|
كوميديا شيطانية في سجون المخابرات السورية
آزار محلوجيان
الحوار المتمدن-العدد: 1922 - 2007 / 5 / 21 - 08:31
المحور:
الادب والفن
ترجمها عن السويدية: صفوان الخالد ( أذيعت هذه القراءة في أحد البرامج الثقافية لراديو ستوكهولم، وهي بقلم الكاتبة السويدية- الإيرانية "آزار محلوجيان" حول الشاعر و الكاتب السوري فرج بيرقدار وكتابه "خيانات اللغة والصمت" المترجم إلى السويدية.)*
" أنتم يا من تعيشون بأمان في بيوتكم العامرة بالدفء و الراحة. أنتم يا من تعودون إلى بيوتكم في المساء فتجدون الطعام الساخن و الوجوه البشوشة تأمّلوا. هذا ما حدث. أوصي إليكم بهذه الكلمات "
هكذا يبدأ كتاب " هل هذا إنسان؟" الذي يُعدُّ أحد أشهر الكتب التي صدرت في القرن التاسع عشر. خلال الحرب العالمية الثانية رُحَّل العالم الكيميائي "بريمو ليفي" من مدينته – تورين – الإيطالية إلى معسكر الاعتقال "آوشفيتز" في بولونيا ، لكنه بعد التحرير و سقوط النازية أصبح كاتباً و كتب عن الرعب وفظاعة الإبادة الجماعية في معسكرات الاعتقال.
لقد قرأت كتاب "بريمو ليفي" في بداية التسعينات من القرن الماضي، عندما كنت أعمل كمترجمة ولمدة ثلاث سنوات في مركز الصليب الأحمر الدولي في ستوكهولم لرعاية اللاجئين الذين تعرضوا للتعذيب في بلدانهم ، وقد كانت غايتي من ذلك، هي أن أُهيئ نفسي لما يقتضيه عملي من لقاءات مباشرة مع ضحايا التعذيب و تلك النفوس الجريحة. لكن الكتاب لم يتحدث فقط عن الأعمال الشنيعة التي ارتكبها النازيون، و إنما تضمن في طياته آراء و أفكار "بريمو ليفي" حول المشاكل الأخلاقية التي يتصارع معها الإنسان داخل المعتقلات و خارجها في حياة الحرية. "علينا جميعاً أن نفهم أن معسكرات الإبادة الجماعية ما هي إلاّ إشارة تحذير" هذا ما ورد على لسان "ليفي" في مقدمة كتابه.
أمّا الآن فإنني أقرأ كتاباً مهماً آخر هو "خيانات اللغة والصمت" للكاتب و الشاعر السوري فرج بيرقدار، الذي أمضى أربعة عشر عاماً من حياته في معتقلات وسجون المخابرات السورية المتعددة، بما فيها سجن تدمر الصحراوي، قبل أن يُطلَق سراحه في أواخر العام ألفين، وما كان ذلك ليحدث لولا الحملة العالمية الواسعة، التي بدأت بعد أن قدَّم فرج بيرقدار دفاعه أمام محكمة أمن الدولة العليا بدمشق، إذ طُبع الدفاع وتُرجم ونُشر وأذيع في وسائل الإعلام الأجنبية.
أبدأ بقراءة الكتاب فأعايش ما يصفه في داخلي، و تسودّ الدنيا في عيوني عندما أقر عن كرسي التعذيب الذي يجلس على المرء وليس العكس. أشعر بالغثيان وأنا أقرأ وأتخيل ذلك الجرذ الميت، الذي أُجبر أحد السجناء على ابتلاعه ولم يستطع، فتوقف في الحلق. أكاد أختنق. لا.. لا أريد أن أعايش هذه المهانة، فذلك مرهق جداً و يفوق طاقتي على التحمل. ثم إنني لست ماسوشيّة، فلماذا أقحم نفسي في هذا العالم المهين؟ أقول لنفسي وأضع الكتاب جانباً. بعد عدة أيام تسرح أفكاري فجأة فيما سمّاه بريمو ليفي " اللامبالاة الوحشية" تلك التي أورثته الكوابيس أثناء وجوده في معسكر " آوشفيتز". يقول بريمو ليفي أنه في أثناء نومه القلق، حيث كان يتمدد وينام على السرير الذي يشاركه فيه سجين آخر، حلم أنه قد أطلق سراحه، وحين أراد أن يروي للآخرين ما جرى له أثناء الاعتقال، لاحظ أنهم لا يعيرونه أي اهتمام ، بل يكلم بعضهم بعضاً بشكل مضطرب عن أشياء أخرى. " كما لو أنني لم أكن هناك بينهم، شقيقتي تنظر إلي ثم تنهض و تمشي إلى شأنها دون أن تنطق كلمة واحدة. لقد استحوذني ألم رهيب أشبه باليأس. إنه الأسى الخالص، أسى من ذلك النوع الذي يدفع الأطفال إلى البكاء". هكذا يصف بريمو ليفي لا مبالاة أناس محظوظين تجاه سوء حظ أناس آخرين. مع غصة ثقيلة في الحلق، أعود فأتناول كتاب فرج بيرقدار وأبدأ بتقليب صفحاته. أعرف أنه سيأخذني ثانية إلى "هناك"، إلى ما يسميه هو نفسه "منتصف الطريق إلى مملكة الموت"، لكنني قررت ألاّ أخذله هذه المرة. شعور جديد ينتابني الآن! كلما ذهبت أبعد في الكتاب شعرت بالاسترخاء و بشجاعة أكبر للمتابعة. أنا في طمأنينة أكثر، والتنفس أسهل. يقودني بيرقدار في متاهة الشر، ويتركني " أمشي على نار الحقيقة حافية القدمين" كما يعبر هو نفسه عن ذلك، لكن وبوعي منه أنني قد لا أستطيع التحمل، فإنه يحاول مواساتي ومكافأتي بلغته الشعرية الجميلة. يروي لي قصص السجن كما في ألف ليلة و ليلة، فأقابل أناساً لا يكسرون ولا يستسلمون، أناساً يناضلون من أجل صون كرامتهم على نحو يجعل جلاّديهم يشعرون بالعجز والهزيمة. لقد كتب فرج بيرقدار مذكراته التي يسميها " الكوميديا الشيطانية" على أوراق السجائر، ليتم تهريبها لاحقاً إلى خارج السجن. لقد فعل ذلك من أجلنا، ولهذا ينبغي علينا أن نعرف ماذا يحدث داخل أسوار السجون.
أنا سعيدة لأن فرج بيرقدار كتب ويكتب من أجلنا، وسعيدة أيضاً لأنه الآن موجود بيننا في مدينة ستوكهولم ضيفاً بلقب "كاتب المدينة الحرة".
* بثها الراديو السويدي في برنامجه الثقافي بتاريخ 19/12/2006.
#آزار_محلوجيان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|