مهدي بندق
الحوار المتمدن-العدد: 1908 - 2007 / 5 / 7 - 12:08
المحور:
الادب والفن
يثير هذا الكتاب – بمنهجه ومضمونه – عدداً من القضايا المعرفية التي تهم الدارسين في مختلف ميادين العلوم الإنسانية ، وبالأخص علم التاريخ History الذى يُعنى بإنتاج معرفة جديدة بالماضي ( البعيد أو القريب ) بمقدار ما هو مؤثر في الحاضر ، والتاريخ بهذه الخاصية هو عرض منظم للأحداث في محاولة للكشف عن أسبابها ، وإظهار ما بين جزئياتها من ترابط وتداخل ، بحيث تشكل قصة واحدة .
قارىء الكتاب سرعان ما يكتشف أنه بازاء حكاية وطن ، لا مجرد حكاية مجموعة من القتلة والسفاحين ، وآية ذلك أن السيرة الذاتية لريا وسكينة ورجالهما ، الذين أزهقوا أرواح سبع عشرة إمرأة ، تندمج في السيرة الإجتماعية والسياسية لمصر إبان العقدين الثاني والثالث في القرن الماضي ، حيث كانت البلاد ترزح تحت نير الإحتلال الأجنبى ، يعانى شعبها من النهب المنظم ، والأحكام العرفية بسبب الحرب ، فضلا عن النظام الملكى الوليد وريث الإستبداد التاريخى الملازم لكل عصور الوطن .
لكن كاتب التاريخ ، لا غرو أن يجد نفسه إزاء اتجاهين ، الأول : هو ما يسمى بالتاريخية Historicity ، وهي مدرسة لا تهتم بالزمن المتغير بقدر ما تنظر إلى البنية Structure التى تفترض الثبات، أو قل هي تثبت الصورة عن قصد لتدرس العلاقات القائمة بين جزئياتها وتفاصيلها ، بغرض اكتشاف العنصر الحاكم لها ، والمركز الجاذب لأطرافها . وفي كتابنا هذا ما يشير إلى استخدام المؤلف لهذا المنهج ، حيث نكتشف من خلال الرصد الدقيق لتفاصيل التفاصيل في حياة أبطاله أن عنصرها الحاكم ، ومركزها الجاذب إنما كان النظام الطبقى الذى يكرس الثروة القومية في أيادى القلة ، ويحرم الجموع الغفيرة حتى من لقمة العيش ، وفي ظل الفقر المدقع فلا يمكن لعاقل أن يتصور وجود أبنية أخلاقية راقية ، تمنع أصحابها من السقوط في هوة الإجرام .
أما الإتجاه الثاني : التاريخانية Historicism فهى فلسفة المؤرخ حال قيامه بعملية التأريخ ، بمثل ما نجد عند ابن خلدون ، وأرنولد توينبى ، واشنبجلر ، ممن لا يهتمون بسير الأفراد بل الجماعات . ومع ذلك فسوف نلاحظ أن صلاح عيسى- برغم تسليطه معظم أضواء الكتاب على أناس معينين بوصفهم أفراداً – لم يتخل قط عن منطلقاته الفلسفية ، التي ترتكز على المادية التاريخية ، وظهرت تجلياتها في كتبه جميعاً بدء من الثورة العرابية ، مروراً بمقدمته الهامة لكتاب ميتشل " الأخوان المسلمون مشكلة الماضي مأساة المستقبل " وكتابه " البرجوازية المصرية وأسلوب المفاوضة " وكتابه " مثقفون وعسكر " ودراسته النموذجية عن الأخوان المسلمين في كتابه " الكارثة التي تهددنا " إلى آخر الكتب والدراسات الهامة .
هنا قد يبدو التداخل بين التاريخية والتاريخانية في كتاب صلاح عيسى إشكالياً ، من وجهة نظر أصحاب المناهج من ذوى النزعة الأرثودكسية العلماوية Scientists هؤلاء الذين هاجمهم بول فيرآبند في كتابه ضد المنهج Anti – method . والحق أن فيرآبند كان محقاً في نقده لهؤلاء ، فالمنهج خُلق للكاتب ولم يُخلق الكاتب للمنهج . بالطبع ثمة ضرورة للمناهج ، لكن الضرورة إذا انفردت بملعب الكتابة فإن الحرية تطرد منه إلى غير رجعة ، عندئذ تتحول الكتابة إلى نوع من تحصيل الحاصل ، إذ ينتج الكاتبُ المضامين المحددة سلفاً في تضاعيف منهجه دون زيادة أو نقصان .
وعلى العكس من ذلك فإن الكاتب المبدع هو ذلك الشخص القادر على الإنتقال من منهج إلى آخر ، شريطة أن يكون مدركاً لما يفعل. وذلك بالضبط ما نجح فيه صلاح عيسى بإمتلاكه لناصية اللغة الأدبية جنباً إلى جنب لغة التقرير الدقيق المفصل الصارم . فأسلوب الحكي المثير في الكتاب الذى نعرض له هنا " رجال ريا وسكينة " يذكرك بأسلوبه الأدبى في كتابيه " حكايات من مصر " " وحكايات من دفتر الوطن " ، بينما التعليقات والتحليلات المطلة على مأساة المقتولين و القتلة (معاً) و التي تربط بين الخاص و العام لا شك تحيلك إلي إنجازه " المنهجي " في تحليل أسباب و نتائج " الثورة العرابية " وإلي رؤيته السياسية الثانية في كتابه " دستور في صندوق القمامة " إنما الخيط الرابط بين حبات العقد في كل هذه الكتابة هو الموقف المبدئي , المنحاز إلي العدل اجتماعياً , و إلي الديمقراطية و الحرية علي المستوي السياسي , وفوق هذا وذاك الموقف الفلسفي المناهض للوضعية Positivism , ( باعتبارها فلسفة القبول بالواقع ) , بينما ينتمي صلاح إلي فلسفات النفي بدء من أفلاطون إلي هيجل وماركس , حيث أبت هذه الفلسفات أن تعترف بالواقع الراهن , بل راحت تسعي إلي تغييره سواء بخلق عالم طرباوي , أو بالتأمل العميق الكاشف عن إمكانيات التجاوز , أو بالعمل Praxis علي تسليم الفاعلين الاجتماعيين الأدوات الفكرية و المعرفية اللازمة لمشاريعهم . وإلي هذا الاتجاه الثالث من فلسفات التفي تنتمي كتابات صلاح عيسي
*****
يختص عالم الإجرام Criminology بدراسة لجريمة , أسبابها , وأنماط تركيبها , وسبل علاجها و الوقاية منها , وأسباب معاملة المجرمين , وطرق عقابهم ..إلخ
وترجع أصول هذا العلم إلي القرن الثامن عشر الذي شاعت فيه فلسفة الإرادة الحرة , فكان التركيز علي مقولة إن المجرم – وحده – المسئول عن فض العقد بينه و بين المجتمع , ومن ثم وجب عقابه قصاصاً , ولردع الآخرين عن مخالفة القانون و النظام . بيد أن التطورات التالية حملت علي هذا المفهوم الضيق , خاصة في ظل فلسفات القرن التاسع عشر , و القرن العشرين التي تنظر إلي الأفراد بحسبانهم عناصر في بيئة اجتماعية مترابطة , يكون فيها المجتمع مسئولاً عن أفراده , بقدر ما يكون الفرد مسئولاً عن مجتمعه . وبلغ هذا التطور ذروته في التوجه نحو النظر إلي الانحراف Deviation كمصدر من مصادر المعارضة السوسيولوجية , وأحد تجلياتها في آن .
ذلك هو ما أغري ميشيل فوكوه أن يؤلف كتابين , صدرا عام 1975 عن بيير رفيير , الذي ذبح أمه وأخته وأخاه , وثانيها بعنوان " المراقبة و المعاقبة – مولد السجن" مطوراً المنهج الآركيولوجي ( الحفر الثقافي ) إلي المنهج الجينيالوجي ( التوريث الثقافي ) ساعياً به إلي ربط ما يعتمل في عقل الفرد , وعقل المجتمع من خوالج تتعلق بضرورة وكيفية الانضباط Discipline , ودواعي وأساليب العقاب Punishment وتغيرها بحسب تغير أنماط وعلاقات الإنتاج , المحددة للثقافات السائدة و المتلاشية . غير أن الملحوظ بشدة لجوء فوكوه في هذين , ومن قبلهما في كتابه " مولد العيادة" عام 1963 إلي البحث في سجلات المحاكم وأقسام الشرطة و المستشفيات عن الوقائع الجزئية , متقدماً منها إلي رسم صورة كلية شاملة للواقع الإجتماعي في انقطاعاته, وتمفصلاته, وانتقالاته إلي اعتناق رؤي ثقافية جديدة.
مثل هذا فعله صلاح عيسي, بامتياز, في هذا الكتاب الجديد " رجال رية وسكينة" مخصصاً وقتاً شاسعاً – لا ندري من أين أتي به- لتسجيل كل صغيرة وكبيرة تتعلق بهذا الحدث الرهيب, بدء من وضع بيلوجرافية شاملة لكل الشخصيات قتلة كانوا أو ضحايا , مروراً بالبلاغات ومحاضر الشرطة , وتحقيقات النيابة, وصولاً إلي وقائع المحكمة وتنفيذ الحكم, ثم تعليقات الصحف, وردود أفعال الجمهور, إضافة إلي النقد الأدبي لمن تصدوا للحدث (مثل نقده للأديبة لطيفة الزيات) والفنيّ لصناع مسرحية بديع خيري ونجيب الريحاني, وفيلم صلاح أبو سيف, وفيلم اسماعيل يس ومسرحية مدبولى وشادية. ولست أدري ما الذي كان سيكتبه صلاح من النقد للمسلسل التليفزيوني الذي أنتج مؤخراً مأخوذاً عن كتاب صلاح نفسه, لكنني- واضعاً نفسي في مكانه, ومستعيراً أسلوبه" المشاغب" أقول: ياليت هذا المسلسل ما كان, فلقد اعادنا إلي الوراء بايقاعه البطئ , وبسطحية التناول, بدلاً من التقدم بنا إلي الأمام رابطين بين الجمود الإجتماعي والسياسي لتلك الفترة, وبين الجمود الحاليّ تراجعاً من العقل الجمعيّ الوطنيّ أمام سيال العنف والإجرام المرعب في مرحلتنا الحالية.
لقد تحول كتاب فوكوه" أنا بيير رفيير: أقر وأعترف بأنني قتلت أمي وأختي وأخي" إلي فيلم سينمائي فرنسي, أدي فيه مشيل فوكوه – بنفسه- دور أحد القضاة الذي حاكموا بيير ( كان بيير يرغب في أن يدخل التاريخ مثل نابليون بونابرت! ولم لا ؟! ألم يكن قاتلاً مثله؟!) وأنا اقول ياليت السينما المصرية تنتج فيلماً شامخاً عن ريا وسكينة, اللتين دخلتا التاريخ دون رغبة منهما, بل عن رغبة اجتماعية مضمرة في الجسد المصري, الذي أنهكه الفقر والجهل والاستبداد طوال العصور, وياليت مؤلفنا صلاح عيسي أن يقوم بدور قاضي اليسار في هذا الفيلم المقترح.
#مهدي_بندق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟