|
سعيد المرسي رائد التجريب في المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف
جميل حمداوي،
الحوار المتمدن-العدد: 1930 - 2007 / 5 / 29 - 05:35
المحور:
الادب والفن
يعد سعيد المرسي من أهم المخرجين المسرحيين الأمازيغيين في منطقة الريف إلى جانب فاروق أزنابط وفخر الدين العمراني وفؤاد أزروال وعبد الكريم بوتكيوت وشعيب مسعودي وعبد الواحد الزوكي ومحمد بنسعيد ومحمد بنعيسى وعمرو خلوقي وأحمد أجويني ولعزيز إبراهيمي وأحمد السمار وسعيد أبرنوص ومحمد گاگة... وقد تميز سعيد المرسي بكونه أحدث قطيعة فنية وجمالية في المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف ؛لأنه أخرجه من شرنقة الواقع والتاريخ والقالب الكلاسيكي إلى فضاء التجريب وخلخلة البناء الأرسطي وتكسيره دراميا وتصوير غرابة الواقع كما في مسرحيته الرائدة" تسيث/ المرآة" مقتديا في ذلك بالمخرج المسرحي الكبير شعيب المسعودي المؤسس الفعلي والحقيقي لمدرسة التجريب في المسرح الأمازيغي بصفة عامة والريفي بصفة خاصة. إذاً، ماهي خصائص مسرحية " تيسيث/ المرآة" دلالة وصياغة ومقصدية؟ بدأ سعيد المرسي وهو أستاذ الفلسفة مسيرته الفنية بتمثيل مجموعة من الأدوار المسرحية كما في مسرحية" أرياز ن- وارغ/ رجل من ذهب" للمخرج فخر الدين العمراني ومسرحيات أخرى، واشتغل أيضا مساعدا للمخرج شعيب المسعودي في مسرحيته الواقعية الاجتماعية" ربيعة ذ- بوزيان أذ - رشواغظ أوليمان/ ربيعة وبوزيان وأوراق الإقامة بألمانيا". وأخرج أيضا إلى حد الآن مسرحيتين وهما:" ثنوغ ثيارجا ذي ثمديث/غرق الحلم في دياجي الليل"، وقد عرضت هذه المسرحية سنة 2003م في الغرفة الفلاحية بالناظور، كما أخرج مسرحيته الرائعة" تيسيث/ المرآة" سنة 2006م وعرضت أيضا بقاعة الغرفة الفلاحية بمدينة الناظور. هذا، وتتميز مسرحية" تسيث/ المرآة" بكونها مسرحية تجريبية رائدة ؛ لأنها غيرت مسار المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف وحررته من قالب المحاكاة الأرسطية الكلاسيكية ومن الطابع التاريخي والواقعي ومن إسار التيمات المستهلكة كالهجرة والهوية والتشبث بالأرض وتحدي المستعمر والتغني بالذاكرة الأمازيغية والدفاع عن الكينونة والوجود الحضاري الأمازيغي. وتنحو مسرحية" تسيث/ المرآة" منحى تجريبيا وتجريديا، ويمكن إدراجها ضمن مسرح اللامعقول أو المسرح التجريدي تأثرا بمدرسة اللامعقول في المسرح الأوربي مع صمويل بيكيت وآداموف ويونيسكو وآرابال ومع الكاتبين الوجوديين ألبير كامو وجيمس جويس. ويستعين سعيد المرسي بمجموعة من اللوحات الدرامية الصامتة الغريبة التي ترد في شكل صور امتساخية فظيعة قائمة على الانزياح اللفظي وغير اللفظي على مستوى التقبل السمعي والبصري و التواصل مع المتلقي. ولقد أثث المخرج خشبة الركح بمجموعة من الكراسي على غرار مسرحية" الكراسي" ليونسكو، ليستحضر بعد ذلك مجموعة من الشخصيات الدرامية المريضة بالقلق والانتظار واليأس والتشاؤم والهجران والاغتراب الذاتي والمكاني والتماثل الحيواني والتشويه الكاريكاتوري المتعمد. وقد وجد المتفرجون أنفسهم أمام ممثلين ينظرون إليهم من الخلف، لينتقلوا هؤلاء بعد ذلك إلى المواجهة الأمامية وجها لوجه مع المشاهدين. وتتخلل هذه المسرحية لحظات الصمت والتأمل والاسترخاء النفسي الدال على التشاؤم والفراغ الروحي وغرابة الواقع. كما تبين لنا المسرحية فضاضة الواقع وانهيار الوجود الإنساني في تلك اللحظة التي كان فيها الممثلون يخرجون صحفهم ويقرأونها قراءة معكوسة ومقلوبة إدانة لزيف الحقيقة ورفضا قاطعا لما ينشر في الصحف من الحقائق الواهمة والأخبار الكاذبة المبنية على الغلط والظن بسبب استخدام اللغة الاستعارية والاحتكام إلى العقل النسبي مع تزييف اليقين بسبب الخوف من الموت وقول الحقيقة لذاتها . وتحيل قراءة الممثلين للصحف بطريقة مقلوبة على اختلال موازين العقل البشري والانتقال من العقل والمنطق إلى اللامعقول واللامنطق وتأكيد سريالية الهذيان وعبثية الوجود. وبذلك تدين المسرحية انحطاط الإنسان وتفسخ قيمه الأصيلة وتحولها إلى قيم كمية. وتتحول غرابة هذا الواقع إلى واقعية تجريدية تتجاوز حدود الزمان والمكان ضمن رؤية ميتافيزيقية تدل على العبث واللاجدوى وسخرية الأقدار وسقوط الإنسان في مهاوي الغثيان والتبرم بهذا الوجود؛ لأن جوهر الحياة في المسرح التجريدي اللاأرسطي الذي انبثق بعد الحرب العالمية الثانية من القرن العشرين هو الغرابة واللامعقول. إذ الحياة في المسرحية غير مفهومة وغير واضحة، لذلك نلفي المخرج يثور عليها بمنطق الغرابة والانكسار والتجاوز. وننتقل مع هذه المسرحية المثيرة بغرابتها إلى فلسفة الانتظار حيث يضيّع الإنسان وقته في الانتظار كانتظار وسائل المواصلات وانتظار الطبيب وانتظار القائد وانتظار المحاضر؛ ولكنه انتظار عبثي بدون جدوى ولاهدف على غرار مسرحية بيكيت " في انتظار جودو" حيث ينتظر الممثلون قدوم جودو والذي يأتي ولا يأتي، ولكن في الأخير لا يأتي جودو، ويبقى الممثلون حائرين مرتبكين ومندهشين أمام غرابة هذا العالم وسخرية هذا الواقع. وتقول المسرحية في بعض مقاطعها بأن الإنسان إذا عزم على حضور محاضرة فإنه إما يذهب مبكرا قبل حضور المحاضر وإما يذهب متأخرا بعد انتهاء المحاضرة بسبب اللامبالاة وعبثية الوجود واغتراب المصير الإنساني، وهذه قمة الغرابة في أبلغ طلاسمها غير المفهومة. وتنتقل المسرحية باعتبارها مرآة لتعكس تناقضات الواقع ومفارقاته الجدلية ومنطقه المختل غير الخاضع لمنطق المكان والزمان ومبدإ السببية. وتبدأ المسرحية في الازدراء والسخرية من الصور والنماذج البشرية التي تتلون زيفا ونفاقا وعنفا وطمعا وشجعا واستهتارا ومجونا ولامبالاة. وتبدو شخصيات المسرحية مريضة بالعبث والجنون والجدل العقيم والصراخ المميت، وتظهر أيضا كأنها حيوانات عجماء لا نفهم من خطابها المنطوق سوى الصرخات والأصوات المبهمة غير المفهومة. وهنا أستحضر صمويل بيكيت باعتباره مؤشرا تناصيا ، لكونه يوظف هذا النوع من الصمت والكلمات المتقطعة غير المفهومة و يشغّل هذه الصرخات الحيوانية الغريبة كثيرا في مسرحياته التجريدية العابثة . وتكشف لنا بعض اللوحات فساد الأوضاع الاجتماعية وإفساحها المجال لانتشار المظالم وهيمنة منطق الاستغلال حينما يستغل الإنسان أخاه الإنسان، ويدخل معه في صراع جدلي عبثي لانهائي وميتافيزيقي. ومن ثم، يأكل القوي الضعيف، ويستبد المتجبر المتسلط، ويهان البئيس الذليل. ويعني هذا أن المسرحية تصور الشر الإنساني وسقوط الواقع وانهيار العالم الذي أصبح محنطا بالماديات ومسيجا بالمعايير الكمية والمقادير المادية الوضعية. ومن جهة أخرى، فقد أصبح الإنسان رقما معلبا وكائنا مشيّأ في عالم الغرابة والمتناقضات والأضداد الجدلية والثنائيات المعكوسة اليائسة. هذا، وتجسد المسرحية عالم الاعتقال والإرهاب النفسي وصراع الفرد البشري مع السلطة التي لا تعرف سوى القمع وتصفية الأرواح البشرية وقهر الخير الإنساني ومسخه وتحويله إلى شر حيواني. وبالتالي، نجد المخرج يجرد الواقع الأمازيغي ويتخطى به حدود الزمان والمكان ، لذلك يحضر لديه العام والمطلق ويتلاشى عنده الخاص والنسبي. ويلتجئ المخرج إلى سينوغرافيا الهشاشة والتشظي والانكسار والتمزق؛ لأنه يدين النظام وسينوغرافيا الرخاء وترف التأثيث في عالم مستلب يستغل فيه الإنسان أخاه الإنسان. ومن هنا، تسيّج خلفية الفوندو على مستوى المنظور بإطار مغلف بالجرائد المقلوبة والممزقة التي تؤشر على عالم ممزق وغريب وغير معقول لا يمكن فهمه ولا تقبله عبر مقاييس المنطق ومبادئه الاستدلالية؛ لأن هذا العالم أوشك على الجنون والانسحاق أمام متاريس الأرقام وفلسفة التعليب ومنطق البنيات الثابتة الذي ساهم في موت الإنسان ونهايته. ويتداخل في المسرحية ماهو محلي و ماهو عالمي على مستوى تشكيل الموسيقا والأنغام والألحان، إذ نسمع عبر اللوحات المشهدية الوظيفية واللقطات المتداخلة المتناغمة ذلك الصخب الغنائي العابث والإيقاع الأمازيغي الحاد الذي ينقر إيقاعات الحزن والتعاسة واليأس البشري العابث. وتتدخل الإضاءة التموجية لتجسد مشاهد الرقص الإنساني الماجن الطافح بالعبثية واللامبالاة و التي تنسج غرابة الفرد داخل واقع المفارقات الذي يتجسد في التناقض وعبثية الأضداد وسخرية المسميات. وإذا كان كثير من المخرجين الأمازيغيين يتعاملون مع الماضي والتاريخ والذاكرة في إطارها الاسترجاعي، فإن المخرج سعيد المرسي يستحضر الحاضر الأمازيغي في كليته التجريدية المطلقة المتعالية عن الزمان والمكان. ويلتزم بقضايا إشكالية جادة مصيرية ووجودية وميتافيزيقية تؤرق الإنسان بصفة عامة و الأمازيغي بصفة خاصة، وهي إشكالية الزمان والمكان و فهم جدوى المصير الإنساني والبحث عن جوهر الحياة و العمل على تحقيق العدالة الاجتماعية وفهم كنه الوجود والسعي للقضاء على الظلم والاستغلال والعنف والحد من دواعي الحروب الدونكيشوتية التافهة. ويمكن القول: إن سعيد المرسي تأثر في مسرحيته التجريدية بالمخرج شعيب مسعودي الذي ترك بصماته التجريبية التجريدية بشكل واضح في المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف وخاصة في مدينة الحسيمة التي كوّن فيها مجموعة من المخرجين التجريديين لهم نفس القواسم المشتركة تقريبا كحمل العصي فوق الركح وتشغيل الكوليغرافيا بكثرة واستعمال الصمت التجريدي والإكثار من اللوحات السوداء وتغريب الجسد والموسيقا والإضاءة، ونذكر من هؤلاء: محمد بنعيسى ومحمد بنسعيد وأحمد أجويني ولعزيز إبراهيمي. وقد أثّر المخرج سعيد المرسي بدوره في مجموعة من المخرجين الريفيين بطريقة مباشرة وغير مباشرة وأذكر على سبيل الخصوص عبد الواحد الزوكي الذي تفوق أيما توفيق في إخراج مسرحيته التجريدية" ثشومعات/ الشمعة". وخلاصة القول: لقد أحدث سعيد المرسي انقلابا فنيا وجماليا في مسار المسرح الأمازيغي بمنطقة الريف عندما التجأ إلى التجريد و تجريب مسرح اللامعقول للتعبير عن غرابة الواقع وجنون الإنسان وتعاسة الفرد البشري ويأسه المتشائم متجاوزا بذلك المواضيع المستهلكة المعروفة في المسرح الأمازيغي والتي لا تخرج عن الذاكرة والتاريخ والمقاومة والتغني بالهوية والأرض واللغة المحلية. وبهذا النمط الجديد من الإخراج المنفتح على الثقافة الغربية والمحلية نستطيع أن نحقق الحداثة والتواصل مع الآخرين والاستفادة من تجارب الغير. وبالتالي، يمكن لنا أن نتجاوز إشكالية المحلية والخصوصية والانغلاق على الذات الأمازيغية في ضيقها المكاني والزماني نحو العالمية والمشاركة في ثقافة العولمة والإسهام في إغناء التراث العالمي والإنساني.
ملاحظة: جميل حمداوي، صندوق البريد 5021 أولاد ميمون، الناظور، المغرب [email protected] www.jamilhamdaoui.net
#جميل_حمداوي، (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|