|
منهج كروتوفسكي
هشام بن الهاشمي
الحوار المتمدن-العدد: 1907 - 2007 / 5 / 6 - 05:16
المحور:
الادب والفن
1 كروتوفسكي في سطور:
يعتبر كروتوفسكي واحدا من أشهر المخرجين العالميين بعد الحرب العالمية الثانية إلى جانب بيتر بروك وأنطوان أرتو وبريشت، وذلك لما اتسم به مختبره المسرحي من بحث في خصوصية المسرح من جهة، وفي فن الممثل من جهة أخرى. ولد كروتوفسكي عام 1933، بولندي الجنسية، درس فنون الإخراج بالمعهد العالي للفنون المسرحية بموسكو، وكذا بكراكوف البولندية. وفي سنة 1959، أصبح كروتوفسكي مخرجا مسرحيا لمسرح "13 صفا"، بدعوة من صديقه الحميم "لودفيك فلاشين" وذلك بمدينة "أوبولي" Opole، التي منحته كل الإمكانات لتطوير عمله وتنمية تجاربه المسرحية، وفي السنوات التالية، أصبح هذا المسرح الصغير الذي يديره كروتوفسكي يحمل اسم "مسرح المعمل – معهد أساليب التمثيل" إنه مركز أبحاث في أساليب التمثيل بالمسرح الفقير الذي يعد الممثل أهم ما فيه، إنها صياغة نوعية لمهمة جديدة في المسرح. ومن التجارب التي لعبت دورا في إبداعات تجربة ستانسلافسكي، وديلان Dullin، وتمارين البيوميكانيك لميرخولد، ونظريات فاختانكوف Vakhtangov، وظواهر مسرحية شرقية مثل "أوبرا بكين" و"الكاثا كالي الهندي" ومسرح "النو" الياباني، بيد أن منهج كروتوفسكي ليس تجميعا أو تركيبا لكل هذه التجارب إذ له صبغته الخاصة والمميزة التي تتحقق من خلال تطويع جسد الممثل لشتى أنواع التعبير.
2 رؤية كروتوفسكي الجديدة للمسرح:
لقد ظل ستانسلافسكي يبدي امتعاظه لانعدام تنظير يخص الممثل ويعينه في أداء دوره، وظل يحلم بركح بسيط وواسع يشغله الممثل. إن هذه الرؤية "الستانسلافسكية" نجد لها إجابات عند كروتوفسكي، لقد تساءل شأنه شأن مخرجين آخرين ذلك السؤال المحرق ما هو المسرح؟ فكانت الإجابة هي النتيجة التي تمخضت عنها أبحاثه في مختبره المسرحي حيث ولادة ما يسمى بـ"المسرح الفقير"، مسرح بدون موسيقى وأزياء باذخة وديكورات فنية ومؤثرات صوتية وأيضا بدون خشبة عرض. إن المسرح الذي يروم كروتوفسكي التنظير له ليس مسرحا مركبا من عناصر فهو "لا يقيم وزنا للمسرح الشامل، ويثور على وسائل الحرفية المتقدمة التي شابتها أفانين العصر الحالي وتطوراته التكنولوجية، وتلك في نظره سرقات لا يصح أن يوصف بها مسرحه الفقير"(1). إن مسرح كروتوفسكي يتحدد في نزعه كل الثياب المستعارة من ميادين أخرى عن المسرح، ففي لفظة لكل وسائل الفنون الأخرى المجتمعة في العرض المسرحي المصطنع احتجاج واضح على المسرح الباذخ والمترف الذي انتشر في أرجاء بولندا وأوربا بوجه عام. ففي المسرح الفقير لا توجد موسيقى، فأصوات الممثلين تمثل البديل، حيث تخلق الجو المسرحي المطلوب واللازم للعرض المسرحي عبر العويل والصراخ وضرب الأقدام على الأرض ... يقول كروتوفسكي: «اكتشفنا أن أبعاد الموسيقى الآلية من المسرح يسمح للعرض المسرحي بأن يغدو موسيقيا، أي إمكانية بناء الموسيقى في نطاق المسرح ذاته، أي التكوين الدرامي للصوت البشري، ومؤثرات تصادم المادة بمادة أخرى طرقات الأرض وما يشبهها، لقد عرفنا أن النص في ذاته ليس الأساس المسيطر في المسرح ولا يدخل في نطاقه، إلا عندما نراه بين يدي الممثل وما يفعل به، فهو يعامل باعتباره "نوتة" موسيقية بمثابة رابطة صوتية باعتباره لغة دخلت في تكوينها الموسيقية»(2).
وفي الإضاءة اقتصر على أضواء الشموع والبروجيكتورات المثبتة على الأرض يقول كروتوفسكي: «لقد تنازلنا عن اللعب بالضوء وقد منحنا هذا التنازل قدرات هائلة في مجال تطبيقات الممثل للضوء النابع من المكان الساكن، ووعي الممثل بالظل، والنقاط الواضحة وغيرها من الشؤون المتعلقة بالإضاءة وقد أوصلنا هذا إلى علامات الطريق للقاعدة الدرامية/ المسرحية التي تؤكد أن المتفرج مضاء»(3). لقد أضحت للإضاءة وظيفة جديدة إذ تتناول الممثل والمشاهد معا، ينبثق النور على أحد المشاهدين، فيشرع في التأهب استعدادا للمشاركة المسرحية مع بقية الممثلين، كما أن كروتوفسكي ليس في حاجة إلى إضاءة حقيقية وفعلية، فالممثل أس المسرح الفقير، بمقدوره التعبير عن إضاءة معنوية مستغلا قدراته الذاتية إنها الإضاءة الروحية. وفي عنصر الماكياج يقول كروتوفسكي: «لقد تنازلنا عن الماكياج، عن الأنوف المعدلة عن البطون المنتفخة، وبكلمات أخرى تنازلنا عن كل شيء يعد له الممثل في غرفة الملابس قبل خروجه منها والدخول في مجال رؤية المتفرج له»(4)، إن ممثل كروتوفسكي قادر عبر عضلات وجهه وقسمات محياه التعبير ببلاغة. وإذا كان الديكور هو مجموع العناصر التي تؤثث الفضاء الركحي وغايتها خلق الجو العام للمسرحية، فإن كروتوفسكي لفظ هذا المدلول وتلك الغاية لأن الممثل بتحركاته يقوم بتحويل الأرض إلى بحر أو مائدة أو منضدة ... . إن هذه الرؤية الكروتوفسكية الجديدة للمسرح الفقير استلزمت منه بالضرورة فضاء مسرحيا مغايرا للحلبة الإيطالية إذ لم يعد هناك وجود لمفهوم الخشبة، فاللعب يتم داخل صالة مستطيلة أو حجرة، فغذت حلبة التمثيل ساحة مشتركة للممثل والمتفرج.
3 الممثل والمشاهد في مختبر كروتوفسكي.
في مختبره المسرحي، عمل كروتوفسكي على إخضاع الممثل لمران طويل، حتى يكون مستعدا وقت العرض المسرحي، وقد اقتصرت التمارين على الصوت والجسد وهما العنصران المهمين عند الممثل لإعداد نفسه. في التمارين الصوتية يضع كروتوفسكي الممثل في الوسط، ويطالبه بإلقاء نصه مستغلا كل طاقات صوته، فالصوت هو وسيلة اتصال بين الممثلين والجمهور، إن الكوجيطو الكروتوفسكي هو: أنا أتصل بك فأنا أملك صوتا. أما التمارين الجسدية فقد اتسمت بالتعقيد، واستقى بعضها من تقاليد اليوغا الهندية والطقوس البوذية. ومن التمارين الأولية: • المشي بشكل إيقاعي مع تماسك الأيدي بالأذرع. • المشي على رؤوس الأصابع. • المشي محني الساقين والأيدي خلف الظهر. • المشي مع انحناءة في الساقين والأيدي تلامس أصابع القدم. • المشي بشكل مستقيم والأيدي إلى أعلى كأنها مرتفعة بواسطة خيط. ومن تمارين الاسترخاء العضلي وكذا العمود الفقري: • الأقدام على الحائط والأرجل تفتح تارة ببطء وتارة بسرعة. • الرأس مندفع إلى الأمام والأيدي موضوعة فوق الركيتبن. • الأرجل ملتصقة مع ثني الجسد حتى يلامس الرأس الركبتين. • ثني الجسد إلى الوراء لإحداث قنطرة حتى تلامس الأيدي الأرض. لم يكن هدف هذه التمارين رياضيا أو تحقيق مرونة جسدية، بل تطوير الإبداع باعتباره ذاكرة جسدية. فعبر التمارين الصوتية والجسدية يتوصل الممثل إلى تجسيد الدور عبر إقامة تناسق وخلق تناغم بين الأحداث الداخلية والأحداث الفنية، فمن خلال التنسيق بين صوت الممثل وجسمه يتم إيصال الكلمة والفكرة بشكل متناغم، ويبقى غاية التداريب في مختبر كروتوفسكي المسرحي ممثلة في اكتشاف الممثل لنفسه، فكما أن المرء يعبر عن حالات روحية بتخطيط أو رسم أو غناء أو رقص، فممثل كروتوفسكي عبر حركاته وقسمات وجهه وصوته ونغماته لا يعبر عن أفكار وإنما عن أحوال الروح العاطفية، فهو –أي الممثل- لا يؤثر بفعل ذهني، ولا يتقمص شخصية أخرى كما عند ستانسلافسكي بل يتحول إلى روح تلك الشخصية، وهذه الروح قادرة في الوقت نفسه على جذب روح المتفرج لتتحول أعمال كروتوفسكي المسرحية إلى ممارسات طقوسية. ففي مسرح كروتوفسكي يطلب من المتفرج أن يكون جادا في تلقيه للعرض المسرحي رغم أن بعض الحركات الجسدية يثير الضحك، وأن يقبل على فعل المشاهدة بجدية واحترام. إن مختبر كروتوفسكي ليس مجرد معمل لصنع عرض مسرحي وكفى، وإنما أجرى من خلاله تجارب على الجمهور، فالمعمل المسرحي طقس يحل محل الطقوس الدينية القديمة يقول كروتوفسكي: «الطقس هو ضرب من ضروب العرض المسرحي وهو فعل قائم بذاته، وأنا لا أسعى إلى اكتشاف شيء جديد، بل إنني أميط اللثام عن حقيقة طواها النسيان، حقيقية قديمة ترجع إلى العهد الذي لم تكن قد ماتت فيه الفوارق بعد يبن الفنون»(5). لقد أعاد كروتوفسكي للمسرح شكله القديم حيث كان الجمهور يشارك مشاركة جماعية في العمل المسرحي، فقد قادته أبحاثه المختبرية إلى القرى والطبيعة لممارسة طقوسه المسرحية حيث الظلم وضوء القمر والموسيقى حتى يصبح الفاصل بين الممثلين والمتفرجين سميك بل منعدم تماما فالكل يغني والكل يرقص والكل يعزف ليتحول العرض المسرحي إلى حلقة صوفية أو احتفالات دينية بدائية. إن البدائية هنا تتخذ شكلين بارزين: الشكل الأول: ممثل في النكوص إلى المسرح البدائي الذي لم يكن يركن إلى الماكياج والملابس والديكورات. الشكل الثاني: تحقيق التنوير الداخلي والكشف الروحي، فقد كان المشاهد القديم يخال أنه يتوحد بالإله ويشارك بالألوهية، ويؤثر في الظواهر الطبيعية والاجتماعية. إن وصف كروتوفسكي بالقديس ليس عبثا، إذ يسعى إلى تحقيق التواصل الذي يدفع المشاهد إلى المشاركة في العرض المسرحي، «ففي مسرحية "قابيل cain" لبايرون Byron يتحول المتفرجون إلى أحفاد قابيل، وفي مسرحية كورديان kordian للكاتب البولندي سلوفاكي slovacki يتحول المتفرجون إلى مرضى في مستشفى المجانين، وهم في نفس الوقت أعداء الأطباء»(6). وبغية تحقيق هذا الغرض أقام كروتوفسكي عروضه المسرحية داخل حجرة عادة تحذف فيها المنصة وهذا التقارب الفيزيقي بين الممثلين والجمهور سيخلق نوعا من الانصهار والالتحام، فإذا كان "بريشت –Brecht" يثير فكر المشاهد ويحرك حاسته النقدية فإن الأمر مختلف عند كروتوفسكي إذ يهتم بالجمهور الذي لديه اهتمامات روحية ولهذا الغرض فإن عرض المسرح الفقير يشاهده عدد محدود من المتفرجين حتى يتسنى شحنهم بشحنات روحية مؤثرة، إنه مسرح نخبوي لكن ليس بمعايير اقتصادية واجتماعية وثقافية. ويبقى مسرح كروتوفسكي حرب ضروس على المسرح تحول في نهاية الأمر إلى نبذ الفن عامة واعتماد الجسد كوسيلة وحيدة للإنتاج.
---------- حواشي ---------- )- أحمد زكي، "عبقرية الإخراج المسرحي المدارس والمناهج"، مطبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص: 139. (2)- Jerzy Grotowski, «vers un théâtre pauvre», traduction: Claude B levenson. édition l’âge homme, 1971, p: 20 (3)- Jerzy Grotowski, «vers un théâtre pauvre», … p: 19. (4)- Ibidem.
5)- بيتر بروك، تيري إيجلتون، سو، إلين كيسن وآخرون، "التفسير والتفكيك والأيديولوجيا ..."، تقديم: نهاد صليحة، الهيئة المصرية العربية للكتاب، 2000، ص: 77. 6)- سعد الأردش، "المخرج في المسرح المعاصر"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998، ص: 313.
لائحة المصادر والمراجع
• Jerzy Grotowski, «vers un théâtre pauvre», traduction: Claude B levenson. édition l’âge homme, 1971.
• أحمد زكي، "عبقرية الإخراج المسرحي المدارس والمناهج"، مطبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب. • بيتر بروك، تيري إيجلتون، سو، إلين كيسن وآخرون، "التفسير والتفكيك والأيديولوجيا ..."، تقديم: نهاد صليحة، الهيئة المصرية العربية للكتاب، 2000. • سعد الأردش، "المخرج في المسرح المعاصر"، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998. • حسن المنيعي، : الجسد في المسرح"، مطبعة سندي، ط 1، 1996.
#هشام_بن_الهاشمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شكسبير في ضوء النقد الثقافي:مسرحية -العاصفة- - نموذجا .*
المزيد.....
-
-جزيرة العرائس- باستضافة موسكو لأول مرة
-
-هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
-
عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا
...
-
-أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب
...
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|