|
إستراتيجية العنف المسلح في الإسلام ... الجزء الأول
هوار محمد سعيد بلو
الحوار المتمدن-العدد: 1920 - 2007 / 5 / 19 - 05:32
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
بين الأمس القريب و الأمس البعيد إنّ الفكرة المعيّنة عندما تدخل حيّز التطبيق العملي يتفاوت الناس في تطبيقها مهما كانت أبعادها واضحة و معالمها صافية ، و بطبيعة الحال فإنّ هذا التفاوت في مجال التطبيق إنّما يعكس بُعد الإقتناع الموجود بالفكرة و مدى تحكّم العوامل الاخرى في مسألة التطبيق . إنّ كل الأفكار التي شهدتها دنيا البشر تخضع لهذا التفاوت في مجال التطبيق ، و قد تعطي الفكرة المعينة انطباعاً معيناً و في زمان معين ، بينما تعطي الفكرة نفسها إنطباعاً مناقضاً في زمان آخر .. ولذلك نجد أنّ الأفكار المعيّنة تعاني مِن تحوّلات سلبية أو إيجابية في مجال التطبيق بمرور الزمن . إنّ هناك حقيقة اخرى لا ينبغي أنْ نتجاهلها ، فالفكرة المعيّنة تصطبغ بانطباعاتٍ معيّنة في العقل البشري و إنْ كان للفكرة أن تعكس في حقيقتها إنطباعاتٍ مغايرة ، و هذه الإنطباعات المعيّنة عن الفكرة المعيّنة قد يستوحيها العقل أحياناً كثيرة مِن التجارب التطبيقية لهذه الفكرة على مرّ الزمان ، و كلما كانت التجربة في مجال التطبيق أطول كانت الإنطباعات التي تضفيها هذه التجربة على الفكرة أبقى و أطول في العقل . إنّ (العنف المسلح) الذي أقرّه الإسلام كإستراتيجية دينية في احدى مراحل دعوته ، قد خضع لهذا التفاوت العجيب في مسألة الممارسة بمرور الزمن ، و مرّ بمراحل تطبيقية عديدة كانت في بداياتها مشروع دفاع عن الوجود و الحياة و تحولت في مراحلها التطبيقية الأخيرة الى إستراتيجية توسّعية طامعة تأكل و لا تشبع .. تنهب و لا تهِب .. و بما أنّ المراحل التطبيقية الأخيرة لهذه الإستراتيجية الدينية كانت هي الأطول زمنياً في مسيرتها ، لذا فقد ساهمت و الى حدّ كبير في إضفاء الإنطباع المشوّه الى فكرة العنف في الإسلام . كان الإسلام في بداية مشواره دعوة هادئة الى حوار أكثر هدوءاً و إسترخاءاً ، لا يحمل في طيّاته أدنى تهديد أوعيد يمكن أنْ يحطّ من قيمته الإلهية. فقد تبنّى النبيّ (عليه السلام) منطق العقل و القناعة منذ أول إنطلاقة له بين أهل البادية ، حيث أراد أن يعرض عليهم آلة نبوّته في وضح النهار و يستحكم عقولهم على مصداقيّتها وربانيتها ، أو بعبارة اخرى أراد أنْ يسوق لهم الحجة و البرهان على طبق من ذهب و يمنحهم خيار الكفر و الإيمان. لقد أوضح النبي لأهل البادية حقيقة دعوته في هدوء و تفاهم ، و بيّن لهم خرافات الشرك و أساطيره و شرح لهم حقائق الأصنام و ضرب بعجزها الأمثال ، كما ساق لهم كلّ معجزة تدلّ على النّبوّة وكلّ آيةٍ تدلّ على الرّسالة ، و خرق لهم نواميس الكون بإرادة الله ، وغيّر لهم ثوابت الطبيعة بمشيئته تعالى . هناك منطقان لكسب تبعيّة الناس في دُنيا البشر .. منطق العقل و منطق القوّة . منطق العقل .. هو منطق الحجة التي تلقى لنفسها المكان الرحب في العقل و تتغلغل في ثناياه . أمّا منطق القوّة ، فهو منطق التخويف و الإرهاب و البطش . الأول حينما يثمر يكســب كُلاًّ من التبعـيّة و الولاء ، و لكن الثاني - مهما أثمر - فإنّه قد يكسب التبعيّة و لكن ليس بالضّرورة أن يكسب الودّ و الولاء والتّعاطف ، أو مرّات كثيرة قد يورّث العداوة والبغضاء في نفس التابع . إنّ النبيّ (عليه السلام) ، و مِن أول إنطلاقة له بين أهل البادية ، لم يتبنّ منطق القوّة في كسب تبعيّة أهل البادية .. و لم يكن يرى فيه الوسيلة المثلى لنشر المبادئ و الأفكار ، و ذلك أنّ الإنتماء إنْ لم يستند على العقيدة إنّما يفضي الى الزّوال عاجلاً أم آجلاً ، لاسيما اذا كان الدّافع وراء هذا الإنتماء هو الخوف و الشعور بالقهر والإنْهزام . كانت الحكمة الإلهيّة تقضي على النبيّ (عليه السلام) أنْ يغيّر طريقة التفكير في الصحراء و ينفخ الحياة في العقل البدوي على ايقاع مغاير و نسق جديد . حرص الإسلام كثيراً على خلق جوّ الهدوء و المحافظة عليه في جزيرة العرب ، لأنّه كان في نظره المُناخ الوحيد الذي يتسنى له من خلاله أنْ ينشر دعوته و يوصلها الى العقل بالشكل الذي . كما حرص الإسلام كثيراً أنْ يكون اللقاء الأول بينه و بين أطياف الناس في البادية لقاء تفاهم و دعوة و حوار وليس لقاء حرب و احتكاك و نفور ، و كان جلّ ما يخشاه المسلمون مِن قريش هو تأليب أهل البادية عليهم و تحريض أطياف الناس ضدّهم ، لذلك كان النبي (عليه السلام) متسارعاً في كل لحظة الى صنع السلام و تحاشي الصّدامات مع غيره . كانت الدلائل كلّها في بداية الدعوة تشير و بقوة الى أنّ سماحة الإسلام قد فاقت في عظمتها سماحة كل الشرائع السماوية التي جاءت قبلها ، حتى المسيحية التي ترفّعت عن كل أشكال الغضب و ذابت في السماحة الى أبعد الحدود ، حتى هي لم تكن لتضاهي بسماحتها سماحة دعوة الإسلام بداية مشوارها مع أهل البادية ، و لعل هذا كان هو السرّ وراء قول النبي (عليه السلام) حينما قال : ( إنما بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق )(1).. فلئن كانت المسيحية قد اشتهرت بين الناس بمكارم الأخلاق و الترفّع عن كل أشكال الغضب و فقدان السيطرة ، فإنّ الإسلام إنما جاء في حقيقته ليتمّم هذه الصورة بصورة أكثر مثالية . لكنّ وقفة قريش أمام النبي الجديد غيّرت مسار الأحداث .. فقد أجمعت أسياد قريش بعد أن جهر النبي (عليه السلام) بالإسلام ، على نسج خيوط المؤآمرة والتسرّع بإجهاض دعوة الدين الجديد في أقصر وقت ممكن. سعت أسياد قريش بكل جهودها للحيلولة دون تزايد أعداد المعتنقين للدين الجديد ، و خشيت أنّه اذا طالت الحجة بالناس أن يؤمنوا بالدّين الجديد و يعتنقوه ، لذلك حاولوا جاهدين أنْ يحجبوا الحقيقة التي أدركوها عن العامة ، و السبيل الوحيد الى ذلك يكون بمنعهم قدر الإمكان مِن الاستماع الى كلام الرسول (عليه السلام) و النظر الى الخوارق التي تصدر منه ، و إن حدث ذلك ، فينبغي إقناعهم بتفسيرات اخرى للموقف .. خوفاً مِن أن تجد هذه البراهين لِنفسها مكاناً في قلوبِهم فيقتنعون بِها . و هكذا اُصدرت الأوامر بمنع الإستماع الى كلام النبيّ (عليه السلام) وحديثه ، و تَجاهُل أيّة خارقة أو معجزة تصدر منه مهما كانت قويّة أو دامغة ، متّهمين إيّاه بالشـّعر والسِّحر والخَبال . و كان للأكابر على العامة الطاعة العمياء و تنفيذ الأوامر دون نقاش أو اعتراض ، فصار الناس يتفرّقون عن النبيّ (عليه السلام) اذا جهر بالقرآن في صلاته ، و يأبون السّماع له . و في محاولة من أسياد قريش لتقليص أعداد اولئك الذين انضمّوا الى الدين الجديد مِن وراء ظهورهم ، فقد تصدّوا لهم بإرادة مشحوذة و بيد من حديد ، فقد شنّوا حملات التعذيب والترهيب على كلّ من اعتنق الدّين الجديد من قريش ، فقتلَوا معظم مَن وجدَوا في أنفسهم القدرة على قتلهم ، و إن لم يرَوا في أنفسهم القدرة على قتلهم و تعذيبهم لمكانتهم الإجتماعية قاموا بِإهانتهم و تكذيبهم . كان (أبو جهل) اذا سمع برجلٍ قد أسلم و لهُ منعة و شـرف أنّبهُ و أخزاهُ وأوعَدهُ بإبلاغ الخسارة الفادِحة في أمواله ، وإن كان ضعيفاً مُعدماً سلّط عليه العذاب أشكالاً و ألواناً . و قد أسْلم الرسول (عليه السلام) مِن التعذيب و القتل بفضل عمّه (أبي طالب) حيث كان له السنّ و الشرف و المنزلة فيهم . و عندما صمّم النبيّ (عليه السلام) و أصحابه على المضيّ قدماً في دعوتِهم ، انفجرَ الشارع العربي في مكة مُكتوياً بِنار الغضب و انتفخَ الناس بالغرابة والإستنكار . و خشيت قُريش أن يتعاظم أمر هذا الدين بمرور الأيام ثم يأتي كالسّيل الجارف على موروثاتِها و تقاليدها ، لذلك خطّطت لتصدير المؤامرة الى سائر بقاع الجزيرة و تطعيمها بمسؤولية الولاء للعرب أرضاً و قوماً ، حتى تجد لنفسها جنوداً مِن سائر العرب يواصلون معهم تنفيذ أجزائها . أرادت قريش أنْ تتّسع دائرة المؤامرة على الدين الجديد حتى تختنق أنفاس دعوته في رمال الصحراء الحارقة أينما التجأت ويخرج الأمر بذلك مِن دائرة العشيرة الضيّقة الى دائرة الولاء الواسع للعرب قوماً و أرضاً . حاولت قريش جاهدة أنْ تثير الشارع العربيّ و تكسب الرّأي العام في أرض الجزيرة ، حيث ألقت بذور الخوف بين قبائل العرب و حذرتها مِن مغبّة السّماح للدين الجديد بالظهور في أراضيها . نجحت قريش في كسب الدّعم مِن معظم قبائل العرب ، حيث قامت كلّ قبيلة باسقاء مَن دان منها بالأسلام أنواع التعذيب و منْ لم تكن له قبيلة أجرت عليهم الأوباش و السادات ألواناً من العذاب . كانوا يحبسونَهم و يعذبونَهم بالضرب و الجوع و العطش وبرمضاء الصحراء إذا اشتدّ الحرّ .. و يفتنون الضعفاء عن دينهم ، فمنهم من يُفتنُ مِن شدّة البلاء الذي يُصيبه و منهم مَن يتحمّله بواسع الصبر . لقد فوجئ النبيّ (عليه السلام) بعد سنين من الدّعوة بشئ عظيم .. فقد لاحظ أنّ تحكيم منطق العقل في البادية لا يجدي نفعاً ولايجني ثمرة ، فالعقول في البادية كما تبدو لا ينفذ اليها الدّليل مهما كان ثاقِباً أو ساطعاً .. و إن حدَث أنْ نفذ اليها الدّليل فإنّ اصرارها على تصوّرها الخاطئ و تطرّفها الأعمى بسابق قرارها قلّما يُثنيها عن عزمها . لم يكن أهل البادية يعيرون لمنطق العقل أهمية تذكر ، كما لم يكونوا يرَوْن في القناعة ســبَباً كافياً يدعو الى التّبعية و الإنصياع . فالمنطق الذي يستوجب التّبعيّة بين البادية هو منطق القوّة والترهيب ، وذلك حينما يكون بمقدور الفرد أن يُرغِم الفرد الآخر على إتّباعه و الإنقياد لأوامرهِ . ففي البادية .. بقدر ما تملك من قوّة ، تملك الأتباع والأنصار . ولمّا كان الإسلام في بداية مشواره مفتقراً الى أضعف يدٍ تمسح عن عيون أتباعه الدّموع أو تشحن مشاعرهم الكسيرة لذلك لم تكن دعوته تبصر الإقبال المطلوب من العامّة رغم قوّة المنطق الذي تبنّته و عنفوان الحجّة التي نادَت بِها ، اللّهم إلاّ من اُناس تعوّدوا قسوة الحياة أينما كانوا وكيفما كانوا . و هكذا كانت البادية لا تُعلّم أبنائها شيّئاً غير أن يهتفوا للقوي الجبّار مهما كانت حججهِ و مبادئه . لقد عرض النبي (عليه السلام) دعوته على غالبيّة قبائل العرب حينما كان ضعيفاً معدماً لا يملك قوّة و لا سلطاناً ، فلم يتلقّ منها سوى الرّفض والإهانة و العداوة ، و اتّهمته رجالاتُها بكلّ ما هو فاحش و بذيء . وعندما اشتدّ ساعده و صلَب عودهُ بمرور الأيام ، توافدَت عليه نفس القبائل معلنةً دخولها في الدّين مِن غير أن يمدّ لها يداً أو يدعوها بِدعوة أو نِداء . كان النبي (عليه السلام) يقف على منازل القبائل من العرب يدعوهم الى الإسلام ، فيتبعهُ ( أبو لهب ) و يصيح في الناس بعدما يفرغ الرسول من ندائه : - يا بني فلان ؟؟ إنّ هذا إنما يدعوكم أنْ تسلخوا اللات والعُزى مِن اعناقكم الى ما جاء به مِن البدعة و الضلالة ، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه . عندما استمرّت محنة المعتنقين للدين الجديد ثلاثة عشر عاماً في شدة التعذيب و التقتيل و البلاء ، و أصبح النبيّ هو الآخر يتعرض للسخرية و الإعتداء خاصة بعد موت عمه أبي طالب ، لم يجد النبي بداً مِن الإيذان بهجرة عامة الى يثرب لاسيما بعد أنْ وجد بها مأوىً آمناً و رجالاً وعدوهم بالمناصرة . وبدأت قريش مرحلة جـديدة مع الإسلام .. فقد خشيت أنْ تُنشـّطَ هذه الدعــوة خارج مكة و تُفقس بيوضها هناك ، فيشتدّ ساعدها و تكسب التأييد من العرب ، ثم تداهمها كالإعصار على حين غفلة . سعَت قريش بكلّ ما وهَبَتْها الصحراء من خبثٍ و نذالة لتُعمّم كراهيّة الإسلام و تُحوّل مشروع مقاومته من دائرة العشيرة الضيّقة الى دائرةٍ قوميّةٍ عامةٍ و شاملةٍ .. حيث ألقت بذور الخوف بين العرب و اصحاب الدّيانات الاخرى و حـّذرَتْها من عواقب استقبالها للدّين الجديد . كتبت قريش رسالة الى ( عبدالله بن أبي سلول ) بصفتهِ كبير أهل يثرب قبل الهجرة و مَن معه مِن اصحابه و أتباعه ، جاء فيها : ( .. لقد آويتم صاحبنا وإنّا نُقسم بالله لَتُقاتلنّهُ أو لَتُخرجنّهُ أو لنسيرنَّ إليكم بأجمُعِنا حتى نقتل مقاتلتكم ونستبيح نساءكم ، فوالله ما مِن حيّ مِن العرب أبغض الينا أنْ تنشب الحرب بيننا و بينهم منكم ) و مِن جانب آخر قامت بمصادرة أموال المهاجرين و ممتلكاتهم و إسقاء مَن بقي مِن المسلمين الضعفاء في مكة أنواع العذاب الوحشي ، فصاروا يستنجدون بأخوانهم مِن المهاجرين لرفع هذا الظلم عليهم . يقول تعالى في سورة النساء : (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)) يقول القرطبي في تفسيره : (ويعني بالمستضعفين من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم) و يقول الطبري في تفسيره : ( ... يعني بذلك جلّ ثناؤه: وما لكم أيها المؤمنون لا تقاتلون في سبيل الله, وفي المستضعفين, يقول: عن المستضعفين منكم من الرجال والنساء والولدان. فأما مِن الرجال فإنهم كانوا قد أسلموا بمكة, فغلبتهم عشائرهم على أنفسهم بالقهر لهم وآذوهم ونالوهم بالعذاب والمكاره في أبدانهم, ليفتنوهم عن دينهم. فحضّ الله المؤمنين على استنقاذهم من أيدي من قد غلبهم على أنفسهم من الكفار, فقال لهم: وما شأنكم لا تقاتلون في سبيل الله وعن مستضعفي أهل دينكم وملتكم الذين قد استضعفهم الكفار فاستذلوهم ابتغاء فتنتهم وصدّهم عن دينهم من الرجال والنساء؟ والولدان جمع ولد: وهم الصبيان. {الّذِينَ يَقُولونَ رَبّنا أخْرِجْنا مِنَ هذهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُها} يعني بذلك أن هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان يقولون في دعائهم ربهم بأن ينجيهم من فتنة من قد استضعفهم من المشركين: يا ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ـ والعرب تسمي كلّ مدينة قرية يعني: التي قد ظلمتنا وأنفسها وأهلها. وهي في هذا الموضع فيما فسر أهل التأويل مكة ... ) و لما طال بلاء قريش بالمسلمين و تمادت في خبثها يوماً بعد يوم ، نزل الوحي يرخص للمسلمين في مواجهة العنف المفروض عليهم بحدّ السيف ، و حينها أدركت الصحابة أنّ الله شرع لهم العنف المسلّح في مواجهة العنف المفروض عليهم ، و بدأت إستراتيجية العنف المسلّح تلقي لنفسها القبول و الإستحسان في عقول المسلمين .. و لكنها لم تكن ترنو في نظرهم إلاّ الى صيانة الذات من الفناء و إقرار الحق في الدفاع وإنقاذ ما يمكن إنقاذه . قال تعالى : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ )(1) يقول (ابن كثير) في تفسيره : (.. قال ابن عباس: نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة، وقال مجاهد والضحاك وغير واحد مِن السلف: هذه أول آية نزلت في الجهاد) يقول تعالى في سورة النساء : (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)) يقول القرطبي في تفسيره : (ويعني بالمستضعفين من كان بمكة من المؤمنين تحت إذلال كفرة قريش وأذاهم) و يقول الطبري في تفسيره : ( ... يعني بذلك جلّ ثناؤه: وما لكم أيها المؤمنون لا تقاتلون في سبيل الله, وفي المستضعفين, يقول: عن المستضعفين منكم من الرجال والنساء والولدان. فأما مِن الرجال فإنهم كانوا قد أسلموا بمكة, فغلبتهم عشائرهم على أنفسهم بالقهر لهم وآذوهم ونالوهم بالعذاب والمكاره في أبدانهم, ليفتنوهم عن دينهم. فحضّ الله المؤمنين على استنقاذهم من أيدي من قد غلبهم على أنفسهم من الكفار, فقال لهم: وما شأنكم لا تقاتلون في سبيل الله وعن مستضعفي أهل دينكم وملتكم الذين قد استضعفهم الكفار فاستذلوهم ابتغاء فتنتهم وصدّهم عن دينهم من الرجال والنساء؟ والولدان جمع ولد: وهم الصبيان. {الّذِينَ يَقُولونَ رَبّنا أخْرِجْنا مِنَ هذهِ القَرْيَةِ الظّالِمِ أهْلُها} يعني بذلك أن هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان يقولون في دعائهم ربهم بأن ينجيهم من فتنة من قد استضعفهم من المشركين: يا ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ـ والعرب تسمي كلّ مدينة قرية يعني: التي قد ظلمتنا وأنفسها وأهلها. وهي في هذا الموضع فيما فسر أهل التأويل مكة ... )
لم يكن المسلمون في أرض المهجر يتوقعون أنْ ينعطف مسار الدعوة مِن طريق الحكمة و الموعظة الحسنة الى تشريع القتال و مواجهة العنف بحدّ السيف ، لذلك كانوا يتحاشون الصّدام باستمرار رغم القسوة التي يتجرعونها مِن أبناء جلدتهم و أبعاد المؤامرة التي يتحسسونها منهم .. و لعل ما قاله (ابن كثير) في تفسيره للآية السابقة يؤكد عدم توقع المسلمين لتشريع العنف المسلح حتى تلك اللحظة ، حيث أنه بعد أن نزلت هذه الآية ، قال (أبو بكر) : فعرفت أنه سيكون قتال . إنّ اللحظة التي شرّع فيها الإسلام إستراتيجية العنف المسلح لغرض مواجهة العنف الذي طالما تعرّض له المسلمون على يد قريش و حلفائها ، هذه اللحظة كانت لحظة إنتصار تأريخية لقريش على الإسلام و لطالما إنتظرَتْها قريش بفارغ صبرها .. و ذلك أنّ جُلّ ما كانت تخشاه قريش بعد أنْ فرّ المسلمون بأرواحهم و عقيدتهم الى المدينة هو أنْ تُنشـّطَ هذه الدعــوة خارج مكة و يشـتدّ ساعدها هناك ، فتكسب التأييد من العرب و تخطط للقضاء على قريش ، لا سيما بعد أن وجدت لنفسها مأوىً تركن اليهِ و رجالاً وعدوها بالمناصرة كما ذكرنا ذلك من قبل .. و كانت قريش تدرك يقيناً أنّ سبيل المسلمين الوحيد الى ذلك هو دعوة الناس بالحجة و البرهان ، ولا يتسنى لهم ذلك إلاّ في ظل الهدوء و إستقرار الأوضاع في المنطقة و هذا ما كان يحرص عليه المسلمون كثيراً .. ولذلك كانت قريش تسعى لإثارة أطياف الناس في المنطقة ضدّ المسلمين و تأليب القبائل القاطنة عليهم حتى ينشغِل المسلمون عن أمر الدعوة و لا يتوفر لهم الفراغ الذي يقومون مِن خلاله بمحاورتهم و عرض الدلائل و البراهين عليهم . لقد سعت قريش بكل جهودها لجعل أوّل لقاء للإسلام بشعوب المنطقة لقاءَ حرب واحتكاك و نفور ، لا لقاءَ دعوة و حِوار و تفاهم .. و لم تترك فسحة مجالٍ للإسلام حتى يعرّفَ نفسه للدنيا و التاريخ كما يريدُه هو أن يكون ، لا كما تريدهُ قريش .. وهكذا لم يعد سطوع الحجة و قوة البرهان ينفعان مع العرب في شيء ، مع أنّ قيمة العقل في صحراء الجزيرة أصلاً لا تساوي جناح بعوضة منذ الأزل . نجحت قريش فعلاً في تصدير مؤامرتِها المشؤومة ضدّ الدين الجديد الى سائر أحياء العرب و صار الإسلام هو الدين الممنوع على أرض الجزيرة و العدو الذي ينبغي على الجميع مقارعته بالحديد و النار .. وعلى إثر هذه المؤامرة المشؤومة وجد المسلمون أنفسهم في أرض المهجر مُطوقين بشريط مرعب من الأعداء يتربصون بهم و يتحينون الفرص للإنقضاض عليهم ، و انخرطوا معهم في حروب شائكة لا هوادة فيها متصوّرين الإسلام على أنه الشرّ المستطير الذي يهدّد البلاد و العباد . إنّ إستراتيجية العنف المسلّح بحدّ ذاتها كانت أمراً طارئاً على سيْر دعوة الإسلام ، و أنّ السواد الأعظم من سنين الكفاح المسلّح و الجهاد المقدّس إنّما فُرضتْ على المسلمين كرهاً و بعيداً عن رغبتهم . لم يكن النبيّ (ص) يخطّط أو يعدّ العُدّة للإيصال بالدعوة الى مرحلة الكفاح المسلّح ، لأنّ الدعوة بحدّ ذاتها لم تكنْ ترى في العنف وسيلة لنشر هذا الدين بين الناس و أنّ الإنتماء كما أشرْنا مِن قبل إنْ لم يستند على القناعة يفضي الى الزوال عاجلاً أم آجلاً. إنّني اُريد أنْ أقول ، أنّ إستراتيجة العنف المسلّح و التي طرأت على سير الدعوة لم تكن له فترة خاصة يترقّبها المسلمون بفارغ الصبر و التحمّل ، و أنّ القتال كمشروع لنشر الدين الجديد لم يكن قيد الدرس و التخطيط على أيْدي المسلمين الأوائل في بداية دعوتهم ، كما لم يكن قد اتُّخذ بحق هذا المشروع القرار المسبق أو سبْق الإصرار و الترصّد مِن قبل النبي و أصحابه . و قد يوهم البعض أنّ العنف يغدو مُباحاً أو واجباً مِن الواجبات الشرعية حالما تشتدّ سواعد المسلمين و تكتسب القوة والقدرة أمام غيرهم ، و إنّ المسلم إنّما يلجأ الى الدعوة بالحكمة و الموعظة الحسنة عندما يفتقد هذه القوة المفترضة . إنّ الإسلام كان يؤمن يقيناً بأنّ السلام هو المناخ الوحيد الذي يتسنى له في ظلّه أن يصل الى قلوب الناس و عقولهم بالشكل الذي يريده هو لا كما تريده قريش و أعوانها ، و ليس هناك مناخ بديل ، و حاول جاهداً أنْ يخلق هذا المناخ و يحافظ عليه .. و لذلك كان حريصاً كل الحرص على استغلال الفرص لخلق هذا المناخ و تحاشي الأسباب التي قد تساهم في تقويضه عاجلاً أم آجلاً ، فالدعوة الى الحوار و إعادة التفكير في الكون و الحياة لا يمكن أنْ تكون لها فسحة إلاّ في ظل السلام و الأمان . لم يكن الإسلام يرى من الحكمة أنْ يواجه العنف بالعنف ، لأنّ ذلك لم يكن يخلق في نظره سوى حالة مِن الإحتقان ، بل رأى الإسلام مِن الحكمة أنْ يواجه العنف بالعقل و الحِلم . كما حرص الإسلام كثيراً على أنْ يكون اللقاء الأول بينه و بين أطياف الناس في البادية لقاء تفاهم و دعوة و حوار وليس لقاء حرب و احتكاك و نفور ، و كان جلّ ما يخشاه المسلمون مِن قريش هو تأليب أهل البادية عليهم و تحريض أطياف الناس ضدّهم ، لذلك كان النبي (ص) متسارعاً في كل لحظة الى صنع السلام و تحاشي الصدام مع غيره . و مع كلّ هذا ، كان النبي (عليه السلام) يدرك يقيناً أنّ قريشاً ستضرب على الوتر الحساس ، و ستحاول جاهدة تحويل اللقاء الأول بين الإسلام كدين و الناس كمدعويين الى لقاء حرب و احتكاك و نفور ، وذلك بأثارتهم ضد الإسلام و تأليبهم على المسلمين في أرض المهجر ، لذلك سارع النبي (عليه السلام) بعد أن استقرّ في أرض المهجر الى عقد معاهدات أمان و إتفاقيات سلام مع أطياف الناس في المنطقة حتى يكون إنخراطهم في حرب مع المسلمين بالأمر الصّعب ، ويكون إنضمامهم الى صفّ قريش بالأمر الأصعب بكثير .
#هوار_محمد_سعيد_بلو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دام شهرًا.. قوات مصرية وسعودية تختتم التدريب العسكري المشترك
...
-
مستشار خامنئي: إيران تستعد للرد على ضربات إسرائيل
-
بينهم سلمان رشدي.. كُتاب عالميون يطالبون الجزائر بالإفراج عن
...
-
ما هي النرجسية؟ ولماذا تزداد انتشاراً؟ وهل أنت مصاب بها؟
-
بوشيلين: القوات الروسية تواصل تقدمها وسط مدينة توريتسك
-
لاريجاني: ايران تستعد للرد على الكيان الصهيوني
-
المحكمة العليا الإسرائيلية تماطل بالنظر في التماس حول كارثة
...
-
بحجم طابع بريدي.. رقعة مبتكرة لمراقبة ضغط الدم!
-
مدخل إلى فهم الذات أو كيف نكتشف الانحيازات المعرفية في أنفسن
...
-
إعلام عبري: عاموس هوكستين يهدد المسؤولين الإسرائيليين بترك ا
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|