وسط مدينة "الضباب" لندن ومن بعد ظهر يوم الاربعاء الموافق 87-7-22 تعرض المناضل والفنان الكبير ناجي العلي لعملية اطلاق نار من مسدس كاتم للصوت مأجور من "اولاد الشليتا"، تم على اثرها نقله وهو في حالة غيبوبة تامة الى احد المستشفيات هناك , حيث توقف قلبه عن الخفقان بعد أكثر من ثلاثين يوما، بتاريخ 87-8-29 .
لقد رحل ناجي العلي المتحدر من عائلة كادحة تعمل في زراعة وفلاحة الارض في قريتهم "الشجرة" التي ظلت عامرة بالحياة في الشمال الفلسطيني بين مدينة الناصرة ومدينة طبريا، حتى دُمرت وشُرد اهلها كباقي القرى والمدن الفلسطينية الخمسمئة والثلاثين التي تعرضت للمجازر والمذابح عام 1948 على ايدي عصابات الموت الصهيونية، "الهاغانا - شتيرن - البلماح" التي اصبحت فيما بعد النواه الاساسيه للجيش الاسرائيلي في الدولة التي اقيمت على انقاض شعبنا الذي اضحى مشردا ولاجئا في بلاد الجوار وفي بقاع الارض. وكان نصيب ناجي وعائلته اللجوء الى مخيم "عين الحلوة" في لبنان وظلت الحكومات الاسرائيلية تمارس اسلوبها الارهابي القديم الجديد وتتنصل من جميع الاتفاقيات الدولية الموقعة ومن قرارات الشرعية الدولية وفي مقدمتها قرار مجلس الامن رقم "194" في عودة اللاجئين الفلسطينين الى ديارهم التي شردوا منها قسرا. هذه العودة المقدسة كانت بالنسبة لناجي العلي وسائر ابناء شعبنا حلما يراوده حتى وفاته.
لقد تأثر ناجي كثيرا بالمعاناة التي حلت بشعبه واهله بعد ان اصبحوا يعيشون في مخيمات اللجوء التي انتمى اليها روحا وجسدا. وحول انتمائه الى المخيم يقول ناجي "انا من مخيم عين الحلوة، وعين الحلوة مثل اي مخيم اخر، ابناء المخيمات هم ابناء ارض فلسطين، لم يكونوا تجارا وملاكين، كانوا مزارعين فقدوا الارض وفقدوا حياتهم فذهبوا الى المخيمات، ابناء المخيمات هم الذين تعرضوا للموت ولكل المهانة ولكل القهر , وهناك عائلات كاملة استشهدت في مخيماتنا". لقد التحم ناجي بالمخيمات ولاجئيها وبدأ يبرمج المعاناه والحزن والقهر والخوف والفقر والجوع والاشتياق والحنين للوطن على جدران مخيم "عين الحلوة"، ثم انتقلت رسوماته الى جدران زنازين الدرك اللبناني حيث كان ضيفا مألوفا يقضي فترات دورية اجبارية هناك، ثم بدأ بعد ذلك يرسم على الاوراق حتى وقعت صدفة في ايدي الشهيد غسان كنفاني الذي شجعه على رسوماته المميزة واخذ ينشرها في مجلة "الحرية" لتنطلق بعد ذلك الى الصحف والمجلات الفلسطينية والعربية.
المناضل الحقيقي ينحاز للفقراء
لقد رسم لفلسطين وابنائها الشرفاء المناضلين الفقراء فانحاز لهم . يقول ناجي: "انا شخصيا منحاز لطبقتي، منحاز للفقراء، وانا لا اغالط ولا اتملق احدا، القضية واضحة ولا تتحمل الاجتهاد، الفقراء هم الذين يموتون وهم الذين يسجنون وهم الذين يعانون المعاناة الحقيقية، المناضل الحقيقي دائم العطاء ويأخذ حقه من خلال حق الاخرين وليس على حسابهم".
لقد اعتبر ناجي العلي أن مهمته الاساسية هي التحريض، تحريض الجماهير ضد واقعهم المزري وحثها على النضال والانتماء والمثابرة والشموخ فتلك هي حدوده وهذا هو دوره، كشف الواقع والتعبئة، والبقية هي مهمة الثوار. يقول " اريد ان اؤذن في اذان الناس واقول لهم اين قضيتهم والى اين وصلت؟ اريد ان ارسم للناس البسطاء الذين يفكرون والذين لا يفكرون ولا يقرأون ولا يكتبون". حنظلة، الطفل الصغير النحيف حافي القدمين ذو الشعر المتناثر والملابس الردثة والقدمين العاريتين، يقف دائما في لوحات ناجي وظهره للخلف واضعا يديه النحيفتين خلفه يراقب حدود الوطن. فهو البوصلة التي تشير دائما لفلسطين انه بمثابة ايقونة الروح والضمير الحي الذي يرصد ويرى. سُمي بحنظلة كرمزا للمرارة. يقول ناجي: " في البداية قدمته كطفل فلسطيني، لكن مع تطور وعيه اصبح له افق قومي ثم افق كوني انساني وعندما سئل عن موعد رؤية وجه حنظله قال عندما تصبح الكرامة العربيه غير مهددة وعندما يسترد الانسان العربي شعوره وانسانيته". ومع ذلك يبقى الهم الاكبر هو مواصلة المشوار بكل ما فيه من تناقضات وهموم، ويبقى في الاعماق هم الوطن الذي يبشر به حنظلة بكثير من الامل. فقد كان في البداية يلتقي مع الناس، يواجههم وجها الى وجه وكان يحمل الكلاشينكوف وكان ايضا دائم الحركة وفاعلا وله دورحقيقي، يناقش باللغة العربية والانجليزية بل اكثرمن ذلك فقد كان يلعب الكاراتيه.. يغني الزجل ويصرخ ويؤذّن ويهمس ويبشر بالثوره " .
لقد اغتيل ناجي لانهPoor ابنPoor ، وعربي وليس طائفي، لابداعه المميز النابع من قلب الجماهير الكادحة، لحبه لارضه, لفلسطين واطفال فلسطين وحجارة فلسطين التي انتفضت على الاحتلال وافشلت مشاريعه التصفوية (التقاسم الوظيفي - روابط القرى - الكونفدرالية..)، لانتمائه لطبقته "الفقراء والمسحوقين" للناس الطيبين ولتحريضهم على التمرد والثورة، لحبه للمخيم ولاجئيه، لحبه لفاطمة اخت الرجال التي كانت الى جانب زوجها تشاركه همومه واحزانه وافراحه واحلامه ونضاله، ولحبه للمقاومين ابو حسين وابو الياس وابو العبد ومحمدين ووحدتهم , لحصده الانا وووقوفه مع النحن, ضد المرتزقة والمفسدين والمتسلقين والملتصقين بالثوره كالزوائد الدودية والمدافعين عن الاستسلام والمنظرين للانبطاح والمؤدلجين للخيانة عبر طريق الكامب، امراء الحروب "اولاد الشليتا" الذين يصطادون في المياه العكرة لضرب وحدة شعبنا ومقدراته وزرع الفتنة الطائفية وشق وحدة الصف الوطني والاجتماعي، وفي مقدمتهم اصحاب العورات المكشوفة والكروش المنفوخة، جماعة ابو حصيره والأنكل سام..
اغتيل العلي لانه يدق جدران الخزان محذرا من كل هؤلاء السماسرة محرضا ضدهم وضد الثالوث الامبريالي الصهيوني الرجعي العربي، مدافعا عن الفقراء وحركات التحرر في الوطن العربي وفي العالم لانه يحب مصر عبد الناصر وشهداء حرب اكتوبر وشهداء صبرا وشاتيلا ويحب الثوره الجزائرية وشهدائها المليون ويحب كوبا وفيتنام , لانه يحتفل في المناسبات الوطنية والعالمية في الاول من ايار وعيد المرأة.
لقد دفع ناجي العلي كسائر المناضلين الشرفاء المدافعين عن الحرية والسلام والخبز ثمنا باهظا للمواقف المبدئية التي ساروا عليها، واعيا تماما لمصيره بأنه سُيغتال لا محالة. فلم يتنحّ ولم يتراجع. ولو قطعوا اصابع يديه سيرسم بأصابع رجليه ولو على قطع رقبته ايضا سيظل يرسم لفلسطين ويحب فلسطين، أمينا لفاطمة وابو حسين لبطرسين ومحمدين لحنظله لاهله وناسه الطيبين.
فأنت إن قلتها مت وإن لم تقلها مت , فقلها ومت.. فما نامت أعين الجبناء ..
باحترام ابنك المخلص حنظلة
(الكاتب، عضو اللجنة المركزية لحزب الشعب الفلسطيني)
نقلا عن موقع الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة
http://www.aljabha.org/
[email protected]