صالح سليمان عبدالعظيم
الحوار المتمدن-العدد: 1922 - 2007 / 5 / 21 - 11:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في عالمنا العربي توجد أشياء عديدة نمارسها مثلما يمارسها الآخرون في كافة بقاع الأرض. فنحن لدينا تعليم وزراعة وصناعة وعلاقات ومؤسسات، ورغم ذلك في أحيان كثيرة يكتشف المرء في كثير من الدول العربية أن كل هذا لا يصب في النهاية في عملية تنموية حقيقية، بقدر كونه من لوازم إنشاء الدولة الحديثة، دولة ما بعد الإستقلال. لقد أفرزت دولة ما بعد الإستقلال العديد من المتطلبات التي بدت ضرورة من ضرورات هذه الدولة، ورمزاً من رموزها، بدءاً من السلام الوطني وحتى إنشاء الكباري والمصانع وغيرها من المشروعات الضخمة العملاقة. وفي الكثير من الأحيان بدت هذه المنتجات أقرب ما تكون للديكور والتجمل منها إلى المنفعة المجتمعية الحقيقية.
ورغم ذلك فبمرور الوقت، وعبر ترسانة النظم الحاكمة المدججة بكافة ألوان البث الأيديولوجي، صدق المواطنون أن لديهم صناعات ثقيلة، وأن لديهم تعليماً متقدماً، وأن لديهم نظماً صحية جيدة.. إلخ من تلك القائمة الحماسية الخطابية الطويلة التي استدمجها المواطنون وصدقوها وعاشوا على أصدائها. وفي ظل تساقط وانهيار الكثير من هذه المشروعات التنموية وماصاحبها من سقوط الكثير من النظم العربية، وتهاوي العديد من المقولات المرتبطة بها، كان لابد للمواطنين السذج والمستلبين في الوقت نفسه أن يعثروا على بديل آخر يؤمن لهم أحلامهم التي نشأوا في ظلها في دولة ما بعد الإستقلال.
وفي ظل التردي الحادث والمستمر في العديد من دول مابعد الاستقلال، وبشكلٍ خاص الدول الكبرى في المنطقة، توحد المواطنون مع تلك المشروعات الوهمية الفاشلة في الأغلب الأعم، وارتضوا بها عن قناعة في أحيان، وعن جهل في أحيان أخرى، وعن ضعف الحيلة في أحيان ثالثة. لكن اللافت للنظر هنا أن تلك الوضعية المخيبة للآمال قد أنتجت ما يمكن أن نطلق عليه ثقافة التمثيل. فلم تقتصر النتائج السلبية فقط على النواحي المادية بقدر ما انعكست أيضاً على البني المجتمعية العامة، حيث التأثيرات المباشرة على البشر والجماعات والعلاقات والمؤسسات المختلفة.
وتستشري ثقافة التمثيل في مجمل الممارسات اليومية، وتنسحب على مجمل العلاقات والتفاعلات الحياتية المختلفة، حيث لا يعبر من خلالها الأفراد عن مشاعرهم وتوجهاتهم وانفعالاتهم الحقيقية، بقدر ما يكشف الجميع عن مشاعر وتوجهات وانفعالات لا تمت لهم بصلة، لكنها تسهل لهم تعاملاتهم اليومية، كما تريح أطراف العلاقة الآخرين. فالسياقات المجتمعية الماضية التي نجحت دول ما بعد الاستقلال في فرضها على مواطنيها، قد انتقلت إليهم حتى بعد سقوط النظم السياسية التي أوجدتها وساعدت على تكريسها.
وثقافة التمثيل تعبر عن حالة متراكمة من الكذب والإدعاء والنفاق في التعاملات اليومية. وفي هذا السياق تشيع حالات النصب والخداع والسرقة، كما تستشري مستويات غير مسبوقة من الجهل والتعامل مع الغيبيات والإرتباط بمستويات تدين مظهري لا تعكس في حقيقتها جوهر الأديان ومبادئها السامية. وخطورة شيوع ثقافة التمثيل أنها لاترتبط بطرف واحد من طرفي العلاقة، لكنها تنتقل بالضرورة إلى الطرف الآخر، فالتمثيل يواجه بالتمثيل، والنفاق يواجه بالنفاق، والكذب يواجه بالكذب، والإدعاء يواجه بالإدعاء. ولكى تتواصل العلاقات والممارسات التمثيلية لا بد وأن يتحلى طرفاها بالقدرة على أداء الأدوار بشكلٍ جيد وغير مخل. كما يجب على طرفى العلاقة قبول عملية التمثيل والإندماج فيها رغم معرفتهم المؤكدة بذلك القدر من الإدعاء والكذب والنفاق المرتبط بها.
وتكمن مخاطر ثقافة التمثيل في العديد من المظاهر التي يمكن ملاحظتها من خلال ممارسات الحياة اليومية سواء عبر الوحدات الاجتماعية الصغرى أو عبر المستوى المجتمعي العام. فثقافة التمثيل تنسحب عبر كل المستويات الحياتية، بدءاً من العلاقات الأسرية، مروراً بعلاقات العمل، وحتى علاقات المستويات القيادية العليا. ففي الأسرة تشيع علاقات الحب والود والوئام، بينما في الخلف من تلك العلاقات الإنسانية علاقات أخرى حقيقية تقدم تعبيراً حقيقيا وصحيحاً عن مجريات الأمور الأسرية، حيث علاقات الكراهية والخوف والحسد والتنابذ والهيمنة والقمع. وتظهر هذه العلاقات بشكلٍ أكثر وضوحاً من خلال العلاقات القرابية، التي يحرص الجميع من خلالها على التزاور وصلة الرحم والمشاركة في المناسبات الاجتماعية المختلفة، بينما الواقع الحقيقي يعكس قدراً كبيراً من الكراهية والحسد والريبة والشك.
وفي علاقات العمل تبدو علاقات التمثيل أكثر وضوحاً ومهارة من العلاقات داخل الأسرة وبين الأقارب. والفارق بين ما يحدث من تمثيل في علاقات العمل وما يحدث في محيط الأسرة وبين الأقارب، أننا في الأول لا نعرف بعضنا البعض، نظل نمثل على بعضنا حتى تنكشف أمورنا وتنفضح أمام الآخرين، أما في محيط الأسرة وبين الأقارب فحدود التمثيل محدودة وأطر الإنكشاف متسعة. فمن منا يستطيع أن يمثل أمام والديه أو أقاربه ناهيك عن زوجته وأولاده، ولعل ذلك يفسر حدة العداءات التي تحدث بين الزوج وزوجته أو بين الأقارب. ففي ظل الحيز المكاني المحدود أسريا، وطبيعة العلاقات اليومية والمحتومة في الوقت ذاته، فإن كل طرف لا يستطيع أن يمارس مشاريعه التمثيلية بسهولة ويسر، اللهم إلا إذا فرض سيطرته على الطرف الآخر واتخذ من وجوده خشبة للمسرح يعتليها ويمارس عليها أدواره التمثيلية المختلفة.
تفرض علاقات العمل مساحة كبيرة من التمثيل، فالرؤساء الذين لا يفهمون شيئاً يمثلون أنهم يفهمون، والحواريون الذين لا يمتلكون أية موهبة سوى النفاق والخنوع، يمثلون أنهم ينجزون وينتجون ويغيرون. وفي الكثير من الحالات يبدو تمثيل الفهم هو القاسم المشترك داخل المؤسسات المختلفة، فالكل يمثل أنه يفهم ويعي ويغير ويشكل رؤى وتصورات جديدة، بينما الحقيقة أن الجميع يمثلون أدوارً أبعد ما تكون عن عقولهم المغلقة وشخصياتهم المهترئة. ولأن الجميع يمثل فإن كبار المقام، الأقدم بحكم الزمن وليس الخبرة والفهم، يدلون بدلوهم أيضاً عبر تمثيل الحكمة والخبرة والبصيرة، وما يزيد الطين بلة أن أصحاب الأدوار الصغيرة يمثلون أيضاً أنهم يحترمون كبار المقام ويستفيدون من خبراتهم.
أخطر ما تصاب به الأمم حينما تشيع ثقافة التمثيل هذه بين أبنائها وعبر مؤسساتها المختلفة. حيث تصبح الحياة اليومية مفارقة تماماً للطبيعة الحقيقية التي يجب أن تكون عليها، وتظهر من خلالها. وفي هذا السياق يتم تجميل القبح حيث يعتاده البشر، ويصبح هو الوسيلة والغاية في الوقت نفسه، بدون الإحساس بضراوته وتأثيراته السلبية الغائرة في الوجدان والمشاعر والسلوك. وتغيير هذا الواقع يصبح بالغ الصعوبة من حيث أن التعود على القبح وقبوله عبر آلية ثقافة التمثيل هذه يحيل الذات الإنسانية الممارسة إلى ساحة لهذا القبح، فتنعدم المسافة فيما بينهما، ليصعب علينا في النهاية أن نميز بين القبح من ناحية وبين الذات الممثلة له من ناحية أخرى. وهنا لا يمكن التخلص من ثقافة التمثيل هذه إلا بالتخلص من القبح القابع خلفها، المحرك لها، والموجه لسلوكياتها وممارساتها، وهو الأمر الذي يفضي لا محالة إلى ضرورة التخلص من هؤلاء الذين يمثلون علينا ليل نهار، ويملئون حياتنا تمثيلاً وادعاءً وقبحاً ونفاقً.
#صالح_سليمان_عبدالعظيم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟