع .
اندفع الهواء إلى صدري , تنفست بعمق .
" الله.. الهوا جميل "
ورأيتني, من هنا, بمفردي أسير, والطريق يمتد, أبريل والخضرة ورائحة الورد والرياحين و حفيف أوراق الشجر الكثيف و سمرة الإسفلت وومضة الليل وبقع الضوء البعيد .
" ما أحلاك هذه الأيام حبيبتي "
إلى أن وصلت مفترق طرق, ظلت تتقاسمني, أو تتقاسمه, الحيرة : في أي طريق أمشى ؟ حتى سمعت قطارا يدخل محطة, وتذكرت عندما كان صوت عجلاته الحديدية يأتينا خفيضا في الزنزانة, يثير الرغبات والأشواق, يوقظ الأحلام, ويلهب الذكريات, جريت بكل ما أوتيت من قوة وعزم, و بالكاد تمكنت من اللحاق بالقطار, يتحرك ببطء, ألقيت الحقيبة في العربة قبل الأخيرة, وقفزت وراءها .
وكنت على فراشي – هنا – بالزنزانة ألهث
" على بلد المحبوب وديني طال شوقي
والبعد كاويني "
-عد يا شهاب.
- انهض أنت يا شهاب
- إنه الوهم, ولا داعي لخداع النفس يا شهاب
- هذا طريق الموت أو الجنون يا شهاب
- تمتع أنت بالعقل والحكمة والحياة يا شهاب
- أنا الأصل يا شهاب
- أنت خائر وبليد يا شهاب
- سأخسف بك الأرض يا شهاب
صياح وضجيج وصهيل وصليل وقعقعة ونيران و لهاث وحجارة وحصى ورمال ساخنة وأرض تنشق: لأغور.. وأغور, فأراني,هناك, في القطار, يشق الهواء, ويندفع : جسد هنا, وجسد هناك, المعادى, روح هنا, روح هناك, مارى جرجس, نار هنا, ونار هناك, الملك الصالح, نفق هنا, ونفق هناك, السيدة زينب, مشدود لخيول هنا, وخيول هناك.
يا الله , من أنا؟ وأين موقع قدمي الآن بالتحديد ؟
في ميدان التحرير , والساعة تدق العاشرة , كل الشوارع الآن لك فامض كيفما تشاء .
" بهتيم زهرة المدائن "
سيقان وأفخاذ وأرداف وخصور ونهود وعيون وخدود وشفاه وشعور طويلة قصيرة, مخنوقة ومرسلة, كل النساء الآن لك,متع بصرك , واملأ جفنيك .
" فاطمة ما أجملك حبيبتي , عندما تأخذيني في صدرك , وتفتحين بوابتك السحرية " وهاهو أتوبيس " 935 " يقبل , أراه من هنا يدخل المحطة , قلبي يرفرف ويكاد ينخلع من ضلوعي. أنت منى, وأنا منك, تمهل قليلا يا شهاب , الحرية أو الموت, اقفز يا شهاب , نط و لا تلتفت إليه, فاطمة الآن تتساءل عن سر خروجهم وبقائي, القلق يأكل لحمها, وينهش عظامها, طال الزمان والغياب,قد تنهار وتصاب بصدمة عصبية . أسرع يا سائق لقد أخذوني منها ليلة زفافنا, الشوارع أمامك خاوية, هات آخر ما عندك , أنا قادم حبيبتي, لحظات وأصير بين يديك :
ضميني .. ضميني ..
رمسيس.. كوبري غمرة.. شادر السمك.. الوايلي.. الأميرية.. مسطرد, حفر, مطبات.
آه.. بهتيم زهرة المدائن حقاً .
أختنق يا شهاب .. عـد .
البيوت القديمة, الشوارع المتربة, الحواري الضيقة .
الدنيا تدور بي يا شهاب عـد .
حكيم البقال, عبد اللاه الفكهاني , طه الحلواني, الصهاريج القديمة, الصهاريج الجديدة .
لساني يتدلى يا شهاب عـد .
صلاح الطعمجي, حمدي الكبابجي, عبد المنعم القماش, إمام الجزمجي, سيد العصيري .
أقبل الأرض تحت قدميك يا شهاب عــد .
شعراوي اللبان, كشك سعيد الأعرج, مقهى الغنام, مخابز الدمهوجي, عمال أسكو, هاهو بيتنا .
هواء.. هواء
صعدت درجات السلم, وبأخر قطرة من دمى, ضغطت الجرس, ولمحت طيف فاطمة خلف زجاج الباب الذي انفتح.. وغامت الدنيا .
في الصباح وجد الحارس عصفورا ممزقا عند أسياخ النافذة .
الشاهد
وأعـد ت غـرفــة الإعـدام .
راجع المأمور مع العشماوي: متانة الحبال المجدولة, قتامة العصابة السوداء .
حوائط جرانيتية ضخمة مبطنة بجلود سميكة سوداء, مساحة خشبية تتوسط أرض الغرفة مغطاة بسجادة بالية, ترس كبير أسود يتصل بذراع حديدية سوداء, يجذبها " العشماوى"بغتة بقوة: فتنشق الأرض عن هوة سحيقة,ليصعد ملك الموت.
يوم رآها,تطارد السيارات في الإشارات, تتلقى الزهور لركابها من نوافذها, لم يكن على يقين :
" هي مش هي "
طار سائق التاكسي الذي يستقله, تلفت وراءه, ليهبط, كانت قد اختفت, لكنه تذكر, وهى تتطلع من الشرفة, فجر أيامهما معا:
- لن يكون مصيري مثل هذه المرأة.
كانت تشعر برباط وثيق - تكرهه- بينها وبين هذه المرأة التي تقيم ليلا ونهارا, على الرصيف: تسب المارة والحكام,وتتسول ما يقضى حاجتها:
- اطرد هذه المرأة من هنا.
اللون السائد هنا أزرق, الجدران زرقاء, النوافذ زرقاء,الأزياء زرقاء, الأسقف, حتى النهار مشوبا بزرقة خفيفة, النادر أصفر زى الحراس, لكنك تستطيع تمييز الأحمر في عنبر الإعـدام.
الساعة الآن الرابعة إلا ربع.
" ربما يكون هو, وربما يكون غيره"
باق من الزمن ربع ساعة.
- كل واحد من هؤلاء يعرف مصيره.
- ومن لا يعرف مصيره ؟
- كيف يعيش الإنسان على حافة الموت ؟
- كلنا على نفس الجرف .
كان الفضول يستثيره, يؤرق نومه, يملك عليه وجدانه, يعذبه, ويقود خطاه. وكان محظورا على السجناء الاقتراب من الذين يلوحون هناك شاحبي الوجوه , واجمين .
ذات مرة حام حول أسلاك العنبر, عله يخاطب أحدهم, ثم تجاسر وسأل أحد الحراس:
نفسي أعرف بما يحسون ؟ كيف يفكرون ؟
تطلع الحارس بدهشة :
- كلنا أموات يا أستاذ , ابعـد.
لم ندرك خطورة ما يجري, لم ننتبه إلى ما وراء عبارته وقتها:
- دوستويفسكى خاض التجربة, لهذا أنتج أدبا عظيما.
هاجس ما كان يطارده :
- المرأة التي أحبتني, المرأة التي أحببت, لن أراها إلا هنا.
كانت كالوردة في الفجر تتفتح, تستقبل نداي وهمسي وجنوني.
الورد عمره قصير, والشمس تجفف الندى, ولم يبق لنا إلا...
- اسمي مدبولى, نادوني مدبولى.
كنا ثلاثة, شاعر وقاص ورسام, بقايا انتفاضة يناير, نسكن الزنزانة المقابلة لغرفة الشنق, شقت لنا مجرى إلى" العشماوى" سيجارة, كباية شاي, فنجان قهوة, بقايا وجبة.
- تكره عشماوي يا حضرة الصول ؟
- أكل عيش , مهنة .
- الشنق يا حضرة الصول ؟!
- أنا سياف الملك, لو الملك قال: أشنق ابنك أشنقه!
- من غير ما تفكر ؟
- أنا أحن واحد على المشنوقين !
- في الشنق حنيه !
- حسن الصنعة, وقوع البلا ولا انتظاره .
كان أقربنا إليه , وأبعدنا عنه, لم نلحظ اهتمامه الزائد عن الحد, وهو يوغل في التجربة, يخوض في تفاصيلها وزواياها:
- الموت تجربة نادرة, الميت الحي, أو الحي الميت.
- هذه الحضارة شواهد قبور.
- الحياة قصيدة عدمية.
طلب الكتب في الزيارات وجمع المجلات وقصاصات الأخبار, يستعيد بين الحين والآخر, مشهد الخازوق في جسر على نهر درينا .
- هذا هو تاريخنا الجميل, تاريخنا الحقيقي, خوزقة ورجم وصلب, رمى بالرصاص وشنق وصعق بالكهرباء, من العصر البدائي إلى عصر التكنولوجيا .
يوما بعد يوم, جذبنا إلى عالمه, دفعنا ندور في دائرته, يلح على إنسان دوستويفسكى وكلبه في" مذلون مهانون", وطفل جوركي الذي يهوى الصراصير, مومس سارتر الفاضلة.
ورطنا معه وافقناه على شططه وجنونه, وضعناه بأيدينا على حافة المشنقة:
- سأرسل لكم كل ما أعـرفه من هناك.
قاومناه . وأصر .
دب.. دب .. دب , الساعة الآن الرابعة , أقدام الجند تقترب.
باق من الزمن ثوان.
- خل الليلة تعدى على خير يا فؤاد.
- خش زنزانتك منك له.
- بكره في إعـدام يا عـزيز.
صمت وليل ثقيل, ترقب وانتظار, عيون جامدة, أنفاس لاهثة , وكنا نتناوب النظر من فرجة بالباب: ثمانية عشر رجلا, منذ قدومنا إلى هذه المقبرة, وست عشر امرأة, كنا نسمع زحف أقدامهن وهن منهارات, مجرورات من تحت آباطهن, فالأنثى
أية أنثى لها رائحة نفاذة هنا :
- النسوان أحلى ما في الدنيا .
- هن الدنيا .
علقن على المشنقة: امرأة وراء امرأة , ورجل وراء رجل .
وفى الإعـدام الأخير , تهالك.. خارت قواه وارتعش , اسند رأسه بين كفيه, وخرجت من فمه حشرجة واهنة :
" هي "
- لن يكون مصيري مثل هذه المرأة .
وكان يتخفف على صدرها من آلامه وملاحقاته وجفاف أيامه .
- حبي نسيم الربيع , قادني إلى الصحراء.(1)
وكانت تتعرى بين يديه , من أصباغها وماضيها , بلا استحياء .
- أبى ميكانيكي , عامل في ورشه, والرجال لا يريدون منى
غير فرجي ومؤخرتي وأثدائي .
وكنا نجوب البلاد , سواحلها وصحاريها , أدخل فيها وتدخل في:
شهب ونيازك , ريح تعصف , موج يهدر, ونهر يفيض , هي بعض منى , أنا بعض منها .
ونفذ , اخترق الحصار .
- سيعدمونه يا محمود .
- وما شأني ؟
- حل محلك .
- قايضني بما يريد , وقايضته بما يريد .
وكان قد جاء بـه من دورة المياه خلسة , وقال :
- محمود محكوم عليه بالإعـدام , سوف نبدل مواقعنا.
- هذا جنون .
- بضعة أيام .. ونعود .
دب .. دب .. دب , أقدام الجند تقترب ,فرقة الإعـدام تتأهب , وملك الموت : يزحف كالحية , يدب كالنمر , يزأر كالريح , وينقض كالنسور .
(1)- حافظ الشيرازي.
عصير ليمون
وتنظف فرقة المظاهرات أعيرتها النارية .
- بس بس .
اخترقها همسه المحاذر .
" ده نفس راجل "
- بس بس
اخترقه همسها المحاذر .
" دي ريحة مرة "
رطوبة ,هواء "شايط ",ليل مغبش بضوء شحيح, من لمبة يتجمع عليها ذباب,وحولها ناموس يئز,ماء يهدر من ماسورة مكسورة ,يرتطم ببلاط دورة مياه شبه معتمة ,ينثر رذاذاً علي بدن ذي سمنة خفيفة, عارً إلا من ملابس داخليه مبتلة ومتسخة , يبدل أوضاعه,تارة علي جنبه الأيمن, وتارة علي جنبه الأيسر,ومرات كثيرة يقرفص لاهثا, وحبات عرق تتكاثف علي الوجه والرقبة والذراعين المشعرتين,وصوت نبش يتواصل ساعات وساعات,بينما أقدام حراس تظهر وتختفي وراء نافذتين عاليتين مسيختين.
همس : ازيك؟
همست : ازيك؟
وشوش:تعبتي؟
وشوشت:تعبت؟
أخيرا..أطلا من ثقب ,باتساع العين وطول ذراع, والتقت عينان:
"عين يمين شافت عين شمال ,وعين شمال شافت عين يمين" اختلج نني اسود وسط بياض ناصع , واختلج نني عسلي وسط بياض تتخلله حمرة خفيفة.
"هي أجمل مرة في الدنيا "
" هو أ جمل راجل في العالم "
أحسا بنشوة غامرة وشجن .
- اسمك ايه ؟
- يحيي, وانتي ؟
خفضت همسها : عزة .
- انتي هنا ليه ؟
- ترانزيت .
- رايحة فين ؟
- معرفش
- ممكن اشوف وشك ؟
- ازاي ؟
- ارجعي ورا شوية .
زحفت بمؤخرتها ياردتين, وهي تتنهد لاحت ذقن بغمازتين, وشفتان مكتنزتان , ثم أنف مدبب كبير إلي حد ما, عينان عسليتان,حاجبان رفيعان,جبهةعريضة, خدود بضة في انحدار يدير الوجه ,والشعر أسود مفروق ومخنوق .
واكتمل الوجه بدراً مضيئاً .
علت نبرة همسه قليلا :
- وشك حلو قوي .
اندفعت للثقب مذعورة :
- وطـ صوتك .
- خايفة ؟
- مرعوبة .
- حلي شعرك .
- انت جرئ ؟
- جعانة ؟
- مش قوي ,جعان ؟
- نص ونص .
سيخ متماوج أحاط يحيي مقدمته بمزقة من غياراته الداخلية " يخرفش " الآن ذهابا وعودة في الثقب ,يدفع منهما وإليهما :
- معايا جبنة نستو .
- عندي بقسماط .
- معايا حلاوة طحينية.
- عندي زيتون احضر .
أسندا ظهريهما للجدار وقد باعدا بين سيقانهما ,وامتدت بينهما مائدتان ..
وبمسامعه ينصت يحيي ويري مضغها وبلعها وتكسر البقسماط بين شفتيها ,
وبمسامعها تنصت عزة وتري طحن أسنانه وضروسه وتشدق فكيه .
- خرمانه ؟
- خرمان ؟
يرق الهمس ويشف :
- خدي سيجارة
- هات كبريت
هبت نسمة هواء , قوافل نمل و بق
و صراصير ترعي علي الجدران , حراس ابراج يتناوبون نداء :
- ستة تمام
- سبعة تمام
أشعلا سيجارتين , نفثا دخانهما كثيفا يتلوى في الثقب , وهما يتحسسان جسديهما بشوق وآسى, يتملكهما غيظ وكراهية للجدار .
- ولعتي ؟
- مولعه , ولعت ؟
- لو كان الجدار ينهد .
- لو كانت القيامة تقوم .
- وريني وشك .
تراجع يحيي بمؤخرته بلاطتين ,لتتأمل عزة منابت شعر الذقن والشارب, و شفتين غليظتين ,وانف مفرطح يعلوه تقطيبه بين حاجبين كثيفين, وندبة أسفل عينه اليسرى.
- علي صوتك
- قرب
- ابعدي
- نفسك سخن
- أقفي
- هنا
- قلبك بيدق
- إيدك خشنه
- ارجعي سنة كمان
- كده
- سنة يمين
- هنا
- لأ..سنة شمال
- شايف
- لفي
- حلوة
- زي القمر
- حاسس
- اقلعي
- الحرس
- ما تخافيش
- اقلع
- قالع
- قرب
- ابعدي
- ابعد
- قربي
خرير ماء محلي بالسكر ينهمر من فتحة قرطاس ورق مقوي ,يتلقاه يحيي
في كباية بلاستيك حمراء ,يشطر ليمونة بأسنانه يعصرها ثم يعيد نصفه إليها .
- في صحتك
- في صحتك .
#إبراهيم_الحسيني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟