|
بنية قصصية تبحث عن دلالتها بالرمز -ما يمكن فضحه عن علاقة أبي بكافكا- لسلام صادق
سلام إبراهيم
روائي
(Salam Ibrahim)
الحوار المتمدن-العدد: 1917 - 2007 / 5 / 16 - 10:59
المحور:
الادب والفن
يحاول العديد من الشعراء العراقيين تجريب كتابة النص القصصي أو الروائي بعد تجربة كتابة النص الشعري، يقف في طليعتهم وبشكل مبكر الشاعر "فاضل العزاوي" الذي صدرت له رواية "القلعة الخامسة" بعد نشاط شعري مكثف في القصيدة والتنظير للكتابة الشعرية، ثم سعدي يوسف الذي أصدر مجموعة قصصية قصيرة في السبعينات، ورواية في التسعينات من القرن المنصرم. أما من الأجيال اللاحقة فمن الممكن الإشارة إلى الشاعر كريم عبد الذي أصدر ثلاث مجموعات قصصية بعد ديواني شعر منذ أوساط الثمانينات، والشاعر "حميد العقابي" الذي أصدر ست مجموعات شعرية قبل أن يصدر له كتاب سيرة روائية في العام الفائت، وسلام صادق الذي أصدر ثلاث دواوين شعرية قبل أن يصدر مجموعته "ما يمكن فضحه" القصصية التي سأتناولها في التحليل.
يقدم الكاتب لكتابه بنص نقدي لأدور الخراط مقتطع من كتابه النقدي الصادر عن دار الآداب " الحساسية الجديدة" 1993 الذي حاول فيه الخراط التنظير لمنهجه بالكتابة النثرية لظواهر جديدة في القصة والرواية المصرية الجديدة. والمقطع الذي أورده سلام صادق بما ينوب عن المقدمة حسب تعبيره يلخص وجهة نظر الخراط حول بنية النص القصصي والطريقة التي يمكن فيها تحديث الكتابة التقليدية من ناحية الشكل الفني والزمن واللغة. وهي رسالة إلى قارئ المجموعة كي ينظر لها بهذا المنظار" منظار الخراط" عند قراءته للنصوص.
النصوص مكتوبة بهذا المنظار وهي نصوص قصيرة جداً تحاول تغريب الحدث اليومي معرضة تماماً عن زمن النص الخارجي ومركزةً على تفاصيل سردية مروية بضمير المتكلم أي أمينة لمقولة الخراط النقدية. في مبنى متخيل يحيل المشهد القصصي من تفاصيل واقعية إلى مبنى مكثف ملغز يشير إلى المغزى بشكلٍ رمزي. وهذا النمط من الكتابة في النص القصير جداً أشتهر به الكاتب السوري "زكريا تامر" في مبنى قصصه الحكائي.
نص سلام صادق مختلف من حيث أنه يسرد بضمير المتكلم تجربة ما بطريقة يجعل من السرد موظفاً بشكلٍ رئيسي لخلق جو غريب وغامض من اليومي. ففي أول نص مقسم إلى ثلاثة نصوص قصيرة لها عناوين جانبية، يحدثنا السارد عن أبيه حيث نرى في المقطع الأول الأشياء بعيني الطفل المستيقظ من كابوس خيول تسحق جبهته رغم حبه لها، ثم حنو الأم عليه وطلبها باللعب مع رفاقه الصبيان. ورؤيته من نافذة غرفته قبعات العسكر الذين ينتظرون أبيه. لا يتذكر هل كانت تلك النافذة أعلى أو أوطئ أو بمستوى الشارع. في المقطعين المتبقيين يحكي لنا بكثافة عن معطف أبيه المعلق على أسلاك الكهرباء مقابل بيت سيئ السمعة في شارع طفولته، ثم عن جثمان أبيه والمرأة الغامضة التي أصرت على المبيت قرب الجثمان لتختفي في الفجر تاركةً النافذة مفتوحة وبسمة على ملامح الأب الساكنة. ولا يقدم لنا تفسيراً للمشهد أو حلاً. بل نتوهم مع السارد ما سمعه من تكهنات على لسان قريب مجنون قد تكون قادمة من حكاية حبيبة أبيه التي غرقت في النهر ولم يعثر على جثتها. في "امرأة بعطر أخر" يختنق السارد من القصر القديم والعجوز وأهله الذين اصطحبوه كي يقترن ببنت العجوز الثري الذي يموت حالما يستنشق الهواء. فيخرج إلى الشارع ليغتسل تحت مطر غزير. يتكرر فعل المطر في النصوص الثلاثة الأولى وفي هذا النص وهو عموماً يضفي على مناخ النص والحدث بعداً موحشاً وغامضاً أستخدمه بكثرة القاص "كريم عبد" في نصوصه القصصية. وهنا أود أن أشير إلى أن مناخ نصوص "سلام صادق" لها علاقة قوية بما كتبه "كريم عبد" في مجموعته الأولى "الهواء يوشك على الوجوم" من حيث كثافة النص ومحاولة تغريب التفصيل اليومي للوصول إلى مغزى مضمر. في "تمثال بقدم واحدة" نجد السارد مرتبك في مكان ما حدودي يتعرض لعملية نصب من صبي بائع، وفي محاولته للعثور على الصبي الهارب يدخل في بيت غريب ويقاوم غواية امرأة هي أخت الصبي تبين أنها مطلقة، ثم يساوم على جزء قدم تمثال. في سرد يخلص مناخه وتفاصيله إلى ارتباك الوضع الإنساني لمن يعزم على مغادرة مكانه الأول. في نص " امرأة مقيدة إلى جثة" بنية النص بنية كافكوية أن صح التعبير وتيمتها عميقة الدلالة. فالزوج السابق يتفق مع مطلقته على اللقاء في بيتهم القديم الذي بناه بيديه. فيقيد يديه، ويكمم عينيه رجل ضخم الجثة فتح الباب" الرجل الجديد الذي حل محله في حياة الشريكة القديمة" ويقتاده إلى جوار المدفأة ويسمعه خليط من الموسيقى والأصوات في جو كابوسي مرعب إلى أن يغفو على كرسيه فرط الإعياء، يستيقظ في الصباح على صوت الخادمة التي تخبره بخروجها إلى العمل، فيعود إلى غرفته المستأجرة وسط المدينة. يبعث ببطاقة بريدية على العنوان محاولاً إعادة الصلة مرة أخرى فتعود إليه بعد سنوات من الانتظار. ليصل النص إلى مغزاه محنة من يفتقد الآخر الحميم إلى الأبد. في " السواد الأبيض" تنمو بنية النص بتلقائية من الشأن اليومي المألوف إلى خاتمة النص القصير جداً حول غرق السارد في الحليب. علاقة أب يخشى على أبنه من التأخير إلى وضع الابن الغريب في بلد بعيد ثلجي يغرق كل يوم بقدر حليب أمه البعيدة حالماً بطفولته الضائعة في المكان الأول الضائع بدوره. في نصين قصيرين يعرض لمشكلة الكبت النفسي والجنسي للشرقي، ففي " شهوة تسير على عجلات" يصعد السارد إلى حافلة يتناثر على مقاعدها العشاق في أوضاع حميمية، فيثار ويغازل امرأة وحيدة تستجيب له أول الأمر ثم عندما يبغي الوصول إلى أقصى ما في الأمر تنهره وتفضحه أمام الركاب لاعنة الشرقي ونظرته الدونية إلى المرأة. في "ستارة جلد بشري" يختلط حلم العازب الوحيد ويتجلى بحضور الممثلة التي يشتهيها بصحبة المخرج إلى بيته ليطلب منه إزالة وشم علامة استفهام أسفل ظهرها. فيأتي بالسكين الوحيد الذي يمتلكه ليقشط ذائباً في لحم تلك الممثلة العارية . وهنا سأفصل لتحليل هذا النص الذي يصلح كنموذج لنصوص المجموعة المختلة، فهذا النمط من القص ذو بنية شديدة الحساسية كبنية اللوحة الفنية لا تتحمل أية زيادة في المشهد السردي أو في اللغة، فكل شيء في بنيتها محسوب والنص الجميل يجهض في أي اختلال يصيب نسب مكوناته، مثلما تخرب اللوحة عند اختلال نسب الألوان والكتل. ففي النص المذكور يدخلنا السارد في جو متخيل عن حضور الممثلة عارية ليذوب على لحمها وهي يقشط علامة الاستفهام، ثم يستيقظ ليجد بثمة ستارة من الجلد تفصل بينه وبينها والمائدة تحولت إلى علامة تعجب بالمقلوب. إلى هذا الحد تكتمل اللوحة ـ النص، لكن الكاتب يضيف الملاحظة التالية التي تجهض البناء الجميل للأقصوصة، فيختم النص المكتمل بهذا الشرح الزائد المخرب: " ملاحظة: لم يعد للمخرج من أثر، كان قد تلاشى في دخان غليونه. دون أن يكون له يد في كل الذي حصل، وخاصة المشهد الأخير"(ص52). هذه الملاحظة تنطبق على العديد من نصوص المجموعة كما هو الحال في "البئر يحرسها الموتى" فبعد أن يبني النص بناءً رمزياً جميلاً عن مجموعة من الرجال يبحثون عن بئر جديد لقرية يهددها الجفاف والعطش، وأم السارد الحبلى المتعسرة منذ ثلاثين عاماً ليتفجر الماء والولادة بنفس اللحظة، لكنه يحشر في النص أبيه الخبير الذي يختفي لتظهر جثته بعيدا عن البئر، ثم حوار عن سر الظهور وجملة إخبارية عن الموتى الذين يحرسون الآبار تجهض النص وتهلل دلالته الرمزية. في نصوص أخرى يجهض النص عندما يفتقد المغزى كما في "مكان طازج للجياع" و " فقاعات الطوفان" أو حينما يفتقد الرمز عفويته، فيبدو مفتعلاً وكأن الكاتب شرع بسرده مثلما يحل مسألة رياضية، وهذه الحالة تفسر جفاف وعدم طراوة الكثير من النصوص القصصية التي تنشر في الصحافة العربية، نجد ذلك واضحاً في "عاصفة من الفولاذ" فالرجال الذين يتجادلون عن عاصفة في الخارج قطعت الأشجار، ثم يقادون إلى السجن وسط جو صاحٍ بدو باهتين لا يوحون بأي دلالة رمزية، وكذلك الأمر في نصوص" المايسترو أعلى الشجرة" وطائر جناحاه من جليد التوقعات" و " ما يمكن فضحه عن علاقة أبي بكافكا" والنص الأخير أطول نصوص الكتاب وأضعفها، فبالإضافة إلى مباشرة رمزه عن أبيه والجنرال وحفل الأوسمة التي يرفضها الأب فيضرب حد الإدماء. يلحق الكاتب متدخلاً بجملة ملاحظات عن كون النص حقيقياً وليس بفنطازياً، وعن كون خاتمة النص من وضع أبيه قبل أن يغادر إلى مكان مجهول.
اللغة في نصوص المجموعة لغة سرد ناضجة أكسبها خبرة الكاتب الذي زاول كتابة الشعر مزيد من الرشاقة إلا من بعض التراكيب الضعيفة في استخدام أدوات الربط، ومن زوائد في الجملة السردية هنا وهناك كان ممكن تكثيفها بمراجعة النص مراجعة أخيرة.
#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)
Salam_Ibrahim#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كتاب يهجو الطغاة ويعرض لصريخ الضحايا مصاطب الآلهة مجموعة محم
...
-
مجلس جالية أم مجلس أحزاب الجالية؟!
-
المولود في المنفى كائن مكونٌ من الحكايات -أمسية صيفية-* مجم
...
-
المنفي ميت حي -البيت الأخضر - مجموعة عبد جعفر القصصية
-
قاب قوسين مني- مجموعة -هدية حسين- القصصية تصدع بنيان المجتمع
...
-
أصغي إلى رمادي لحميد العقابي الذات حينما تدمرها الطفولة والح
...
-
الكتابة والتجربة الكاتب النص الحياة5
-
الكتابة والتجربة الكاتب النص الحياة 5
-
ما بعد الحب رواية هدية حسين 1
-
ما بعد الحب رواية هدية حسين2
-
الحرب خربت كل شيء كم كانت السماء قريبة- رواية -بتول الخضيري-
-
الكتابة والتجربة الكاتب النص الحياة2
-
الكتابة والتجربة الكاتب النص الحياة3
-
الكتابة والتجربة الكاتب النص الحياة4
-
كتاب يهجو الطغاة ويعرض لصريخ الضحايا -مصاطب الآلهة- مجموعة -
...
-
عن معاناة اللاجئين في الشمال الاسكندنافي التأليف بين طبقات
...
-
المنفي كائن مشطور بين ثقافتين العنكبوت- مجموعة -علي عبد العا
...
-
الكتابة والتجربة الكاتب النص الحياة1
-
عراقيون أجناب رواية فيصل عبد الحسن علامات نضوج رواية القرية
...
-
عراقيون أجناب رواية فيصل عبد الحسن علامات نضوج رواية القرية
...
المزيد.....
-
تطورات في قضية اتهام المخرج المصري عمر زهران بسرقة مجوهرات
-
RT Arabic توقع مذكرة تعاون مع مركز الاتحاد للأخبار في الإمار
...
-
فيلم رعب لمبابي وإيجابية وحيدة.. كواليس ليلة سقوط ريال مدريد
...
-
حذاء فيلم -ساحر أوز- الشهير يُطرح للبيع بعد 20 عاما من السرق
...
-
تقرير حقوقي: أكثر من 55 فنانا قتلوا منذ بدء الحرب في السودان
...
-
-وتر حساس- يثير جدلا في مصر
-
-قصص من غزة-.. إعادة صياغة السردية في ملتقى مكتبة ليوان بالد
...
-
افتتاح مهرجان -أوراسيا- السينمائي الدولي في كازاخستان
-
“مالهون تنقذ بالا ونهاية كونجا“.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة
...
-
دانيال كريغ يبهر الجمهور بفيلم -كوير-.. اختبار لحدود الحب وا
...
المزيد.....
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
المزيد.....
|