|
يوميات لص لجان جينيه بالعربية: كلما كبر ذنبي في عيونكم.. صارت حريتي أكبر
عماد فؤاد
الحوار المتمدن-العدد: 1919 - 2007 / 5 / 18 - 14:01
المحور:
الادب والفن
نقولها في البداية بصراحة، كان يظن أن مولده كان عظيماً، وعدم التَّأكد من أصله سمح له أن يفسره على هواه، مضيفاً إليه خصوصية تعاساته، شعر بالفعل وهو مهجور من العائلة أن من الطَّبيعي أن يكون ناقماً على الوضع، تجلَّت نقمته هذه بتفضيله للغلمان وقاده ذلك إلى السَّرقة، ثم السَّرقة المقترنة بالجريمة أو بموقف راض عن الجريمة، وهكذا رفض "جان جينيه" بحزم العالم الذي رفضة منذ البداية!
في باريس في التاسع عشر من شهر "كانون الآول" "ديسمبر" سنة 1910 ولد الطفل "جان جينيه" تحت وصاية المؤسسة العامة لرعاية اللقطاء، ولم يستطع التوصل إلى معرفة شيئ عن أصله حتى بلغ الحادية والعشرين وحصل على شهادة ميلاده، كان اسم والدته "غابرييل غينيه" والأب مجهولاً، والعنوان: 22 شارع "داساس"، قال في نفسه: "سأعرف شيئاً عن أصلي من هناك"، وحين ذهب وجد عنوان مستشفى ولادتة ورفضوا تزويده بأية معلومات.
في هذه اليوميات الصادرة أخيراً عن دار "شرقيات" بالقاهره في ترجمتها العربية الأولى، يعرِّي "جينيه" نفسه تماماً ليؤكد أنه لم يكتب ألا ما أعتنقه سلوكاً ومذهباً في الحياة، وما أعتقده موقفاُ إيجابياً منصفاً لقضايا المشردين واللاجئين والمنبوذين المضطهدين، ليبرز في كل كلمة أن الأطراف المتعارضة لها المشاعر نفسها، ويثبت أن الشر شعور موحَّد لدى الجميع، وقاسم مشترك بين جميع الأطراف المعنية بالصراع. والتزاماً منه بقضايا التفرقة والظُّلم، اتجه "جان جينيه" إلى الشرق الأوسط ليحيا مع الفلسطينين في مخيماتهم، وشاهد موت الأطفال جوعاً أمام أمهات منكسرات ضعيفات في غيبة رجال مناضلين، وقدم للنَّشر قبل وفاتة سنة 1986 مؤلفه الضَّخم عن الثَّورة الفلسطينية تحت عنوان "الأسير العاشق" ليصدرعن دار "غاليمار" في فرنسا، هذه القضايا التي تناولها ما كان له أن يقوم بها لولا كتاب "جان بول سارتر" عنه وعنوانه "ممثلاً وشهيداً"، وهو في ستمئة وتسعين صفحة. ومن ثم يرى "سارتر" في "جينيه" الشخصية الوجودية الكاملة، من لقيط في ملجأ، إلى شريد لص، إلى سجين هارب، وقد التمس له "سارتر" العفو مرة لدى رئيس الجمهورية!
في هذه اليوميات التي صدرت تحت عنوان "يوميات لص" بترجمة دقيقة ومتأنِّية للمترجم الفلسطيني "أحمد عمر شاهين" يؤكد "جان جينيه" أنه نشأ في رعاية بعض الفلاحات في "لومور ڤان" حيث كان كلَّما مرَّ بزهرة "الجينية" التي تزهر في الأراضي البور شعر بوشائج عميقة تربطه بها خاصة عند: "عودتي في الأصيل من زيارة أطلال "تيفوچ"، حيث كان يعيش "جيل دوريه" فأرنو إليها بخشوع ومحبة، ويبدو أن مشكلتي تكمن في الطبيعة التي تحكَّمت في عاطفتي، واتسقت معها، فأنا وحيد في هذا العالم، ولست متأكداً إذا كنت ملك هذه الزهور أو شيطانها، فهي تبدي لي الإجلال حين أمرّ فتنثني دون انحناء، لكنها تعرفني، وتدرك أني كيانها المتحرِّك وممثلها الرَّشيق هازم الرِّياح. هي شعاري، ومن خلالها تمتد جذوري في تلك التُّربة الفرنسية التي تغذَّتْ على العظام المسحوقة للأطفال والشَّباب الذين ضاجعهم "جيل دوريه" ثم ذبحهم وأحرقهم (..)، وهكذا عبر اسمها الذي أحمله، أصبحت المملكة النَّباتية هي أليفتي، أنظر إليها باحترام لا بشفقة، فهي أفراد عائلتي، وإذا ربطت نفسي بالممالك السفلى، فإن هبوطي هناك، كان لأجل الطحالب ونبات السرخس ومستنقعاته، وابتعدت أكثر عن البشر".
هذه اليوميات ليست مجرد تسلية أدبية، فكلما تقدم "جينيه" في كتابتها منسقاً ما توحي به حياته السابقة بصراحة التعبير في الجمل والفصول والكتاب كله، شعر "جينيه" بأن نفسه تنزع بشدة إلى تحويل كل معاناته الماضية إلى نهايات عفيفة فاضلة، فهو لم يقرر أن يصلح لصاً، ولكن في فترة معينة من حياته، قاده كسله وأحلام يقظته إلى الإصلاحية، حيث كان من المفترض أن يظل هناك حتى سن الحادية والعشرين، لكنه هرب، وسجل نفسه متطوعاً في الجيش لمدة حمس سنوات ليحرز مكافأة التطوع الاختياري، لكنه بعد فترة هرب حاملاً معه بعض الحقائب الخاصة بضباط زنوج!
ومن ثم، يعيش فترة طويلة على السرقة، لكنه يغير حياته فجأة، ويصبح داعراً، فالدعارة – على حد تعبيره – كانت أكثر مناسبة لبلادته، كان وقتها في العشرين، وحين ذهب إلى أسبانيا كان قد عرف الجيش، والاعتبار الذي يمنحه الزي للفرد، والانعزال عن العالم الذي فرضه الجندية، ولقد أعطته مهنة الجندي ذاتها سلاماً معيناً وثقة في النفس، بالرغم من أن الجيش على هامش المجتمع.
في العام 1034 يحيا "جينيه" فترة طويلة من التشرد في بلاد الأندلس، في الليل، وبعد تسول بعض النقود في إحدى القرى العديدة هناك، يواصل السير في الريف، كان يستلقي لينام في قاع خندق، فتتشممه الكلاب، وتزيد رائحته النتنة من عزلته، ويعلو النباح حين يغادر مزرعة ما، أو يصل إلى أخرى، يقول "جينيه": "كنت أتساءل وأنا أقترب من بيت أبيض محاط بحوائط بيضاء مغسولة: هل أقدم أم أحجم؟". ويفضي السؤال إلى أن تردده لم يكن يطول، فسوف يواصل الكلب المربوط عند الباب نباحه، ومن ثم يقترب، وبلغة أسبانية رديئة، يطلب من المرأة التي ظهرت لدى الباب قطعة نقود، ولكونه أجنبياً وغريباً، كان يتكئ على بعض الحماية، ولو رفضت المرأة التصدق عليه، فهو يغرف تماماً ما سوف يفعله: "أنسحب ورأسي محني، ووجهي بدون أي تعبير". ولم يجرؤ أن يلاحظ جمال تلك البقعة من العالم، فما بالك بالبحث عن سر ذلك الجمال، والخداع الذي وراءه والذي سيكون المرء ضحيته إذا وثق به!
إن "جينيه" في هذه اليوميات يفلسف حياته ببساطة شفافة، فيقول إنه – باختصار -: "كلما كبر ذنبه في عيوننا، افترض أن تكون حريته أكبر، وعزلته أكثر كمالاً وتفرداً، فذنوبه أكسبته حق الذكاء ومن ليس له الحق في ذلك؟.
نعم..، أمضى "جان جينيه" متشرداً في بلاد العالم، وسجن في كل بلد من بلاد أوربا التحتية التي زارها تقريباً، وبعد عشرة أحكام بالسجن في فرنسا وحدها، حكم عليه بالسجن مدى الحياة، ما جعل وفداً مكوناً من كبار كتاب فرنسا، وعلى رأسهم "جان بول سارتر" و"جان كوكتو" و"آندريه جيد" يوجهون عريضة إلى رئيس الجمهورية للإفراج عنه العام 1947، ويخرج "جان جينيه" ليقدم إبداعاته في المسرح: "رقابة مشددة" (1948)، "الخادمتان" (1950)، "الشرفة" (1957)، "السود" (1960)، "الستارات" (1961)..، وفي الرواية: "سيدة الزهور" (1947)، "شجار بريست" (1953)، "طقوس الجنازة" (1969)..، وفي المذكرات: "يوميات لص" (1949)..، وفي الشعر ديوان واحد عام (1945)، وكتابه الأخير "الأسير العاشق" (1986)، ليموت بعد ذلك في آخر مواقفه التمردية على العالم العام 1986، فهل عرفنا بعد من هو "جان جينيه"؟.
#عماد_فؤاد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جورج حنين: الشَّاعر المصري الذي خرج على المألوف
-
ماريو بارغاس يوسّا: كنت أحاول أن أذكِّر نفسي بأن ما أراه هنا
...
-
روائي مغربي هولندي يصدر -رسائل من مدينة محاصرة-: اليوم أدركت
...
-
عين بلجيكية على العراق: حين تصور العدسة ضحايا الديموقراطية
-
حركة ترجمة الأدب العربي إلى الهولندية: ثغر لا تحصى والإسلامي
...
-
حرير .. المجموعة الرَّابعة لعماد فؤاد تصدر في بيروت
-
في الظِّل الغامق لامرأةٍ لا تشبهنا
-
ديوان تقاعد زير نساء عجوز
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|