|
أهل القصر وأهل الكهف.
نور الدين بدران
الحوار المتمدن-العدد: 1914 - 2007 / 5 / 13 - 14:57
المحور:
كتابات ساخرة
(!) بعد إخفاقي في إيجاد عمل يسد مصاريف الأغذية والسموم، رغم تقليص المشتريات وعصر النفقات لجهة سلع عزيزة منها الصحيفة والكتاب. تالياً، بعد إخفاقي في إيجاد حل لأقساط شقة مساحتها ثمانون متراً مربعاً في حي شعبي جداً، مرهونة منذ العام 1995 وستبقى حتى العام 2010 للبنك العقاري السوري، وكل شتاء يحتل سقفها الدلف والنش وتأكل الرطوبة الحيطان والأبواب. إذا بقيت حياً، أكون تجاوزت الخمسين، وتكون الشقة بدأت تأخذ شكل القبر. أما على صعيد الشأن العام فالأحلام ذبلت في أصيص الشباب، وتبينت أنها أوهام أحق منها السراب، وولت الأوزان والقوافي والأغاني في رحلة تشرد وهيام وعذاب وهروب ونفي وشوق وعودة وخدمة علم متهدل مازال في القلب رغم أسراب وطوابير حشرات وذباب، و تسديد ضرائب عمياء لجيوب هاربين من أدناها، وابتلاع إهانات للعلم والتاريخ والفنون والآثار والحب والأحباب، وتبخر آخر قطرة أمل لدى الشيوخ والأولاد، وإعلانات صريحة بالاشمئزاز والتقزز حتى الغثيان من مفاوضات ومقاومات وأحزاب آلهة وحروب شياطين وسلام خادع كذاب، ومعارضات أشبه بسلطاتها، وإعلانات عواصم مختلفة الألوان من عاربين ومستعربين وأعراب. بعد يأس لا يقبل استئنافا وخراب ليس له أفق في كل ما يجري على الطاولة الخضراء، وما يطير فوقها وينساب تحتها ويتسلل في أنفاقها التي نخر السوس أحشاءها بألف دهليز وسرداب. بعد التي واللتيا هربتُ، وكنت طوال الطريق أقول لنفسي:"أيها الغبي تمضي من الحضارة إلى البداوة، من تحت الدلف إلى تحت المزراب"....ثم أعزي النفس :" ربما لا يجبرك على المر إلا الأمر". (2) بعد أيام قليلة من وصولي إلى الصحراء والهجير والرمضاء .....إلى آخر ما تستوعب تلك البلاد من هذه الأسماء والصفات والألقاب....فوجئت بأنه لا وجود لدلف ولا لمزراب. البدوي في شقة مكيفة مؤثثة بأحدث المفروشات،يقود سيارة يحلم أكبر لص أو وزير (هل الفرق دائما موجود؟) أن تجلس فيها إلى جانبه خليلة من خواصه. البدوي ينعم بأوتوسترادات كأنها لم تنشأ للحاضر فقط وإنما لمستقبل بعيد وضاء، تخترق مئات الكيلومترات في قلب الصحراء،"لمدن" سيتم إنشاؤها بعد شهور أو سنوات. تلك البوادر السكنية المتواضعة مساحة وكثافة سكانية يطلق عليها أسماء كبيرة كمحافظة أو ما شابه، مثلا محافظة خيبر التي أقيم فيها لا يتجاوز عدد بشرها خمسة عشر ألف نسمة.... البدوي في أقصى البقع، يقف أمام الصراف الآلي، يدفع فواتير الهاتف الثابت والنقال وفواتير الكهرباء (مياه الاستعمال تصل البيوت مجانا) خلال ثوان دون أن ينزل من سيارته، فمعظم الصرافات الآلية منتشرة بكثرة ومصممة لتكون بمتناول السائق الذي يكفي أن يمد يده من نافذته ليجري عملياته ويمضي، فتتقدم السيارة التي وراءه، هذا إذا وجدت، وهكذا. البدوي يدخل المستشفى ويخرج منه مهما كانت الخدمات والأدوية والعمليات الجراحية والمدة دون أن يدفع ريالاً واحداً، وهو دائماً على حق والجميع في خدمته، الأطباء من جميع الاختصاصات، أما الأجهزة المتوفرة فهي حديثة جداً، بعضها تطلب من أطباء مهرة سوريين وغير سوريين، أن يقوموا بدورات خاصة للتعامل معها.لقد قامت زوجتي(طبيبة أطفال) بدورة لمدة شهر للتعامل مع أجهزة إنعاش الوليد وأجهزة التنفس الصناعي . البدوي يبلغ الثامنة عشرة من عمره، فيحصل على قطعة أرض لا تقل مساحتها عن 600 متر مربع جاهزة للعمران في أية مدينة يختارها في وطنه، وكي يبدأ البناء، يحصل على قرض بمائتي ألف ريال (نحو خمسة وخمسين ألف دولار) دون فوائد طبعا، وبتقسيط مريح جدا على راتبه، هذا البناء يمكنه أن يكون استثمارا بجزء ضئيل منه، يمكنه تسديد القرض كله في مدة قصيرة، لكن معظم المقترضين يتخلفون عمداً عن السداد،لأنهم ينتظرون المكرمات الملكية وهي كثيرة ومن ضمنها العفو الشامل عن عقوبات كثيرة كالسجن والقروض كلها أحياناً أو ما تبقى منها على الأقل. البدوي راتبه الشهري مهما كانت درجته تعادل أعلى رواتب معظم الخبراء الأجانب، بالطبع ليس في جميع المجالات، لكن كمثال فقط:راتب الممرض السعودي نحو سبعة آلاف ريال وراتب طبيب جراح اختصاصي سوري/مصري/باكستاني/هندي.........إلخ نحو خمسة آلاف وخمسمائة ريال، في المستشفى نفسه. الراتب أو الدخل عموما أعلى بكثير من الأسعار، رغم ارتفاع الأسعار في السنتين الأخيرتين، لكن راتباً واحداً يكفي لشراء سيارة عادية، راتبان يشتريان سيارة جيدة، ثلاثة رواتب تشتري سيارة ممتازة، أكثر من ذلك فخمة وفارهة، وكل شيء نسبي، فالسيارة العادية في السعودية هي فخمة في سوريا مثلا. البدوي يدفع ثمن اتصالاته الهاتفية على الثواني، لا يتعرض للصوصية التي تحتسب الثانية دقيقة. البدوي لا يدفع مخالفة سير لم يوقع عليها،لأن الشرطي البدوي يوقف السيارة المخالفة، يكلم سائقها باحترام، يوضح له مخالفته، يعطيه ورقة المخالفة، يذهب السائق البدوي إلى الصراف الآلي ليدفعها. كذلك جميع معاملاته مع المرور والجوازات وغيرها عبر الصراف الآلي أو حتى من بيته عبر الانترنيت. البدوي من راتبه يمكنه أن يأخذ عائلته للاصطياف في البلدان المجاورة، بما فيها بلدان آسيا وبعضهم يصلون أوروبا وأمريكا. معرض جدة للكتاب، كان الرابع أو الخامس من حيث الضخامة والأهمية تنوعا في دور النشر والمنشورات بين المعارض العربية، لناحية البيع والعرض والتنظيم، ولكن المعارض التي سبقته كانت عند البدو أيضا (في أبو ظبي والكويت والرياض ومسقط) أما معارض الحضر والحضارة كالقاهرة ودمشق والجزائر وحتى بيروت فلا أذن تسمع ولا قلب يوجع. في الصحافة وفي جميع وسائل الإعلام السعودية تدور حوارات شفافة حول مسائل كان الحديث فيها يعتبر محرماً، لكن شيئاً فشيئاً يكتشف السعوديون أن كثيراً مما ألصق بالدين الإسلامي من الداخل والخارج لا علاقة له بروح الإسلام وبجوهره، ولم يكن هذا الاكتشاف مجانياً، لقد دفعوا ومازالوا يدفعون ثمن التطور والتغير كجميع شعوب الأرض. ليست القضية في غنى البلد أو فقره فقط، رغم أهمية ذلك، فسوريا مثلاً من أغنى الدول العربية، ورؤوس الأموال السورية في الداخل والخارج كفيلة بجعل المواطن السوري يتمتع بحالة محترمة وبحياة كريمة، لكن الجانب الأهم في الرؤية السياسية والمعرفية لروح العصر ومنحى التطور العالمي، وهنا الفرق الجوهري بين البداوة والحضارة، بين الماضوية والحداثة. في الخليج ينزعون البداوة، بسرعة وبراعة كما في الإمارات العربية المتحدة، وببطء كما في السعودية، حيث بدأت التغييرات من فوق، رغم أن الممانعة من تحت ومن فوق على حد سواء، لكن الملك عبد الله أثبت أنه صاحب رؤية وكلمة وعزيمة ورغم كل الصعوبات وأخطرها الجماعات الإرهابية العسكرية والإيديولوجية والتخلف المزمن والتزمت في القاع الاجتماعي، ورغم الفترة القصيرة من توليه زمام الحكم. الأمور نسبية، شخصياً لست معجبا بأي نظام عربي من المحيط إلى الخليج، ولكن ثمة فرق بين بلد يتقدم وآخر يتراجع (معدل دخل الفرد في سوريا في العام 1970 كان كمتوسط دخل الفرد في اليابان في العام نفسه...صدق او راجع المراجع المختصة،ولا عجب فسوريا في العام 1947 كانت عضواً في منظمة التجارة العالمية...الخ) ثمة فرق بين بلد يستقطب الأطباء والمهندسين وغيرهم من التكنوقراط والمبدعين من شتى دول العالم، ويمنحهم الأمان وحتى الجنسية، وبلد يقتل ويسجن مبدعيه ويجبر تقنييه وفنييه وحتى عماله على الهجرة، كما يحافظ على قوانين وأجهزة لا تعطي هامش أمان لرأسماله الوطني للتنفس في الداخل أو للعودة من الخارج. (3) في إجازة قصيرة إلى سوريا، التقيت في أحد المآتم بعضاً من رفاق الأمس، أعتقد أننا لا نلتقي إلا في هذه المناسبات، على هامش الحزن سخر مني أحد المناضلين:"كيف ملككم؟"قلت له:"الناس في ملكه مرتاحون مواطنين ومقيمين، وأنت كيف ملككم؟"...ابتسم وحين بدأ يرد أغلقت أذني... مناضل آخر :"هذه آخرتك بالسعودية؟"...أجبته: نعم وبكل سرور...وأنت أين آخرتك؟..أجابني :عند فلان... وفلان هذا بدأ حياته بعثياً عراقياً ثم تخرج في أحد التنظيمات اليسارية كمهندس ومتعهد صغير، لا أعرف إذا كان كبر بعد المستجدات الأخيرة عليه وعلى تنظيمه السابق. هذان المناضلان اعتقلا في ثمانينيات القرن الماضي ولم يغادرا ذلك الزمن. صديقي الراحل الشاعر الكبير رياض الصالح الحسين، قدم لي مخطوطة وقال لي : "خذ، هذه سأنشرها قريباً"وذهب ليعد لنا شراباً. كان عنوان المخطوطة :"أساطير يومية"..........توقفت عند العنوان طويلا...لأول مرة يومئذ تنبهت إلى يومية الأساطير....في هذا المأتم ترحمت على الفقيد وعلى الشاعر الكبير والصديق الغالي...لقد ذكرني به المناضلان البارزان في جماعة أهل الكهف....
نور الدين بدران
#نور_الدين_بدران (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما لا تطول عصور
-
حين يلامس صوتك.....
-
حماقة الانتظار
-
تجاوز إحباطي المحيط
-
بعد انثقاب القربة
-
بلاد الموت أوطاني...
-
أكثر من حياة
-
أيلول انتصف....
-
غابة السراب
-
سفارات الرغبات
-
شلّالاتُ الرّماد
-
منعطف المصادفة
-
......والوقتُ كان رملاً
-
حالة طارئة
-
ثقب أسود
-
منافٍ متشوّفة
-
بين ظلامين
-
لمعة تعريف
-
أرجوحة السعادة
-
ترافقين روحي كمصباح
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط
/ سامى لبيب
-
وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4)
...
/ غياث المرزوق
-
التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت
/ محمد فشفاشي
-
سَلَامُ ليَـــــالِيك
/ مزوار محمد سعيد
-
سور الأزبكية : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
مقامات الكيلاني
/ ماجد هاشم كيلاني
-
االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب
/ سامي عبدالعال
-
تخاريف
/ أيمن زهري
-
البنطلون لأ
/ خالد ابوعليو
-
مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل
/ نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم
المزيد.....
|