من باب المخيم لباب الحرم
مات الفنان وهو على الرصيف الغريب،يحمل رسوماته الساحرة،مات الجسد وغاب عن محبيه،لكن فكرة ناجي بقيت حاضرة ولازالت مقيمة بين أبناء شعبه الفلسطيني وأمته العربية حتى يومنا هذا. مات البطل فوق الرصيف الغريب،ودفن في المقبرة الإسلامية في لندن،في بلاد الاستعمار والانتداب الذي تآمر على فلسطين،دفن في بلاد لويس،اليزابيث،بلفور، تاتشر وبلير،حيث لازالت تلك الدولة تمارس الدعارة السياسية،عبر تبعيتها الكاملة للسياسة الأمريكية،المعادية بدورها للفلسطينيين والعرب.
في لندن عاصمة الضباب يرقد فنان فلسطين والعرب ،المبدع الفريد، في قبرٍ يحمل الرقم 231090،والحمد لله أن الرقم لم يكن 242383،فهذا رقم شؤم كان ناجي العلي يبغضه و يمقته،لأنه من الأرقام التي كانت ولازالت تؤكد ألا عدل والكذب والخداع في هيئة الأمم ومجلس الأمن الدوليين،حيث القرار للذين يراعون مصلحة إسرائيل ولا يراعون أي مصلحة عربية،وحيث يرحبون بالنفاق ويعادون الحق والعدل،عبر الاحتيال على الشعوب والأمم وتعميم سياسة الشقاق،وعبر تكريس مبدأ الانحياز لبقايا اللمم،من الذين أقاموا إسرائيل في قلب الوطن العربي الكبير،وعلى أرض فلسطين التي هي ملك الشعب العربي الفلسطيني.
قبل 26 عاما مضت،أطلق قاتل محترف،مرتزق،النار على رأس ناجي الأبيض،كان ذلك في شارع ضيق من شوارع لندن،كان أبا خالد يعرف أن القتلة يلاحقونه كل يوم،فقد فعلوا ذلك في بيروت والكويت وها هم يطلعون له من جديد،ويؤكدون صحة رسالة الشهيد صلاح خلف أبو أياد،التي طلب فيها من ناجي أن يحذر وأن يكون شديد الحرص والحيطة لأن حياته في خطر أكيد،ورغم رسالة أبو إياد واصل الحنظلي المبدع مسيرته الفنية بلا تغيير ومسيره اليومي من بيته إلى مقر الجريدة في لندن،ولأنه لم يكن يهاب الموت،سار كما العادة متكئاً على ذاكرة فلسطين الحية،ومستندا على مخيمات شعبه الصامدة،الصابرة في زمن الحصار والقتل على الهوية،وإذا ما عرفنا أن صاحب الكلام أدناه هو ناجي العلي،يبطل العجب،فهو القائل:
" إلي بدو يكتب عن فلسطين،وإلي بدو يرسم لفلسطين،بدو يعرف حاله ميت،أنا مش ممكن أتخلى عن مبادئي ولو على قطع رقبتي"..
هكذا كان هذا الرجل النحيف،صاحب الشعر الأبيض،الوجه الأسمر،الذي لفتحه شمس الجنوب اللبناني وشمال فلسطين المحتلة،كان رجلا لا يهاب أحدا،كان ينطق بأسم الحرية والعدل والكرامة الإنسانية،لذا حمل هم الفقراء وراية البؤساء،دافع عنهم بلحمه ودمه وحبره وحياته،ثم دفع تلك الحياة القصيرة ثمنا للخطوط الفلسطينية التي لا تعرف الألوان،خطوط التراب الوطني الفلسطيني كاملا.
نعم دفع هذا الرجل المقاتل بريشته ورسومه المعبرة أعز ما يملك من اجل أعز ما كان يملك،فقد كان يملك حريته ومبدأه وتوجهه المعبر عن طموحات ومظالم تلك الأمة،من الخليج إلى المحيط،كان يحمل هم الأمة العربية منذ عاش في مخيم عين الحلوة ،ومنذ عرف جنوب وشمال لبنان،ومنذ تعرف على جبله الأشم وبقاعه وعاصمته الكبيرة بيروت،سيدة العواصم وعاصمة كل المدن،الى أن قتلته رصاصات الأوباش الأعداء أو أعوانهم.
كان ناجي من الذين يربطون القول بالفعل،ولا يفرقون بين البلاد العربية،ألا في تخصيص مساحة أوسع ترسم أو تحكي عن حجم المعاناة والظلم والقمع والاضطهاد في البلد المعين،وكنا نرى تلك الفوارق في رسومه وكاريكاتوراته اليومية،حيث يتحدث عن معاناة الفقراء والبؤساء والمظلومين في فلسطين ولبنان ومصر والسودان وكافة البلاد العربية الأخرى،وكان للنفط ودول البترول نصيبا هاما من رسومات الفنان الكبير ناجي العلي.
أما فلسطين فكانت صاحبة النصيب الأوفر من أبداع ناجي و تألقه،يليها بالمقام الثاني وطنه الثاني لبنان،وناجي لا يغفر في قضية فلسطين والتمسك بالثوابت الوطنية،كما أنه لا يرحم أحدا ولا يهاب أيا كان حين يكون عنوان القضية شعب فلسطين أو القضية الفلسطينية،لذا قال في يوم من الأيام،ردا على سياسة السلام و التنازل والزحف نحو معسكر أمريكا وإسرائيل، ما يلي : " كلما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي أنا أعرف خطا أحمر ا واحدا، أنا أعرف أنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف و استسلام لإسرائيل..".
هكذا كان هذا الرجل الشجاع،شجاعا حتى آخر رمق،وكبيرا حتى آخر نفس،لا يلين لغير الحق ولا يحيد عن الحقيقة،لا يعادي أحدا سوى الذين يعادون قضايا شعبه وأمته،فقد كرس حياته للعمل الوطني والقومي،وللدفاع عن الشعوب العربية والحريات الديمقراطية،ولم يرتعد أو تهن له إرادة،يوم هددوه بحرق أصابعه بالأسيد،ورد عليهم يومها بكل صلابة وشجاعة وعزة نفس وجرأة نادرة،لا يمتلك مثلها الكثيرون في هذا العالم،قال ناجي : " يا عمي لو قطعوا أصابع يدي سأرسم بأصابع رجلي." هل هناك تعبير أقوى وأمتن وأجمل وأصلب من هذا التعبير الذي ورد في لقاء مع الفنان الشهيد،لا نعتقد أن هناك وصف بليغ أو جملة أكثر وضوحا ودقة مثل هذه الجملة،بتلك الكلمات الحادة أكد ناجي العلي أنه لم يكن محايدا في رسوماته،بل كان منحازا لشعبه وقضيته وأمته،منحازا للبنادق التي تقاتل من أجل الحرية والتحرير والكرامة والعودة للبلاد.
كان ناجي مع الفقراء منحازا لأوجاعهم ومآسيهم ومعاناتهم،خاصة في زمن لم يعد فيه للحكومات العربية من خيارات كثيرة،كان أمام تلك الحكومات إما الذهاب إلى الجحيم أو السير في ركب الهزيمة ونيل المديح من البيت الأبيض الأمريكي والكنيست الصهيوني،أو البقاء في الحكم بالقوة والإرهاب والقمع وبالوجه القبيح،وكان ما أرادت أمريكا وما حلمت به إسرائيل،وما يريده هذا الفيلق السيئ من الرؤساء العرب.
ناجي العلي قال أنه سيذهب من باب المخيم لباب الحرم،أي من مخيم عين الحلوة إلى المسجد الأقصى قرب مخيم قلنديا،حيث ستكون الراية الفلسطينية مرفرفة عاليا في سماء عاصمة فلسطين المحررة، في القدس الشريف،وحيث التراب الوطني الفلسطيني كاملا متكاملا،ومن أجل هذا كان يردد : " أنا ضد التسوية ولكن مع السلام،أنا مع تحرير فلسطين.. وفلسطين هنا ليست الضفة الغربية وغزة،فلسطين بنظري تمتد من المحيط إلى الخليج".
هذا الوصف جاء على لسان شهيدنا المبدع ناجي العلي، وكان يعني به حق العودة للاجئين الفلسطينيين،وحق الدولة المحررة والمستقلة،والعاصمة التاريخية،وليس السلطة التابعة والعاجزة والبائسة والمهزومة والمأزومة،تلك السلطة التي تحولت للعمل خادما مأجورا في خدمة الأمريكان والصهاينة.
بالنسبة لناجي العلي تحرير الضفة العربية كان مثل تحرير سبتة ومليلة،وحرية غزة مثل حرية جنوب لبنان والجولان والعراق وكل الدول العربية المحتلة بشكل مباشر أو غير مباشر،فتحرير البلاد العربية من الأحتلالات والشعوب العربية من أشباه الحكام والزعماء والجنرالات والملوك والرؤساء،هو الطريق الصحيح لتحرير فلسطين.
فحرية الشعوب العربية وفك ارتباط تلك الدول بالأعداء يعتبر خطوة هامة في الطريق لطرد الاحتلال الصهيوني من فلسطين المحتلة،وما عجزت عنه الحكومات المستسلمة والهزيلة،سوف تقوم به الشعوب العربية المأسورة والمعتقلة في بلاد تسمى دولا مستقلة،لكنها في حقيقة الأمر مستعمرات ومحميات أمريكية صهيونية،تأتمر بإمرة قادة الأساطيل الأمريكية،وهذا ما أكدته حرب احتلال العراق وثورة الانتفاضة في فلسطين المستباحة.
ناجي العلي عاش بريئا من رجس الجرائم التي ارتكبتها العصابات التي حكمت وتحكم الشعوب العربية بأسم العملية التحررية الوطنية،ولازال يعيش معنا وفي أحلام حنظلة الذي يحمل الحجارة مع أطفال المخيمات والقرى والمدن الفلسطينية،ومع الأجساد المقنبلة التي تحاول فرض توازن الرعب والهلع والخوف،هناك يشارك حنظلة في معركة الدفاع عن فلسطين،وعما تبقى من الوطن الفلسطيني،يدافع عن الكيان السياسي للشعب الفلسطيني،كيان التضحيات التي قدمها شعب الشهداء من أجل تثبيت منظمة التحرير الفلسطينية،ممثلا وقائدا له،عبر تحويل المنظمة لسلطة ديمقراطية،مستقلة،خارجة عن حكم الفرد والقائد الرمز،والحزب الواحد أو الحركة الأقوى،بل عبر تحقيق نظام وطني ديمقراطي جبهوي شامل وكامل يضم جميع الفلسطينيين في كيانهم الوطني الحقيقي.هذا الكيان الذي غيبوه ويحاولون اليوم شطبه نهائيا،علهم بهذا ينهون هذه القضية و يعلنون الاستسلام للعدو الصهيوني،فهل الحملة التي يشنها أركان السلطة على منظمة التحرير الفلسطينية بداية نهاية ما تبقى من هذه المنظمة؟ أستطيع الجزم ان الشعب الفلسطيني سوف يدافع عن منظمته ويحاسب الذين يريدون شطبها ودفنها بأسرع وقت، فهذا الشعب الذي أنجب ناجي العلي وغيره من مبدعي فلسطين،لا يمكنه السكوت عن تمادي السلطة وعداءها للمقاومة،لأن السلطة ليست ممثلا لهذا الشعب الفلسطيني بكل فئاته،بل هي عمليا سلطة تخضع لسلطة منظمة التحرير الفلسطينية،هذه المنظمة التي حماها ناجي العلي بدمه ورسوماته،و أثناء حياته وبمماته..
في ذكراك يا ناجي نسير على دربك ونردد قولك : اللي بدو يكتب عن فلسطين ، واللي بدو يرسم لفلسطين بدو يعرف حاله ميت..