|
التاريخ.. يتصل وينفصل
فؤاد النمري
الحوار المتمدن-العدد: 1922 - 2007 / 5 / 21 - 11:54
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
قبل خمس عشرة سنة كان أستاذ العلوم السياسية في جامعة جون هوبكنز الأميركية، فرانسس فوكوياما، يكتب أطروحته " نهاية التاريخ " مؤكداً أبدية النظام الرأسمالي كأسلوب إنتاج والديموقراطية الليبرالية في شكل الإدارة والحكم. وكنت في ذات الوقت أكتب أطروحتي " إنهيار الرأسمالية وأزمة الإشتراكية " مؤكداً إنهيار نظام الإنتاج الرأسمالي وحلول الطبقة الوسطى محل الطبقة الرأسمالية في الإدارة والحكم وقيام دكتاتورية الذين لا يملكون (الطبقة الوسطى) بدلاً من دكتاتورية الذين يملكون (الطبقة الرأسمالية) وهي أكثر عنتاً وأشد وطأةً. الأطروحتان متعارضتان كل التعارض وسبب ذلك ليس تعارضاً في الرؤى كما يفترض لأول وهلة بل لأن السيد فوكوياما كتب أطروحته وقد وضع لها هدفاً مسبقاً الأمر الذي من شأنه أن يفسد كل بحث نظري. كتب فوكوياما مستهدفاً الإنتصار لرأسمالية السوق الحرة وللديموقراطية الليبرالية. وما يثير الاستغراب في عمل فوكوياما هو أنه انتصر لنظام الإنتاج الرأسمالي بعد انهياره، وما كان ليقوم بذلك لو أنه كان على معرفة كافية بطبيعة النظام الرأسمالي وشروط تكامله.
انهيار الإتحاد السوفياتي في العام 91 أوحى لكل من فرانسس فوكوياما وصموئيل هنتنجتون أن الإنهيار إنما كان بفعل المواجهة بين النظام الإشتراكي ممثلاً بالإتحاد السوفياتي من جهة والنظام الرأسمالي ممثلاً بالولايات المتحدة الأميركية من جهة أخرى، وهو ما عني إليهما الإنتصار الساحق والنهائي للنظام الرأسمالي على النظام الإشتراكي. الأمر بالطبع لم يكن كذلك على الإطلاق بل لعل مواجهة النظام الرأسمالي للنظام الإشتراكي أطال من عمر الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي بفعل قانون المقاومة الذاتية للأجسام الحية. وللحقيقة فإن علائم الإنهيار في بنيان الإتحاد السوفياتي بدأت تظهر بعد رحيل ستالين 1953 وانتقال السلطة الفعلية للهرم العسكري (مجمع الصناعات العسكرية) بدل الحزب. ليس لأميركا أو للنظام الرأسمالي أي دور في انهيار الإتحاد السوفياتي أكثر من دور الفزاعة. غير أن انهيار النظام الرأسمالي كان قد بدأ عام 1971 بفعل مواجهة المعسكر الإشتراكي الذي استطاع من خلال ثورة التحرر الوطني حرمان مراكز الرأسمالية الإمبريالية من محيطاتها الضرورية لطرح فائض إنتاجها. لقد صدرت شهادة الوفاة للنظام الرأسمالي في " إعلان رامبوييه " 17 نوفمبر 1975.
ترتب على هنتنجتون وفوكوياما من أجل تقديم أطروحتين فاسدتين أن يغيرا محرك التاريخ الحقيقي، الذي يعمل بثبات، " بمحرك " لا يعمل على الإطلاق. إدّعى فوكوياما أن نزوع الإنسان إلى التسيّد والتسلط (mythos) هو ما يجر التاريخ إلى الأمام، أما هنتنجتون فقد تعرّف على أربعة محركات أولها أطماع الملوك واستبدله بعدذاك بأطماع الشعوب والمحرك الثالث هو الإيديولوجيا ثم المحرك الحالي الذي هو صدام الحضارات وهذه جميعها محركات زائفة لا تقوى على الحركة. ما أعادنا لذات الموضوع، بعد أن كنا قد تعرضنا له في مقالتين نشرتا في إيلاف ( صدام الحضارات وصموئيل هنتنجتون AsdaElaph/2005/12/115157 ) و ( نهاية التاريخ وفرانسس فوكوياما AsdaElaph/2006/1/117107 )، هو أطروحة فرانسس فوكوياما الجديدة ( القطع الأعظم ) ـ The Great Disruption ـ في العام 2000.
في أطروحته الجديدة ( القطع الأعظم ) يتخلى فرانسس فوكوياما عن الأفكار الرئيسية التي ضمنها كتابه ( نهاية التاريخ ) والذي شغل علماء السياسة في نهاية القرن العشرين، دون وجه حق، بعد انهيار العوالم الثلاثة الموروثة عن نتائج الحرب العالمية الثانية. يعود فوكوياما في كتابه الجديد ليلاحظ أن ثمة قطعاً عظيماً ما بين عالم أواسط القرن العشرين وعالم نهايته. يبدو هنا أنه يتفرج على العالم من جانب الأخلاق والقيم فيرى انهياراً هائلاً في هذا الجانب وقطعاً كليّاً يشكل فراغاً تاماً فلا تعود قيم وأخلاقيات العقد التاسع أو العاشر من القرن العشرين تنتمي بحال من الأحوال لقيم وأخلاقيات العقد السادس منه. مرة أخرى لم يفلح فرانسس فوكوياما في تعليل مثل هذا الإنقطاع العظيم فطفق يبحث في بيولوجيا الإنسان وفي علاقات القرابة وتصدع العائلة وعلاقات الجنس وما إلى ذلك من مظاهر الأخلاق والقيم ؛ ولحظ فوكوياما من بين ما لاحظ الفردانية(Individualism) في المجتمعات الجديدة دون أن يكلف نفسه بتعليل هذه الفردانية وقد أضحت الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات الحديثة التي يدفع بها قادة الطبقة الوسطى كقادة حزب العمال البريطاني أو الحزب الديموقراطي في الولايات المتحدة الأميركية للتواؤم مع طموحات وحاجات الأفراد على تباينها وفردانيتها.
فوكوياما يتبرأ من إعلانه "نهاية التاريخ"
الحقيقة الكبرى التي لم يستطع فوكوياما تجاهلها هي أن الإنهيار القيمي والأخلاقي إنما حدث بفعل الإنتقال من نظام الإنتاج الرأسمالي الكلاسيكي إلى ما يسمى بالإنتاج المعرفي وإلى مجتمع المعلوماتية (information society). فيما قبل العام 92 كانت قلاع الرأسمالية المنهارة قد قلّدت فارسها الأول فرانسس فوكوياما السيف والترس للدفاع عن حياضها. وعندما لـم يجد هـذا الفارس الدونكيشوتي من ينازله رفع راية الإنتصار، راية " نهاية التاريخ "، معلناً بأعلى صوت أن تاريخ البشرية قد انتهى برأسمالية السوق كنظام للإنتاج وبالديموقراطية الليبرالية كنظام للإدارة والحكم. اليوم، عام 2000، يعتري هذا الفارس المغوار خجل غامر كافٍ ليمنعه من الإعتراف عـلانية بعجزه الفاضح عن القيام بالمهمة الموكلة إليه، مهمة الدفـاع عن حياض الرأسمالية. يلوّح بسيفه الخشبي في الهواء دون أن يقتحم ساحة النزال الحقيقية فيهرب يبحث فيما يسميه ب " الرأسمال الإجتماعي " (social capital ) وفي الطبيعة البشرية وفي العلاقات الجنسية وفي الخصوبة وما إلى ذلك من تجليّات قيَميّة. لكنه بتواضع يقول.. " يقترب القرن العشرين من نهايته دون أن يظهر في الأفق أي بديل عن الديموقراطية الليبرالية ورأسمالية السوق كناظمين للمجتمعات الحديثة ". ليس لنا هنا إلا أن نتوقف أمام مثل هذا التواضع الجم من قبل هذا الفارس المغوار طالما أنه لم يستثنِ على الإطلاق ظهور بديل لهما كناظم للمجتمعات ما بعد الحديثة. بل ويعبر عن مثل هذا التواضع أكثر فيقول.. " تزداد الديموقراطية الليبرالية هشاشة وقابلية للإنكسار كلما تعمقت الفردانية في المجتمعات الحديثة كما هو الأمر في الولايات المتحدة الأميركية بصورة خاصة ".
فوكوياما أستاذ في العلوم السياسية وفق المناهج البورجوازية الأمريكية. ورغم أن أساتذة العلوم السياسية في الغرب الرأسمالي يعترفون كلما دعت الضرورة إلى أن السياسة إنما هـي مجرد تابع مطواع للاقـتصاد إلا أنـهم يغيّبون مثل هـذه العلاقة الجوهرية في معاهدهم الدراسية. لا يمكن لفوكوياما وغير فوكوياما أن يبحث فـي السياسة ويصل إلى نتائج حقيقية دون أن يكون لديه فهم كامل للعملية الإقتصادية ومفاعيلها. ويلاحظ كل من يقرأ كتابي فوكوياما " نهاية التاريخ " (The End Of History) و " القطع الأعظم " (The Great Disruption) خلوهما من أية مفاهيم إقتصادية أو إنتاجية تقوم عادة كأساس لمختلف البنى السياسية. علماء السياسة البورجوازيون يعرضون دائماً عن التعرف على المحور الحقيقي الذي تدور حوله حياة الإنسان المجرد. إنه الإنتاج، لو لم ينتج الإنسان لما خرج من مملكة الحيوان ولما تغرّب عنها في رحلة تتقدم على طريق الأنسنة حتى انتهاء الحياة على الأرض. ولأن فوكوياما من علماء السياسة البورجوازيين فإنه لم يفلح في التعرف على أسباب وطبيعة القطع الأعظم بين منظومة القيم والأخلاق الرأسمالية من جهة ونظيرتها في مجتمع المعلوماتية من جهة أخرى ؛ وقد اعترف بهذا الفشل ولو بصورة غير صريحة وغير مباشرة.
كنت قد شرحت عن أسباب سقوط القيم الرأسمالية في كتاب (أزمة الإشتراكية وانهيار الرأسمالية) المتزامن صدوره مع صدور (نهاية التاريخ والإنسان الأخير 92/93) وفي ( جديد الإقتصاد السياسي/02 ) وأكدت أن أولى القيم الرأسمالية الساقطة هي قيمة العمل التي هي الناظم الرئيسي والوحيد أساساً للمجتمع الرأسمالي. يخطئ فوكوياما إذ يعتبر أن القاعدة الأساسية في المجتمع الرأسمالي والتي تقول أن العمل هو المصدر الوحيد للثروة ما زالت هي ذاتها القاعدة التي يقوم عليها مجتمع المعلوماتية. فالعمل في الولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص لا ينتج ثروة وليس أدل على ذلك من أن البطالة خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن المنصرم ظلت أدنى منها في الخمسينيات أو الستينيات ورغم ذلك ترتب على الدولة ديون عامة يتجاوز مجملها أربعة أضعاف مجمل الدخل القومي. يخطئ من يظن أن الدين العام تراكم فقط بسبب تجاوز معدلات الإستهلاك العام نظيرتها فيما قبل إنتقال المجتمع الرأسمالي إلى المجتمع المعلوماتي المتصف بنمط الإقتصاد الإستهلاكي (consumerism)، يخطئ من يظن ذلك لأن الإنتاج الأمريكي بمجمله ورغم انخفاض معدلات البطالة لم يعد يشبع احتياجات الشعب الذي أخذ يستهلك كل الإنتاج الأميركي بالإضافة إلى ما يوازي 40% من إنتاج بريطانيا العظمى وهو ما يدل قطعاً على أن العمل الأميركي لم يعد ينتج ثروة، عكس ما افترض بداهة فرانسس فوكوياما.
لكن متى ولماذا لا ينتج العمل ثروة؟!
تعرض كارل ماركس في تحليله الشامل الأخاذ لقيمة السلعة (Commodity Value) ورأى أن القيمة بكاملها تتأتى من العمل البشري المخزون في تلك السلعة، وأشار في هذا السياق إلى سويّة العمل المتعينة بالقيمة الإستعمالية للسلعة (Use Value)، فالعمل لا بدّ وأن يستهدف بداية خلق سلعة تسد حاجة إنسانية. الدول التي احتلت المراتب الأولى في التطور خلال القرنين 1750 ـ 1950 إنما فعلت ذلك من خلال التصنيع وتخصيص مجمل قوة العمل للإنتاج السلعي. في ستينيات القرن الماضي أخذت هذه الدول المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية تميل إلى الإنتاج الخدمي وهو المختلف تماماً عن الإنتاج السلعي. فالقيمة الإستعمالية للخدمات لا تتحقق إلا من خلال الإنتاج السلعي. فالأوروبيون مثلاً لا يدفعون أجور شحن السكر الكوبي إلا لدى استهلاك هذا السكر والانتفاع من استعماله ـ استعمال السكر بحد ذاته وليس استعمال الشحن. أجور الشحن هنا تقوم مقام الغرامة على الانتفاع من القيمة الإستعمالية للسكر، ولو لم يكن مشحوناً لما اضطروا لدفع مثل هذه الغرامة ولكان ذلك أفضل بالطبع. ومثل هذا المثال ينطبق على سائر الخدمات الأخرى كالصحة والتعليم والأمن وغيرها. الخدمات منتوج كسيح غير قادر على الوصول إلى السوق إلا محمولاً على سلعة دخل في خدمتها. ولهذا السبب كان الرأسماليون يحافظون بقوة على تحديد إنتاج الخدمات مثل التعليم والصحة وحتى الأمن بالحدود الدنيا كيلا تثقل كلفة إنتاج الخدمات على دورة الإنتاج الرأسمالي السلعي.
الحجم الأكبر من الخدمات يفشل في الدخول إلى السوق نهائياً وذلك لأن قانون السوق يمنع السلع الداخلة إليه من أن تحمل أكثر من الحد الأدنى من الخدمات لأن من شأن ذلك أن يثقل على دورتها في السوق ومبادلتها بالنقد. ولكي يضمن المجتمع طريقاً ممهدة لتطوره الصحيح والسليم يلزم أن يحدد نسبة معينة ما بين إنتاج الخدمات إلى إنتاج السلع كأن تكون قوة العمل الموظفة في إنتاج الخدمات تساوي نصف قوة العمل الموظفة في إنتاج السلع وما زاد عن ذلك يذهب هدراً دون أن يعود على المجتمع بأية منفعة. في مجتمع الولايات المتحدة تبلغ قوة العمل الموظفة في إنتاج الخدمات أربعة أضعاف قوة العمل الموظفة في إنتاج السلع وهو ما يعني أن 70% من قوة العمل الأميركية تصرف بما لا طائل منه. فمثلاً يستهلك المسنون والعجزة نصف نفقات الرعاية الصحية في الولايات المتحدة من أجل إطالة أعمارهم وزيادة النفقات الصحية أكثر فأكثر، وهكذا حال الإنفاق العسكري والأمني بمختلف وجوهه. لسنا نغالي إذا قلنا أن أكثر من نصف قوة العمل الأميركية تعمل فيما لا طائل منه وفيما لا يترجم إلى قيمة حقيقية كما نبّه ماركس. ولهذا السبب فقط نجد الولايات المتحدة الأميركية تستدين يومياً من الخارج أكثر من مليارين من الدولارات لسد حاجات شعبها بالرغم من أنها الدولة الأغنى والأكثر انهماكاً في العمل!!
منظرو ما يسمى ب " الطريق الثالث " وقادة " الدولية الإشتراكية " يدّعون أن الإنسان المتوسط (average man) اليوم بحاجة إلى الخدمات أكثر بكثير مما هو بحاجة إلى السلع، إنه بحاجة إلى التعليم والتدريب والرياضة والمعلوماتية أكثر بكثير من حاجته إلى الغذاء والكساء والسكن. على إفتراض صحة هذا الإدعاء، وهو غير صحيح، فإن هؤلاء المنظرين والقادة لم يفطنوا إلى أن منتجي السلع هم من يتحمل كامل كلفة الخدمات المهدورة منها وغير المهدورة. تمعن الطبقات الوسطى اليوم في نهب بل في إفتراس الطبقات العاملة. لأن إنتاجها لا يدخل السوق ويقصر بذلك عن أن يكتسب الصنمية السوقية (fetishism)، الصنمية التي تؤهله للمبادلة بمختلف السلع الأخرى وتحديد قيمتها التبادلية (Exchange Value)، فإنها تستبد باستبدال إنتاجها بإنتاج الطبقة العاملة وبدل أن يكون قصوره ضرراً يصبح امتيازاً حيث تستبدل الخدمات بأضعاف أضعاف قيمتها الحقيقية من السلع يساعدها في ذلك مغالاة الإنسان الحديث في الترفه من جهة وسلطة الدولة الطبقوسطية من جهة أخرى. وبذلك أصبح منتجو الخدمات، وهم مصنفون كطبقة وسطى، الغول الذي يفترس الطبقة العاملة في العالم، البروليتاريا منها تحديداً.
الفردانية التي رآها تسود المجتمعات الأكثر تقدماً كالولايات المتحدة ومثيلاتها الأخرى، لم يدرِ فوكوياما، بكل درايته الواسعة، أسباب تفشيها كوباء مستعصٍ رغم أنه أشار إشارة عابرة إلى طبيعة الإنتاج. ولو كان قد بحث عن أسباب ذلك في طبيعة الإنتاج وفقاً لمقتضيات البحث العلمي لوجد أن كل تنظيراته في " نهاية التاريخ " والتي راكمت في رصيده العلمي بفعل الإعلام البورجوازي إنما كانت مجرد فقاعات لا قيمة لها على أرض الواقع ـ وهو الأمر الذي يدفعه بالطبع إلى العمل بمختلف الأدوات والحيل لأجل الحفاظ على مثل هذا الرصيد المسروق.
يرفض فوكوياما الإعتراف بانهيار النظام الرأسمالي ؛ ومن الغريب والمدهش حقاً أن يشارك هذا النصير المتحمس للنظام الرأسمالي في رفضه هذا فلول الوطنيين والقوميين الفاشلين وشيوعيو الردّة الخروتشوفية وجميعهم ما زال يرطن بالإمبريالية وبالتحرر الوطني. انهار النظام الرأسمالي بعد أن فقد كل محيطاته من البلدان التابعة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية وأمسكت بخناقه جرّاء ذلك أزمة قاتلة عام 1971. إنهار ولم تنقذه مغامرة الدول الأغنى الخمس (G5) التي تضمنها "إعلان رامبوييه" (Declaration Of Rambouillet) في 17 نوفمبر 1975 والذي قضى من جملة ما قضى بغمر الدول المستقلة حديثاً بفيض من الدولارات على شكل قروض ميسرة ؛ بل إن تلك المغامرة إنتهت إلى عكس ما خطط لها إذ سارعت في انهيار نظام الإنتاج الرأسمالي بدءاً بأقوى قلاعه، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا. كان رأسماليو هذه القلاع قد رأوا في الستينيات نهاية نظامهم في الأفق القريب فطفق قسم منهم إلى الهجرة إلى بلدان أخرى متخلفة بأمل " رأسملتها " وهو ما يسميه معلقو السياسة في الصحف اليوم ب " العولمة " (Globalization) ؛ ولجأ القسم الآخر إلى التحول إلى إنتاج غير رأسمالي، ولا يحتاج إلى أسواق محيطية، وهو إنتاج الخدمات.
نظراً لفقر فوكوياما في علم الإقتصاد كما هو واضح في سائر كتاباته، فقد تعذر عليه إدراك الفروق النوعية بين الإنتاج الرأسمالي من جهة وإنتاج الخدمات من جهة أخرى ـ وهو ما شرحناه في كتابنا " جديد الإقتصاد السياسي " على الشبكة بالدلالة أدناه. ما يهمنا هنا هو الفردانية التي لا حظ فوكوياما بحق تفشيها في المجتمعات المتقدمة والتي رأي فيها خطراً حقيقياً على الديموقراطية الليبرالية ـ وليس على رأسمالية السوق أيضاً!! ـ الفردانية التي اقترن تفشيها مع زيادة التحول إلى مجتمع المعلوماتية. مجتمع المعلوماتية هو مجتمع الإنتاج الخدمي، والإنتاج الخدمي بكل أشكاله وألوانه هو إنتاج بورجوازي فردي (Individual Production) حيث يعود المنتوج بكليته إلى منتجه الفرد أو مجموعة الأفراد وليس كالإنتاج الرأسمالي حيث يعود المنتوج إلى المجتمع بأسره (Associated Production). نظام الإنتاج الرأسمالي لا يسمح للفردانية بالظهور ويدفع بالمجتمع إلى التجمع في وحدات إنتاجية ونقابية كالمؤسسة الجامعة (Corporation) والإتحاد الجامع (Association) والنقابة الجامعة (Trade Union) وكذلك اتحادات الصناعيين (Trust / Cartel). من طبيعة نظام الإنتاج الرأسمالي أن يدفع بالناس إلى التعاون والتكتل في وحدات لكل منها مصالح مشتركة، أما إنتاج الخدمات فذو طبيعة فردية بورجوازية يشيع التفكك في المجتمع كما يفكك علاقات الإنتاج ؛ وينتهي الأمر إلى أن يكون للطبقة الوسطى إنتاجها الخاص بها والقابل للمبادلة مع إنتاج الرأسماليين والبروليتاريا مجتمعين.
إصرار فوكوياما على أن نظام الإنتاج السائد في المجتمعات المتقدمة، الرأسمالية الكلاسيكية سابقاً، ما زال نظاماً لرأسمالية السوق هو إصرار لا تبرره وقائع الحياة طالما أنه يقول بملء فمه بتحول المجتمعات الرأسمالية التقليدية إلى مجتمعات المعلوماتية. وعلى فلول الوطنيين والقوميين سابقاً كما على الشيوعيين المرتدين على ماركس ولينين أن يفضوا شراكتهم مع فرانسس فوكوياما ويعترفوا بأن النظام الرأسمالي الإمبريالي كان قد تحلل مع بداية الربع الأخير من القرن العشرين وليس من أثر له في عالم اليوم، وعليهم تبعاً لذلك أن يأتوا بخطاب جديد كيلا يحكم عليهم التاريخ بالخيانة العظمى.
#فؤاد_النمري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من الفوضى الخلاقة إلى الشرق الأوسط الجديد
-
العولمة.. رحلة خارج التاريخ
-
إعلان رامبوييه .. أخطر إنقلاب في التاريخ وهو أساس النظام الد
...
-
اكذوبة إقتصاد المعرفة مرة أخرى
-
إقتصاد السوق صيحة مشبوهة
-
اليسار الغدّار
-
القوى المطلقة للماركسية
المزيد.....
-
حزب النهج الديمقراطي العمالي يثمن قرار الجنائية الدولية ويدع
...
-
صدامات بين الشرطة والمتظاهرين في عاصمة جورجيا
-
بلاغ قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية
-
فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح
...
-
الرئيس الفنزويلي يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
على طريق الشعب: دفاعاً عن الحقوق والحريات الدستورية
-
الشرطة الألمانية تعتقل متظاهرين خلال مسيرة داعمة لغزة ولبنان
...
-
مئات المتظاهرين بهولندا يطالبون باعتقال نتنياهو وغالانت
-
مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
-
الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|