أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب هنا - الفصل 12 من رواية كش ملك















المزيد.....

الفصل 12 من رواية كش ملك


حبيب هنا

الحوار المتمدن-العدد: 1927 - 2007 / 5 / 26 - 05:02
المحور: الادب والفن
    


-12-
لعبة الشطرنج

لوقع لعبة الشطرنج عليّ سحرها الخاص. تنشط ذهني، تستنفذه، تراوغ خلايا الذاكرة وتداعب التالف منها كي يتجدد. تضعني وجهاً لوجه أمام الصراع الأبدي بين قصور العقل البشري وكماله ، وتصدمني بالسؤال الحاد: هل بإمكان الإنسان الإجابة على كل الأسئلة التي تواجهه خلال لعبة الشطرنج؟ ثم أن هذه اللعبة لم تأت من فراغ، إنها امتداد طبيعي لأسئلة الحياة التي لا نهاية لها.
في البدايات لم تعن اللعبة بالنسبة لي أكثر من لقاء الأصدقاء والترويح عن النفس، لاحقاً، تكشف الأفق عن الاحتمالات المختلفة للخطوة الواحدة، وأخذني عمق التفكير إلى مداراته المرعبة، وشيئاً فشيئاً تجانست معها، صرت أقدر على مخاطبة البيادق والحصن والفيلة والوزير وحتى الملك، اكتشفت اللغة التي تسهل عليّ الحوار والوصول إلى الغاية المتوخاة.
وكان الرجل الذي علمني قواعد اللعب، ينظر إليّ وفي عينيه بقايا من حسرة؛ كيف استطعت القفز سريعاً والتفوق عليه؟ كيف امتلكت لغة المخاطبة للقطع المختلفة التي تتشكل منها لعبة الشطرنج؟ أمسك البيدق بين أصابعي وأستمع إلى حواسه وأتلذذ بملمس جلده الناعم الذي لا يشبه القتلة والمجرمين. أنظر إلى الحصان وأمسد على رأسه وشعر كتفيه، فيأخذ بالصهيل. ويحك أنفه في صدري كما لو أنه يترحم على أمه التي سقطت يوماً في ميادين القتال. أداعب بين راحتي الفيل وأقوده إلى حيث أريد، فلا يقوى على غير الخضوع لمشيئتي كأن بي في حلبة سيرك أدربه على الحركات المختلفة التي يصفق لها الجمهور وتنعش فؤاده.
أقترب من إذن الوزير وأهمس بما يريد سماعه وأسمع منه الثناء والتقدير وبعض التأليب على الرخ التي غالباً ما تتأخر في الاشتراك بالمعارك الكبرى الحاسمة والتي تستخدم فيها كافة الأسلحة بغية الفوز بغض النظر عن حجم التضحيات والقتلى من كلا الطرفين.
آخذ موعداً مسبقاً للقاء الملك من الحاجب الذي أضطر إلى كيل المديح أمامه والدعاء إلى جلالته بطول العمر، لأن بقاءه حياً يعني فوزي بالمعركة التي أخوض غمارها، ومع موته أكون قد خسرت المباراة وانتهت اللعبة.
آه.. يا الهي، أي الأقدار تلك التي تجمع بين القطع الحربية المختلفة في معارك لم يكن مخططاً لها مسبقاً، كي يتصارع العقل البشري في ساحة مكشوفة تتشكل من المربعات ال 64، في الوقت الذي لا تترك هامشاً من المناورة في أماكن أخرى من الصراع الحقيقي الذي يحصد أرواح الأبرياء ويشرد الشيوخ والنسوة والأطفال ويهدم البيوت فوق رؤوس أصحابها، كأن العقل البشري وجد من أجل أن يدمر كل ما ينتجه عقل بشري آخر يهدف إلى إسعاد الآخرين ويخفف من معاناة المحرومين الذين يتوسمون في صناع الخير أملاً، وفي الوقوف إلى جانبهم بسطاً لإرادة الله وتحقيقاً لعدالته!
لعبت أول مباراة في بطولة رسمية وكنت مرعوباً بجنون، وكان الهاجس يحاصرني من كل جانب، في كل خطوة أحركها أسمع مزاليج تصطك فتتفتح أبواب وتوصد أخرى، والخوف من الهزيمة يطاردني، كأني به لم يجد أحداً سواي كي يفرغ شحناته؛ وكنت ألعب بحذر شديد جديد عليّ، فزاد من إرهاقي وضاعفت حجم التوجس حتى غدوت أراوح في كل خطوة ذهاباً وإياباً في التفكير إلى أن أستقر أخيراً، بعد الحسابات الدقيقة، على أفضل الخطوات، الأمر الذي مرسني على المثابرة والتفكير بعمق بعيداً عن التسرع والارتجال.
وكان البعض يشير إليّ بإصبعه قائلاً: سيصبح يوماً لاعباً محترفاً يصعب التغلب عليه!
وتغلبت على العديد من المنافسين، فسطع اسمي وصار اللاعبون أكثر. ما يخشونه مواجهتي حتى أولئك الذين يتفوقون عليّ بالمراس والخبرة. وكان لابد لي من تطوير أدواتي كي أتمكن من التغلب على أصحاب المراس، فأعوض شيئاً بشيء، لاسيما وأنني لم أكن قطعت هذا الشوط بالدراسة المنهجية التي تعزز قدرة الإبحار في أعماق البحار وركوب الموج والعوم فوق صفحة الماء عندما تشتد العواصف.
وعصفت بي الأنواء في المراحل الأولى، فانطويت على نفسي فترة من الزمن، حتى قال البعض ممن خبرني عن قرب! من المؤكد اعتزاله اللعب، فهو لا يقوى على تحمل الهزيمة، وليس بمقدوره الصمود أمامها بعد التكرار..
ولم أعلق على هذا الأمر، اكتفيت بتطوير أدواتي حتى يصبح للمفاجأة وقعها عندما أعود للعب بقوة غير متوقعة.
وتحققت رغبتي كما هو مخطط تماماً، فأذهلت الجميع. من أين جاء بهذه المهارة؟ سؤال ظل هديره الحاد يطاردني كلما حققت المزيد من التقدم، فدفعني نحو التمترس خلف الإصرار على تبوء المواقع الأمامية عند كل بطولة أشارك فيها، وسلم أخيراً العديد من المنافسين بعدم قدرتهم على مجاراتي وأحياناً الركض خلفي مباشرة، وطرحوا عليّ السؤال الغريب: كيف استطعت بهذه السرعة التفوق علينا؟ وكانت الإجابة التي لا تتغير: الدروس التي استفدت منها على يدي الرجل الذي علمني قواعد اللعب مازالت ماثلة أمامي وهي السبب في كل ما وصلت إليه!
وكنت كلما أجبت على هذا السؤال يداهمني شعور غريب حيال الرجل الذي علمني اللعب، فأتذكره من فوري، وأسأل في سري: لماذا يقتحم عقلي بإلحاح؟ عسى أن يكون بخير بعد انقطاعي عنه وعدم التقاط أخباره. وفجأة، بدأت أتعقب خطواته، أين يمكن أن أجده؟ وأمضيت أياماً أبحث عنه علني أصل إليه، خاصة وأنني لم أكن أعرف أين يسكن رغم علاقتنا الوطيدة.
وأخذت الشرايين تضيق في صدري، إنها المرة الأولى التي أقف فيها عاجزاً عن الوصول إلى هدفي سريعاً، ومع ذلك، لم أتوقف عن البحث، كان همي معرفة أسباب انقطاعه المفاجئ عن ممارسة اللعبة والاستماع إلى أحاديثه التي لا تخلو من القصص الممتعة المفعمة بالنشاط والمفاجآت الحادة.
لقد شكل غيابه مفارقة عشوائية كحضوره، ظهر فجأة فصار للتو جزءاً من المتواجدين ومحور الحديث وتداعياته، وعند غيابه المفاجئ غدا حديث الحاضرين ودهشتهم، ذهبوا بعيداً في الأقاويل وتحليل الأسباب دون معرفة الصائب منها، وعندما غلب عليهم عدم الإجماع على الرأي لاذوا بالصمت ولم يتطرقوا إليه مجدداً، فصار غيابه كحضوره لا معنى له ولا إدهاش، غير أنهم جميعاً كانوا يذكرونه كلما اشتدت بهم الشدائد واستعصت عليهم أمور تحديد موقف محايد حيال المسائل الصعبة التي تواجههم بين فترة وأخرى، فيسترجعون أقوله وهم في غاية النشوة والامتنان جراء ما تعلموه منه.
وأغلب الظن، أنني الشخص الوحيد الذي أستذكره دونما الحاجة إليه، وربما يرجع السبب إلى كونه كان معلمي لقواعد اللعب، فضلاً عن كونه تعامل معي كأحد أبنائه وفتح بالتالي صدره فتحدث عن خصوصيات البيت من أب وأم وأهل، فأشعرني بالاقتراب منه أكثر من الآخرين.
وعند ازدحام المفترقات كان منتصباً يمشي، وتقاطعت نظراتنا عندما أضاء خط المشاة لونه الأخضر. تعانقنا على نحو غريب وغامض، كان الفكاك منه أصعب من البحث عن مفردات اللغة. سأل على غير توقع: إلى أين وصلت في تطوير أدوات لعبة الشطرنج؟ وقبل أن أرد عليه، كان السؤال الآخر على طرفي نقيض مع السؤال الأول: هل تريد التعرف عن قرب، على الطفل/ الرجل الذي مازال حياً؟
وانتقل بالحديث إلى مواضيع مختلفة وأعوام مضت دون أن يفسح لي المجال للإجابة عن السؤالين، كأني به يصر على العودة بي إلى الماضي قبل أن أتنصل منه، لدرجة شعرت فيها بثقل الماضي وإرثه الغني الذي لا مهرب منه مهما حاولنا النسيان، غني بما يكفل محاصرة الحاضر والخضوع لمشيئته كي يشكل امتداداً طبيعياً له يساهم في تطوره ويذلل العقبات من طريقه حتى ينمو نمو البدايات الموفقة التي تؤدي منطقياً إلى نهايات متوقعة توفر الهدوء والطمأنينة وتكفل مستقبلاً أفضل.
وكان كلما رأى في عيني الملل أو الدعوة إلى الحديث في مواضيع أخرى، عمد إلى إثارتي بالسؤال: هل مستوى التركيز هو نفسه في كل المباريات التي تشارك بها؟ وقبل أن يأتيه ردي يعود بالحديث إلى مربعه الأول! والمربع الأول لا يختلف كثيراً عن المربع الأخيرلدرجة أنني، كلما خلوت مع نفسي واجهتها بالسؤال المتشعب: ما هو الفرق بين المربع الأول وسواه؟ ولماذا دائماً نحاول استخدام هذا المصطلح تعبيراً مستهتراً كلما وجدنا أنفسنا بحاجة إليه؟ هل هو الهروب من الحقائق بشكل يبعث على النفور والبغضاء؟
وكنت دائماً أعرف الإجابة، غير أنني لم أجهر بها يوماً!
لم أحاول فرض إرادتي والحديث عن المواضيع المختلفة، ليس فقط نزولاً عند رغبة معلمي، بل أيضاً لأن الحافز في داخلي ليس نامياً تماماً، الأمر الذي أدى إلى التنازل عن المبادرة كي يبقى زمامها بين يديه حتى يمل منها ويتنازل عنها من تلقاء نفسه.



#حبيب_هنا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل 11 من رواية كش ملك
- الفصل 10 من رواية كش ملك
- اضاءات على مسرحية -من أكبر-
- العراق في خط الدفاع الأول
- الفصل 9 من رواية كش ملك
- على أمريكا أن تكون أكثر عقلانية ..
- الفصل 7 من رواية كش ملك
- الفصل 8 من رواية كش ملك
- صدور حكم الإعدام بحق كتاب -قول يا طير-
- الفصل 6 من رواية كش ملك
- الفصل 5 من رواية كش ملك
- الفصل 4 من رواية كش ملك
- رسائل حب إلى أطفال لبنان
- هل نحن إزاء ضربة أمريكية ترجيحية واحدة ؟
- الفصل 3 من رواية كش ملك
- الحكومة الفلسطينية .. عشرة شهور على الأزمة
- الفصل 3 من رواية :كش ملك
- اتفاق مكة الثنائي
- إيران والعد التنازلي للحرب
- الفصل 2 من رواية : كش ملك


المزيد.....




- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب هنا - الفصل 12 من رواية كش ملك