|
عذراء فلاندر.. المسرحية التي كادت أن تثير فتنة في بلجيكا
عماد فؤاد
الحوار المتمدن-العدد: 1932 - 2007 / 5 / 31 - 09:43
المحور:
الادب والفن
ثمة إضاءة حمراء قانية تأتي من خلفية المسرح، وفي المقدمة تقف امرأتان في العقد الخامس، أو بالأحرى امرأة واحدة وشاب في الثلاثين يرتدي منديلاً على رأسه مجسِّداً دور المرأة الأخرى، يتحدث الشاب ببحَّة من شجن: "كنت فتاة في السادسة عشر من عمري، هدية زواجي، مهري وعقد شرائي، كانت تذكرة سفر إلى بلجيكا، من تونس إلى بروكسيل، تذكرة بلا عودة، ذهاب فقط، كان عليَّ أن أنجب أطفالاً في أرض ليست لي، وأن أرعاهم دون أن أعرف كيف، أحببت الرقص هرباً من عزلتي، وصوت أم كلثوم، والقرآن"، كانت المرأة الأخرى ذات ملامح أوربية تقف عن يسار الشاب، فيما يتوسط المكان بينهما طفل صغير، دون أن ينبس ببنت شفة، فقط عيناه كانتا تروحان وتجيئان بين الشاب والمرأة باحثاً عن كلمة يفهمها.
هذا ما نراه في أحد مشاهد العرض المسرحي "سيدتنا مريم عذراء فلاندر" “Onze lieve vrouw van Vlaanderen” والذي أثار - ولا يزال – الكثير من الجدل في المجتمع البلجيكي منذ تم الإعلان عن بدء عروضه منذ عدة أسابيع، لم يكن موضوع المسرحية هو السبب الرئيس في إثارة الجدل بين الجمهور البلجيكي، ولا كان السبب قاصراً على أن مخرجها والممثل الرئيسي بها مسلم من أصل تونسي يدعى "شكري بن شيخة" “Chokri Ben Chikha”، بل كان سبب بداية اعتراض البلجيكيين على المسرحية هو أفيش العرض الذي شكَّل صدمة للمسيحيين الكاثوليك في المجتمع البلجيكي بخاصة والأوربي بعامة، صور الأفيش السيدة "مريم العذراء" وهي تحمل طفلا عارياً على ذراعها الأيسر فيما نرى أحد نهديها مكشوفاً تماماً، وهو ما دفع العديد من الجمعيات المسيحية إلى مطاردة عروض المسرحية بالمظاهرات في كل تنقلاتها بين المدن البلجيكية والهولندية والفرنسية، مطالبين القائمين على العرض بتغيير الأفيش والاعتذار من الكنيسة البلجيكية.
مخرج وبطل المسرحية ممثل بلجيكي من أصل تونسي يدعى "شكري بن شيخة"، مواليد العام 1969، ممثل ومخرج ومصمم رقصات حديثة، وهذه المسرحية هي الجزء الثاني من ثلاثية مسرحية يسعى "بن شيخة" إلى إتمامها في العام المقبل 2007، فبعد الجزء الأول الذي قدمه في بلجيكا منذ عامين تحت عنوان "أسد فلاندر" ودارت أحداثه حول العلاقة بين الأب والابن، يقدم هذا العام الجزء الثاني من ثلاثيته المسرحية والذي يدور حول علاقة الابن بالأم، من خلال الطفل الذي نستطيع أن نقول إنه "بن شيخة" نفسه، فالمؤلف يقدم في النهاية سيرة مسرحية لحياته في بلجيكا، هذه السيرة التي يرصد من خلالها ولادته في مدينة أوستنده “Oostende” على الساحل البلجيكي لأسرة تونسية مهاجرة مكونة من الوالدين وسبعة أطفال، الطفل بطل العرض يعاني من صراع امرأتين عليه طوال الوقت، الأولى هي "مريم" أمه الحقيقية، والثانية هي البولندية "ماريا"، الأولى تزوجت من الأب وهي لم تزل صغيرة وجاءت إلى بلد لا تعرف عنه شيئاً كي تنجب أطفالاً، وربَّت أطفالها فيما يشبه الجيتو، هذا الجيتو الذي لم يسلم من اختراق جارتها البولندية اليهودية "ماريا" والتي حرمت من الأطفال بعد أن حقنها الألمان بمادة تمنعها من الإنجاب إبّان الحرب العالمية الثانية، "ماريا" تعمل كمسئولة عن البيت الذي تقطنه عائلة الطفل، ولأنها من دون أطفال تبدأ في رعاية أطفال جارتها التونسية "مريم"، هذه الرعاية التي تتحول مع الوقت إلى حرب استحواذ على حب الأطفال، وخصوصا حب الطفل الأصغر الذي يقدمه العرض لنا بدون اسم، هذا الصراع يدفع الطفل إلى الوقوع في حب النساء، يهتم بمشاعرهن ويحنو عليهن، ويبدأ في تخيل نفسه مسيحاً جديداً مهمته الدفاع عن نساء هذا العالم، ومن هنا يدافع "بن شيخة" عن اختياره لأفيش العرض الذي أثار هائجة المتعصبين المسيحين ضده، فيقول إن اختياره صورة للسيدة العذراء لم يأت مصادفة، فمريم العذراء تقدسها الديانات الثلاث، وهي تحتل المرتبة نفسها التي تحتلها في الديانة المسيحية لدى المسلمين.
دفاع "بن شيخة" عن اختياره لصورة أفيش عرضه المسرحي الجديد لم يجعل ألسنة المعارضين له تصمت، وإنما بدأت حرب أخرى في الصحافة بين مدافع ومعارض للعرض ولأصحابه، وفي الوقت الذي أشار فيه أحد النقاد البلجيكيين إلى أنه لو قدم هذا العرض مخرج بلجيكي أو أوربي آخر لكان الآن في عداد المنبوذين، نظراً لتعديه على خطوط الكنيسة الكاثوليكية الحمراء وللهجاء الذي احتشد به العرض للديانات السماوية الثلاث، فيما أشار كاتب آخر إلى أن مسرحية "بن شيخة" وما أثارته من زوابع أعادت إلى الأذهان دراما مقتل المخرج السينمائي الهولندي "تيو فان جوخ" “Theo Van Gogh” في نوفمبر من العام 2004 على يد أحد المتعصبين الإسلاميين المغاربة في قلب العاصمة الهولندية أمستردام، بسبب أحد أفلامه السينمائية التي سخر فيها من الإسلام والمسلمين والقرآن الكريم، فيما تساءل ناقد آخر: ماذا لو حدث وقام أحد المخرجين البلجيكيين بتقديم عرض مسرحي يتناول فيه زوجات نبي الإسلام محمد وصور الأفيش إحدى زوجاته عارية الصدر؟ ويجيب الناقد على تساؤله قائلاً: لو حدث هذا لوجدت فتوى تصدر من حيث لا تعلم ولوجدت هذا المخرج مدرجاً في دمائه في أحد شوارع بروكسيل من جراء طعنة سكين شاب ملتح متعصب لدينه ولعقيدته، ألقت المسرحية أيضاً بظلال من المقارنات المستمرة بين جرأة "بن شيخة" والحرية التي أتيحت له، وسماحة المجتمع الأوربي مع نقده القاسي للكنيسة، وبين رد فعل الشباب العربي بعد حادثة نشر الرسوم المسيئة للرسول محمد، وكانت النتيجة بالطبع لصالح المجتمع الأوربي، فالصور التي نقلتها وسائل الإعلام الغربية لهمجية ما حدث في العواصم العربية ضد منشآت دانماركية أو لمنشآت تابعة لدول أوربية أخرى من حرق للسفارات أو إتلاف للمنشآت العامة التابعة لهذه الدول، لم تستطع المجتمعات الأوربية استيعابه إلا من باب واحد لا ثاني له، ألا وهو أن الإسلام بالصورة الراهنة، وبتعامل أتباعه مع مستجدات الأحداث في العالم ومع قضية حرية التعبير، لن ينفتح ابداً على الآخر المختلف أو المغاير.
وعلى الرغم من حدة الهجوم اعترف العديد من النقاد المسرحيين بأن "بن شيخة" قدم عرضه المسرحي بحرفة أذهلت البلجيكيين، فهو لم يسخر فقط من المهاجرين العرب في المجتمع الأوربي، بل من كل شيء؛ من تعامل المجتمع الأوربي مع المهاجرين إليه سواء كانوا عرباً أو أوربيين، ومن التمسك الأعمى بشعارات دينية بالية، في حوارات أبطاله الراقصة قدم "بن شيخة" هجاء قوياً للتمسك الأعمى بتقاليد دينية أنتجت ما نحياه الآن من حروب وصراعات، سخر من المسيحين والمسلمين داخل عرضه المسرحي بذات الدرجة الموجعة من الكوميديا السوداء اللاذعة، كل هذا في جديلة مسرحية ممتعة وطازجة، كانت الخلفية الموسيقية للعرض منوعة وخلاقة، خاصة مع تداخل أغنيات أم كلثوم التي صاحبتها رقصات "بن شيخة" في تجسيده للأم "مريم" التونسية، والموسيقى البولندية التي رافقت رقصات الممثلة اللامعة "كاترين دي كيليرك" في تجسيدها لماريا البولندية، إضافة إلى مزيج الأغنيات الفلمنكية الشعبية التي احتشد بها العرض، كانت رقصات العرض الطويلة مبررة ومتقنة عندما جاءت لتكون بديلاً من حوارات مريم وماريا اللتين لا تتقنان اللغة الهولندية جيداً، فاعتصما بالرقص ليعبرا عما يشعران به من غربة في مجتمعهما الجديد.
هذه الضجة التي رافقت – ولا تزال – مسرحية بن شيخة لم تطغ على جدية العرض وأهميته، بل وحصول "بن شيخة" على واحدة من أرفع الجوائز الثقافية البلجيكية عن مجمل أعماله المسرحية، إلا وهي جائزة “Louis Paul Boon” التي تحمل اسم الكاتب والفنان البلجيكي ذو البصمة الهامة في الأدب المكتوب باللغة الهولندية، الإعلان عن منح هذه الجائزة الرفيعة إلى "بن شيخة" دفع الكاتب البلجيكي "وليم روغمان" “Willem Roggeman” إلى الانسحاب من لجنة التحكيم اعتراضاً على منحها لمسرحي في هذه السن الصغيرة (36 عاماً)، وحملت كلمة لجنة التحكيم العبارات التالية: "يمنح "بن شيخة" هذه الجائزة لتقديمه عروضاً مسرحية تعالج قضايا مجتمعات المهاجرين في بلجيكا، من خلال مزجه الساحر بين الحركة والكلمة والموسيقى، في تآلف إبداعي يؤسس من جديد لحركة مسرحية تستفيد من تجاور الثقافات والأعراق البشرية". فيما أكد رئيس لجنة تحكيم الجائزة "يوسه إبراهامس" “Josse Abrahams” على أن: "هناك سببين هامين يدفعاننا إلى منح جائزة “Louis Paul Boon” لعام 2005 إلى المخرج المسرحي "شكري بن شيخة"، السبب الأول هو الخليط المسرحي الذي قدمه "بن شيخة" والذي تضافر مع ما أراد قوله من خلال عروضه المسرحية كاملة، والسبب الثاني موضوعاته الشائكة التي يتناولها بحس شاعري يخفف فيها من الكلمة المنطوقة لحساب حركة الجسد الراقص، ويخفي الحركة ليستعيض عنها بالجملة الموسيقية، ويجعل البطولة للإضاءة تارة أخرى من دون أن يشعر المشاهد الجالس في ظلمة القاعة أنه منفصل عن العرض ولو بطرفة عين".
#عماد_فؤاد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا اهتمام في بلجيكا لأجنحة مكسورة
-
في الذكرى المئوية لبابلو نيرودا: عودة مالفا مارينا نيرودا إل
...
-
يوميات لص لجان جينيه بالعربية: كلما كبر ذنبي في عيونكم.. صار
...
-
جورج حنين: الشَّاعر المصري الذي خرج على المألوف
-
ماريو بارغاس يوسّا: كنت أحاول أن أذكِّر نفسي بأن ما أراه هنا
...
-
روائي مغربي هولندي يصدر -رسائل من مدينة محاصرة-: اليوم أدركت
...
-
عين بلجيكية على العراق: حين تصور العدسة ضحايا الديموقراطية
-
حركة ترجمة الأدب العربي إلى الهولندية: ثغر لا تحصى والإسلامي
...
-
حرير .. المجموعة الرَّابعة لعماد فؤاد تصدر في بيروت
-
في الظِّل الغامق لامرأةٍ لا تشبهنا
-
ديوان تقاعد زير نساء عجوز
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|