|
حوارات مهدي بندق - 1 - مع جابر عصفور
مهدي بندق
الحوار المتمدن-العدد: 1913 - 2007 / 5 / 12 - 13:45
المحور:
مقابلات و حوارات
حوار المُثقِف العضوي للعديد من الناس أن يدبجوا المقالات في مدح الديموقراطية، وللجامعيين أن يتقدموا بأطروحات عنها في دراساتهم العليا، وللمفكرين أن ينشروا دراسات تتناول فلسفتها، وشروطها، سواء في الكتب أو في المؤتمرات العلمية. وهذا جميعاً مفهوم بالنظر إلى أن الديموقراطية قد غدت مطلوب العصر ونشدتُهُ. بيد أن أحداً -ربما- لم يلتفت إلى إشكالية الكتابة عن الديموقراطية (بله دريدا الذي تناول إشكالية الكتابة بوجه عام) فالكتابة إملاء Dictation، وهي في جانب منها تأكيد للتراتبية المندمجة في هياكل مجتمعات ما قبل التاريخ الإنساني، التي نعيش فيها حتى الآن: المجتمع الطبقي (مستغِـلٌ ومستغـَل)، المجتمع الذكوري (رجل وامرأة)، المجتمع الثقافي (كاتب وقارئ). وبما أن الأخير في سياقنا هذا هو أحد تمظهرات التراتبية Hierarchy، فالكاتب لا مندوحة أمامه من أن يغدو ديكتاتوراً، بمعنى انه يملي أفكاره عن الديموقراطية على قارئ، مفروض فيه أن يتعلم من (=يذعن لـ..) الكاتب الخبير العليم، وريث اللورد والكاهن والشاعر المتنبئ. فكيف يُنتظر من هذا الكاتب الديكتاتور -بطبيعته الكتابية- أن يمارس الديموقراطية (=المساواة بينه وبين القارئ) في ظل هذا المجتمع الثقافي التراتبي؟ تلك هي الإشكالية Problematic التي لا تجد لها حلاً، إلا بإعمال التفكيك Deconstruction في كافة النصوص، بما فيها النص الذي أكتبه أنا الآن، وتقرأه أنت أيضاً في هذه اللحظة! حيث الإشكالية -كما يقول أرسطو- هي العقبة ووسيلة تخطيها في آن. وليس مثل التفكيك وسيلة لتخطي العقبة، سيما إذا كانت زائفة. وينطرح السؤال عن دواعي التفكيك على قاعدة الاحتجاج "الفطري" إزاء معطيات التاريخ الماثل أمامنا، منذ تأسس الاقتصاد على مبدأ الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج (الزراعة وما بعدها) ومنذ تأسست الفلسفة -بالتوازي- على التسليم الانطولوجي بالحضور في هذا العــالم باعتباره مجلى من تجليات الضرورة Necessity، وليس بوصفه أمراً عارضاً، كان ممكناً له ألا يحدث، أو كان ممكناً لغيره أن يوجد بدلاً منه، حيث تؤكد ظاهرة الموت اقتران الحضور بالغياب، الأمر الذي يستدعي تفكيك الظاهرة من جانبيها. فالتفكيك يقدم أوراق اعتماده لمملكة العقل فور ظهور تناقض النص (والوجود أيضاً نص) مع ذاته. أردت أن يكون هذا "الهم الوجودي" مدخلاً للحوار مع المثقِف العضوي الأستاذ الدكتور جابر عصفور -بوصفه المُــنـَـظرَ العضوي لتركيبة المجتمع الما بعد البرجوازيPost-Bourgeoisie Society، والذي يعود إليه الفضل في تنبيه حياتنا الثقافية إلى ضرورة إخضاع كل شيء للمسائلة، بما في ذلك العقل المتسائل ذاته. وفي السياق الديموقراطي يستحيل على كاتب هذه السطور أن يتخذ الموقف "التراتبي" بوصفه كاتباً مع الأستاذ بوصفه قارئاً، لسببين: أولهما إقرار الكاتب بأستاذية الدكتور جابر، وثانيهما: الرغبة الحارقة في الانعتاق من التراتبية، ولو كانت شكلية ومؤقتة. وعلى هذا، فلسوف تصبح كتابة هذه السطور الحوارية، بمثابة الدعوة إلى ممارسة نوع جديد من الكتابة المشتركة، لا بالمعنى التقني حسب، بل وأيضاً بالمعنى الفلسفي المتطلع إلى تغيير العالم وليس إلى مجرد تفسيره. فهل يرى مثقِفنا العضوي أن هذا المدخل مناسب، وصالح لانبثاق قضايا ذات طابع استراتيجي نصي جديد؟ بعبارة أخرى.. كيف يمكن - ومن أين- لنا أن نبدأ حيث لا بداية يطمأن إليها؛ ولا أصل يمكن الانطلاق منه نحو غايتنا المنشودة: الديموقراطية. بالتأكيد الكتابة عن الديموقراطية -بوصفها المفهوم الأكثر شيوعاً في هذه الأيام- تنطوي على نقيضها، في الوقت الذي تشير فيه إلى نوع من الانقسام العملي الذي يتحول إلى ثنائية ضدية تفصل بين الشعار النظري والممارسة التطبيقية، أو بين المعلن وما يدخل من هذا المعلن حيز التطبيق. ولا شك أن انطواء الكتابة عن الديموقراطية على نقيضها- وهو البعد الأول من الإشكالية- يرجع إلى أن الكتابة "إملاء" و "تلقين". وهي -من هذا المنظور التفكيكي- تعلن في حالات كثيرة غير ما تبطن، وتبين بالعمى عن البصيرة -إذا استخدمنا لغة بول دي مان- في كتابه الشهير الذي يحمل العنوان نفسه. ويتضح ذلك حين نضع في اعتبارنا أن الذات الفاعلة للكتابة تدخل في علاقة تراتب مع كل من المكتوب عنه، والمكتوب إليه، وعلاقة التراتب تفرض طرفاً أعلى يواجه طرفا ً أدنى، وهو الأمر الذي يتضمن معاني نقيضة لمبدأ المساواة التي لا تخلو منها مدلولات الديموقراطية، أعني المدلولات التي تنقضها أو ترجئها عملية التراتب التي تعلو بالكاتب إلى الدرجة التي يغدو بها الفاعل الأوحد، الخالق الأعظم، المرسل الذي لا شريك له في توجيه رسالة إلى من هو دونه، عبر وسيط، هو الضرورة مفعول له ومنفعل به، وكلاهما وضع يُدني بالطرفين -المكتوب عنه والمكتوب إليه إلى حال من الاتحاد الذي لا يفارق معنى الإملاء في الكتابة، ومعنى الاستجابة التي لا تخلو من عناصر سلبية- حتى لو كانت غير مباشرة -عند كل من الوسيط الذي هو تجسيد الرسالة والمتلقي الذي يستقبل الرسالة، وينصاع إليها بأكثر من معنى. وهو موقف لا يؤكد أن الكتابة عن الديموقراطية لا تنطوي على نقيضها فحسب، بل يقرن هذا النقيض بنوع جديد من المركزية التي هي علة وجوده، هي مركزية الكتاب- المؤلف- الخالق الذي يتجسد فيه بعد آخر من مركزية اللوجوس أو مركزية العلة الأولى التي تتولد عنها كل المعلومات. كيف إذن نواجه هذه الإشكالية على مستوى البراكسس؟ بما أؤكده دوماً، وألح عليه في كتاباتي. أعني فعل المسائلة الذي ينتقل بمدى المسائلة من الموضوع إلى الذات، ويتحرك من موضوع الكتابة إلى فاعلها، (وقد أشرت أنت إلى ذلك في مقدمتك لهذا الحوار) وذلك على نحو يجعل الشك مناظراً للتصديق وحاكماً له، كما يجعل الكتابة ضد نفسها من حيث هي كتابة، أي من حيث هي سؤال مفتوح ينعكس على نفسه وعلى موضوعه ويشمل الذات التي تتلقى هذا الموضوع من منظور المسائلة التي تتجاوب فاعليتها -في هذا الموقف- ما بين ثلاثة أطراف، تتحرك بينها المسائلة جيئة وذهوبا، غياباً وحضوراً. حتى لو أدى هذا إلى نوع من القطيعة المعرفية بالمعنى الذي أشار إليه جاستون باشلار؟ هو ذاك، وأحسبني من هذا المنظور، جعلت فهمي للحداثة -وما بعدها- قريناً بعلاقتها بعملية المسائلة، وذلك من حيث هي عنصر تكوين، ينطوي عليه الفعل المحدث الذي هو فعل نقضي، لا يخلو من معنى الانقطاع، فالإحداث يعني الخروج على ما أصبح مألوفاً، معتاداً، تقليداً، وذلك عبر فعل المسائلة الذي تضع به الذات العارفة نفسها وموضوعها موضع المسائلة في الوقت نفسه، وذلك في المدى الذي يضع ناتج المسائلة في العملية نفسها إلى ما لا نهاية. وهذا ما أعنيه بان الموقف الحداثي لا يفترق جذرياً عن الموقف ما بعد الحداثي -من حيث توليده للسؤال الذي لا يكف عن توليد غيره إلى ما لا نهاية، حيث لا مطلقات ولا أحكام نهائية، ولا مدارات مغلقة للمعرفة، بل فضاءات مفتوحة على كل شيء، يتحرك فيها كل شيء، ويذوب فيها كل ما هو صلب ليغدو هواء، إذا استخدمنا عبارة ماركس التي جعلها مارشال بيرمان عنوان لكتابه عن جدلية الحداثة والتحديث الذي ترجمت فصله الاستهلالي، اقتناعاً مني بصحة المقولة التي ينطوي عليها. وهي المقولة التي تجعل الذات المحدثة في مواجهة موضوعها، وضد أدوات إنتاج المعرفة، وعلاقاتها، في زمن وجودها الذي هو صيرورة المسائلة، ومن ثم زمن التثوير الدائم لعلاقات المعرفة وأدوات إنتاجها في التركيب الجدلي، الذي لا يكف عن معاودة الفعل نفسه فيما هو متصل به أو متجه إليه. فما الذي يترتب عليه منسوباً إلى تقنيات الكتابة باعتبارها مجلى للفعل الإبداعي أدبا ً ونقداً، يترتب على ذلك وجود كتابة تنفي عن نفسها التراتب بالمسائلة المستمرة لحضورها، ووجود مسائلة تتسرب إلى كل علاقات إنتاج المعرفة وأدواتها التي تتمرد عليها الكتابة، في فعل مسائلتها، فتعيد إنتاجها في كل حدث من أحداث الكتابة. ويقترن وجود هذا النوع من الكتابة بغياب المؤلف -السيد- الفرد الأكبر أو الأسمى، الفحل الذي يتميز على الحقاق، ويحل محله ما أسماه أورلاند رولان بارت "موت المؤلف" الذي يعني حياة القارئ، كما يعني تحول الكتابة إلى شبكة هائلة من المتناصات التي لا يمكن انغلاقها في مدى واحد، أو اتجاه وحيد، فتظل حمالة أوجه لا تنتهي، المنطوق منها يومئ دائماً إلى المسكوت عنه، والمسكوت عنه يتمرد وراء الأسطح التي تكبحه، فيدعو القارئ إلى إطلاق سراحه، كي تمارس دواله مراحها الحر الذي هو نقيض أحادية الدلالة وواحدية المدلول، فيغدو أشبه بالفن الذي جعله أرنست فيشر نقيض الأيديولوجيا، موازيا ً لتوتر اللحظة التي تتمرد فيها الذات العارفة على أدوات إنتاج المعرفة في زمنها، وتتأبى على علاقاتها، ساعية إلى تغيير كل شيء. ويلزم عن ذلك أن يصبح النقد أفعالاً حرة من القراءة، لا فضل لفعل منها على غيره، ولا ميزة، ما ظلت كلها تدخل إلى النص من أي زاوية تشاء، كاشفة عن تفاعلات الحضور والغياب، وعن التوترات والصراعات التي لا يمكن أن تسجل النص في معنى واحد وحيد. بما يشبه حوارنا هذا الآن؟ بالضبط، وإذا كان باختين قد تحدث عن "الحوارية" بوصفها الصفة الملازمة للعمل البوليفيني الذي لا تختزله نغمة واحدة، ولا يحصره تفسير يتيم، أو تأويل وحيد، فإن الحوارية، من منظور البوليفينية هي قرينة الكرنفالية التي تنقض التراتب بين الفئات والطبقات والمراتب، والنقاد والقراء والنصوص في حالتنا التي نسعى فيها إلى الديموقراطية الحقة التي تظل نسبية، لا تعرف الصحة بل السلامة، وتقترن سلامتها بشرط استمرارها وحضورها من حيث هي الفعل الخلاق للحرية في كل مجالاتها التي تنقض شروط الضرورة بكل معانيها. أقصد إلى الفعل الذي يمتزج فيه، وينصهر من خلاله، الخيال والحدث والعقل والاستنباط والاستنتاج والاستقراء في مدى المسائلة التي أسميها نقداً أدبياً، أو قراءة إبداعية موازية للنصوص الإبداعية في الحضور المتمرد على التراتب، الخنوع، الإذعان، الاتباع، التخلف، التقليد، الثبات. ما دمنا قد قبلنا بالغوص في أعماق المياه الفكرية المتلاطمة المضطربة، حيث الإصرار على استكناه طبيعة الوجود، وأداة الاتصال به (=اللغة) والعقل المتصل ذاته (=المفكر) في آن. فلا مندوحة من أن نصل بالمغامرة إلى حدها الأقصى. في الأعماق نكتشف إننا نحيا على تخوم حضارة جديدة.. الصورة Image أوضح تجلياتها. وأنا لا أعني بالصورة هذا الاندياح المعرفي، الاخباري، الاتصالاتي، غير المسبوق في تاريخ البشر. تلك هي النظرة السطحية للأمر. أما ما أقصده فأبعد بكثير من هذا. أنا لا أقصد انكشاف الفيزياء عن مادة Matter لا تني تتحلل إلى طاقة غير حبيسة في شكل. بيد أن هذه الطاقة -بخلاف ما كانت تراها فيزياء القرن التاسع عشر- قابلة للفناء بفضل التشتت الانتروبي Entropy مما يحيل كل وجود، في النهاية، إلى مجرد تصورات ذهنية لا أول لها ولا آخر... تصورات، صور، تمثيلات لتمثيل، حتى ليغدو الواقع الخائلي Virtual Reality ذا حضور أكثف من حضور الواقع المعيش. كيف يمكن للفلسفة، وللنظرية الأدبية بالتوازي، أن تحدد موقعها على خارطة الابستمولوجيا المعاصرة دون أن تقع فريسة للتبعية، وفي نفس الوقت دون أن تنعزل عن مسيرة العلم؟ وهل يعني ذلك -في التحليل الأخير- أن فرانسوا ليوتار كان محقاً في الدعوة إلى نهج جديد للتعليم، يختلف كل الاختلاف عن نظريات جان جاك روسو، ووليم جيمس، وجون ديوي؟ وإذا صح أن نستبدل بالمحكيات الكبرى Master Récite إنشاء عوالم صغرى لا تتسع إلا لجسدي، ولغرفتي الخاصة، ولجهاز حاسوبي، مستغنياً عن نقابتي، وحزبي، وانتماءاتي القومية، فهل ليمكن لي أن أسهم في بناء حضارة المستقبل؟ أم أكون بذلك عنصر هدم وتفكيك ونقض للكائن المسمى Homo-sapience مع ملاحظة أن اختيار "ليوتار" واقعي تماماً، ويحدث بالفعل كل يوم بينما التمسك بالمحكيات الكبرى (الاشتراكية- التحرر الوطني- بناء الدولة القومية على أسس علمانية ديموقراطية.. الخ) لا يزال يفر من بين الأيدي، كما فرت فرس سابقتها الريح، فألقت في يد الريح الترابا؟ لنبدأ من الصفة التي شاعت والتي تجعل من عصرنا "عصر الصورة" بأوسع وأشمل وأعقد دلالات هذه الصفة، خصوصاً ما يقترن بها من فرضيات يتمثل أهمها في أننا ننتقل من عصر السرديات الكبرى إلى عصر التشظي والتجزؤ والتشيئ إلى آخره. وأنا أوافق مبدئياً على أننا نعيش في عصر من التشظي والتجزؤ والتشيىء. لكن هل انتهى زمن السرديات الكبرى؟ هذا ما لم أقتنع به بعد، وما لا يزال الواقع من حولنا -على امتداد الكرة الأرضية- يأتينا بشواهد على نقض هذه المقولة التي شاعت وسادت وتمكنت. بالتأكيد حصل هناك تغير جذري في بنية السرديات الكبرى، من حيث خصائصها الشكلية على الأقل. ولكنها من حيث هي وظائف لا تزال قائمة، متوازية متجاورة حيناً متضادة متصارعة في أحيان أخرى. وما حدث لها -في تقديري- هو نوع من الولادة الجديدة، أو حتى التغير الجذري الذي يبقى على الوظيفة، لكن مع تغيير ما عداها أو ما يلزم عن غيرها من أشكال الخطاب وتركيباته أو أبستيماته السائدة -إذا سمحت لنفسي أن أستعير هذه الصفة من فوكو- ولذلك تظل الأحلام الكبرى المرتبطة بالحرية والعدل قائمة، والرغبة الإنسانية المتجددة في مجاوزة شروط بالضرورة باقية. وأضيف إليها الدافع الحيوي للمسائلة، من حيث هي فعل نقدي لا يقبل المطلقات ولا الأنظمة الشمولية ولا الأنساق المغلقة. وهو فعل خلاق يؤدي دوره في تحويل المطلق إلى نسبي، والأنظمة الشمولية إلي أنظمه تبني علي التنوع الخلاق والتعدد البناء. ويفتح الأنساق المغلقة علي متغيرات الواقع, خصوصا في ثوراته التكنولوجية, وعلي رأسها ثوره الاتصالات غير المسبوقة التي أحالت الكوكب الأرضي بالفعل إلى قرية كونية صغيرة- إذا استعرنا الوصف الشهير الذي اصبح متكررا في السنوات الأخيرة كأنك تري في الأفق محكيات كبري جديدة؟ هي تجليات جديده للسرديات القديمة. الأصولية الدينية التي ينطوي عليها خطاب النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة توازي نقيضها المشابه لها -في التحليل النهائي- من حيث آلية الحركة، والعلاقات بين المكونات الوظيفية التي تحيل التباعد، المتناقض ظاهرياً، إلى تماثل. ولذلك فأنا أعد الأصولية الدينية التي تتجسد في خطاب ومواقف النخبة الأمريكية الحاكمة الوجه الآخر والوجه الموازي للأصولية الدينية التي يعد أسامة بن لادن والظواهري وأمثالهما أبرز أعلامها. وكلا الأصوليتين لا تزال تتصارع في فرض الهيمنة على الملايين المهددة لها. ولا عبرة هنا بالشعارات فارغة المحتوى التي ترفعها الأصولية الأمريكية عن الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان، فهي شعارات أشبه بالظرف الخالي -إذا استخدمت لغة الوضعية المنطقية- الذي لا يضم داله سوى الفراغ. والفارق بين هذه الشعارات والظرف الخالي أنها تنقلب في الممارسة العملية -إلى ما هو معاد لمعناها الظاهري، ومن ثم تؤكد الممارسة الاسترقاق السياسي المعاصر والتبعية الاقتصادية، والاتباع الثقافي الفكري بكل معانيها. ولا فارق في ذلك بين دعاوي الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان (التي يقضي عليها التميز والازدواج في المعاملة والكيل بمكيالين وأحياناً بما هو أكثر) والدعاوي التي ترفعها أصولية أسامة بن لادن في تمسحها بالدين (تماماً كما تتمسح الأصولية السياسية بالدين) ورفعها شعارات عن حكم الله وعن العودة بالإسلام إلى نقائه وإقامته مملكته الجديدة على الكوكب الأرضي الذي امتلأ بالفساد، ويحتاج إلى إمام يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً، وما بين هاتين الأصوليتين تتوزع أصوليات متعددة تميل إلى قطب الأصولية الأولى أو قطب الأصولية الثانية. وذلك بالطبع يضاعف من حجم الإشكاليات.. ولكن من حسن الحظ أن كل ظاهرة تخلق نقيضها، وأن الصفة المهيمنة على كل موقف لا تستوعب كل عناصره على نحو مطلق، فهناك من بين العناصر ما يحتوي على جزيئات متناقضة وجيوب متمردة، أشبه بإمكانات النور الضئيل وسط الظلام الدامس. أليس هذا تصويراً شعرياً؟ ذلك قصدي، وأظن أن هذا التصوير الشعري يحدد موقف المثقف، ويلزمه بسلوك دون غيره، وذلك بما لا يتناقض مع حريته وقدرته الخلاقة على الاختيار بين البدائل العديدة والاختيارات الممكنة. بالطبع لابد أن يكون هذا المثقف ضد الأصوليات في كل تجلياتها وتنوعاتها، لأنها تمثل عودة إلى الانغلاق والشمول والاستبداد والتسلط وغير ذلك من الصفات التي هددت البشرية في الماضي، ولا تزال تهدد مستقبلها في الحاضر. والعلاقة الأولى لرفض المثقف لهذه الأصوليات ومقاومته لها هي المسائلة، الفعل الذي يضع المثقف به كل ما يقع في إدراكه موضع المسائلة، بما في ذلك نفسه، حتى لا يقع في أيديولوجيا الوهم الذاتي حتى لا يفترض نقاء "الأنا" في مواجهة فساد "الآخرين". والفعل الخلاق للمسائلة هو اللازمة الأولى لنزعة المثقف الإنسانية التي لا تتناقض بل تتكامل وتتفاعل مع نزعاته القومية والوطنية -ويمكن أن أقول: والطائفية والمذهبية. والنزعة الإنسانية تعني أنني أؤمن بنقض شروط الضرورة في كل مكان، ابتداء من داخلي، وليس انتهاء بأبعد نقطة على ظهر الكوكب الأرضي الذي انتسب إليه، كما أنتسب إلى قومي ووطني وفكري وجسدي في آن. وإذا كانت النزعة الإنسانية هي الوجه الآخر من المسائلة فإن الحرية المقترنة بالعدل، أو العدل المقترن بالحرية، هما اللذان يكملان المعادلة، ويفتحان السبيل إلى إعادة تحديد شروط الضرورة التي تظل واقعة في دائرة ما يظل في حاجة إلى الكشف. وما دمنا قد سلمنا بنفي المطلقات واستبدال النسبية بها، فعلينا -من منطق المسائلة- أن نضع كل مفرداتنا ومقولاتنا موضع الفحص الدائم، ونعيد من مسائلتها في الوقت الذي نعيد مسائلة أنفسنا في سعينا المستمر في تشكيل خرائط معرفية جديدة، تظل في حاجه إلى إعادة التشكيل. وفي النهاية، فإن المسائلة كلوازم الحرية والعدل التي تنقض شروط الضرورة المقترنة بالتسلط والتصلب، لا يمكن أن تفارق النزعة المدنية التي تسعى إلى إقامة اليوتوبيا الإنسانية على هذه الأرض، وتعمل لدنياها كأنها تعيش أبداً، وتتحدى بلوازمها الجديدة نزعات التطرف والتعصب في الدين في كل فكر، جنباً إلى جنب نزعات التدين (أو المبالغة المسرفة في حشر الدين في كل شيء) التي سادت حياتنا، والتي تظل علامة على تسرب أصوليات الأنساق المغلقة إلينا -سواء في دوائرها الكبرى أو الصغرى. أرجو أن تسمح لي بإعادة طرح السؤال عن الموقف الواجب إتباعه في شان النظرية الأدبية، بصيغة أخرى. ذلك أنه ومنذ انقلبت الشكلانية الروسية، وبعدها شعرية تودوروف على رؤية الواقعية الاشتراكية، ظهرت اتجاهات ذات تنوع على ذات اللحن، فصلها رامون سلدون في النظرية الأدبية المعاصرة (والذي ترجمته بنفسك إلى العربية) وقد توسعت أنت في عرضها بكتابك "نظريات معاصرة" مدركاً أن كل هذه الاتجاهات (بما فيها النقد النسائي) إنما تعمل جميعاً على أرضية النظام الرأسمالي العالمي بما فيه من معارضات ماركسية رآها بودريارد Jean Bawdrillard مجرد امتداد للرأسمالية التقليدية، سعت فحسب.. وبالتواطؤ مع "المؤسسة" لإيجاد موضع قدم لها على خارطة الهيمنة؟ صحيح أن جوانب واتجاهات عديدة من النظرية الأدبية المعاصرة تعمل على أرضية من النظام الرأسمالي العالمي، وداخل فضاءاته، ولكن هذا من حيث الظاهر حسب، فاتجاهات النظرية الأدبية -شأنها في ذلك شأن كل صور الوعي الاجتماعي- ليس مجرد انعكاسات مرآوية للواقع الذي تعاديه وتلزمه لزوم المعلول لعلته الأولى، فهناك الاستقلال النسبي لصور الوعي وللنظريات الأدبية على السواء. ولذلك يستجيب بعضها إلى الواقع استجابة التحدي، ويبدأ منه لينقضه، داخل دائرة اختصاصه النوعية، وبوسائله التي تمايز بينه وغيره. وكما يحدث في الأدب، عندما ينتج الإبداع الحقيقي عن شروط الضرورة، ولكن في مواجهاتها وتحدياتها، سواء بالكشف عنها، أو نقضها، أو ردها إلى أسبابها التوليدية.. الخ - كذلك النظرية الأدبية: يكون منها ما هو استجابة الإذعان إلى الواقع، والانعكاس المرآوي المباشر أو غير المباشر له، كما يكون منها ما هو استجابة التحدي للواقع والتمرد على شروط الضرورة. والفارق بين ما يتحدى الواقع من النظرية الأدبية -في كل مستوياتها ومجالاتها- وما يتحدى الواقع من أعمال الاتباع فارق كمي في التحليل النهائي، وذلك من حيث الالتقاء في الهدف، والتوازي في الوظيفة. خذ - مثلا - في أدبنا العربي المعاصر والأعمال الإبداعية التي قاومت الإرهاب الديني، شعراً ومسرحاً وقصة، سوف تجد في موازاتها أعمالاً نقدية،قصدت إلى الهدف نفسه، وذلك من خلال وظيفتها النوعية التي توازي وظيفة هذا الإبداع المقاوم وتكمله بقدر ما تتكامل معه. وهناك بالطبع النقد الذي يفر من معنى المقاومة والذي يتجاهل هذا المعنى في إبداعات الرفض، فيؤدلجها بتقنيات أسلوبية أو بنوية شكلية، كما فعل بعض النقاد بشعر أمل دنقل المتوهج بالرفض، وأطفأوا رفضه بان وضعوه في قوالب ثلجية لا تخلو من المعادلات والتوازيات والتعارضات.. الخ. وكانوا بذلك، ولا يزالون، مثالا إلى النقد الذي يستجيب استجابة الإذعان إلى شروط الضرورة، شأنه في ذلك شأن الأشكال السلبية من صور الوعي. لكن نتذكر دائماً، أن التاريخ يتقدم بسلسلة استجابات التحدي التي تبدأ من المسائلة ولا تتوقف على النقد. هل يكون ذلك مرجعه إلى عجز هذه الاتجاهات "المذعنة" في التخلص من فكرة "العلة الأولى" حيث تظل هذه الفكرة كالخيط القديم عالقاً بنسيج الثياب الجديدة، ذلك أنه وحتى مصطلح النقد الشارح Meta-Criticism تراه يحيلنا هو أيضاً إلى نظام لغوي أولي، متعال Transcendent، أليس ذلك مما يغلق فضاء الحداثة، وربما أيضاً فضاء ما بعد الحداثة، في وقت سيأتي بالضرورة حين تستنفد ما بعد الحداثة طاقتها النقدية؟ ارتباط بعض الاتجاهات الجديدة بالعودة، أو بالإلحاح على فكرة "العلة الأولى" ليس أمراً معيباً في كل الأحوال، بشرطين: أن نتسع بفهم العلة الأولى، فنجعل منها عللاً، ونحيلها -ثانية- من صيغة الإفراد إلى صيغة الجمع، وننقلها -ثالثاً- من البساطة أحادية الاتجاه، إلى التراكب الذي تتعدد مستوياته وتتعقد. هكذا أؤمن أن الإبداع ناتج عن دوافع تصل المبدع بالواقع، والثقافة بالسياسة، والاقتصاد بالاجتماع. وما يهدف إليه "النقد الثقافي" الذي صرت أقرب إليه - في مرحلة النقدية الحالية- هو الوصل بين الإبداع الفردي وعلله التي تجاوز الفرد، والعودة من هذه العلل إلى الإبداع الفردي لتأمل كيفياته وعلاقاته من حيث هو عمل أدبي أولاً، ومن حيث قدرته -بسبب صفاته الأدبية -على التأثير فيمن حوله، أو من يأتون بعده، وذلك في حركة ثلاثية الأبعاد يتحدد على أساسها عنصر القيمة، بعيداً عن "العلية" بمعناها التاريخي القديم، أو "التوليدية" بالمعنى الذي يبسطها، أو حتى نقد "الاستقبال" في بعض مجالاته التي يمكن أن تسهم -بعد تطويرها- في هذه الحركة ثلاثية الأبعاد. كيف اذن تستشرف بصيرة جابر عصفور الفكرية ُ النقدية ُ المشهد َ الثقافي القادم؟ المشهد الثقافي في أفقه الذي ندخل إليه مشهد ثقافي معتم، وذلك لأسباب عديدة، سياسية واجتماعية واقتصادية ودينية، ولذلك أتوقع تصاعد الأصوليات وهيمنتها في كل اتجاه، الأمر الذي يطرح التحدي الخطر على المثقفين المستعدين للمقاومة، وعلى المجتمع المدني -تجمعات وهيئات وأفراد على وجه الخصوص-. ولا أزال أؤمن أن خلاصنا البعيد مرهون بقدرة المجتمع المدني على تطوير نفسه، والتخلص من قيوده، والعودة إلى سيرته الخلاقة الأولى في تاريخنا المصري الحديث، والإضافة إليها بما يتناسب ومتغيرات العصر. ولا ننسى أن الجامعة المصرية من إنشاء المجتمع المدني، وأن الكثير من مؤسسات الاستنارة من إنجاز المجتمع المدني. وما تحقق في الماضي يمكن أن يكون مثالاً لعشرات ومئات غيره مما يمكن أن يحدث في المستقبل لو انطلق المجتمع المدني من القمقم الذي يوضع فيه. فما هو الدور المنشود من مثقفي مصر، بوصفهم طليعة من طلائع الشعوب النامية، تلك الشعوب التي تعرضت -ولا تزال- للاستلاب المادي والمعنوي منذ اقترن توسع الرأسمالية كنظام عام للسوق، في القرن التاسع عشر بحركة الاستعمار العسكري.. وفي أيامنا هذه بالهيمنة السياسية والاقتصادية، ولا أستنكف أن أضيف البعدين الاجتماعي والثقافي إلى هذه الهيمنة المفزعة. الدور المنشود من مثقفي مصر -في ظل الظروف التي وصفناها- هو دور المقاومة المتعددة الأبعاد، وذلك لتأسيس ثقافة الاستنارة في مواجهة ثقافة الظلام، وتطوير قواعد التقدم في مقاومة الشروط المتطاولة للتخلف، وتحويل أحلام المستقبل الآتي بالنجوم الوضاءة على كتفيْ: الحرية والعدل إلى واقع ملموس، يتحول شيئاً فشيئاً من مدى الإمكان شبه المستحيل إلى مدى الواقع القابل للتطبيق. وأصف المقاومة بتعدد الأبعاد لأن المثقف المصري -والعربي بوجه عام- واقع بين المطرقة والسندان. مطرقة الدولة التسلطية التي اخترقت منظمات المجتمع المدني المستقلة وأحالتها إلى منظمات تابعة، وأحالت المؤسسات التضامنية مثل النقابات وما في حكمها- إلى امتداد لسلطة الدولة وأذرعه تمتد بقدرة أجهزتها الأيديولوجية. وأضيف إلى ذلك سندان مجموعات التطرف الديني والتخلف الاجتماعي التي تتزايد للأسف يوماً بعد يوم، نتيجة لتزايد الفساد في الدولة، وتزايد معدلات الجمود الاجتماعي الذي أصبح يقترن بنزعات تقليدية وثيقة الصلة بالثقافة الاتباعية السائدة التي تتزايد مظاهر تخلفها، فتؤدي إلى زيادة روابط الجمود الاجتماعي والتطرف الديني. والنتيجة هي نزعات التدين التي دفعت حتى المعتدلين إلى المزايدة في أمور الدين، والاستجابة الإذعانية إلى التيار الإظلامي الذي أشاعته جماعات التطرف الديني، واعتقد أن فتوى المفتي الأخيرة في تحريم التماثيل في المنازل هي مثال عملي على ذلك. والفارق بينها وبين فتوى الإمام محمد عبده، مفتي الديار المصرية الذي توفي سنة 1905، هي الفارق بين عصر منفتح وإسلام عقلاني وبين عصر منغلق، يسود فيه التخلف المتحالف مع إسلام اتباعي تقليدي، هو -في ذاته- خروج على الجوهر الأصيل للإسلام وميراثه وتاريخه. وإني لأسأل ألم يقرأ المفتي الذي أصدر هذه الفتوى عن تاريخ الفنون في الإسلام، فكيف أن قصور الامويين -بعد عقود قليلة من وفاة الرسول- استضاءت جدرانها بلوحات الفن، انطلاقاً من مبدأ أن تحريم التصوير والنحت ارتبط بعلة محددة انقطعت، وهي الخوف من العودة إلى الوثنية، فانقطعت نتائجها وما يترتب عليها. وإذا كان المعلول يدور مع علته وجوداً وعدماً، فانقطاع علة تحريم التماثيل والصور بعد انتشار الإسلام وترسخه في النفوس، يعني انقطاع معنى التحريم الذي تحول إلى إباحة في ظل تغير الأحوال والأوضاع. ذلك واضح تماماً، ولا خلاف على خطورة استمرار هذا التخلف المشين، ولكن ثمة تصور آخر -لا يفتقر إلى الشواهد- يرى أن الانقراض Extinction على مرمى حجر من نوعنا الإنساني، ليس فحسب بسبب توحش الرأسمالية، بما تسببه من تلوث وتدمير للبيئة الطبيعية لكوكب الأرض، بل وكذلك بسبب التقدم العلمي والتكنولوجي، ذلك الذي عقدت الحداثة الآمال عليه لحل مشكلات البشر، فإذا به يهدد بتفاقم تلك المشكلات إلى حد استبعاد "الإنسانية" كلياً من المعادلة البيولوجية، وهنا قد تتحقق نبوءة ميشيل فوكوه عن تلاشي "الإنسان" كوجه مرسوم على رمال الشاطئ. لنأخذ مثلاً قانون Moor الذي بموجبه يتطور الـ Hardware بمعدلات متسارعة إلى درجة أن قدرات العقول الإلكترونية صارت تتضاعف كل عام ونصف، وهو ما يشي بان عام 2020 سوف يشهد تفوق العقل الإلكتروني على العقل البشري (بما في ذلك القدرة على الابتكار والخلق) وإذا تماشينا مع هذا التوقع بتوقع مقابل، يفترض أن يطور العلماء أجهزة دقيقة من السيليكون تـُـغرس داخل المخ الإنساني، جنباً إلى جنب تفعيل قدرة هذا المخ بآليات الهندسة الوراثية؛ أفلا يصح أن نتوقع ظهور بشر من نوع مغاير Homo-Electronic ؟ مهما بلغت درجة التقدم التكنولوجي فلا يمكن أن يؤدي إلى اختفاء الإنسان العاقل، صانع الحضارة، وظهور الإنسان الالكتروني الذي يدل على تلاشي الإنسان. لأن الإنسان هو الذي لا يزال يصنع الآلة، وهو الذي يوجهها ويتحكم فيها، ويضاعف في تطويرها، وهو الأمر الذي يزيده تمكناً في الوجود، وترقياً في سلم الحضور. ولا خوف على معنى الإنسان من تطورات الثورة المعلوماتية والتكنولوجية بنتائجها غير المسبوقة، وإمكاناتها المستقبلية التي يفوق بعضها قدرة العقل العادي على التخيل، فقدرة الإنسان على الخلق والابتكار هي التي تظل وراء ذلك كله، وهي العلة الأولى لكل المعلولات الإلكترونية والعقول الإلكترونية التي هي من صنعها. وقد انتبه بعض الأدب العلمي المتشائم إلى بعض جوانب السلب في احتمالات التقدم، وكتب البعض روايات عن "الروبوت" الذي يتمرد على صانعه، أو مالكه، وينقلب إلى كائن يفرض حضوره على الإنسان وشروطه. ولكن هذا الخيال العلمي المتشائم هو -في تقديري- نوع من التحذير للإنسان ودفعه إلى عدم التشيؤ وعدم التحول هو نفسه إلى آله. وهو تحذير يؤكد إنسانية الإنسان، كما يؤكد في الأعمال الإبداعية -التي يتجسد فيها-انتصار الإنسان في النهاية بإرادته الحرة وخياله الإبداعي وعقله الإبتكاري الذي يجعل الغلبة النهائية له حتى على أرقى المخلوقات التي صنعها والتي أصبحت تنافسه، وتتفوق عليه في إنسانية الإنسان في أحوال تجددها الخلاق. لقد ذكرت كلمة التحذير. والتحذير يعني ضرورة الحذر. فماذا لو لم يُـجدِ التحذير، ولم يؤخذ بأسباب الحذر؟ فأي جدوى إذن من محاولة تعليم أولادنا وأحفادنا كيف يتذوقون الشعر، وكيف يحتضنون العواطف الإنسانية، وكيف يناضلون ضد كل ألوان التفرقة الجنسية والدينية والعنصرية، بينما طوفان التفرقة الأعظم يقرع الأبواب؟ طبعا لا بد من إعادة طرح السؤال عن جدوى الفنون مع كل تقدم علمي. حدث ذلك في القرن التاسع عشر -ومن الأمثلة الدالة عليه الكتاب المشهور "دفاع عن الشعر" وحدث ذلك في مطالع القرن العشرين، ومع ظهور مخترعات إبداعية جديدة، مثل السينما والإذاعة، أعيد طرح السؤال عن أهمية الأدب، فكتب جورج ديهامل في هذا السياق كتابه الشهير "دفاع عن الأدب" الذي ترجمه المرحوم محمد مندور ترجمة بديعة. وها هو السؤال يتجدد اليوم نتيجة تسارع إيقاع التقدم العلمي المقترن بالترجمة الآلية والذكاء الصناعي وغير ذلك. والإجابة عن السؤال حول جدوى الأدب والشعر تظل ثابتة في جوهرها لا لأنها تعبر عن عوالم انتهت وإنما لأنها تعبر عن عوالم لا حدّ لتجددها أو تغيرها أو تطورها. وإذا كان الإبداع -في أحد تعاريفه التي أحبذها- هو الكشف عن كل ما يظل في حاجه إلى الكشف، عقلا ً ووجدانا ً وشعورا ً وحدسا ً، وعن كل ما يظل في حاجه إلى تعقله، دلالة ومغزى وقيمة، فإن الأدب سيظل باقياً، وسوف نرى -فيما أتنبأ- شعرية جديدة، هي شعرية الزمن الآتي. ولنتذكر ما أطلقه نجيب محفوظ في منتصف الأربعينات على فن القصة، عندما دخل في مناظرة بالغة الأهمية مع العقاد حول قيمة فن الشعر العليا بالقياس إلى قيمة فن القصة الدنيا، وانتهى نجيب محفوظ إلى أن القصة هي الفن الذي يعبر عن العصر الصناعي بكل إمكانات تقدمه، ولوازمه الإيجابية والسلبية. ولذلك أطلق على القصة "شعر الدنيا الحديثة". وهو وصف أقيس عليه وأتنبأ بوجود شعرية للزمن الآتي، لا يمكن توصيفها الآن، ولكنها آتية، ما بقي الإنسان في هذا الوجود خالقاً صانعاً للإنسان الإلكتروني الذي يظل من صنع يديه في أول الأمر ونهايته. هذا القول يعبر عن أمانيك أنت، بيد أنه يتجنب الإجابة عن السؤال المرعب التالي: فماذا لو أن "الهومو الكترونيك" وقف الآن على مرأى منا يقرع الباب، منذراً -كانسان أعلى- بتصنيفنا في خانة الكائن الأضعف (الموردوك) هل ترانا نظل متمسكين بحماقتنا الإنسانية (الحلوة بحد تعبير دستويفسكي) متضامنين لتحطيم ذلك الوحش العلمي النيتشوي القادم، في حركة مضادة للتطور العلمي والتقني؟ لا يمكن أن أقف في موقف مناهض للتقدم العلمي، أو تأييد أي حركة مضادة للتطور العلمي والتقني، فالعالم الذي يصنعه الإنسان، هو -إذا ما أحسن استغلاله- لصالح الإنسان والإنسانية. وتأمل -مثلاً- التطور المذهل في الهندسة الجينية والوراثية بوجه عام ونتائجه الإيجابية، وتأمل -في الوقت نفسه- التقدم المذهل في الهندسة الطبية التي أدت إلى وجود أجهزة بالغة التقدم، أنقذت ملايين الأرواح -ولا أزال كلما رأيت صور الرنين المغناطيسي لخلايا مخي- بعد إصابتي بجلطة المخ- أحمد الله على التقدم المذهل في الطب، الذي جعل الأطباء يرون حتى أدق خلايا المخ، فيحددون موضوع الداء والدواء. وهو الأمر الذي يجعلني أؤكد أن الفيصل الحاسم في الموضوع كله هو الإجابة عن السؤال: هل الهدف النهائي من تطور العلم والتكنولوجيا هو صالح الإنسان أو دماره؟ وهو الفيصل الذي يحسم بين استخدام الذرة مثلا في خدمة الإنسان واستخدامها في دماره. وكما أن على المثقف مقومة الأصولية في ميادين الثقافة، فعليه مقاومة نتائجها في ميادين العلم، ودعم التيارات الإنسانية العقلانية التي تجعل العلم، في النهاية، ومهما وصل إلى ما يمكن أن يصل إليه في صالح الإنسان- ولا زلت أذكر- في هذا السياق- النظرية التي خرجت بها في الفيلسوف الأسباني أورتيجا أي جاست عندما تحدث عن اطـّراح النزعة الإنسانية في الفنون. وهي النظرية التي فهمها البعض خطأ على أنها تدمير أية نزعة إنسانية في الفن -خصوصاً في عصر الصناعة- مع أن العكس هو الصحيح، فالمقصود من التنظيرة هو الهجوم على الإفراط العاطفي الرومانتيكي، والنظر إلى الموضوعات الداخلة في الإدراك الجمالي من مسافة تتيح للإنسان أن يراها في موضوعيتها، مستقلة عنه، فلا تتحول معالجته الفنية لها إلى إسقاط لنفسه عليها، وإنما تتحول إلى موازيات رمزية لموضوعات لها استقلالها وحضورها المستقل عن الإنسان بعيداً عن الهشاشة العاطفية أو الانفعالية الطاغية، ولذلك أن أتصور أن الشعرية "الآتية" لا بد أن تنطوي على اطـّراح النزعة الإنسانية من هذا المنظور، خصوصا ً أنها سوف تتعامل مع موضوعات وعلاقات وأدوات إنتاج معرفية مختلفة كل الاختلاف، ومذهلة في تقدمها وتعقدها. افهم من قولك أنك تود أن يطرح الإنسان بعيداً عن نفسه كل ما ينتمي إلى الضعف الإنساني، أي الرضا بما هو موجود، وبلغة الفلسفة، فأنت ضد الوضعية Positivism التي تبرر لما هو قائم. فهل أنت إذن ممن يتصورون مجتمعاُ بشرياً لا تتحكم فيه الدولة كما هو حادث الآن؟ بمعنى آخر هل ترى أن الدولة -كجهاز متعال وظيفته الهيمنة- قابلة للتلاشي في وقت من الأوقات، لتحل محلها إدارة مجتمعية للاقتصاد فحسب؟ نعم، أنا أتصور أن "الدولة" مصيرها التلاشي، إذا كنا متفائلين بقدرة البشر على التطور، وجدارتهم بصنع بديل آخر. إذن دعنا نتحدث عن الحاضر، ذلك الذي سيقودنا -أو لا يقودنا- إلى المستقبل المنشود. ففي أثناء حضورها -بصفة مراقب- مؤتمر الإصلاح الثالث، بمكتبة الإسكندرية، لفت نظر المجلة أن معظم المتحدثين في المحور الخاص بحقوق الإنسان، ركزوا على الدور المهيمن للدولة باعتباره معوقاً للإصلاح.. وذلك، من حيث أنها بطبيعتها متسلطة Powerful ، فإذا كانت غير ملتزمة بعقد اجتماعي متوازن بينها وبين مواطنيها، أو كان العقد (=الدستور) مشوباً بالعوار، عاكساً اختلال علاقات القوة بين الطبقات، والفئات، وجماعات المكانة، وجماعات الضغط (اللوبي) فإن الحديث عن الإصلاح يصبح في غير محل. أما أنت فأراك تبرئ الدولة، مرجعاً الإعاقة إلى تخلف المجتمع نفسه، محملاً أفراده المسؤولية لضعف احتياجهم إلى ثقافة مختلفة، وافتقار أبنائهم إلى برامج تعليم عصرية، وقبول هياكلهم المجتمعية بالسلوكيات التقليدية سواء في التجمعات الكبرى كالأحزاب، والنقابات، أو التجمعات الوسطى مثل المدرسة والنادي، والجمعية، وحتى في التجمعات الصغرى كمؤسسة الزواج، أي العلاقة بين الرجل والمرأة، والعلاقة بين الآباء والأبناء. للحكومات المستبدة دورها في تغييب هذه الثقافة، بيد أن للمثقـِفين (بكسر القاف) أنفسهم دوراً ينبغي أن يضطلعوا به نشراً لثقافة حقوق الإنسان، بغض النظر عن موقف الحكومات.. فمثلاً أنا أسأل كم عدد الذين يعرفون مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في بلادنا؟ وإنني دائما ً ما استرجع في ذاكرتي ما نصت عليه ديباجة الإعلان من أن غاية البشر جميعا ً هي انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة، ويتحرر من الفزع والفاقة، وأنه لا بد من قانون يتولى حماية حقوق الإنسان في كل دولة، لكي لا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم، ولا بد من تأكيد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على إيمانها بحقوق الإنسان الأساسية، وبكرامة الفرد، وبما للرجال والنساء من حقوق متساوية ترفع مستوى المجتمع والحياة في مناخ فسيح من الحرية، فضلاً عن تأكيد الإعلان على عدم جواز استرقاق أو استعباد أي شخص، أو تعريضه للتعذيب، أو المعاملة الوحشية الحاطة بالكرامة، وغير ذلك من المواد المؤكدة لقيمة الإنسان ورجاحة قدره. إنما السؤال الذي لا يفارقني طوال استرجاع هذه المواد العظيمة هو مدى تطبيقها في مجتمعاتنا العربية. لا شك أن الإجابة ستكون بالسلب. لكنها ليست قرينة إلقاء اللوم كله على الحكومات المستبدة، وإنما على الثقافة التقليدية السائدة، التي تستند إليها الحكومات وتعمل على استمرارها بما يضمن لها البقاء والهيمنة. الدولة إذن جهاز شرير.. ليس بالإطلاق، وإنما بقدر ما تتخاذل النخب عن تقويمه، وتصحيح مساره، بل وفي ذات الآن، عندما تتقاعس هذه النخب عن تجذير ثقافة حقوق الإنسان في حياة الناس السياسية، والاجتماعية، والدينية، والثقافية، ابتداء من مرحلة الأسرة وحتى النظام الحاكم نفسه. فحياة الناس حتى الآن، تنطوي مكوناتها على رفض -أو بالاقل بالتحفظ على- هذه الثقافة، بحسبانها بضاعة مستوردة من الغرب " الشرير" ومن ثم فهي بدعة وضلالة مفضية إلى النار، فذلك هو ما يؤدي إلى مقاومة استزراع ثقافة حقوق الإنسان، وبالتالي إلى استمرار التراتبية التي تجعل الأكبر أفضل من الأصغر، والرجل أعلى من المرأة، والحاكم أميز من المحكوم. أرجو ألا يكون هذا هو نهاية الحوار، بل بدايته حيت تتداخل معه أفكار وآراء أخرى. ومع ذلك فإنني أتقدم إليك -بوصفك مثقفنا المصري والعربي- بالشكر العميق على ما منحتنا من وقت ثمين غال ٍ، وومضات باهرة ثرية، أهديتها إلى المجلة وقراءها الأعزاء. وأنا أيضاً أشكرك ومجلتك التي أحبها بحق، راجياً لها الاستمرار، ودوام التألق، ومجابهة التحديات.
#مهدي_بندق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البلطة والسنبلة -5- المصريون واشارات الخروج من الحصار
-
ريا وسكينة بين صلاح عيسى وميشيل فوكوه
-
البرهان الثقافي على المسألة الإقتصادية
-
قصيدة أُقَلِّبُ الإسكندرية على أجنابها
-
تفسير غير تآمري للتعديلات الدستورية المصرية
-
إضراب عن الماء
-
الإخوان -المسلمين- وغيرهم ثقافة مُحاصَرة ومحاصِرة
-
* المدربون
-
*قصيدة الكمائن
-
مصر وثقافة الحصار
-
البلطة والسنبلة - هل المريون عرب
-
ثقافة الإرهاب تمهد لضرب الوحدة الوطنية
-
*نورا العربية لا تغادر بيت الدمية
-
*الطابع المزدوج للثقافتين الأوروبية والعربية
-
*الشعر يمحو باليد الأخرى
-
إعدام الشاعر عماد الدين النسيمي
-
مسرح شعري في مصر الفرعونية ؟!-الفصل الثاني
-
قراءة تجريبية في دراسات المسرح الشعري - الفصل الأول
-
الطريق إلى المسرح الشعري - مقدمة منهجية
-
* الكتابة على سِفْر الاختيار
المزيد.....
-
آخر ضحايا فيضانات فالنسيا.. عاملٌ يلقى حتفه في انهيار سقف مد
...
-
الإمارات تعلن توقيف 3 مشتبه بهم بقتل حاخام إسرائيلي مولدافي
...
-
فضيحة التسريبات.. هل تطيح بنتنياهو؟
-
آثار الدمار في بتاح تكفا إثر هجمات صاروخية لـ-حزب الله-
-
حكومة مولدوفا تؤكد أنها ستناقش مع -غازبروم- مسألة إمداد بردن
...
-
مصر.. انهيار جبل صخري والبحث جار عن مفقودين
-
رئيس الوزراء الأردني يزور رجال الأمن المصابين في إطلاق النار
...
-
وسيلة جديدة لمكافحة الدرونات.. روسيا تقوم بتحديث منظومة مدفع
...
-
-أونروا-: إمدادات الغذاء التي تدخل غزة لا تلبي 6% من حاجة ال
...
-
رومانيا: رئيس الوزراء المؤيد لأوروبا يتصدر الدورة الأولى من
...
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|