|
حوارات مهدى بندق - 5 - مع الدكتور مجدى يوسف
مهدى بندق
الحوار المتمدن-العدد: 1919 - 2007 / 5 / 18 - 06:06
المحور:
مقابلات و حوارات
أجرى الحوار: مهدي بندق مقدمة تواصل مجلة تحديات ثقافية سلسلة حواراتها مع رموز الثقافة المصرية، واليوم تحاور الأستاذ الدكتور مجدي يوسف أستاذ الأدب المقارن، وعلم اجتماع المعرفة. عُين الدكتور مجدي بجامعة كولونيا بألمانيا عام 1965 لتدريس مادة الأدب العربي الحديث والمعاصر، ثم الأدب المقارن منذ عام 1968، كما أصبح رئيساً للرابطة الدولية لدراسات التداخل الحضاري بجامعة بريمين. له مؤلفات عديدة بالألمانية والانجليزية والفرنسية والايطالية والآيرلندية، فضلاً عن العربية. وهو عضو باتحاد كتاب مصر، واتحاد كتاب ألمانيا. هو إذن مفكر عابر للقوميات، مهتم بالمصير الإنساني الذي يراه -مثل كل المفكرين الكبار- متصلاً غير منفصل. ولقد قامت مجلة تحديات ثقافية بنشر بعض من هذه الدراسات في أعداد سابقة. سنبدأ حوارنا مع الأستاذ الدكتور مجدي يوسف بسؤال عن أهم ما يدور بخلده في اللحظة الحضارية الراهنة، انطلاقاً من بلده مصر، فوصولاً إلى العالم المعاصر بما هو عليه من تمفصلات وتداخلات وصراعات.. في محاضرتك بندوة " تطوير اللغة العربية " التي أقيمت بوزارة التربية والتعليم عام 1988 ، حذرت من هيمنة اللغة الإنجليزية ، وما يستتبع ذلك من هيمنة ثقافية على شعوبنا في هذه المنطقة ، وضربت مثلاً على هذا باستبعاد الأدب الآيرلندي من مسابقة أجريت لاختيار أفضل ترجمات للقصائد المنشورة بإحدى لغات دول السوق الأوربية المشتركة ، بحجة أن الآيرلندية ليست من اللغات الرسمية للسوق . وكان تحذيرك هذا في اتجاه إمكانية استبعاد اللغة العربية في وقت لاحق .. نتيجة تخيير العرب بين أمرين أحلاهما : الأول التوحد بإحدى اللغات السائدة في السوق الدولية ، والثاني مقاطعة تلك اللغات وثقافتها ، والقبول بالعزلة التي تؤدى حتماً إلى الهلاك . وكان البديل في رأيك هو إنشــــاء فرع للدراســــات التقـــــابلية Contrastive Studies التي تقينا خطرا التوحد بلغات الآخرين ، ومن ثم لا يكون تعلمنا للغات الأخرى على حساب لغتنا الأم ، التي تتميز بعدم قبولها صائتين متتاليين. ومع كامل التقدير لاقتراحك هذا ، فإن السؤال الأهم سيبقى مطروحاً منذ أيام سلامه موسى وحسين فوزي ولويس عوض ، حول ما إذا كانت اللغة العربية هي اللغة الأم لكل الشعوب العربية حقاً ؟ هل اللغة الأم للمصريين هي العربية ؟ أم أنها تمثل بالنسبة للتلميذ في المدرسة لغة ثانية ، بعد لغته الأولى : العامية المصرية باعتبارها لســـان الأم للطفــل Mother Tongue ؟ وإذا كان هذا صحيحـا – وأنـا أظنه كذلك – فكيف يكون العلاج ناجعاً في حين التشخيص غير دقيق ؟ ثم دعني أذكرك بأن اللغة العربية قد تم فرضها على المصريين بعد الفتح العربي ، وتحديداً إعتباراً من عام 87 هـ ( = 705 ميلادي ) على عهد الملك بن مروان ، حيث أصبحت العربية لغة الدواوين، ومع الوقت صارت لغة للأدب الرسمي ، بينما ظلت العامية ومعها الأدب الشعبي قائمة حتى يومنا هذا . إننا – نحن المثقفين – نحب اللغة العربية لجمالها ، نقرأ بها ونكتب ، ولو حاول أحدنا أن يكتب بالعامية لخفق بامتياز (حدث هذا مع زميل لنا هو الأستاذ بيومي قنديل ) ومع ذلك تبقى الحقيقة العلمية واضحة جلية : ثمة إزدواج لغوى نعيشه نحن المصريون ، فلنا لغة نتعامل بها في المنزل ، والشارع ، والسوق ولغة نمارس بها الفكر ، ونتعاطي الأدب من خلالها هي العربية الفصحى . إن لي أحفادا بالمدارس التجريبية المصرية – وليست الانجليزية – لا يستطيعون حل مسائل الحساب إلا بالانجليزية . هم طبعاً يدرسون اللغة العربية ، لكنهم لا يدرسون بها مادة العلوم science ، ولو استمر هذا الحال ، فسوف يدرسون الجغرافيا والتاريخ والفلسفة وغيرها باللغة الانجليزية في المرحلتين الإعدادية والثانوية ، وبالطبع فيما بعد بالجامعة ، بماذا يعلق أستاذ الأدب المقارن على هذا ؟ أبادر فأشكرك على عنايتك بقراءة مقترحي الرامي إلى تأسيس معرفتنا بسائر اللغات على دراسات تقابلية تقينا من التداخل بين بنية اللغة العربية – لغتنا الأم التي رضعناها منذ المهد – واللغات الأجنبية التي نكتسبها عن بعد . وفي تقديري أن هذه الدراسة التقابلية تقينا في مرحلة أولى من اختزال بنية اللغة الأجنبية – موضوع الاكتساب والتعلم - إلى بنية لغتنا الأم . فالوعي بالاختلاف الموضوعي بين اللغتين علي مستوي النحو والصرف والدلالات الحافة Connotations- كما يطلق عليها الصديق جابر عصفور – يقينا من ظواهر التداخل اللغوي التي تؤدى إلى التكسير اللاواعي لصوتيات اللغة الأجنبية وتركيبة الجملة فيها ، وإسقاط معايير ثقافة الذات على معاني الألفاظ في إطارها الخاص بثقافة الآخر . وهو ما يفضى في مرحلة لاحقة إلي تكسير اللغة الأم بدورها ، إذ تتداخل البنية اللغوية المكتسبة معها بكل ما تحويه من تشوهات . من هنا كانت هذه الدراسات التقابلية عاملاً مساعداً على الوقاية من هذه الظواهر المرضية ، ودعماً في آن لعملية التعلم من خلال الوعي بالاختلاف الموضوعي بين نسقى كل من اللغتين . وبهذه المناسبة أهيب بالمشروع القومي للترجمة أن يهتم ، بل أن يولى اهتماما خاصا بدراسات التقابل اللغوي والثقافي بين اللغة العربية المعاصرة واللغات الأجنبية التي يراد الترجمة عنها ، ومن ثم تدريب المترجمين على الوعي بالاختلاف الموضوعي لكل منها عن النسق اللغوي والثقافي الاجتماعي للعربية الحديثة. والسبيل إلى ذلك لا يتحقق في تصوري إلا بأن يتم أولا رصد أشكال التداخل السالب بين اللغة العربية المعاصرة واللغة التي يترجم عنها أو إليها حتى نستطيع أن نجرد عنها " أجرومية " لتلك الظواهر الإسقاطية السالبة بحيث تصبح مرشدا للمترجم من ثم حتى لا يقع في مغبة الإسقاطات اللغوية والثقافية التي كثيرا ما نقابلها للأسف فيما يقدم لنا من ترجمات عن اللغات الأجنبية لاسيما في السنوات الأخيرة التي انحدر فيها مستوى معظم المترجمين . وهى عملية يفترض فيها أن تكون مستمرة في حصرها للنماذج التي تدعونا لاستكمال " تقعيد " تلك الأخطاء الهيكلية التي كثيرا ما يقع فيها المترجم في " قراءته " للغة الأجنبية الصادرة عن أنساق ثقافية جد مختلفة عن النظم القيمية السائدة في عالمنا العربى المعاصر . أما مسألة الفصحى والعامية التي أشرتم إليها فهى تتعلق بمستويين في اللغة العريبة لكل منهما وظائفه المختلفة . فالعربية الفصحي لغة تجريد ، أما العامية فهى على العكس لغة عينية حسية . ولا يلبث المرء حينما يتحدث بالعامية أن ينتقل تلقائياً إلى الفصحى عندما يحاول أن ينظر أو يجرد لما يتناول من موضوعات . والأصل في اللغات ، ولا سيما اللغة العربية ، هو المستوى الدارج منها الذي اصطلح على تسميته " العامية " . فهو الذي يعبر عن الخبرات الحميمة بما يتناسب معها من حسى وعيني . ولذلك فهذا المستوى من اللغة يمثل عامة الشعب المنتج ، أما الفصحى فهى لغة مجردة تستخدمها جهة الإدارة – إدارة العمليات الإنتاجية من خارجها في المجتمع- كما يستخدمها المنظرون الذين يحاولون أن يتعرفوا على آليات الإنتاج أى دون أن يكونوا بالضرورة منغمسين فيه حسيا . وهو ما لا يقلل من أهمية أحد مستوييى اللغة العربية لحساب الآخر. إذ أنه لا غنى عن الحميمية الحسية التي تستدعى اللهجات العامية ، كما أننا بحاجة إلى التنظير والتجريد الذي لا يتناسب معه سوى الفصحى . أما مسألة العلاقة بين اللهجات العامية ، أو بالآحرى هيمنة اللهجة القاهرية على لهجات الأقاليم في مصر ، فهي مسألة لا تفهم إلا من خلال بعدها الاجتماعى الإقتصادى . فالنجوع والكفور ظلت علي مدى التاريخ تنتج الغذاء الذي يقيم أود الشعب المصرى ، وإن كان أهالى تلك النجوع لا يستهلكون من ناتج عملهم إلا الفتات ، أو هكذا كان شأنهم حتى عهد ليس ببعيد، بينما يستهلك أهالى المدن ، لاسيما من الموظفين و" المتعلمين " أضعاف أضعاف ما يستهلكه أهل الريف . وقد ترتب على هذه العلاقة غير المنطقية عنصرية المستهلك من أبناء المدينة بإزاء الفلاح المنتج من أبناء الريف ، وهو ما أدى إلي تكريس هيمنة لهجة العاصمة علي لهجات الأقاليم . فالمشكلة هنا لا تكمن في أيديولوجية المستهلك بإزاء المنتج فحسب ، وإنما في تبنى الفلاح المنتج لأيديولوجية " السادة " المستهلكين في العواصم والمدن ، ومحاولة التوحد بلهجتهم على حساب لهجاته الأصلية ، كما يفعل أهل العواصم العربية بإزاء اللغات السائدة في الغرب الذي أصبح قبلة جديدة لشعوب " الشرق " لاسيما اللغة السائدة في السوق العالمية : الانجليزية بلكنتها المتأمركة . وهى علاقة مقلوبة ، في رأيى ، إذ أنه من الأجدر بالمستهلك أن يسعى لتعلم لهجة المنتج بدلا من أن يتعالى عليها . وسوف تعجب أن خريطة اللهجات المصرية لم تقم بحصرها جهة بحثية مصرية واحدة ، إنما الذي مول دراستها المسحية هو " هيئة الأبحاث الألمانية " Deutsche Forschungsgemeinschaft (DFG) وذلك أثناء السبعينات من القرن الماضى . وقد أصبح الباحث الألمانى الذي قام بهذا المسح للهجات المصرية من سيوه إلى أقاصى صعيد مصر أستاذاً لعلم اللغة بجامعة آمستردام ، وهو صديق قديم اسمه " ﭭويديش " Woidich. أما مرجع عدم الاهتمام باللهجات في مختلف أقاليم مصر فيكمن في تقديري إلى ذلك الموقف الاستعلائى من جانب أبناء العاصمة ( الذين يستحوذون على معظم الخدمات ) بإزاء لهجات أهل الريف . وأرجو ألا يفهم من كلامي أنه ينحو لأسطرة لهجات الأقاليم وحياة المنتجين المباشرين في الأقاليم الزراعية ، إنما بالأحرى إلي الحث على التعاون المثمر بين المنتج المباشر ومنظم الإنتاج من خارجه ( الموظفون بكافة تخصصاتهم ) والمنظر والدارس لذلك كله . أما التشظى الذي صرنا نحياه في عصورنا الحديثة فهو الذي أفضى إلي هروب أهل الريف إلى الحضر ؛ إذ بعد أن كانت المدينة تعيش علي فائض إنتاج الريف أصبحت تتعيش علي ما يفد إليها من " معونات " أجنبية ، وصار أهل الريف يسعون للالتحاق بالمدينة بعد أن تخلوا عن دورهم الإنتاجي الذي طالما عبر عنه المثل الشعبي السائر" الإيد البطالة نجسة ". وصارت قبلة الجميع هى التوحد بلغة المستعمر الأجنبي الجديد متمثلة في لغة السوق العالمية : الانجليزية الأمريكية . تمر بعض الأمم بفترات يسود فيها التعصب prejudice بالضد علي الغير ، تبريراً لعدوان عليهم للتوسع علي حسابهم تحت دعاوي زائفة مثل نشر العقيدة أو الثقافة ،أو درء خطر منه محتمل . يحدث ذلك حين تكون الأمة هذه قوية أما حين يدب في أوصالها الضعف ، فإن نزعة التعصب تنقلب إلى الداخل ، فيبدأ تحامل طائفة منها ضد طائفة أخرى ، أو أتباع دين فيها ضد أتباع دين آخر. وفي هذه الفترات ، ربما انفجر سؤال الهوية question of identityبين نخبها المثقفة . وفي حالتنا ، فإن سؤال الهوية هذا قد برز بقوة بعد حرب أكتوبر وما جرى بعد ذلك من صعود تيار الأيديولوجية الأصولية الإسلامية ( الفكر السني ) وانحياز الدولة إلي العراق في حربه ضد إيران الشيعية ، أضف إلى ذلك رد الفعل القبطي بالداخل والخارج علي ما بدا أمام الأقباط المصريين في توجهات اجتماعية وسياسية تسعى إلى تأسيس دولة دينية ،الأمر الذي ولد تعصباً ضدياً بالمقابل . والمشهد الحالي يكشف عن شكوك تتعمق يوماً بعد يوم ، تضع مسألة هوية المصريين موضع المساءلة .. .. هل مصر مازالت عربية كما يصر القوميون ؟ أم هى إسلامية – كما يقول الإخوان المسلمون – أم هى فرعونية كما يزعم بعض الأقباط ؟ وكما هو واضح أمام العقل الباحث العلمى أن كل هذه الدعاوى إنما تقوم علي أيديولوجيات تمثل الوعى الزائف false consciousness من حيث أنها تحصر نفسها في الموقف الساكن synchronic لتنعزل بالتالى عن حركة التاريخ في تدفقه وتغيره ، وثانياً لأنها تشير لا إلى وقائع تكاملية على مستوي رؤية العالم بغير تعصب ، بل تعبر جزئياً عن مصالح أصحابها وحسب ، حتي وإن تقاطعت هذه المصالح مع المطلب الإنساني العام بتوحيد البشر في عائلة كبيرة يسودها المحبة والعدل . وثالثاً لأن الأيديولوجي يجهل القوي الحقيقية التي تحركه ، ولو عرفها – كما يقول إنجلز – لتوقف عن كونه أيديولوجياً . ترى ما هي رؤيتك أنت لمسألة الهوية بالنسبة لنا نحن المصريين غير المتعصبين ، الذين يبحثون عن أنفسهم في فضاء العلم ، وليس في كهوف الأيديولوجيات ؟ لعلكم تقصدون بإشارتكم إلى " السنكرونية " synchronism التوجه البنيوى النظرى الذي شاع أثناء الستينات وكان يقوم على الدرس التزامنى للعلاقات اللغوية الجمالية في نسق مقفول في مقابل المذهب التعاقبى "الدياكرونى" diachronism الذي كان مطبقا في المحافل الأكاديمية الغربية قبل ذلك . وقد ثارت آنذاك في الستينات التوجهات المادية التاريخية على البنيوية باعتبارها توجها" سكونيا " ونسقا مغلقا لدرس الظواهر اللغوية والأدبية بل والثقافية بوجه عام . ولكن هذه الثورة النظرية ما لبثت أن تراجعت وخفتت بعد أن تبين أن درس الظواهر الثقافية لا يمكن تحقيقه من الناحية الإجرائية إلا بعد " تثبيته " على شكل " نموذج " يسمح للدارس من التعرف على علاقات النص الداخلية . وقد تجووزت عيوب عذه المدرسة ذات النسق الفقه لغوى المغلق باستيعاب أدواتها في إطار مختلف معرفيا في توجهه إلى درس العلاقات بين علاقات النص من ناحية وصلاته المركبة بما هو خارج النص في الحياة الاجتماعية من ناحية مقابلة . ومن هنا صار ينظر إلى التحول التاريخى " التعاقبى " على أنه " راقات " متراكبة فوق بعضها البعض من التزامنيات . فبدون ذلك" التثبيت " الإجرائى للظواهر المتغيرة بطبيعتها لا يمكن للباحث هنا أن يقوم بدرس علاقاتها الداخلية ، ومن ثم صلة هذه العلاقات الداخلية للنص – أي نص أدبي أو فني أو فكرى - بالسياقات الثقافية الاجتماعية التي تحتويها في مكان محدد داخل إطار تاريخي (تعاقبى) له خصوصيته النسبية وأيديولوجياته السائدة في مرحلة معينة من تاريخه . وهنا تلعب الأيديولوجية ، سواء كانت تلك التي ينتجها النص ، أو تلك التي تخيم على ذهن المتلقي ، دورها الأثير الذي نعرف آثاره جيدا . ولعل التعرف على الأيديولوجية في نسبيتها ، أي باعتبارها " أيديولوجية " يمثل أول الخطوات للتحرر من إسارها المطلق . ولم يكن " إنجلز " هو الوحيد الذي أشار إلى ذلك ، وإنما كل منهج " فرويد " يقوم في التحليل النفسى على كشف الأسس العلية لصورة الذات وصورة الآخر لدى العميل ، ومن ثم تحريره من إسار توجهه الأيديولوجى . ولا تنسى يا أستاذ مهدى أننى لم أدرس علم النفس على مصطفى زيور في جامعة عين شمس منذ عام 1953 من فراغ . فقد كنت أقرأ قبلها أعمال فرويد منذ نهايات الأربعينات ، وعلى وجه التحديد منذ عام 1948 ، ولا زلت آنذاك تلميذا في الثانية عشرة من عمرى في مكتبة الزيتون ، التي كانت تشكل فرعا من دار الكتب العامة في " عزبة الزيتون " آنذاك ، وقد تحولت الآن بفضل الانفتاح الاقتصادي المبارك إلى عمارة استثمارية شاهقة . فكأننا هددنا الأهرام حتى نبنى لنا بدلا منها "بيوتا وحوانيت " . والطريف أن تأثرى في تلك السن المبكرة باكتشاف فرويد لأهمية " اللاوعي " في تحديد سلوكياتنا قد أثمر عن مخطوطة كتاب كنت قد بدأت في تحريره ولا زلت في الرابعة عشرة من عمرى عنوانه :"رياض علم النفس ". ولكنه اختفى فجأة ، وقد تبينت بعدها ، كما سبق أن ذكرت في " التكوين " بمجلة الهلال عام 2000 ، أن والدي كان قد استولى على المخطوطة دون أن يستأذننى وراح يتباهى بها وسط أصحابه ، مما أحدث لى حرجا وضيقا نفسيا جعلنى أعدل عن استكمال مشروع الكتاب الذي كنت قد حررت فصله الأول والرئيس . من هنا أدلف إلى مشكلة التعصب وعلاقتها بالأيديولوجية . وعلى الرغم من تحفظاتى الشديدة على التوجه " المعرفى " ل" علم الاجتماع المعرفى " Wissenssoziologie/ Sociology of Knowledge الذي أسسه "كارل مانهايم" فإنى لا أرى ضيرا من الاستفادة من تمييزه بين ما يدعوه "الأيديولوجية الخاصة" و"الأيديولوجية العامة " . ولعلكم كنتم تلمحون إليها في الشطر الأخير من سؤالكم. مشكلة التعصب والعنصرية ليست بمنأى عن الشروط الموضوعية التي تولدت عنها : عنصرية المستعمِر بإزاء المستعمَر ، وأهل الحضر مقابل أهل الريف . وإذا كانت الدوافع الحقيقية للعنصرية لاعقلانية فإن ثمة نسقا من الأيديولوجيات التبريرية يسكن أذهان أصحابها . حتي أن بعضها يثير الضحك ، كتصور نفر من الغربيين أن صفاتهم البيولوجية كلون البشرة وزرقة العين دليلاً على " تفوقهم العقلى" ، أو إرتفاع نسبة ذكائهم عن ذكاء ذوى البشرة الداكنة ( كان اللون الأبيض للبشرة على وجه التحديد هو الذي عبر عنه " الآباء " الأول لأمريكا كمطلب رئيس للعنصر المسيد هناك والرامز من ثم إلى تحديد " هوية " ذلك " العالم الجديد" ). ولكن المأساة الحقيقية تكمن في أن المهمشين والمتعصب ضدهم من أهالي أفريقيا وآسيا صاروا هم أنفسهم يحاولون تهميش بعضهم البعض على أسس عرقية أو دينية أو مذهبية بدلاً من أن يتكاتفوا معاً لصد هذه العنصرية التي أبسط ما يمكن أن توصف به أنها تفتقر إلى أدنى درجات الموضوعية والعقلانية ، وذلك بأن يثبتوا جدارتهم علي تقديم حلول إنتاجية ذات سبل وطرق ناجعة مختلفة عما يدول اليوم من أساليب إنتاجية قادمة من بلاد الشمال . وهي ليست دعوة للانغلاق أو الانطواء المستحيل على الذات ، وإنما إلى شحذ الإجتهاد الباحث المستقل بدلاً من التناحر النظري المجرد بمنحاه المخرب للعلاقات الإنسانية . ولتسمح لي ، أخي الكريم ، أن أخالفك الرأي في البحث عن " هوية " لنا نحن المصريين في المرحلة التاريخية الراهنة من موقع تحررنا نحن كمثقفين واعين بأهمية النقد الموضوعي في حياتنا . فمشكلة الهوية أساسها هو الانحسار الاجتماعي الاقتصادي العام الذي يعانى منه الشعب . لقد وجدت يوما كراسة صفراء تقول بأن " دم أهل الذمة وما يملكون حلال على المسلمين " . واللغة التي كتبت بها تلك الكراسة نفسها كانت تنم عن تدن واضح في وعى كاتبها . ولكن " الاستهانة " بهذه الظاهرة ، ناهيك عن التعالي " الفكرى " عليها لن يمحوها ، بل سيجعلها أكثرتفشيا وخطرا . لأن هذه "الأيديولوجية " التي تعكسها تلك الكراسة لها " أسبابها " الاجتماعية الاقتصادية . فالشاب الذي لا يملك أن يسكن أو يأكل أو يجد عملا ، وقد ضاقت به الدنيا من كل صوب ، ألا يجد في مثل ما تدعو له تلك الكراسة " حلا " لمشاكله . سوف تقول لى : أى حل ذاك ؟ ! ولكنه " حلٌ" من منظور صاحبه يجد له " تبريرا " ما ، مهما بدا لنا غريبا ، إلا أن له " منطقه الخاص " – مهما بدى على العكس من ذلك بالنسبة لنا – وهو يعبر في آن عن أزمة اجتماعية طاحنة تمر بها الأغلبية الساحقة في مجتمعنا في الوقت الراهن . فصاحب ذلك الرأي لا يستطيع أن يقف على الآليات الاقتصادية الاجتماعية التي أدت به إلى وضعه المؤلم هذا ، لهذا فهو يلجأ لهذه " الأدوات المعرفية " التي يتصور أنها تشرع له " حلا ما لمشكلته " . فبذلك يضمن الدنيا والآخرة في آن . نحن حين ننصرف عن التعرف على مثل هذه الظواهر التي لم يعرفها المجتمع المصرى منذ وقت طويل ، ونحاول بدلا من ذلك أن نتحدث عن أيديولوجيات النخب الثقافية التي يؤكد بعضها على " مصر الفرعونية " (حسين فوزي مثلا) ، أو مصر العربية والإسلامية (التي كان يدعو لها جرجى زيدان المسيحى الشامى!) ، أو مصر الغربية المتوسطية (مشروع طه حسين في "مستقبل الثقافة في مصر" ، ومن ثم من بعده لويس عوض ، ومن قبلهما لطفي السيد الخ) ، بينما نهمل رؤى الشارع المصري للواقع المصري ، واستشراء الخرافة والفكر " الديني " والسحري فيه ( استوقفني منذ أيام أحد حراس نقابة مهنية ليسألني : هل أنت كاتب يا أستاذ ؟ قلت له لماذا السؤال ؟ قال لي : لأن أمي تقرأ الفنجان وقولها يتحقق بالفعل . فهل تستطيع أن تدلنى على كتاب أعرف منه " ذلك العلم " ؟ ) . نحن نعيش في مجتمع يؤمن ب" علم " قراءة الفنجان والسحر و" العمل " ، فهل نهجره لننشغل بأيديولوجيات النخب الثقافية ؟ لست أعنى بذلك ألا نناقشها هى الأخرى ، فقد فعلت ذلك في كتابى : معارك نقدية ( الذي ستصدر له قريبا طبعة جديدة مزودة بست معارك إضافية ) ، ولكنى أدعو إلى النزول إلى الشارع ، ومحاولة التعرف عن رؤى عامة الناس لحياتهم ، ومناقشتهم فيها . فبدون ذلك يا أخى سنحكم على أنفسنا بالعزلة ، وسوف تسخر منا الأجيال القادمة وربما الحالية أيضا لأننا تعامينا عن رؤى أكثر من تسعة أعشار هذا الشعب الذي ندين له بوجودنا . ولتسمها إذن " أيديولوجيات " أو أفكار سحرية ، ولكنها واقع مادي فاعل في تحريك الناس . وأنى لأهيب بهذه المناسبة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية أن يقوم بمسح عام لتلك الأفكار " الدينية " لا سيما في أوساط الشباب في الطبقات الأكثر معاناة في المجتمع المصري . على ألا تظل نتائج تلك الأبحاث الميدانية رهن أدراج المركز ، وإنما أن تنشر تمهيدا لمناقشتها على نطاق قومي . فأحداث الأقصر الدامية التي ما لبثنا أن " نسيناها " للأسف ، حين اعتدى نفر من الشباب على سياح أوربيين في معبد حتشبسوت ، ومثلوا بأجسادهم وأجسادهن على نحو من أبشع ما يمكن ، كانت في مأساويتها الشديدة " تعبيرا" عن ذلك الفصام – المرضى في رأيي ، وليس السقيم وحسب - الذي يعيشه مثقفونا اليوم !! نحن لا نستطيع أن نقيم " جمهورية فاضلة " لنا نحن الذين أوتينا من العلم بعضه، وتوفرت لنا أسباب القراءة والبحــث على حســاب هؤلاء البؤساء الذين ندعى أننا "جزءا منهم" . فإن لم نتعرف أولا على ما يشغلهم ، وعلى رؤاهم للعالم ، وإن لم نسعى لأن ندخل معهم في حوارات تبدأ منهم وليس منا نحن وما "نعرفه" ، فسوف نقضى ويقضى معنا مجتمعنا ، وتصبح مصر قبل نهاية القرن الحالي في خبر كان: حضارة بدأت قوية يافعة منذ بضعة آلاف من الأعوام واندثرت قبل نهاية القرن الأول من الألفية الثالثة بعد الميلاد . فما فعله طالبان في أفغانستان ليس إلا مثالا لما يمكن أن يحدث عندما تصل تلك الأيديولوجيات " المتدينة " على طريقتها ، سمها " متزمتة " أو " حرفية " في فهمها للدين ، بما يمكن أن " يقتل " فحواه الثورى الإنسانى في الأصل إلى الحكم ، لاسيما في بلد قديم كمصر له تاريخ متعدد العصور و" الأيديولوجيات ".. حسب مدرسة فرانكفورت النقدية ، فالدولة الحديثة تسلب الفرد وعيه الخاص وتحيله بذلك إلى جزء من كل جماعي ، هذا الكل الذي تخلق له – بواسطة الأيديولوجيا والثقافة الموجهة – سمات معينة تسميها خصوصية قومية من قبيل الرياء الاجتماعي. وهنا يحضرنى دوركايم ، وأيضاً ماكس ﭭيبر اللذان كشفا بأبحاثهما العلمية التي لا غش فيها على أن الذاتية ليست مطلقة ولا ثابتة . فكيف يمكن التحدث عن هوية للمصريين تمتد من عصر ما قبل الأسرات ، ثم تتفرعن ( من الفرعونية ) ثم تتنصر، ثم تتمسلم وتتعرب ، ثم ها هي ذي تتغربن في ظل العولمة الكاسحة ، ولا تقل لىﱠ أرجوك – بلهجة التفائل الساذجة المنتشرة بين كتاب الصحف ، وكوادر الأحزاب السياسية المتأدلجين – إننا قادرون علي التحرر من الهيمنة الثقافية ، اللهم إلا إذا وافقت بن لادن على ما يفعله كجهاد ضد عالم ماك ! لا يوجد يا عزيزي أبدا " امتداد " للخصوصية الاجتماعية الثقافية ، ومن ثم لما يتصل بها من " هوية " إلا في إطار اجتماعى زمنى معين . وهذا هو الخطأ الذي وقع فيه أنور عبد الملك عندما أسس الهوية المصرية على نظرية " فيتفوجل " في الرى الصناعى ، وما يترتب عليه من مركزية الدولة القائمة على مشاريع الرى ومن ثم المتحكمة في الأرض الزراعية ومن عليها ، بل أن سماوات تلك المجتمعات التي تعيش على الأنهار الطويلة قليلة التفرعات سوى عند المنبع تتبع كذلك تلك القوى المركزية بأن جعلت آلهتها معبرين عنها كما ذهب إلى ذلك " إنجلز " في رسالة عارضة إلى صديقه " ماركس " . وأحب أن أفتح قوسا هنا لأقرر أن ماركس على ما قدمه من بحث متعمق للرأسمالية في الغرب ، إلا أن العالم غير الغربي ظل هامشيا بالنسبة لاهتماماته الحقيقية، ومعظم تصريحاته في هذا الشأن لا يجوز الاعتماد عليها. ولا يعنى هذا أنه لا يوجد ثمة خصوصيات اجتماعية ثقافية بالمعنى الموضوعى للكلمة ، تقوم عليها أيديولوجيات وهويات ثقافية معينة . وأرى أن من أكثر التعريفات للخصوصية توفيقا في هذا السياق هو ذلك الذي قام به الدكتور محمد دويدار في كتابه الصادر بالفرنسية عام 1982 والموسوم : الاقتصاد السياسي علما اجتماعيا L économie politique, une science sociale, 1982, p.31 حيث يقول :"تتطور في ظل ملابسات معينة للتطور التاريخى الذي يمر به أحد المجتمعات أنشطة ذلك المجتمع بطريقة خاصة تصبح بدورها معلما للمرحلة التي يمر بها من التطور . ويتميز هذا التكرار للأنشطة المجتمعية على نحو خاص بنوع من الانتظام الذي بفضله يمكن التعرف على علاقات تتكرر باستمرار بين مختلف النشاطات ". من هنا فليس هناك " خصوصية " مصرية في المطلق ، وإنما تتحدد حسب الحقبة التاريخية التي تمر بها مصر ، والسياقات الاجتماعية الاقتصادية وما يرتبط بها من مدى تطور قوى الإنتاج فيها ، ومدى تقاربها أو تعارضها مع السياسة الاجتماعية السائدة . مما قرأت لك ، يبدو أنك ترتب تحفظات على مقولة النمط الآسيوي للإنتاج ، بوصفها أداة بحثية Research Instruments ذات بعد واحد ( هو البعد الجيومورفولوجي ) تلك التي رفضها تماماً رينيه جوندر فرنك وفاليرشتاين وسمير أمين , وتنازل عنها جزئياً بيري أندرسون , ومع ذلك تبقى هذه الأداة البحثية صالحة لتفسير عصور بكاملها من الجمود التي رانت على بلد مثل مصر ، فاستخدموها أحمد صادق سعد ، وأنور عبد الملك وغيرهما ، لا بحسبانها الأداة الوحيدة الصالحة لكل زمان ومكان ، بل بوصفها أداة ضمن أدوات ، والحاصل أن من يقبلون هذه الآلية، ومن يستبعدونها يفعلون ذلك اتكاء على نفس المرجعية الماركسية ، وأنا أحسبك –برغم قبولك لأفكار بيتر جران المشوشة – ممن لا يرفضونها كليةً ،أظن أنك فصلت موقفك منها في كتابك المنشور بالألمانية " بريخت في مصر " لكن قارئ العربية لم يطلع علي هذا الرأي ، فلماذا لا تشرحه لنا الآن ، وباللغة العربية ؟ لقد صدر كتابي : التفسير الاجتماعي لاستيعاب مسرح برخت في مصر (خلال الستينات) بالألمانية في نهاية عام 1975 ، ولكن الناشر الألماني وضع عليه عام 1976 لأسباب تجارية . وقد ظلت التعليقات عليه تصدر تباعا باللغات الغربية : الألمانية ، والفرنسية ، والانجليزية في كل من ألمانيا بشقيها آنذاك ، وفرنسا ، وكندا ، والولايات المتحدة الأمريكية حتى عام 1990 ، أي على مدى خمسة عشرة عاما بعد صدوره ، لدرجة أن أحد تلك الكتب التي أشادت به بالفرنسية ( والصادرة في سلسلة " ماذا أعرف؟ " Que sais-je ? تحت عنوان : نظرية الأدب Theorie de la literature, 1990 قد ترجم ونشر بالصينية . وقد كان سبب اهتمام الباحثين في الغرب بهذا الكتاب يرجع إلى نفيه للمركزية الغربية في نظرية الأدب والمسرح والثقافة بوجه عام . أما برخت ذاته فلم يجئ في الكتاب إلا في الفصل الأخير منه ، لأن الأساس فيه لم يكن هو " مسرح برخت " وإنما الثقافة والمجتمع المصري الذي استقبله في فترة محددة من تاريخه . فالسؤال الذي حاول أن يجيب عليه هذا الكتاب : لماذا برخت ، وليس بيكيت ، أو يونسكو ، أو شكسبير ، أو بيرانديلو قد لاقى كل ذلك الاهتمام في مصر خلال الستينات ؟ وما هي تضاريس تلك الاهتمامات وآليات " ترجمته " الثقافية إلى هموم المجتمع المصري آنذاك ؟ وإلى أي حد كان في تقديمه على خشبات المسرح المصري إضافة حقيقية ، خاصة في مسارح الأقاليم ، لما قدمه برخت من " حلول " مسرحية ؟ وكيف أدى عرض مسرحياته إلى بلورة تحرير وعى القوى الإنتاجية لعامة الشعب المصري من ربق الدولة المركزية آنذاك ، حتى أن عرضا ل" الاستثناء والقاعدة " في بورسعيد قد أدى بعده مباشرة لمناقشة قوانين التأمينات الاجتماعية في مصر . وهو ما يفضى بنا إلى ما أشرتم إليه من علاقة قوى الإنتاج الاجتماعي بالدولة في مصر ، باعتبارها في مراحل معينة من تاريخها كانت تمثل المالك الأساسي للأرض ومن عليها . ولكن تلك الخصوصية النسبية التي اتكأ عليها أنور عبد الملك ، وأحمد صادق سعد لما يدعواه " نمط الإنتاج الآسيوى " ، إشارة منهما إلى "تمييزه " عن نمط الإنتاج السائد في الغرب ، هي نفسها مقولة غربية شديدة التجريد فضلا عن أنها عنصرية ، فلا ننسى أن " فيتفوجل " المتمركس في العقود الأولى من القرن الماضي ، والذي تحول إلى الضد بعد ذلك محاولا أن يفسر ما دعاه " الاستبداد الشرقي " – عنوان كتابه الأساس – بنظام الري الهيدروليكى في المجتمعات الزراعية ذات الأنهار الطويلة والتي لا تعتمد على الأمطار كالبلدان الغربية ، قد أراد بذلك أن يقدم " تفسيرا " لاستبدادية النظم الاشتراكية في كل من الاتحاد السوفيتي السابق وفى الصين . أما تطبيق النظرية نفسها على بلد كمصر فأعتقد أن فيه من الاختزال الشيء الكثير . وإلا فأين تكمن الآن في المرحلة الحالية من تاريخ مصر تلك " المركزية " المطلقة مثلا حيث تحاول الحكومة " المركزية " أن تتحلل من التزاماتها بإزاء الخدمات العامة بـ" خصخصتها " ؟!! وإذا ما نظرت إلى مختلف المراحل التي مر بها المجتمع المصري سيصعب عليك أن تطبق عليها ذلك المفهوم على الرغم من أن إبراهيم عامر قد حاول أن يطبقه في كتابه " الأرض والفلاح " الذي صدر في الخمسينات من القرن الماضي ، وذلك قبل أن يقرأ عامر كتاب " فيتفوجل " المذكور . فقد ذكر لي عامر أنه يرى "أن هذا هو قدر مصر!! أن تكون السلطة المركزية فيها هي الحاكمة والمتسلطة على مقادير الشعب المصري ما دامت مسئولة عن مصدر عيشه الرئيس وهو توفير مياه النيل للزراعة . " وعلى الرغم من أن جمال حمدان قد نحى كجغرافي إلى ذلك التفسير إلا أنه كان واعيا بأهمية العامل الذاتي فضلا عن التكنولوجي متمثلا في قوى الإنتاج الاجتماعية في تغيير هيمنة العوامل الجغرافية على أسلوب الإنتاج في مصر . وهكذا فإني لا أكرر اليوم ما أتيت به في كتابي " برخت في مصر" بعد صدوره بأكثر من ربع قرن مع أنى لا أعتقد أنى أختلف اليوم كثيرا مع منطلقاته المنهجية ، لاسيما وأنه لا زال بعد نشره بثلاثين عاما يقدم حتى اليوم كمرجع رئيس في منهجية درس عمليات استقبال المسرح لاسيما البرختى في سياقات مختلفة عن تلك التي تتميز بها المجتمعات الغربية المعاصرة . وقد تقول لى : إذا كان النقاد الغربيون قد أولوه كل هذا الاهتمام فلماذا لم يترجم إلى العربية ؟ والإجابة : لقد باءت بالفشل حتى الآن أكثر من محاولة في هذا المجال قام بها زملاء أفاضل من شباب أعضاء هيئات التدريس بالجامعات المصرية . والسبب في إحجامي عن ترجمته هو أنى أخشى أن أطغى على طابعه التاريخي باعتباري " مؤلفه " ، وهو ما يمكن أن يحرف أو يغير الأصل من منظور المترجم / المؤلف الذي لم يعد هو نفسه الشخص ذاته . إنما يمكننى أن " أعلق " عليه اليوم كمراجع للترجمة ، وأن أضيف إليه ما شئت ، ولكن بعد أن يقدم النص التاريخي كما هو أولا .. في كتابك " من التداخل إلي التفاعل الحضارى " ( إصدار دار الهلال – يونيو 2001) انتقدت تيودور آدورنو ( ومدرسة فرانكفورت عموما ً ) في دعوته لفتح الفضاء أمام الذاتية التي تعيدنا عبر لوكاتش إلي هيجل ، ومن الواضح أنك تساير لوي آلتوسير في سعيه لإحداث كامل القطيعة بين ماركس وهيجل . وهو ما يجعلك في صفوف المطالبين بحث المثقف على الانخراط في العمل السياسي الحزبي حتى يلتقى بالممارسة praxis . بيد أن المثقفين الذين فعلوا ذلك اصطدموا بفلسفة الالتزام التي تنكر عليهم ذاوتهم . وهنا يصبح " آلان تورين " جديراً بأن يستمع إليه ( ومن قبله سارتر ) في ضرورة التفرقة بين الفردية individuality التي هي أنانية خالصة ، وبين الذاتية subjectivity التي لا تنكر خصوصية الوعي الفردي ، وإنما تضم إرادته إلي إرادة الجماعة في نضالهما المشترك من أجل التحرر والعقلانية التي تقف على أرض إنسانية ، دون اعتماد متيافيزيقى على ما كان يقصد إليه Kant بالوعي الترنسندنتالي . فهل أنت مازلت تشجب آدورنو منادياً بستالينيه جدانوفيه جديدة ؟ أضف إلي ذلك أنك أوقعت نفسك في التناقض حين أخذت على عالم الاجتماع البرازيلي " كاردوزو " ، صاحب نظرية التبعية ( بالأحرى رفض التبعية ) قبل أن يصبح وزيرا ً للخزانة ثم رئيساً للجمهورية انزلاقه إلى فخ الخضوع لسطوة الاقتصاد الأجنبي (جراء اعتماد سياسة جلب الاستثمارات ) حتى لقد قلت بنفسك ألم يكن من الأفضل له وللبرازيل أن يظل في موقعه الأكاديمي مدافعا عن مصالح الشعب البرازيلى؟ لقد نقدت تيودور آدورنو نظرا لإعلائه للذات على حساب الموضوع في محاولة منه لجعل السلب المقولة الأساس في فلسفته ، مستمدا إياها من قراءته لهيجل ومن ثم للفصل المعنون " التشيؤ " في كتاب لوكاتش : التاريخ والوعى الطبقى . وقد التقيت بآدورنو في فرانكفورت عام 1968 ، كما ذكرت في كتابي ، بهدف مناقشته في نظريته تلك ، لكنه بادرنى بسؤالي : هل أنت إسرائيلي ( يقصد : هل أنت واحد منا ؟! ) ولكنى عندما أجبته بأني مصري امتقع وجهه وقال لى بصوت مأخوذ : ولكنى متعاطف تماما مع إسرائيل . فأجبته وأنا أكظم امتعاضي : هذا شيء يخصك أنت يا سيد آدورنو . وعلى الرغم من أنه قد حاول أن يمتص امتعاضي بأن دعاني لحضور جلسة خاصة بمريديه ، وكثير منهم من الأساتذة أنفسهم ، إلا أنى مع حضور تلك الجلسة كنت قد عزفت عن محاورته خاصة وأنى وقعت مريضا وأنا في ألمانيا في أعقاب حرب يونيو 1967 التي لم يكن قد مضى عام كاملا عليها . أما الجملة التي لا زلت أذكرها من الساعة والنصف التي استمعت فيهما إلى آدورنو في تلك الجلسة الخاصة فتقول على لسانه : لأن الفكر إرهاب . وهى جملة جدلية إلى حد بعيد ، ولكنها تمثل الجدل الهيجلى في تخريجاته السالبة عند آدورنو وهوركهايمر . ومن عجب أن بعض الزملاء من أساتذة الفلسفة – حسن حنفي مثلا – يدعو مدرسة فرانكفورت " ماركسية " ، بينما هى ، وآدورنو بصفته أحد أعمدتها الأساسية ، أقرب ما تكون إلى الباكونينية في رفضها المثالي لسلطة الدولة بينما كان ماركس يرى أن الطريق إلى " جنة " العدالة الاشتراكية لابد أن يمر أولا بقهر الدولة وما تمثله من طبقة مهيمنة لينفيه في مرحلة لاحقة . أما مسألة " القطيعة المعرفية " التي تميز بها خطاب " آلتوسير " ، والتي نظر لها " باشلار " في الأصل ، فهي أبعد ما تكون عن خطابي النظري ، لأني أرى – على العكس منها – ضرورة التواصل مع التراث على نحو يعيد صياغته بحيث يتلاءم مع متطلبات السياق الاجتماعي الثقافي المستجد . ونقدى لـ" كاردوزو " لا ينصب بالمناسبة على نظريته في التبعية التي كنت متحمسا لها ( أنظر الفصل الأول من كتابى : التداخل الحضارى والاستقلال الفكرى ، ط1 : 1993 ) ، وإنما على ممارساته كسياسى بعد أن تعرفت عليها عن قرب في زيارتى للبرازيل بعد صدور كتابى المذكور ببضعة شهور . فقد تبينت هناك أنه لم يكن فقط يفضل مصالحه السياسية على آرائه النظرية ، وإنما أنه لم يكن في الأصل صاحب تلك النظرية في التبعية التي جعلته ينتخب رئيسا للجمعية الدولية لعلم الاجتماع . وقد حاول أن يتنصل منها تماما عندما سئل عنها في البرلمان البرازيلي وهو وزير للخزانة في بلاده . وما أن انتهت فترة رئاسة " إيتامار فرنكو " حتى كان قد أعد تخفيضا في نسبة التضخم التي كانت تبلغ خمسة وأربعين بالمائة في الشهر الواحد آنذاك ، وغير اسم العملة البرازيلية من الكروزيرو إلى الريال – أو الرياو ، كما ينطق بالبرازيلية هناك ، حتى ينتخبه مواطنوه رئيسا للجمهورية ، وقبل أن تنتهى فترة رئاسته الأولى باع المتبقي من ملكية الدولة للشركات متعددة الجنسيات حتى " يرشى " المجتمع البرازيلي ببعض ما تقاضاه في تلك الصفقة ، وهكذا أعيد انتخابه ليترك البرازيل بعدها في خراب اقتصادي مروع . فهو نموذج المثقف الذي يرفع راية اليسار بيد ويبسط من وراء ظهره يده الأخرى ليقتسم مع السارقين .. بمناسبة البرازيل : كيف استطاع اليسار هناك أن يدفع بمرشحه "لولا" إلى الفوز بمنصب رئيس الجمهورية عام 2002 ؟ وما علاقة نجاح اليسار البرازيلى بانقلاب اليسارى شافيز الذي أطاح بديكتاتور فنزويلا ، وهو الذي فشل في عام 1992 ولكنه نجح بعد ذلك ، كما تلاه انتخاب أول امرأة رئيسة للجمهورية في تشيلى ؟ هل يشير ذلك كله إلى تراجع الماركسية اللينينية وصعود أفكار الدولة التي تعتمد النضال البرلمانى ؟ أعتقد أن إجابتي على السؤال السابق توضح الأسباب التي دعت إلى انتخاب " لولا " ونجاح " شافيز " في فنزويلا . ويرجع " الفضل " في ذلك إلى بشاعة الاستغلال والقهر الذي تعانيه شعوب أمريكا اللاتينية من رأس المال الأمريكى الشمالى. فقد طبقت آلية الانتخاب الغربية " الديمقراطية " ، كما حدث ذلك مع " الأونيداد بوبولار " في السبعينات في تشيلى ، كى سرعان ما ينقض عليها بدعم من رأس المال الأمريكي الشمالي العسكر وعلى رأسهم " بينوشيه ". وها قد ذهب العسكر من الحكم بلا رجعة ، ولكن الشعوب لا تريد أن تذهب مذهبها الانقلابي في إدارة شئونها . ويمكن أن نتوقع أن استمرار توحش رأس المالي الأمريكي في سبيل تعظيم أرباحه النقدية سيكون الفاعل الأكبر في توسيع دائرة المطالبين بالعدالة الاجتماعية في أمريكا اللاتينية ، وليس فقط في أمريكا اللاتينية . فكلما عم الظلم والقهر كلما تاقت الشعوب إلى العدل والحرية الحقيقية : تحرير احتياجاتها الحقيقية ، وليست المزيفة التي تصورها لها دعايات الأسواق ، وإنسانية مواطنيها. مسيرة الإصلاح السياسى في مصر . إلى أين ؟ إلى هاوية محققة . فهى تتجاهل مصالح عامة الشعب ، وتسعى لـ" جلب " الاستثمارات الأجنبية لنهب المتبقى من ثروة هؤلاء البسطاء وتحويلها إلى الخارج بأسرع وقت ممكن . ولا أعرف بلدا واحدا ، بما في ذلك إسرائيل نفسها ، يسمح للشخصيات العامة فيه أن يكون لها حسابات مصرفية في الخارج . فالخارج ، متمثلا في الأساس في بلاد الغرب يمثل بالنسبة لها " المخرج " و" الحل " الذي تلجأ إليه أو تخضع له في سياستها الاقتصادية الموالية تماما لكل ما تمليه مصالح رؤوس المال الكبيرة للشركات العابرة للقوميات ذات الإدارات القابعة في الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية . وسياسة الخضوع للبنك الدولي ، وصندوق النقد ، ومنظمة التجارة العالمية ، لاسيما اتفاقية الملكية الفكرية – التي لا علاقة لها بالفكر الذي نعنيه ، وإنما باحتكار الحلول التكنولوجية على هيئة ما تحملها من مصنفات وأدوية وعقاقير الخ – وذلك مع التضييق في آن على تداول السلع والأشخاص القادمين من بلاد الجنوب نحو الشمال الغربي سوف تسرع من هذا الانهيار . وهكذا يؤدى" الإصلاح الاقتصادي" بسياساته الخرقاء الحالية إلى هدم الاقتصاد والمجتمع في مصر وتفشى الأمراض "الأيديولوجية " والتطرف الديني في ربوع هذا الشعب ..
#مهدى_بندق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوارات مهدى بندق -4 -مع الناقد د.صلاح فضل - القسم الثاني
-
حوارات مهدى بندق - 3 - مع الناقد الأدبىّ د. صلاح فضل
-
حوارات مهدى بندق -2 - مع السيد ياسين
-
والدولة أيضاً محاصرة في مصر
-
حوارات مهدي بندق - 1 - مع جابر عصفور
-
البلطة والسنبلة -5- المصريون واشارات الخروج من الحصار
-
ريا وسكينة بين صلاح عيسى وميشيل فوكوه
-
البرهان الثقافي على المسألة الإقتصادية
-
قصيدة أُقَلِّبُ الإسكندرية على أجنابها
-
تفسير غير تآمري للتعديلات الدستورية المصرية
-
إضراب عن الماء
-
الإخوان -المسلمين- وغيرهم ثقافة مُحاصَرة ومحاصِرة
-
* المدربون
-
*قصيدة الكمائن
-
مصر وثقافة الحصار
-
البلطة والسنبلة - هل المريون عرب
-
ثقافة الإرهاب تمهد لضرب الوحدة الوطنية
-
*نورا العربية لا تغادر بيت الدمية
-
*الطابع المزدوج للثقافتين الأوروبية والعربية
-
*الشعر يمحو باليد الأخرى
المزيد.....
-
أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن
...
-
-سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا
...
-
-الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل
...
-
صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
-
هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ
...
-
بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
-
مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ
...
-
الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم
...
-
البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
-
قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال
...
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|