|
عرض مسرحية حدّ ث ودلالات الفكر الاخراجي في المسرح
فاضل سوداني
الحوار المتمدن-العدد: 1917 - 2007 / 5 / 16 - 11:00
المحور:
الادب والفن
يعالج المسرح منذ نشوءه وحتى يومنا هذا ، تلك الموضوعات والمشاكل المصيرية التي تقلق المجتمع ، وتنشأ في ظروف زمنية ملتبسة ، تفرض الخواء الروحي . وتهدف مثل هذه المعالجة إلى خلق التوازن وإعادة بناء الوعي الإنساني عموما والوعي الجمالي خاصة ، والمطالبة الملحة لتحقيق حرية الإنسان ، كنتيجة لعلاقة المسرح بالمدنية. وبالتأكيد فان هذه الاهداف تمتلك ضرورتها الانية في المجتمعات العربية التي اكتشفت متأخرة كالعادة هول المفارقة المتأتية من عدم آهليتها ( على شتى الاصعدة واكثرها خطورة هو التلقي الثقافي ) للدخول الى الالفية الثالثة لأسباب كثيرة أدت إلى ألإ تكالية والسهولة وسذاجة النظر في معالجة مشكلة الثقافة العربية لكونها لا تدخل في مصير الحياة الفكرية والعملية ، إضافة الى التزام عقدة النقص ازاء ثقافات اخرى اكثر تطورا مما هيئ إمكانية تقليد الحياة الاستهلاكية و الفكر التجريدي الغربي ، ونقلها حرفيا الى مجتمعاتنا التي مازالت تعاني الأمية والجوع والتخلف وختان البنات وتعدد الزوجات ( بمفهوم الحريم ) ، واستخدام التطور التكنولوجي في وسائل الإعلام لصنع دعاية ساذجة لتمجيد سلطة الفرد والحكم الشمولي ، و لتثبيت ركائز الديمقراطية المزيفة في الحياة اليومية من أجل خلق انسان متكيف قسرا مع مفاهيم لايؤمن بها وثقافات سلفية بعيدة عن روح العصر ، أو مع مفاهيم أخرى لا تتناسب مع مستوى التطور العام . فتحولت وسائل الأعلام الى وسائل للتشويش الحضاري واصبح تأثير ما تقدمه من سذاجة معرفية تهميشية ، هو السائد في الثقافة العربية وبالذات في المسرح الذي كف ان يكون تاثيره اجتماعيا وفكريا وجماليا .
وبما أن المسرح يرتكز دائما على النظرية والممارسة التطبيقية والتواصل مع التجارب المسرحية العالمية المتقدمة ، ، بدون الانغلاق على الذات ، بل يجب التعامل معها باعتبارها تجارب تكاملية حتى يكون المسرح العربي قادرا على اكتشاف لغته الفنية الخاصة التي تخلق حتما تواصله مع الجمهور . ضمن هذا المفهوم يأتي تمايز الظاهرة المسرحية التونسية وأهميتها . فبالرغم من تأثرها بالتجارب المسرحية الأوربية لكنها اعتمدت على خصوصيتها فخلقت تفردها في مجال التجريب المسرحي على النطاق العربي . فهنالك دعوة جدية لتطوير الواقع الثقافي التونسي عموما والمسرحي خاصة .
و يعتبر هذا التوجه لتطوير المسرح التونسي هو حصيلة للسياسة الثقافية الهادفة لتحقيق النهضة في تونس . و من هذا المنطلق يمكن ملاحظة انتقائية الجمهور التونسي وعدم انسجامه مع الوعي التجاري المرضي في المسرح ، كما هو الحال في الكثير من المسارح العربية ، فتأكيد هاجس الإبداع والتجريب المتواصل لدى الفنان التونسي ، أدى الى صقل و تنمية ذائقة جمالية خاصة للمتفرج لذا يمكن تشخيص اتجاهين في عمل الفنان المسرحي التونسي: . 1) التأكيد على التراث ومسرح الفرجة واستنباط الوسائل والاساليب التي يزخر بها التراث التونسي والعربي والتي من خلالها يحاول الفنان خلق اللغة المسرحية للتواصل مع الجمهور ، مع الاهتمام بأكثر المشاكل الواقعية ، والابتعاد عن معالجتها الآلية ، وإبراز الجوانب الفنية والابداعية لخلق الوعي الجمالي و الاجتماعي عموما ، كما في مسرحيات عز الدين المدني وسمير العيادي وغيرهم .
2) تأثير الفكر الإخراجي ـ التنظيري للمسرح الأوربي و الفرنسي وخاصة أنتونين آرتو و طقوس جان جنيه واقطاب مسرح اللا معقول مرورا بستانسلافسكي وبرخت في اوج تجلياته الفكرية والفلسفية ، إضافة إلى اكتشافات غروتوفسكي ،بيتر بروك ، جوزيف شاينا وكانتور المسرحية . ولكن الميزة الاساسية لدى الفنان التونسي هي عدم التطبيق الفوتوغرافي وإنما تكييف هذه الأفكار والتجارب الفنية العالمية لمهمات المسرح التونسي والعربي . ضمن هذا التحليل أود دراسة الدلالاتالرمزية والبصرية لعرض يعتبر مؤشراً لتحقيق لغة مسرحية معاصرة بكل معنى الكلمة ويمتلك القدرة على تحويل اللهاث التنظيري للبحث عن خصوصية المسرح العربي إلى تحقق تجريبي ، عملي متناول يمكن الاسترشاد به .
حدّ ث ….. طقس مسرحي عن الحياة والموت
ان مخرجين تونسيين مثل محمد ادريس وفاضل الجعايبي والحبيب شبيل وتوفيق الجبالي وفاضل الجزيري والمنجي بن ابراهيم والمنصف السويسي وحسن المؤذن وحاتم دربال يخلقون احلامهم الفنية من خلال تحقيقهم لمسرح جديد المنحى بعيدا عن تقليدية المسرح العربي . وقد كان هذا بارزا في مسرحية حدّ ث لمحمد ادريس حيث بذل أقصى جهوده لتحقيق فكره الإخراجي المبني على لغة الدلالات والرموز المسرحية البصرية سواء في الحركة او الإشارة أو الفكرة لخلق ذلك الطقس الذي يمكن أن نطلق عليه مسرح الصورة الصوفي ، او المسرح البصري ( واعني به المسرح الذي لايعتمد الكلمة كأسلوب وحيد للتعبير ، وانما أيضا الطاقة التعبيرية للجسد الذي يبرز كذاكرة ديناميكية معبرة في فضاء وزمن البعد الرابع و بمساعدة الوسائل المسرحية الخالصة للتأثير على بصر وبصيرة الجمهور )
وقد أراد المخرج لهذا العرض أن يكون كقصيد مرئي مُهدى إلى عمر الخيام ، وأ ن تكون الرؤيا شعرا يراه المتفرج من خلال اللون والضوء والحركة والإيماءة التي تبنى في فضاء الإبداع الضاج بالدلالات التعبيرية المتميزة ، واستخدام التقنيات المتطورة لخلق شمولية فضاء موسيقى الروح لتحقيق جمالية اللعب والتماهي والرقص أو طيران الممثل في فضاء ملتهب . وبهذا فان محمد ادريس في عرض حدّ ث ،كان ينثر شعرا من خلال ارتجال جسد الممثل المبدع لإيقاظ الأموات من رقادهم غير المنتظر في زمن ينحدر فيه الأحياء نحو ظلمة أرواحهم مبتهجين وغير عابئين بندءآت ملائكة النور القدسي من الممثلين . وبهذا يحاول المخرج أن يحقق نبوءة آنتونين آرتو في ( ان صور الشعر على المسرح قوة روحية ، تبدأ مسارها من المحسوس وتستغني عن الواقع بمجرد ان ينطلق الممثل في ثورته ) أو تكثيف رؤياه على خلق ذلك الوجد الصوفي ( Passion ) المخزون في روح الممثل عندما يرغب في تحقيق التواصل مع الذوات المبدعة الأخرى التي تشكل مفردات لغته التعبيرية أو مع ذوات الجمهور المنبهر من هذا الإ نسياح القدسي .
إذن هل يمكن ان يمتلك الفنان وسيلة الوضوح و القدرة على الخطاب المسرحي والتواصل مع ذاته وجمهوره بدون اعتماد الحوار واللفظ والتخاطب المباشر ؟ ولا أعني تعويض ذلك باستخدام البانتوميم مثلا ، وانما تتحول الكلمة الى صورة … ان يتحول الخطاب من السمع الى البصر وبالعكس ، أن تبنى الدلالات والاحالات السميولوجية لعمل الممثل على الاشارات البصرية … أن يعتمد الفنان في التعبير عن بصيرته المبدعة على همس الروح ، وهذيان الجسد الابداعي ، من اجل الوصول إلى كيمياء الكلمة والفكرة وكيمياء الروح و " اللحن الجسدي " . ارتكز هاجس الفكر الإخراجي لمحمد إدريس على ثلاث أساسيات في عرض حدّ ث …. هي :
1ـ اعتماد لغة شعرية ( غير كلامية ) ذات إحالات بصرية لتحقيق سر ووجد الخيام كفيلسوف وشاعر تقلقه مشكلة الإنسان في الوجود ، بدون اعتماد السرد التاريخي لحياته . وبالتأكيد فان هذا التوجه يؤدي إلى اكتشاف لغة مسرحية تعبيرية غير لفضية معاصرة ، وهذا ما يؤكده المخرج ذاته ….. ( حتى أولئك الذين ولدوا وبهم خرس يحلمون . أو يتكلمون من حيث لا يتكلمون ) . ولكن فضاء الطقس هذا كان مكتظا بالهمسات والهمهمات المتقطعة والعنيفة التي تثير الخوف في داخل المتفرج لأنها أساسا كانت كلمات تحاول الخروج من مسامات وحواس جسد الممثل ، وعندما تجد طريقها إلى الشفاه ، تتحول إلى حشرجة غير مفهومة او الى كلمات كأنها تتساقط الواحدة بعد الاخرى في هوة بئر عميق ، وأصوات غريبة تؤثر في انفعال الممثل فيؤدي حركة عنيفة تزيد من توتر فضاء العرض المحجوب خلف ستارة شفافة أحيانا ، كأنها ستارة الوجد ، او هي الحد الفاصل للعبور الى ضفة أقيانوس التكامل القدسي ، فيتحول الممثلون إلى رموز وشارات ومض تبرق في عالمهم المخلوق من جديد والذي يرفضون الكلام فيه وكأن هنالك من خيّط أفواههم . وهذا ترميز له دلالات تفوق أبعادها الوجودية .
إن مثل هذا المسرح لا يحتاج إلى حد وته وحوار وكلمات ، بل يمكن تعويض كل هذا بمفردات لغة أخرى تتكون من شعر الروح الذي يؤشر المستحيل ومن هذيان جسد الممثل وما ينتجه من إشارات ومعاني من خلال ديناميكية علاقته بالأشياء التي تغمرها الأصوات والموسيقى والضوء والأشذاء من اجل أن نرى الحلم الأبدي للإنسان المربوط الى صخرة إنتظار المخلص الذي وعد بالمجيء . وانطلاقا من افتراض أن الفضاء هو ليس سكون وجمود وصمت ، وانما هو فضاء مملوء بالرموز والصور البصرية والكلمات والمعاني كما يؤكد بودلير او الخيام ذاته : ( هذا الفضاء الذي فيه نسير حكي فانوس سحر خيالّـيا لدى النّـظر مصباحه الشمس والفانوس عالمنا ونحن نبدو حيارى فيه كالصور . ) لذا فان مكونات مثل هذا الفضاء تشكل لغة مسرحية ذات دلالاتها البصرية .
2ـ ان الانتقال السريع والمباشر من حدث إلى آخر وتتابع الصور الشعرية ببنائية فنية عالية التكنيك ، يعطي شمولية للزمن والفضاء الإبداعي .
3ـ تحول الممثل بوعي من شخصية إلى أخرى يحقق تمكنه من تكنيك إبداعه الفني ، ويؤدي إلى الابتعاد عن أسلوب أداء الشخصية الواحدة المتقنة دراميا أي الابتعاد عن أهداف المسرح التقليدي في خلقه لنمطية الخطاب المسرحي . ولهذا فان ممثل محمد ادريس يسعى إلى أن يطهر نور إبداعه الكون المسرحي الذي يتواجد فيه ، فيذوب وجدا ويلتحم في الشخصية التي يمثلها ، ولكنه قبل أن يفنى فيها ، ينتقل إلى أخرى . ( لكنني مثل الفراش الذي يسعى إلى النور وفيه الفناء ….) كما يتمنى الخيام. و محمد ادريس أيضا يدفع بالممثل إلى هوة الإلغاء ولا يكون حيويا إلا من خلال بصيرة المخرج ، وفي اللحظة الأخيرة يُحيه من جديد ليجعله سيد عالمه . وبالرغم من هذا فان محمد ادريس كمخرج لا يمكن أن يتخلى عن الممثل كمفردة جسدية تعبيرية ديناميكية في لغة جديدة ، وهذا منهج عمله كمخرج كما يؤكد هو أيضا ( بإمكان الممثل الذي سكن شخصية درامية أو سكنته ، فداخلت منه اللحم والدم والنفس ، أن ينفصل عنها إلى أخرى ) . بهذا الوعي التصوفي ذاب الممثل وجداً وتخلى عن ذاته المتكبرة والمتفردة أمام الفكر الإخراجي التركيبي والمخرج العراف، لكن محمد ادريس في هذا العرض جدد لغته الإخراجية بهدف تجديد .الخطاب المسرحي المعاصر إن بناء الأحداث و الإيقاع الداخلي والجو في عرض حدّ ث يواجهنا برعب حياتنا ، بجاهلية الإنسان في واقعنا الغث . انه عرض عن حساسية الإنسان إزاء الأسئلة التي تقلقه وإزاء بؤسه في هذا الكون الغامض . انه عرض عن ديناميكية الحياة والموت ، بالرغم من أن ظاهره يبدو وكأنه يعالج القلق الوجودي لعمر الخيام اكثر الشعراء والفلاسفة شغفا بمجادلة الحياة والوجود والموت ورغبة ملحة لتجاوز الزمن الواقعي من اجل الفرح اللحضوي . لكن عندما يحاصره هذا الواقع ، وخوفاً منه على نقاء ذاته يتحول الى نسر ليرتفع عن حضيض الحياة ، ويعود الى عالمه الحقيقي ، عالم البحث عن السر والوجد والزمن الأبدي . وهو بهذا يحقق بعض المفاهيم النيتشوية ( إنكم تنظرون الى ما فوقكم عندما تتشوقون الى الاعتلاء . أما أنا فقد علوت حتى أصبحت أتطلع الى ما تحت قدمي…….من يحوم فوق عالي الجبال يستهزئ بجميع مآسي الحياة بل بالحياة نفسها . ) إذن يحاول المخرج الدراماتورج أن يحدثنا عن هذا التناقض الحاد بين الواقع المباشر الذي يفقد فيه الإنسان إنسانيته وبين عالم السر الغامض الذي يمتلك وضوحه فقط من خلال الرؤيا الاخراجية التصوفية ودلالات الصورة في العملية الفنية .
لقد اثبت محمد ادريس في هذا العرض انه اكثر قدرة على الوصول الى لغة مسرحية تعتمد الإشارات والدلالات السميولوجية والصور الشعرية الدرامية التي تؤثر على حواس الإنسان السمعية والبصرية . حيث إن هذه الصور المتتالية أمام المتفرج كشريط سينمائي ، خلقت وجودها الجمالي والمعرفي والبصري في وعي المتفرج . ولهذا فان الكلمة أصبحت غير ذات أهمية ، بل أنها تحولت إلى رموز درامية ، دفعت بالمخرج الى اعتماد الكتابة على فضاء اللوح الملتهب بموسيقى جسد الممثل وأشياء الفضاء الأخرى الغارقة في كثافة النور واللون الفضي المشوب بالأصفر ، وكأنها ضربات فرشاة عنيفة في إحدى لوحات فان كوخ الصاخبة بالغضب ، فيدفعك هذا الى الإحساس بان الممثلين خرجوا للتو من جحيم الصحراء وا نقذ فوا في هوة الخلق التصوفي المقدس ، محاولين قول الحقيقة من خلال لغة بصرية لتحقيق التواصل مع المتفرج ، الذي يبدو وكأنه ينظر من ثقب في ستارة الحلم الشفافة التي تحركها ظلال الأ شباح هامسة له عن صحراء الروح في عالم مسكون بصمت الموت يفرض جبروته على الإنسان . لكن يا لصخب الروح ….ويا لأتساع الكون المسرحي . نحن إذن في حضرة اللمبو القدسي ، حيث يتحول الممثلون فيه الى أرواح معذبة ، معلقة في الفضاء تنتظر الخلاص ، و سرعان ما يعبرون عن دلالاتهم لتكوين المعنى البصري الجديد . انه مسرح يصبح فيه الممثل ذبيحة معلقة بين الأرض والسماء في زمن الصفر ، في كون ملتهب ، يضج بالقلق والتوتر الذي يهدف الى إغناء وعي المتفرج و روحه جماليا . وتوحي المرأة الفضية الغريبة السمات بعذاباتها ، بالرغم من أنها هي التي تخلق الذوات الأخرى التي تدخل بها محمولة على حمالة الوجود ، وتحيلنا وهي المتلفلفة بملابسها الجميلة الى إحدى شخصيات كوابيس المخرج المثيرة والمتشابهة مع شخصيات حققها فلليني في السينما .
إن مكونات المشهدية في الفضاء المسرحي مبنية بمنظور سميولوجي ، وبالرغم من خصوصيتها ، إلا أنها تدلنا على شغف المخرج بالأجواء الصوفية الإسلامية وبالذات فلسفة الخيام ، إضافة الى تأثرها أيضا بأجواء الكوميديا الإلهية لدانتي ومتقاربة من الجو العام الذي تشكله عروض المخرج البولوني جوزيف شاينا .
إن محمد ادريس يحقق مسرح المخرج ـ الرائي والدراماتورج الذي يبني فضاءه المسرحي سينوغرافيا وسميولوجيا . انه يؤلف في الفضاء الإبداعي فيخلق الجو المسرحي الطقوسي . انه مسرح للصورة ، انه مسرح بصري في اعقد تجليا ته وأبعاده الجمالية ووضوحه الفكري .
جماليات الفضاء الطقسي في مسرح إدريس
حَوّل المخرج فضاءه المسرحي الذي تتحرك فيه الشخصيات والاشياء والصور إلى كون تتشكل أحداثه في عالم سديمي أو في كوكب آخر غير عالمنا ، يتحكم فيه الشعر والرؤيا الدرامية . ويجوز فيه كل شئ ، فليس هنالك حدود للعقل و الكابوس والفنتازيا . يطير في سماءه الممثل المأزوم الذي يهرب من الواقع الآسن ، أو تتراءى فيه من خلال الستار ة البيضاء الشفافة جثث وأجساد دمى تبدو حية بالرغم من إنها علقت برافعة كأنها مقصلة وهي تتحرك كتلة واحدة . أو ترتفع خشبة المسرح إلى الأعلى لتقذف بأجساد الممثلين الأحياء في فضاء آخر ( في مقدمة المسرح) ليتحولوا فيه إلى أموات . وبلحظة سريالية ـ تصوفية تقذف الجماجم لتملا المسرح فيصير الفضاء دلالات إيحائية للتعبير عن كون مملوء بالجثث فقط .
ويتحول العرض إلى إشارات عندما تنساح روح القمر قلقة شاحبة وهي تحوم على الأجساد الميتة فتقوم مرة أخرى وتتقافز في الفضاء بفرح طفولي وسعادة من أصبحت له قيامة جديدة فاستعاد حياته . وبذلك تحققت فكرة إن الإبداع الفني يمتلك قوانينه الزمنية والابداعية الذاتية ، ويمكن للفنان ان يلتزمه كشرط للخلق المسرحي الديناميكي
واعتمد المخرج على مبدأ التناقض المبني على الحركة العنيفة تارة والساكنة تارة أخرى (الصمت المتوتر ) ، أي الحركة ونقيضها ، الديناميكية وسكونيتها ، الجمود والانطلاق ، الصمت والصخب ، اشتعال الروح والجسد ، الظلام والنور، الحياة والموت . كل هذا يتحقق من خلال السينغرافيا المثيرة ، وما اعنيه بهذا ليس الديكور وانما سينوغرافيا فضاء العرض المسرحي الذي يتشكل من موجودات مكان الإبداع سواء كانت مرئية أو غير مرئية ، من كتل وأشكال وأشياء بفعاليتها وضجيجها وحيويتها ، إضافة إلى الجو الديناميكي المتكون من اللون و الضوء وتلك الإشارات والدلالات التي تخلق كائنية وموسيقى جسد وروح الممثل وتؤشر بوضوح فكر المخرج فتتحول إلى معنى فلسفي . إن هذا الجو يفرض إيقاعا متميزا يختلف من مشهد إلى آخر لكنه يبقى مسكونا بغرابة الصورة . وهكذا يكون التعبير عن وجودنا من خلال الإبداع الذي يكتفي بذاته فنيا ويتجلى لذاته. إن هذا الفضاء المملوء بالاشياء والكتل والاجساد هو دائما في حالة من الحركة والديناميكية والصيرورة المتغيرة . فاستخدام شبكة أمام الجمهور يبدأ الممثلون بالتقافز عليها ، ستوحي بطيران الممثل في الفضاء وتفصل أيضا بين عالمين متناقضين ، عالم الجمهور ( المشاهدون المتلصصون ) ، عالم تحكمه قوانين وغرائز الجسد ـ وعالم الممثلون … عالم الإبداع الروحي ـ الجمالي الذي يتحكم به الممثل ، وما جسده إلا آلة موسيقية تعزف موسيقى كونية غريبة عن عالمنا ، وفي هذا الفضاء ذاته نسمع تلك الأصوات التي تشكل دلالات للتعبير عن دواخل الذات المعذبة ، فيتحول الصوت أو الهمهمة والحشرجة إلى كلمات قاسية تتعمق معانيها عند استخدام الموسيقى التي تميزت بطابعها التصوفي المتأثر بالموسيقى التونسية الشعبية والتي تشكل موتيفاً لموسيقى المواكب والحلقات الدينية . و يلعب هذا كله دورا حسيا أساسيا في تكوين مشهدية محمد إدريس .
ولم يعتمد العرض على التحليل النفسي للأحداث والشخصيات ومنطق السبب والنتيجة كما هو الحال في المسرح التقليدي والارسطوطاليسي ، وإنما على الدلالات والصور الرمزية و الإيحائية ، حيث يتعامل الممثل في فضاء هذا الطقس مع الأشياء والمواد والكتل والممثل الشريك بلغة تعبيرية وإشارات تنتج معنى جديد يختلف عن معناها الواقعي . فيتحول الماء إلى ماء الحياة الذي بدونه يتوقف شلال الإبداع ، فيبحث الممثل الظامئ عن الماء الصافي …. الزلال .. عن نهر المعرفة ليروي ظمأه الابداعي و روحه المشتعلة بالوجد والمحاطة بهالة من نور قدسي . ويتحقق الطقس بذات القدسية حينما يتقاسم الممثل الخبز والنبيذ مع شريكه . إن مثل هذا الطقس بالتأكيد يحيلنا إلى العشاء السري الأخير .
وعندما تدخل مجموعة من المكفوفين في مشهد مؤثر ، يقودون بعضهم بعضا للبحث وانتظار مخلصهم ليقرر مصيرهم في عالم الاختناق الذي يعيشون فيه ، نكتشف بأنها ذوات مليئة بالأسرار تهيم مأخوذة في فضاء طقسي ملتهب بالصمت المتوتر . ذوات تمارس لعبة الحياة والموت في عالم انشغل عنه الرب ، مما يشكل سبب عذابها ، فتتقافز للخلاص من عالمها الذي يشبه قبرها ، غير أنها تصاب باليأس وتعود من حيت ابتدأت . ويحيلنا هذا المشهد أيضا إلى إحدى اللوحات العالمية المستقاة من الأحاديث والقصص الإنجيلية . ولكن فقدانهم لبصرهم كان ماديا ، فهم سيلتقون مخلصْهم في بصيرتهم . وفعلا تتراءى ملامحه لهم وللمشاهدين في الخلفية وهو ينبثق في سماء حلم اليقظة او الغيهب الروحي او إشراقة الوحي في عالم لازوردي … فيصرخون فرحا حدّ ث .. حدّ ث … وهي الكلمة الوحيدة المفهومة التي ينطقها الممثلون لأنها تعني أنقذنا ..أنقذنا ……. عندها تقذفهم السماء بالوصايا الورقية . وبالرغم من أنني لم افهم هدفية المخرج من استخدام هذه الوريقات التي تتساقط من سماء المسرح ويتلقفها الممثلون ، وكنت أتمنى عدم استخدامها لأنها ذات طابع كاريكاتيري لا ينسجم مع فلسفة الفكر الإخراجي للعرض وهدفية المشهد ، لان المخرج يدلل على جدية فكرته بوجده العاطفي من خلال التراتيل الأخيرة التي أبرزت ملامح المخّلص .. لكن هل يسخر المخرج والعرض من القشة التي نتشبث بها أحيانا في أحلامنا عندما يعصف بنا زمن لا نعرف فيه الطريق الى الحكمة ؟ . وفي لحظة خلاص تتطهر الشخصيات وتتحول روحيا وتتغير ملامحها .. وتتشبث من جديد .. انها تعود إلى الحظيرة بعد أن تاهت في صحراء الروح .. حقا أن عالمنا بحاجة إلى المخّلص ، لكن هل هذا هو المسار الذي نبحث عنه ؟. إن حـــدّ ث هو رؤيا بصرية طقسية تتجاوز الحد وته ولا تبني أسسها على المفاهيم التقليدية ، وبهذا فإنها تشكل خروجا متعمداً ومتقاطعا مع المسرح العربي التقليدي الذي يلهث دائما وراء منطقية السبب والنتيجة . غير ان العرض خلق في ذات الوقت معادلة جديدة للمسرح العربي الذي يطمح أن يشكل هويته كمسرح عربي يتكامل بعيدا عن المفهوم الغربي ـ الارسطوطاليسي ، من خلال المزج بين التراث كشكل مسرحي وفكر متطور ، وأحدث نظريات المسرح العالمي المعاصر ة . إن عرض حدّ ث هو صورة تعبيرية رسمت لتحدي الفكر الرسمي العربي الذي ينحاز للمسرح التجاري بغية تهميش الفكر والثقافة والفن ، وبهذا فانه يشكل بداية للمسرح التونسي والعربي من حيث الرؤيا الإخراجية والقيمة الفنية والتعبيرية التي تتناسب مع بداية الالفية الجديد ة المليئة بالتحديات والأسرار الغامضة .
#فاضل_سوداني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فن التشكيل البصري في زمن العولمة
-
البعد الرابع لغة فن التشكيل البصري
-
البعد الرابع لغة الفن البصري
-
الممثل في مسرح البعد الرابع البصري
-
هل مازال العراق يلتهم أبناؤه
-
الموسيقى ومجزرة حلبجه
-
زهور المدينة المدللة في الزمن الهني
-
فان كوخ .... رحلة ضوئية باللون والجسد للتطهير من العنف
-
طنجة .... برزخ الابداع والمنفى
-
أسطورة النار المقدسة في الأزمنة المنسية
-
الجسد والحضور الميتافيزيقي للشعر البصري
-
عبد الرزاق المطلبي واحلام كانت مرمية في الطريق) سر التجسد)
-
تعاويذ الحب وتوهج الجسد في بهو النساء
-
الحضور الابداعي للكتابة عن المسرح
-
باشلار و ظاهراتية الصورة الشعرية
-
منفى المثقف في شمال الكوكب
-
لا رحيق لزهور تنبت في أرض غير أرضها
-
جــدلية الأحــلام بين المتنكــرين و الرعيــة عندما يتحول الم
...
-
توهج الذاكرة ........مرثية لعامل الطين وقارئ الفلسفة محاولة
...
-
ذاكـــرة المــرآة
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|