|
حوارات مهدى بندق - 3 - مع الناقد الأدبىّ د. صلاح فضل
مهدى بندق
الحوار المتمدن-العدد: 1917 - 2007 / 5 / 16 - 05:57
المحور:
مقابلات و حوارات
الناقد الأدبي صلاح فضل يرى أن: شعار "الاسلام هو الحل" شعار فارغ، والإسلام بهذا المنظور العقائدي لا يحل لنا أياً من مشكلاتنا الإقتصادية أو الإجتماعية الشعوب العربية زاخرة بالثروات والطاقة، لكنها طاقات مهددة بحكم خضوعها لنظم سياسية جاهلة ومتخلفة. ينبغي أن يتحول الإقرار بالديموقراطية إلى عقيدة، إلى أيديولوجية، إلى مبدأ يتجسد في كل رواية أو مسرحية أو ديوان شعري. المِصري: ناقداً أدبياً* (1) الدكتور صلاح فضل مقدمة
ولد محمد صلاح فضل في شهر مارس 1938، بقرية شباس الشهداء القريبة من دسوق. وتلقي تعليمه الابتدائي والثانوي بالمعاهد الأزهرية، بعدها حصل على ليسانس كلية دار العلوم عام 1962. ولقد بدأ تفوق الفتى النابه (الأول على دفعته) في ذلك الوقت مجرد درجة في سلم طويل، كان عليه أن يرتقيه بجهده وذكائه حتى يصل إلى ما وصل إليه اليوم من تألق وبهاء، وقدرة على التأثير في الحياة الأدبية والفكرية ليس في مصر فحسبُ، بل في عالمنا العربي، ولا نغالي إن قلنا: وأيضاً في العالم الثقافي لمنظومة دول حوض البحر الأبيض المتوسط. وآية ذلك أن الرجل، وقد أوفد في بعثة للدراسات العليا بأسبانيا، لم يكتف بالحصول على دكتوراه الدولة ثمة، وإنما عمل مدرسا للأدب العربي والترجمة بكلية الفلسفة والأدب بجامعة مدريد خلال أعوام البعثة، أي من عام 1968 وحتى عام 1972، وليتعاقد خلال نفس الفترة مع المجلس الأعلى للبحث العلمي في أسبانيا للإسهام في إحياء ونشر تراث فيلسوفنا العربي الوليد بن رشد. وحين عاد إلي مصر أستاذاً بكليتي اللغة العربية، والبنات بجامعة الأزهر، لم يلبث إلا عامين حتى إنتقل منها إلي المكسيك أستاذاً زائراً بكلية الدراسات العليا (1974 – 1977)، منشئاً بجامعتها المستقلة قسماً لدراسة اللغة العربية وآدابها، حيث اشترك في اللجنة التنفيذية العليا لمؤتمر المستشرقين المنعقد بالمكسيك 1975. ولم تمض غير أعوام خمسة (قضاها بمصر أستاذاً للنقد الأدبي بآداب عين شمس، ومشتركا في تأسيس مجلة فصول) حتى انتدب مستشاراً ثقافياً للمعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد (1980 – 1985) وليغدو في هذه الأثناء رئيساً لتحرير مجلة المعهد، تلك المجلة التي لفتت إليه أنظار مثقفي أوربا بأسرها. فلا عجب أن يصبح ناقدنا الكبير عضواً شرفياً بالجمعية الأكاديمية التاريخية الإسبانية. بالطبع كانت مصر هي المنطلق، وهي السفينة، وميناء الوصول، ومن ثم كانت عودته الثانية من أوربا بمثابة الغوص في أعماق التربة الوطنية استخراجاً لمعادنها النفيسة، وتطعيما لبذور الحداثة في جذورها، فكانت المؤلفات الكبري مثل "إنتاج الدلالة الأدبية"، و"شفرات النص-بحوث سيمولوجية"، و"أساليب السرد في الرواية العربية" و"أساليب الشعرية المعاصرة" و"عن تحولات الشعرية العربية"، و"نبرات الخطاب الشعري"، و"عين النقد على الرواية المعاصرة" كانت جميعها حواراً خلاقاً بين الوافد والأصيل، بين الحداثة والتراث، وكأنه في هذه المؤلفات (وغيرها مما تلاها) قد أراد أن يربط بين بدايات الرحلة وبين بلوغها أهدافها، لنقل بين تـأسيس النظرية ونقدها في كتابيْ عام 1978: "منهج الواقعية في الإبداع الأدبي" و "نظرية البنائية في النقد الأدبي" وبين التطبيقات "المبدعة" حقاً بدء من عام 1993 وحتى الآن. وكما أشرنا من قبل فإن مصر لم تكن بالنسبة لناقدنا الكبير مجرد بيت معزول عن بيئته الطبيعية، أو صرحا قائما بذاته، مستغنياً عن الأشقة والجيران، وإنما كانت مصر هي القلب النابض لجسد واحد هو العروبة، لهذا تراه يشد الرحال إلى اليمن وإلى البحرين ليعمل بهما أستاذا زائراً حتى عام 1994 بعد انتهاء عمله كعميد للمعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون بمصر (1985 – 198) ولدي عودته الثالثة إلى الوطن عُين عضواً بالمجلس الأعلى للثقافة والإعلام بالمجالس القومية المتخصصة شعبتي الثقافة والأدب، بجانب تعيينه عضواً باللجنة العلمية العليا لترقية الأساتذة، واختياره رئيساً للجنة العلمية لموسوعة أعلام علماء وأدباء العرب المسلمين بالمنظمة العربية للتربية والثقافة، ومشرفا على مجموعة السلاسل الهامة في الهيئة العامة للكتاب مثل "دراسات أدبية"، و "نقاد الأدب" جنباً إلى جنب عمله الأكاديمي المستمر كأستاذ للنقد الأدبي والأدب المقارن بكلية آداب جامعة عين شمس. لا ريب أن المرء ليدهش أيما دهشة لقدرة هذا الناقد المفكر على القيام بكل هذه الأعباء ذات المهام الثقافية العليا (أنتدب أيضا لتولي رئاسة مجلس إدارة الهيئة العامة للوثائق القومية لأكثر من عامين قبل بلوغه سن المعاش الأزهري 65 عاماً) وتتضاعف الدهشة حين تفاجئ الحياةُ الفكريةُ كل عام بكتابين (و أحياناً ثلاثة) للكاتب الناقد صلاح فضل، وكأنما هو قد تفرغ تماماً للتأليف (28 كتاباً ومئات المقالات والمحاضرات) قراءةً منتجةً، وكتابةً مجهدةً مثمرة، يدرك هذا تماما قراؤه الدائمون فضلا عن قراء الأهرام الأسبوعيين. لقد فاز صلاح فضل بجائزة البابطين للإبداع في نقد الشعر عام 1997، وهي جائزة شرفت به، بأكثر مما أعطته، فالحق أنه مستحق لأرفع الجوائز والأوسمة، وما جائزة الدولة التقديرية التي حصل عليها مؤخراً إلا بداية جديدة له. ولعل مجلة تحديات ثقافية حين تحاور هذا المحيط المنير، إنما تستهدف بالدرجة الأولي أن تقدم للأجيال الصاعدة مثلاً يحتذى للإنسان المصري الذي سيعلم أن التفوق قرين الجهد الدؤوب، والمثابرة المستمرة، والعمل المنتج، فليس لنا من مطلب بمثل هذا الحوار قدر مطلبنا الدائم بضرورة تأسيس ثقافة الإنتاج، بدلاً عن ثقافة التواكل والتراخي. المحرر
الحــوار بداية لابد من الإشارة إلى نقطة منهجية، بالأحرى نقطة قد تتجاوز المنهج التقليدي الذي يحدد التناول بالحقل التخصصي لمن نحاوره، فالحق أنني انطلاقا من تفعيل آلية عبر النوعية Interdisciplinary أقول إن للحوار مع د. صلاح فضل مداخل وأبواباً متعددة، ولقد حاولت –عامداً- ألا أقتحم عليه عالمه في النقد الأدبي مبكراً، وإنما سعيت أن أجتذبه أولا إلى التحدث عن هموم الساعة. اكتشافاً لآفاق تفكير أحد رموز الثقافة المصرية في الشأن العام، وذلك في هذه المرحلة الفارقة والتي تعد تمفصلاً بين الحكم الشمولي وبين الانتقال المأمول إلى مرحلة الحكم الديمقراطي. وأنا هنا أود أن أسأله عن سجالات وأحاديث جرت بيني وبينه قبلاً حول مستقبل التيارات الإسلامية السياسية – وبالأخص تيار الإخوان المسلمين – فلقد ذكر هو أن هؤلاء الناس لهم استحقاقات "ديمقراطية" في التعبير عن أفكارهم بشكل شرعي، سيما وأنهم بدأوا بالفعل في تغيير خطابهم السياسي، بينما أبديت أنا تحفظات على هذا القول، مفترضاً أن تغيير الخطاب السياسي لابد وأن يتضمن نقداً ذاتياً لا غش فيه لممارسات العنف في السابق، كما لا مندوحة له من القبول بالمبادئ التي سجلتها وثيقة حقوق الإنسان الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1948، ودون هذا وذاك يظل هذا التغيير "اللفظي" مجرد تكتيك لا يقترب بحال من الفلسفة السياسية المرجوة. أهلا أستاذ مهدي، ولابد أعبر في البداية عن سعادتي وتقديري لمشروعك الثقافي، ولابد أيضا أن أستجيب لنقطة البداية التي اقترحتها مع أنها ليست من صميم شواغلي التي أعني بها، والتي أحرص على أن تكون هي مركز انطلاقي وبؤرة تجمع فكري، وهي المرتبطة بالفكر النقدي واندياحه في المجتمع، ومع ذلك لنبدأ من حيث أردت. في تقديري أن الفكر النقدي منذ مشروعه الأول كان ولا يزال طامحاً لأن يكون قاطرةً للتقدم الثقافي والاجتماعي والإبداعي على السواء، وفي تقديري أن مقياس التقدم على الصعيد المجتمعي يتمثل في الانتقال إلي الدولة الحديثة المرتبطة في بنيتها السياسية بالقوام وبالنسق الديمقراطي، وأتصور أن أبجدية الحياة الديمقراطية تتطلب أن نسلم بحق كل القوى والرؤى المجتمعية في الوجود والتفاعل وحقها في أن تعبر عن مشروعها السياسي والثقافي والفكري، وأتصور أن الممارسة سوف تروضها الأحداث، وسينضجها المجتمع، ويحاورها المثقفون حتى ترتقي إلى لغة العصر، لأن النوايا الطيبة لا تصنع المستقبل، القوي الدينية في المجتمع المصري، أحسب أنها متجذرة وعميقة وسريعة الاشتعال ولازلت أذكر مثلا، في حوار عقدناه أنا وصديقي الدكتور جابر عصفور للعدد الأول من مجلة فصول عام 1980 أجريناه مع المفكر الكبير الدكتور زكي نجيب محمود، أجريناه في حديقة بيته، نشرنا بعضاً منه، ولم ينشر البعض الآخر. من التهم الظالمة التي وجهتها للدكتور زكي وقتئذ بشيء من الجرأة، أنه قد كتب عن البعد الديني في الشخصية المصرية واصفاً إياه بأنه جوهري. قلت له: لقد بدأت بالوضعية المنطقية، والمنطق الفلسفي الصحيح، فهل أصابتك الآن الشيخوخة أم عدت إلى لغة العوام. فدهش لعدوانية سؤالي، وقال لي لابد أن تعي أنني لم أقل البعد الإسلامي، وإنما قلت البعد الديني فكرة الدين، وما أتبينه تدريجياً في الشخصية المصرية أن هذا البعد الديني متجذر إلى أبعد حد فيها منذ العصر الفرعوني حتى اليوم بمراحله المختلفة. واستمر الحوار بيننا على هذا النحو اسمح لي بمقاطعة صغيرة. هل يمكن لي أن أستعير تعبير الثمانينات الذي وجهته لزكي نجيب محمود، لكي أوجهه إليك اليوم؟ (يضحك) أنت تحب التجريح، ولكن لا بأس. ما أريد أن استخلصه من هذا الاستحضار، هو أن القوة المجتمعية المحركة للشارع السياسي، لا يمكنها استبعاد من يرفعون شعار الإصلاح باسم الدين في المجال السياسي والاجتماعي والاقتصادي، لكن ما يجب أن أفعله هو الاعتراف بهم أولاً ثم إقامة جدل خصب خلاق معهم، لقبول المشاركة منهم على مبادئ الدولة المدنية، التي تعتمد على التعدد والاختلاف والبرامج الحزبية، دون أن يحتكر أحد الحقيقة، أو يظن أنه ينطق باسم الله، أو يذكر شيئاً عن القوة الغيبية، فإذا ما قبلوا بهذا المبدأ الأساسي، يصبح إنكارهم وعدم الاعتراف بهم موقفا مغلوطا من الوجهة الديمقراطية. ولابد أن نتذكر بهذا الصدد، أن معظم التشكيلات الحزبية الأوروبية قد أدخلت المسيحية في صلبها، عندما نشأت وتمرست بالعمل السياسي، وتعودت على ألا تنطق باسم الدين، إنما مستهدية به، وألا تحسب أنها تحتكر الحقيقة، وأن تقبل بالتعدد والاختلاف. قبول التعدد والاختلاف وترجمة المبادئ إلى مشروعات ومشاريع محددة رقمية يمكن الحساب عليها بدلاً من الشعارات الجذابة الفارغة من المضمون، هو الشرط الأساسي لتحويل أي جماعة دينية إلى حزب سياسي. ولكنك تعلم أن الأخوان المسلمين في إطار استراتيجية منهم لا تتغير، يطرحون شعار الإسلام هو الحل، فما رأيك في هذا الشعار؟! هذا شعار فارغ، لأنه حل لأي شئ؟ كلنا مسلمون أو تسعون بالمائة من المجتمع المصري مسلم و الإسلام بهذا المنظور العقائدي لا يحل لنا أياً من مشكلاتنا الاقتصادية أو الاجتماعية، ولا مشكلات تداول السلطة ولا الديمقراطية ولا غير ذلك. في تصوري أن مثل هذه المشكلات الواقعية تحتاج إلي عقول واقعية، لا إلي تصورات مثالية بالمعنى الفلسفي لهذه الكلمة، وليس بالمعني الأخلاقي. أنا موافق علي هذا، لدينا مشكلة بطالة كيف يمكن أن نواجهها؟ بخلق فرص عمل وبأي منطق؟ لدينا مشكلة ركود اقتصادي، كيف نمضي إلي التنمية والانتعاش؟ لدينا مشكلة فقر جوهرية لا يمكن الاعتماد فيها على الصدقات، لأن هذا منطق يرفضه العصر، فلا بد أن تحل بإدارة عجلة الإنتاج. لدينا مشكلة في علاقتنا العربية والإسلامية والدولية، لبد أن نستهدي فيها لا بالميراث الأخلاقي الديني فحسب، ولكن بما أفرزته المجتمعات المدنية المتحضرة في القرون الأخيرة، من مواثيق وعهود مثل ما أشرت إليه أنت من مواثيق حقوق الإنسان التي تتأّلف تماما مع طبيعة الفهم الإسلامي كما ندركه، ولا تتناقض على الإطلاق مع أي مبدأ جوهري من مبادئ هذه الشريعة. إن الإسلام لا يعادي الديمقراطية ولا ينفي الحرية وليس مضاداً للدولة الحديثة، فإن من يرفع شعاره لا يخيفني ولا يرهبني، وإنما عليه أن يتعلم إنه إلي جانب رفع شعار الدين، لابد أن تمتلك فكراً اقتصاديا ومجتمعياً ومدنياً محدداً وراقياً ومشروعاً سياسياً يمكن أن أحاسبه عليه، وبرنامجا يمكن أن يجدوله في جدول زمني لحل المشكلات التي يعاني منها المجتمع. عندئذ يكون الموقف أكثر قربا من التحقيق الديمقراطي، لأن الديمقراطية لا تقبل الإستثناء، ل ايمكن أن أكون ديمقراطياً وأفرض عليك وجهة نظري، وأطلب منك أن تتنحي عن مبادئك. لنحتكم إلي رأي الشعب، إلى رأي الأغلبية وإذا كان رأي الأغلبية بنزاهة وشفافية، سوف يسند الحكم لهذه الجماعة فعلينا أن نتحمل هذه التجربة، وإذا نجحت في حل مشاكلنا بأيدولوجيتها التي قد تختلف معها راديكالياً فإنها بنجاحها ستجدد فيها الثقة، وإذا لم تنجح سوف تسحب منها الثقة. والوعي والجدل الحر والحراك الفكري هو الذي يضمن ذلك وليس الحذر ولا الكبت ولا القمع ولا السجون، لأن هذا الفكر الإسلامي لم يتحول إلي العنف ولم يتوسل بالإرهاب إلا عندما أدخل في السجون وحرم العمل الحر والممارسة الشفافة، عندئذ لجأ إلى لغة الرصاص ولغة القنابل. ففقدان الديمقراطية هو الذي ألجأ الجماعات الدينية لما لجأت عليه من عنف في تقديري، وأحسب أن الحياة السياسية الصحيحة بمنطلقها الصحيح. لأبد أن تتمثل في إتاحة الفرصة لكل القوي للتعبير عن نفسها في برامج حزبية دون أي وصاية من خارجها. وإنما قبولاً بالتعدد، واحتكاما للرأي العام، وخضوعاً عند مقتضيات الجدل مع الجمهور، والنجاح والفوز للأغلبية بدون التزوير. هذا كلام جيد وإن كان لي عليه بضعة تحفظات، منها أنني منذ البداية أدرك أن "الإسلام" هو تعبير مثاليٌَّ عن حالة لا وجود لها في أرض الواقع، هناك مسلمون وهناك شيع و فرق وأيضا نحن إذا تحدثنا عن العنف الذي يمارس أو الذي يحبذ – فليس من الضروري أن تكون ممارسة بالفعل، إذ يكفي وجود ظاهرة بالإمكان Potential . الأخوان المسلمون متصلون ومتمثلون بالوهابيين في عصرنا وبالخوارج تاريخياً ولم يكن هناك معتقلات ولا قمع لا في هذا المكان القريب ولا في ذلك الوقت البعيد في هذا الوقت، وإنما – وأنت أستاذ البنية- تدرك أن مجموعة من الناس تتصور أن لديها الحق المطلق، وإنها ملاَّ كةٌُُ للحقيقة المطلقة. إنها بذلك تعبر عن بنية تفكير تنتمي إلى عالم البداوة وهو عالم أوليّ، كالطفل عندما يتصور أن دنياه هي وحدها الدنيا الوحيدة ولا يري ولا يستطيع أن يدرك أن هناك آخر مختلفاً عنه. كيف يمكن السماح لمثل هذا الطفل أن يحكم الأسرة والعائلة؟ يا سيدي الديمقراطية تجربة في الفكر الإنساني لم توضع موضع التطبيق إلا منذ قرنين ونصف فحسب. وبالتالي لا تحتكم إلى التجارب التاريخية السابقة عليها ولسنا مقيدين بشروطها، نحن في عصر مختلف، هذا العصر لم تمنع فيه أي أديان مهما كانت صفوتها من مسيحية أو يهودية أو إسلامية من قيام تجربة تداول السلطة على أساس ديمقراطي. إيران فيها تداول سلطة ديمقراطياً، ماليزيا وهي مسلمة ماليزيا فيها تداول سلطة ديمقراطياً، مصر أنضج من هذين النموذجين وهي دولة مسلمة بتداول السلطة ديمقراطياً دون أن يحسب عليها الإسلام هذا الوصف. علينا أن نوازن بين الاحتمالات المتعددة، احتمال أن نعمد إلى تهميش الرأي العام الملتف حول شعارات الدين وإخراجه من لعبة الديمقراطية وهذا سيفسد سيمنع جذرياً قيام أي تصور ديمقراطي الأساس فيه نسبة عالية من المجتمع التي تأنس إلى عقيدتها كمجرد مرشد أخلاقي لها، وهاد سلوكي لها. لا نستطيع أن نحرمهم من ذلك، لكي نحيلهم إلى علمانيين مثقفين حتى ينخرطوا في سلك الديمقراطية. علينا أن نقبل الشعوب بتركيبها وعقائدها واختلافاتها وتعدد مستوياتها، ونقترح النظم التي تحيل كل ذلك إلى بنية متناسقة ومنسجمة، وليست متصادمة ولا ممزقة. فكرة التسليم بحق الأغلبية في الجدل المجتمعي والفكري بأن يكون ممثلوها هم أصحاب السلطة التشريعية والتنفيذية فكرة جوهرية في الديمقراطية ننتهجها إن لم نسلم بها. وبالتالي في تقديري لا يمكن إقامة ديمقراطية حقيقية في أي بلد عربي مسلم مع تجريم من يتخذون الإسلام شعاراً لهم، وتحريم العمل السياسي عليهم. هذا غير صحيح وغير منطقي، ما عدا ذلك سيجد حله في الممارسات العملية. وفي تقديري أن الديمقراطية مثل السباحة، لا يمكن أن أتقن السباحة وأنا جالس على كرسي، سأتقنها وأتعرض للغرق ثم أنجو وأقفز وأطفو وأنجو بنفسي عندما أمارس العمل الديمقراطي بالفعل. لا يفوتنا نموذج تعرض المجتمع الجزائري للغرق عقب إنكار الإسلاميين، لأنه قد طفا بعد ذلك على السطح وأوقف التجربة، ثم منذ عدة سنوات هو يعيدها الآن بسلاسة شديدة، وقد بدأ الطريق الديمقراطي، وأعتقد أن الإسلاميين سيندمجون فيه ويمثلون إحدى القوى المتجادلة والمتصارعة في النسيج التشريعي الجزائري. من حق الشعب المصري أن يكون برلمانه مشتملاً على نواب يرعون منظومة قيمه الدينية ويحرصون عليها حيناً ثم يتنازلون حيناً آخر عندما يرون مصلحة عليا أو تنمية حقيقية أو ضرورة دولية تقتضيه أن يتنازلوا عن ذلك. مثل هذا التكوين في المجتمع المصري ملائم جداً للمناخ الديمقراطي. ولذلك أعتقد أن رعب السلطة من القوي الدينية ليس لصالح الديمقراطية. وأن علينا أن نروض وندرب ونرقي هذه القوي الدينية، ونصدق أنها ستقبل بشروط العمل السياسي، وسوف لا تنقض على النظام الذي قفز بها على بعض مواقع السلطة. أكثر من ذلك فأنا أؤمن أن هذه القوي الدينية لا يمكن في المجتمع المصري أن تظفر بأغلبية مطلقة لأن الناس تعرف دائما أن من يرفع شعار الدين يأمنا في المسجد لكن من يعرف الحياة أكثر هو الذي يدير بنا السفينة أو يقود بنا السيارة. إذا وجدت سفينة فيها شيخ لن يدفعه الناس إلي تولي مركز القبطان. إذا وجدت سيارة فيها شيخ لن يجبره الناس على أن يتولي القيادة لأنه لا يعرف ذلك، هم يتبركون بالشيخ وينصبون القائد الماهر مثل العمل السياسي بالضبط. أنا أؤمن بحكمة الشعب المصري وبقدرته على التمييز، وبأنه سوف يكشف زيف من يرفعون قميص الدين وهم براء منه وهم كثرة وراغبو سلطة فحسب، وسيعرف صدق المخلصين ممن يريدون أن يهتدوا بالنموذج الأخلاقي المثالي للدين، وهو نموذج جيد خاصة في مقاومة ما يعانيه شعوب العالم الثالث من انتشار الفساد وخراب الذمم. ذلك لأن القوانين وحدها والسلطة وحدها لا تستطيع أن تتعقب هذه الذمم الخربة إن لم تحتكم إلى شيء من الضمير الجماعي الأخلاقي الذي نحن بحاجة إليه لتخفيف حدة الفساد في مجتمعنا المصري في المرحلة القادمة.
عملياً هذا الكلام يؤدي بنا إلى فهم مثالي لحركة المجتمع، ومن ثم يسمح بإقامة حزب للإخوان المسلمين، فماذا عن الأقباط؟ هل من حق الأقباط أن يقيموا لهم حزباً على ذات الخلفية الأخلاقية الضميرية؟ لو أرادوا أن يقيموا حزباً فليقيموه، فأنت لا تستطيع أن تحجر على أحد إرادته. أنا شهدت التجربة الديمقراطية في أسبانيا عندما ولدت الديمقراطية. وأعرف أنه في اللحظة التي أعلن فيها "ماريوس كواريز" مهندس الديمقراطية باسم الملك "خوان كارلوس" حرية إباحة الأحزاب لم يضع أي شرط. وتشكل في الأسبوع الأول 114 حزب منها إثنا عشر حزباً موالياً للاتحاد السوفيتي وستة أحزاب موالية للصين و18 حزب موالية للولايات المتحدة الأمريكية وأربعة أحزاب موالية للديكتاتور المحتضر الذي كان قد مات. ثم أسفرت التجربة الديمقراطية في الانتخابات عن تبلورها في ثلاث كتل، هي كتلة اليمين والوسط واليسار. ونجحت كتلة الوسط لأنها أقرب إلى تحقيق الاستقرار السياسي، ثم فشلت في حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، فنجحت كتلة اليسار وهي التي تولت حكم أسبانيا بعد ذلك وقدمت أجمل الزعامات والبرامج المخلصة للشعب الأسباني. أنا أعرف جيداً أنه من ناحية المبدأ لا يجوز الحظر على أحد لكن إذا أراد بعض الأقباط أن يكونوا حزبا فليكونوه، لكنهم لم يحصلوا قط على أغلبية برلمانية. في بعض الأحياء والقرى. قد يحصلون على مرشحين نواب يدافعون عن مصالح الأقباط وهذا حقهم، ولا بد أن يكون لنا نواب يدافعون عن مصالح الأقباط ويطالبون لهم بالمساواة والأنصاف التي يفتقدونها في ظل نظمنا الشمولية. وأنا أري أن كثيراً من المثقفين والمتعلمين المسلمين من المصريين سوف يفضلون مرشحاً قبطياً إذا اقتنعوا به على أي مرشح آخر، لأن الدين ليس هو الحاسم وإنما الكفاءة الشخصية والقدرة على التمثيل النيابي الصحيح. فمثل هذه المحظورات لا تخيفني لأنها في صلب الديمقراطية، لكن لن تؤدي على الإطلاق إلى انقسام إقليمي. الخطر وارد على أية حال. لا ياسيدي هذا غير صحيح، هذا خطر متوهم، هذا خطر متوهم. إذا فلتستمع إلى سؤالي لكي تجيب عنه إجابة "مسئولة" أنا أتخيل أن أحداً يجلس بجانبنا سيقول أو سيسأل: فإذا وصل الإخوان المسلمون إلى السلطة في ظرف استثنائي مثل هذا الظرف المضطرب الذي نعيش فيه في ظل دعاوى الإرهاب وشعارات عاطفية تقول إن الإسلام هو الحل وأن هناك دعوة عالمية لإقامة خلافة إسلامية لمواجهة الغرب الإمبريالي، هذا الظرف الاستثنائي قد يحدث فيه أن الإخوان المسلمين قد يصلون إلى السلطة بما لهم من دعاية دينية واستجابة من الجمهور لهم. ألا تخشى على الوطن من دعوة مضادة من الأقباط لإقامة ما يسمى بالحكم الذاتي تمهيدا للانفصال، وهناك مؤامرات دولية تسعى إلى تقسيم العالم العربي إلى دويلات كما يحدث مثلاً في السودان وفي العراق وغيرهما؟ هذه أوهام النظم الشمولية زرعتها فينا، قمع الشعور الديني لدي المسلمين والأقباط لا يمكن أن يكون طريقاً صحياً لبناء مستقبل زاهر لهذا الشعب. النظم الشمولية أم التاريخ بأسره؟ (مقاطعا) انتظر حتى أكمل فكرتي. أنا أعتقد أن مثل ذلك لن يحدث على الإطلاق دون تدخل أجنبي في حرب أو ما أشبه ذلك، لكن بالتجربة الديمقراطية الحقيقية تاريخ الشعب المصري الأقباط والمسلمين منذ تشكيل الوفد في بداية الحياة السياسية المصرية في مستهل ثورة 19 حتى اليوم يُعد مثلاً رائداً ولا ينذر الأمر بأي خطر من هذا الجانب. لا أحسب أن انتخابات حرة نزيهة تأتي بالإخوان المسلمين كقوة مطلقة. إنما كإحدى القوى التي تمثل معارضة مستنيرة. وبالتالي مثل هذه الأوهام والتصورات هي كوابيس ندفع بها واقعاً أشد إيلاماً لنا من هذه الكوابيس، أكثر من ذلك سأذهب معك في الجدل والافتراضات إلى منتهاها. لو حدث أن أغلبية الشعب المصري أعطت ثقتها بحرية كاملة لتيار من التيارات لكي يحكمها، فهي تستحق أن تخوض التجربة حتى تتبين خطأ اختيارها، وتصوبه تاريخياً. وبالتالي سوف يكون ذلك زمناً مستثمراً إلى أقصى درجة، وهو أفضل من السنوات الخمسين الماضية التي قضيناها في ظل حكم سلطوي ديكتاتوري عسكري تخلفنا فيه عن قائمة الشعوب المتحضرة الراقية، وتجمد فيه تاريخ مصر لفترة نصف قرن. كنت أتمنى وأفضل أن تشمل هذا النصف قرن تولية السلطة لمن يحكم باسم الدين، ولمن يحكم باسم العلم، ولمن يحكم باسم الليبرالية حتى تنضج تجربة شعبنا السياسية، ويعرف كيف يختار في مستقبله الأفضل لصناعة هذا المستقبل. مع الاعتبار الشديد للنتائج التي أفرزتها الانتخابات الأخيرة، الانتخابات الرئاسية، والتبين من أن قوة الإخوان المسلمين ضعيفة من واقع أنهم أضافوا أصواتهم إلى حزب الغد، ولم يستطع حزب الغد بهذه الأصوات أن يحصل إلا على سبعة في المائة. هذه الوقائع تؤيد وجهة نظري.. بالطبع بالطبع.. أنا أرى ذلك، ولكن على مستوى الفكر السياسي، مرة أخرى نعود إلى قواعد اللعبة. هناك من يلعب على أرض الديمقراطية وهو مستعد أن يترك السلطة لمن يأتي من بعده بأصوات أكبر، وإذا كان الإخوان المسلمين يقبلون هذه القواعد فأهلاً بهم. ولكنني أتصور أن الإخوان المسلمين مثلهم مثل ما حدث في جمهورية "فايمار" في الثلاثينيات حينما وصل الحزب النازي بأصوات الناخبين إلى السلطة ولكنه حينما وصل إليها رفع السلم لكي لا يصعد من بعده أحد. مهما كانت التجربة النازية كارثية بالنسبة للعالم، إلا أنها حلقة هامة في نضج الشعب الألماني. وكيف لا نتعلم منها؟ أنسمح للقوى الفاشية بالوصول إلى الحكم لكي نتأكد من صحة الدرس؟! يا سيدي ليس معنى هذا أنني أدعو إلى السماح بالقوى الفاشية، لكن تصنيف القوى مبدئياً بأنها فاشية هو فرض وصاية على هذه القوى لا تسمح به النظم الديمقراطية. من الذي قال لك بأن كل من يرفع شعار الدين هم فاشيون؟ هذا حكم مسبق وأحادي النظر ومضاد ومعادي لفئة من المواطنين من حقهم أن تتاح لهم حرية التعبيير عن أنفسهم في ظل قواعد اللعبة التي تتحدث عنها. بمعنى إننا، لم نختبر مدى استعداد العسكريين لقبول الفكرة الديمقراطية حتى نقبل بهم عام 52. ولو كنا قد وضعنا هذا المعيار لما قبلنا بهم ولا رحبنا بهم. ومع ذلك فهم يحكموننا منذ خمسون عاماً حتى الآن. هذه كارثة. وهذه الكارثة التاريخية الفاشية الحقيقية التي خضعنا لها. مهما كانت نواياهم طيبة، لأنهم مثل الدبة التي تقتل صاحبها بحسن نية. والقوى الدينية لا تفعل مثل هذا؟ صلاح فضل: القوة الدينية يا سيدي تستطيع أن تضع لها منذ الآن الشروط والمعايير لدخول لعبة الأحزاب. النموذج التركي -وأنت أشرت إليه في حديث معي سابق- جعل من الجيش حكما للسلطات، ولحماية الدولة العلمانية الديمقراطية. لماذا لا يكون هذا دور الجيش المصري؟ حماية الدستور من الاعتداء الخارجي ومن الاعتداء الداخلي، فإذا ما جاءت حكومة إثر انتخابات ديمقراطية وقررت أن تعصف بهذا الدستور وبالديمقراطية التي رفعتها، يكون واجب الجيش أن يتدخل لإيقافها عند حدها، لأن هذه هي إرادة الشعب. مثل ذلك الوضع يمكن أن يتحقق لدينا حتى بدون تدخل من الجيش. بمعنى أن الحياة الحزبية قواعدها بسيطة جداً، وشفافة جدا"، وأجمل ما في الديمقراطية يا سيدي أنها قادرة باستمرار على امتلاك تلك الآلية السحرية للتصحيح الداخلي. بمعنى أن الديمقراطية قد تأتي بمجموعة من النصابين والأفاقين والدجالين للسلطة، لكن سرعان ما يكشفهم الرأي العام، لأن قواعد الشفافية ستؤدي إلى كشفهم ومحاكمتهم. وآليات الاستبدال المستمر للسلطة لن تسمح على الإطلاق بتكون رجعية جديدة أو مركزية روحية جديدة لأن الوعي المعاصر لم يعد يسمح بذلك، أنا شديد الثقة بأن الشعب المصري بلغ درجة من النضج والوعي السياسي والثقافي والمجتمعي حتى الأميين فيه - وأنا أعرفهم جيداً، وبعضهم من أهلي، أحادثهم وأناقشهم- على درجة كافية من الوعي تجعلهم يرفضون -في المستقبل- من يمارس عليهم الدجل أو الغيبيات أو الشعوذة السياسية، لأنهم باتوا يعرفون أن السياسة مصالح وأهداف، وتحقيق غايات.الرقعة الزراعية ضيقة لابد أن تمتد، فرص العمل ضعيفة لابد أن تتخلق، الاستثمارات قليلة لا بد أن تكثر، الحياة الاقتصادية ذات بنية اقتصادية مضروبة، لابد أن تستقيم، الفساد، الرشوة، المحسوبية، النصب والسرقات من البنوك، لابد أن تتوقف، لسنا أقل من أي دولة من الدول الصغرى التي سلكت طريق الديموقراطية، وطبقتها بحذافيرها، واندمجت في هذا العالم الآن دون عوائق. لسنا أقل من هذه الدول على الإطلاق، ونملك من الوعي والكوادر العلمية والثقافية والعقول والحكمة -حتى حكمة العمال والفلاحين- ما يمكن أن يقود سفينتنا. ولم يبق إلا المنطقة العربية التي تتذرع مرة باسم الدين، ومرة باسم الأسر المالكة، ومرة باسم الجيوش لكي تصبح كما يقول أحد المثقفين : "الشارع المظلم الوحيد الآن في قرية كونية أضاءت كل شوارعها بنور الديموقراطية". لا سبيل على الإطلاق إلى التردد، لا سبيل إلى تكوين ديموقراطية منقوصة، لأنها ستصبح معيبة وغير قابلة للحياة. ديموقراطية تهمش نسبة عالية من أبنائها، تفرض عليهم الوصاية وتشترط أن يتنازلوا عن مبادئهم قبل ممارسة العمل السياسي لا يصح أن تسمى ديموقراطية هي استمرار للنظم الشمولية التي نعاني منها حتى اليوم. ها أنت تقول -بالفم الملآن- إنك تقبل الإخوان المسلمين أو غيرهم ممن يتبنون أيديولوجية ما، لأن كل الأيديولوجيات متاحة في سياق ديموقراطي حقيقي، ولكنك نوهتَ إلى هذا الشرط الذي أطلبه أنا ويطلبه كل ديموقراطي أصيل، هو أن يَـقبل الآخرُ بي. تطلب مني أنا أن أقبله؟! إذن دعه هو يقبلني (أشك في ذلك بقوة) وهذا الشرط هو شرط عادل تماماً، فهل أنت تضمن باعتبارك ممثلاً للشخصية المصرية كما لو أن مصر الآن تتحدث من خلالك وعلى لسانك، تقبل بمن ينفي الآخر بحكم أيديولوجيته؟! مثلاً هل يمكن أن تضمن لنا أن هذه القوى تقبل بميثاق حقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة كبداية للاعتراف المتبادل؟ أستطيع أن أضمن لك هذا.. تضمن هذا؟! نعم.. أظن أنني أتعبتك كثيراً.. لا لا، لست تعباً على الإطلاق، بل لعلك نَشــَّطتَ فيّ عقلي السياسي...دعني أصرح لك بشيء هو نابع من دراستي المعمقة في الفكر الإسلامي في مطلع شبابي، باعتبار نشأتي الأزهرية من ناحية، وقراءاتي الكاملة والمستوعبة لمكتبة الإخوان المسلمين والمكتبة الماركسية في الآن ذاته، إن الفكر الديني في جوهره لا يمكن أن يصطدم بمحصلة تطور الفكر المدني الإنساني في العصور الحديثة. لأن باب الاجتهاد فيه إذا فتح كما ينبغي، يصل بنا إلى التوفيق المنتظم بين أكثر التوجهات الحداثية تطرفا ً وطبيعة المقاصد الإنسانية والمصالح المرسلة، تعطيل الحدود مثلاً أمر واجب في العصر الحديث، وهو النقطة الفاصلة والحاسمة في مسألة الشعارات الدينية، لأنها تتطلب شروطاً لا تتحقق. أول دراسة عن حقوق الإنسان -أحيلك عليها- للدكتور علي عبد الواحد وافي باسم حقوق الإنسان في الإسلام تكشف أن القراءة التقدمية المستنيرة للفكر الديني تجعلنا نستطيع لا أن نجاري الفكر الإنساني في تقدمه، وإنما نتفوق عليه. الفهم الغبي، المغلق، الضيق، المحدود، البعيد عن الروح الحضاري للنصوص الدينية، والذي يقيم تعارضاً بينها وبين مقتضيات الحياة المعاصرة، يتناقض مع مسيرة الفكر الإسلامي عند الاجتهاد الفقهي السليم الصحيح، ذلك الذي لا يتعارض مع أي مظهر من مظاهر التحضر، أو التقدم العلمي، أو الإنتاج المعرفي. فأنا لا أخشى على الإطلاق ممن يرفع شعار الفكر الديني، لأنه إن كان جاهلاً أستطيع أن أعلمه بحقيقة الإسلام. هل أذكرك بتجربة خالد محمد خالد وكيف انتهت إلى التراجع؟ هي مشكلة شخصية، بدأ بالغ الازدهار والانتعاش والتقدمية ثم أصيب بإحباط، تعرف ماذا حدث له في اجتماعات الميثاق مع عبد الناصر وهذه النكسة الشخصية انعكست على سلوكه، وهذا طبيعي. ولكن ليست هذه هي تجربة الفكر الإسلامي. ومع ذلك يظل خالد محمد خالد مجرد نموذج فردي، لم يستطع أن يشق له طريقاً في المجرى الثقافي العام، ولم يستطع أن يمثل تياراً، ولم يظهر من بعده من يحمل لواء دعوته إلى الليبرالية وإلى الديموقراطية التي كان يطمح إليها. أنا أظن أننا نغفل كثيرا حقائق الوضع إذا تحدثنا عن تاريخ الأفكار مجرداً، وعن الاجتهادات الفقهية -حتى التقدمية منها- دون النظر إلى موقعنا على خارطة الإنتاج العالمي. نحن لا يمكن أن نفعل هذا الذي تطلبه دون أن نعمل وننتج إنتاجاً حقيقياً، وننطلق من هذا الوضع الغريب الذي نحن فيه باعتبارنا طرفاً من أطراف المنظومة الإنتاجية العالمية التي يسيطر عليها مركز يهيمن على كل الأشياء. ومن هنا سنجد من يتصدى لحديثنا عن ثورة 23 يوليو وما خلفته من مصائب، بقوله أنها كانت محاولة لتحسين (شروط) التفاوض مع الرأسمالية العالمية ممثلة في الغرب، إلى درجة أنها استعانت بالخصم التقليدي لها، وهو الاتحاد السوفييتي الذي انهار فيما بعد، وانهارت من قبله الناصرية، لكن عدنا إلى المربع رقم صفر. ما الذي نفعله نحن الآن ونحن غير قادرين على مواجهة هذا الزخم الحضاري في ميدان الصناعة، ثورة الاتصالات، وحتى مناهج العلوم التجريبية المعاصرة؟ كيف ننجو من هذه البنية إلا إذا أخذنا بأسباب الصدام مع الغرب ومرة أخرى نعود إلى الناصرية دور ٍ وتسلسل؟ لا احسب أن الوضع يمكن أن يأخذ مساره الصحيح بهذه الطريقة. أنا أحسب أن المنطلق الضروري والصحيح الآن لنا يبدأ بمحاولة تعبئة الشعب بالإنتاج المادي أو الفكري لأن هذا استمرار للفكر الشمولي. الإنتاج الآن يتمثل في الإنتاج العلمي والمعلوماتي، وما يؤدي إلى الازدهار العلمي والمعلوماتي هو الحرية والمقدرة على التواصل. والحرية إن ترجمتها سياسياً لابد أن تبدأ بالبنية الديموقراطية. فالمنطق الصحيح لنهضة أي أمة الآن ينحصر في أن تحقق النموذج الديموقراطي أولاً لكي تستثمر فيه كل طاقاتها وطاقات أبنائها في شروط متكافئة متوازنة عادلة، لا يساء استخدامها بسلطة مطلقة، ولا تـُهدر في حكم شمولي يـُحسن حيناً، ثم بضربة واحدة يفسد كل ما بناه الشعب. إذن سيظل منطلقي دائماً التمسك بالديموقراطية، باعتبارها النقطة الحقيقية لانطلاق الدولة الحديثة بأجهزتها وعقولها الخلاقة المنتجة. مثلاً لدينا عدة ملايين من أذكى وأنضج العقول المصرية نزحت إلى الخارج لأنها لم تجد فرصتها بالعمل والإنتاج في وطنها. لن تهيئ لها مناخاً ملائماً إلا عن طريق الديموقراطية، الذي يجعلها تشارك في إدارة بلادها، وحكمها، وتحقيق طاقاتها الإنتاجية فيها. المنطلق دائماً ليس رغبة الإنتاج يقودنا إليها قائد كالقطيع، لأننا يمكن أن ننتج كثيراً تحت قيادة قائد، ثم في تصرف أحمق يهدر كل ما أنتجناه ويعود بنا إلى نقطة الصفر.لابد أن تكون آلية النظام هي الديموقراطية، وعندئذ علينا أن نقبل شروطها، وشروطها ألا نستثني منها أحداً،ألا نعزل عن المواطنة أحداً لمجرد أننا نختلف معه في الرؤية، علينا أن نتعلم ذلك. وأحسب أننا وصلنا بذلك إلى القناعة التي لن تتغير بالنسبة لي، وهي أن البداية من الديموقراطية، والديموقراطية تعني إتاحة الفرصة لكل قوى المجتمع في أن تعبر عن نفسها وتتفاعل وتتحاور وتعيد صياغة مواقفها بالشروط الصحيحة المستخدمة. أنا أذكر أن الفيلسوف الماركسي "المراجع" كوجيف نقل إلينا شكلاً أكثر وضوحاً لأفكار هيجل عن الـ Thymos الذي هو التقدير، ما يسعى إليه كل إنسان، وذلك في مواجهة التصور الذي يجعل الأولوية للصراع المادي، وربما نتبين الآن أن التناقض بين التصور الهيجلي والتصور الماركسي ليس بالحدة التي كنا نظنه عليها، فالحصول على التقدير والمكانة يتضمن الهيمنة على الأشياء المادية وهذا الكلام الذي تحدثت به يتفق مع الديموقراطية، ويتفق مع التحول التاريخي إلى مجتمع ما بعد الرأسمالية Post-Capitalism مما يؤدي إلى إتاحة الفرصة لكل الناس في أن تدخل معاركها من أجل الوجود، من أجل الكرامة، ومن اجل العزة التي تطمح إليها الناس. لكن أنا أتذكر أن هيجل صور التاريخ مبتدئاً بتصنيفه الناس إلى صنفين، الأول هو السادة والآخرون هم العبيد. العبيد هم الذين قبلوا بالحياة، بالعيش، ولم يفكروا قط أن يضحوا بحياتهم من اجل المجد أو من اجل العزة والكرامة، بينما الأرستقراطيون قبلوا بأن يموتوا من أجل أن يحققوا هدفاً أعلى من حدودهم، وكان هذا هو الأساس الذي اعتبره هيجل منطلقاً للتاريخ الذي دخل فيه فيما بعد طبعا العوامل الاقتصادية التي تحدث عنها ماركس. فسؤالي حول الشعب المصري منذ فجر التاريخ (وقد كتبت هذا في الجزء الأول من الكتاب) كان راضياً بالعيش، وكيف نفسر هذا القبول بالعيش البسيط، والعيش التافه تحت جناح إنسان من الطراز الأرستقراطي، يحكمهم ويحقق لهم هذا السلام الاجتماعي "الخامل" الذي يطلبونه لكي يستقروا على ضفاف النهر ويحققوا إنتاجاً يحتاج بدوره إلى حكومة مركزية قوية مما أظهر فيما بعد فكرة الفرعون الإله! الشعب المصري خلال هذه الحقب التاريخية، كان دائماً مستسلماً للأقدار ومستسلماً لمن يحكمه. الديموقراطية هي تحول هذه النظرة، من نظرة المحكوم الذي يطلب حكماً عادلاً (ليبتلى في أغلب الأحيان بحاكم غير عادل) فيظل هذا الإنسان المصري قابعاً ينتظر النقيض "العادل"، "الأب المخلص"، "جودو" الذي لا يأتي أبداً. لماذا في تصورك لم يسع الشعب المصري منذ فجر التاريخ لما سعى إليه مثلاً الإغريق، بخلقهم نماذج من الديموقراطية المباشرة أو غيرها مما رتب له إرثاً فيما بعد عند أوروبا الحديثة؟ كيف نفسر هذا؟ أنت تنطلق من رؤية جدلية تاريخية مغفلاً أمراً جوهرياً، وهو أننا لسنا الآن بصدد تفسير التاريخ القديم، ليست هذه مشكلتنا، ومع ذلك فأريد أن أجيب عليك في ثلاث نقاط. النقطة الأولى هي أنني لست مثالياً بمعنى أنني لا أؤمن بأن هناك طبيعة ملاصقة وملازمة لأي شعب وأي روح، بل هذا مشروط لكل مرحلة بشروطها المادية والثقافية والاجتماعية والتاريخية. في المراحل التي قَـبل فيها الشعب المصري يفرعون، كان ينشئ أول دولة في التاريخ، بينما كان بقية البشر يعيشون في الكهوف، لم يصلوا إلى تكوين المجتمعات، يلبسون فراء الحيوانات، كانت مصر تقيم إمبراطوريتها وتصنع تاريخها وقوانينها، فكانت في درجة أرقى في سلم البشرية عن الدول الأخرى. لذلك لا يمكن أن ادين هذه المرحلة أو آخذها باعتبارها سبة في التاريخ المصري، كما تحاول أن تشعرني الآن. هذه هي الملاحظة الأولى. الملاحظة الثانية أكررها عليك بأن نموذج الديموقراطية اليونانية لم يكن ديموقراطياً على الإطلاق، كان تنظيم المجتمع الأثيني من الأحرار لاستعباد العبيد، وضعتهم بعد ذلك في مصارعات تعرفها، وفي أعمال تعرفها، وفي جمهوريات مثالية أوثوقراطية طبقية غير إنسانية حتى في الفلسفة. فالفكرة الديموقراطية لم تتبلور في الفكر الإنساني إلا في القرن السابع عشر، ولم توضع موضع التنفيذ إلا ابتداءاً من القرن الثامن عشر. في هذا القرن الثامن عشر بدأ الشعب المصري يفكر في الديموقراطية، وأنشأ أول برلمان قبل الثورة العرابية في مصر في القرن الثامن عشر. معنى ذلك أن هذا الشعب كان سباقاً إلى احتضان الأفكار التي تصنع المستقبل، وتطبق أنضج وأحدث مبادئ إدارة السلطة، لأن المسألة ببساطة أن السلطة لدى كل الشعوب وفي كل العصور كانت تعتمد على القوة والقتل، الحاكم التالي يُـصَفـْيّ جسدياً الحاكم السابق. أحياناً يكون أباه، يكون أخاه، يكون قريبه، يكون سيده دائماً يصفيه ويحل محله، إما الميراث وإما القتل. كانت هاتان هما الوسيلتان الوحيدتان لتولي السلطة في كل الإمبراطوريات ولدى كل الشعوب. ميزة الشعب المصري أن الدماء التي سالت فيه من اجل السلطة على مر التاريخ كانت دائماً أقل، فقد كانت هناك قداسة للسلطة تمنع إراقة الدماء بخلاف الشعوب الأخرى المتوحشة. عندما تمخض الفكر الإنساني عن آلية انتقال السلطة سلمياً، بالرغبة الجماعية عبر الانتخابات المباشرة وغير المباشرة، إلتقطها الشعب المصري وكوّن اول برلمان، وحاول أن يطبقها، وجاءت مرحلة الاحتلال الإنجليزي لتعوق نسبياً هذه الحركة. لكن بالرغم من ذلك تشكلت الأحزاب وبدأت الحياة السياسية في مصر عند أول ثورة شعبية على سلطة الاحتلال عام 1881. يترتب على ذلك أن انتقل إلى النقطة الثالثة، إنني أؤكد أن الشعب المصري كما أعرفه، استشعره وآمن به عن يقين هو من النضج والحكمة والمعرفة بحيث يستطيع أن يحقق هذا النموذج الديموقراطي بغير أن يمثل تاريخه القديم عائقاً دون ذلك، لأن هذا التاريخ القديم مشترك مع كل الشعوب من ناحية، ولأنه كان متفوقاً وأقل دموية فيه من ناحية ثانية، ولأنه أكثر مرونة وطواعية وقدرة على التكيف والصبر والتحمل من غيره من الشعوب التي لا ترتكز على ميراث للحضارة. فميراثنا الحضاري يسعفنا في التجربة الديموقراطية. ولا يمكن أن يكون عائقا دونها. ولكن ألا ترى أن الثورة العرابية التي أشرت إليها قد أحدثت تغييراً حقيقياً في وسائط السلطة ووسائط التعامل بين الشعب وبين الدولة. لأنها كانت تجلياً من تجليات التغيير في البنية التحتية للمجتمع، بداية من ظهور أنماط جديدة للإنتاج في عصر محمد علي مثل إدخال زراعة القطن بقصد تصنيعه.. كل هذا تفسير.. ثم ظهور طبقة من كبار الملاك الزراعيين جراء التغيير في أنماط الإنتاج.. نعم نعم.. اتفق معك في ذلك. هذا لا يناقض مقولتي. طبعاً هو لا يناقض، ولكن يجعلنا نضع أقدامنا على أرض الواقع حينما لا نفكر أن الحياة المعيشية وعلاقة الإنسان بمنتجاته وعلاقته بعيشه.. لابد أن تؤثر على المفاهيم التي تشيع في حياته الفكرية وممارساته السياسية. مع الأخذ في الاعتبار أمر آخر، وهو أن العلاقة بين البنية المادية والبنية الفوقية ليست من طرف واحد على الإطلاق، ولعلك تدرك ذلك، إنما هي علاقة متبادلة. وجدلية وجدلية وبقدر ما تؤثر البنية المادية في منظومة الأفكار والمعتقدات والأيديولوجيات.. تعود تلك لتؤثر في القدرة على الإنتاج المادي، أليس هذا كلاماً علمياً؟ فلماذا إذن نركز على تاريخ الأفكار معزولاً عن السياق التاريخي للاقتصاد؟ أنا لا أعزل هذا عن ذاك ولكن.. دعنا نأخذ نموذجاً يعيدنا إلى الفكرة الدينية، عندما نجد مثلاً الحركة الاستشهادية في مقاومة الاحتلال، لا تستطيع على الإطلاق بمنطق البنية المادية أن تفسرها، وإنما ليس هناك من تفسير لها إلا بالاعتراف بأهمية البنية الفوقية الأيديولوجية في تحديد مصير البنية التحتية. اعترض على تعبير "الاستشهاديين" فهو تعبير في غير محل. اعترض على كيفك ! لماذا؟ لأن هناك نظام "رأسمالي" قوامه المنتجات المتنافسة التي تحتاج إلى أسواق مفتوحة، بينما هناك أناس في أطراف هذا النظام (تحديداً العالم العربي) لا يمكن لهم الانخراط فيه، فهم نموذج كان يعيش في الماضي على ريع الأراضي المفتوحة، واليوم يطالب بنصيب من الريع النفطي، أيديولوجيته هي تاريخه المثقل بما أسميه أنا بـ"نمط الفيء والخراج". المسألة في حقيقتها ليست حرباً دينية، وإنما هؤلاء الناس لا يجدون لهم مكاناً في ساحة الإنتاج والتوزيع العالمي وتقسيم العمل الدولي، ومن هنا فهم يسلكون - دنيوياً وليس دينياً- سلوك المجتمع الذي لا يملك البديل. ومن رحم ذلك التراث غير الإنتاجي تولد أفكار"الجهاد" التي لا تقبل بفكرة أن الثروة مصدرها العمل وليس الرزق الذي يهبط من السماء، أو ينفجر من باطن الأرض بترولاً. لا أعتقد هذا، لا أشاركك هذا الرأي، أنا أرى أن القوى الإنتاجية في العلم والمعلومات والثقافة والإبداع والفكر لدى الشعوب العربية عموماً زاخرة بالثروات الحقيقية، لكنها مهدرة بحكم خضوعها لنظم سياسية جاهلة متخلفة، تهدر طاقات أبنائها ولا تستطيع أن تستثمرها، وأن المنطق الوحيد لها هو تصويب اتجاهات هذه النظم لكي تكون ديموقراطية منتجة.عندئذ ستحيل هذه المجتمعات إلى طاقة خلاقة حقيقية، مثلما تقدمت مجتمعات أخرى وكانت أكثر تخلفاً منها، وأصبحت مساهمة حقيقية في صنع الحضارة المعاصرة. في رأيك أن المجتمع العربي قابل للتغير، أو بالأقل تولد بداخله عوامل للتغير.. نعم .. عظيم، فمن الذي توصي به هذه القوى الجديدة التي تسعى إلى مقرطة المجتمع وإلى تحديثه في نطاق العمل المادي والفكري، كيف تنطلق وبماذا تنصحها أن تفعل؟ أنا لا أملك النصيحة، وفكرة النصيحة والوصية غير جذابة بالنسبة لي، ولكن يمكن.. بماذا تشير؟ أنا أعتقد أن تأصيل القناعة بتنمية الديمقراطية من اجل تقدم طبقات الشعب المختلفة، عبر وسائل التعليم والإعلام والإبداع الفكري والثقافي هي رسالة ينبغي ألا نتوانى لحظة عنها، هذه القناعة لا يكفي أن تكون هناك عشرات المثقفين يؤمنون بها، بينما لا يدرك بقية أبناء الشعب أهميتها. في تقديري يتطلب الأمر من كل قادة الفكر والمبدعين والمثقفين وأصحاب الرأي أن يثبتوا هذا الإيمان باعتباره رسالة وطنية وحضارية في مجتمعهم. إن الديمقراطية ليست تحقيقاً لمكاسب سريعة لوظيفة أفضل، ودخل أحسن، ومدرسة أرقى، ومستشفى أصح فحسب، وإنما هي الوسيلة الوحيدة ولا بديل لها لوضع طاقة مجتمع بكامله على الطريق الصحيح للتقدم والرخاء والتنمية. إذا كان الإيمان، فأنا أتمنى أن يتحول هذا الإيمان إلى أيديولوجية،ـ إلى عقيدة إلى مبدأ. لا أقرأ كتاباً إلا وطالعته، لا أطالع ديواناً من الشعر إلا أضاء علي بنوره، لا أقرأ رواية إلا وجدته فيها، لا أستمع إلى متحدث إلا ولمست نبرة إيمان بمثل هذا المبدأ .أعتقد أن ذلك هو السبيل الحقيقي لحشد كل الطاقات وتهيئة الظروف الضرورية لاستكمال الميلاد الديمقراطي الذي نخوض من اجله مخاضاً عسيراً ومتعسراً منذ عدة عقود. لاشك أن هناك تعديلاً قادماً بالمادة 76 المعدلة، فإذا حدث هذا، هل فكرت في أ؟ن ترشح نفسك لرئاسة الجمهورية القادمة؟ بالطبع لا، ولا أحسب أنني من الحمق بحيث أصنع ذلك، أولاً لأنني لست رجلاً سياسياً من أي نوع، لكنني أدعو كل لحظة إلى ألا يتم ذلك بتعديل المادة 76، بل إلى برنامج متكامل يمكن أن أوجزه في عدة نقاط. النقطة الأولى أنه لابد من التغيير الجذري في الدستور بحيث يتحول من دستور سلطوي إلى دستور ديموقراطي تعددي يسمح بحرية تشكيل الأحزاب دون أي قيود. تحديد مدد انتخاب رئيس الجمهورية بمرتين على الأكثر لمنع التخليد ودكتاتوريات السلطة. حرية إصدار الصحف، وتجاوز المراحل التاريخية السابقة، سريان التيار الديموقراطي من هرم السلطة إلى القاعدة، بحيث تكون كل تشكيلات الدولة، ابتداء من المجالس المدنية المحلية، إلى مجالس الإدارات ومجالس الجامعات كلها بالانتخابات الحر المباشر. تفعيل محاسبة المسؤولين ومعاقبتهم. منع الاحتكارات والفساد. تحول الدولة إلى دولة ديموقراطية حقيقية تتوزع فيها السلطة على المراحل الثلاث دون جور لمستوى على سلطة أخرى، بالنموذج المعهود والمعتد به في كل دول العالم المتقدمة. واكتفي بهذا القدر.
غير أنني لم اكتف طبعا بهذا القدر، وعلى العكس تخذته منطلقاً إلى رحلة في الأعماق، إضاءة للجذور الفلسفية والفكرية التي أنتجت كل هذه الثمار الشائقة (والشائكة أيضاً) وذلك عبر أدوات الحفر الملائمة لهذا المفكر العملاق، وأعني بها أدوات وآليات النقد الأدبي. وفي العدد القادم ننشر حصيلة هذه الرحلة المثيرة.
#مهدى_بندق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوارات مهدى بندق -2 - مع السيد ياسين
-
والدولة أيضاً محاصرة في مصر
-
حوارات مهدي بندق - 1 - مع جابر عصفور
-
البلطة والسنبلة -5- المصريون واشارات الخروج من الحصار
-
ريا وسكينة بين صلاح عيسى وميشيل فوكوه
-
البرهان الثقافي على المسألة الإقتصادية
-
قصيدة أُقَلِّبُ الإسكندرية على أجنابها
-
تفسير غير تآمري للتعديلات الدستورية المصرية
-
إضراب عن الماء
-
الإخوان -المسلمين- وغيرهم ثقافة مُحاصَرة ومحاصِرة
-
* المدربون
-
*قصيدة الكمائن
-
مصر وثقافة الحصار
-
البلطة والسنبلة - هل المريون عرب
-
ثقافة الإرهاب تمهد لضرب الوحدة الوطنية
-
*نورا العربية لا تغادر بيت الدمية
-
*الطابع المزدوج للثقافتين الأوروبية والعربية
-
*الشعر يمحو باليد الأخرى
-
إعدام الشاعر عماد الدين النسيمي
-
مسرح شعري في مصر الفرعونية ؟!-الفصل الثاني
المزيد.....
-
آخر ضحايا فيضانات فالنسيا.. عاملٌ يلقى حتفه في انهيار سقف مد
...
-
الإمارات تعلن توقيف 3 مشتبه بهم بقتل حاخام إسرائيلي مولدافي
...
-
فضيحة التسريبات.. هل تطيح بنتنياهو؟
-
آثار الدمار في بتاح تكفا إثر هجمات صاروخية لـ-حزب الله-
-
حكومة مولدوفا تؤكد أنها ستناقش مع -غازبروم- مسألة إمداد بردن
...
-
مصر.. انهيار جبل صخري والبحث جار عن مفقودين
-
رئيس الوزراء الأردني يزور رجال الأمن المصابين في إطلاق النار
...
-
وسيلة جديدة لمكافحة الدرونات.. روسيا تقوم بتحديث منظومة مدفع
...
-
-أونروا-: إمدادات الغذاء التي تدخل غزة لا تلبي 6% من حاجة ال
...
-
رومانيا: رئيس الوزراء المؤيد لأوروبا يتصدر الدورة الأولى من
...
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|