أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - الرحيل إلى المجهول سجن عدرا















المزيد.....

الرحيل إلى المجهول سجن عدرا


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 1901 - 2007 / 4 / 30 - 11:47
المحور: أوراق كتبت في وعن السجن
    


عندما خرجنا من المفرزة.. تلقفنا باب حديدي ضخم يمتد من الجدار إلى الجدار.. بعدها على بضعة أمتارأخرى.. باب أخر.. فتح لنا.. قال الشرطي:
أدخلوا.
كانت الشمس قد أرخت جسدها الشتائي الرخو على الارض.. أسبلت جفنيها على المساحات الواسعة لعينيها الناعستين.. فرشت قسماتها.. روحها المبعثرة على الدنيا في ذلك اليوم الكانوني الباهت.. تغوص في ظلال الوقت الكثيف.. وتغيب في التنكر..
كان الوقت.. أشبه بلون الليل العتيق..
هكذا أخذ النهار الثقيل.. يمد خطواته في بعث الارتياب والشك.. في شعور من التردد والحيرة.
الزمن الجائر.. يمتزج بالقلق والتوجس.. وشيء من الذهول الدائم..
عيناي وذهني.. يرحلان إلى الزمن الطلق.. الزمن الأخرالذي لم يلد بعد..
السأم من هذا الوضع.. ينطوي على المجهول.. ترتسم أمامي وروحي جبال من المفاجأت الغير متوقعة..
أنظرإلى الجدران المزنرة.. العالية.. المهاجع والممر الطويل.. أراقب المكان الذي سيحتوي قلبي وروحي.. حريتي.. في رحلة محفوفة بمصير غامض.. وقدر عصي على المعرفة.
تأملت الباحة.. كل شيء يصدني.. أضحت الحياة صندوق مغلق.. مفتاحه بيد سجان.. جلاد متوحش.
صار الخابوربعيداً.. رائحته.. سحره.. قربه من السماء.. أشعة شمسه الحنونة.. بوهيميته وجنونه.. فرحه الدائم.. احتفالياته المسكونة بولادة الجسد والماء.. غاب عني.. رطوبة أرضه المعطرة برائحة الشمس البيضاء.. وزفرات الندى.. التي تتوهج كالؤلؤ المنثور.
الخابور.. الطفل المدلل.. الشيخ الوقور، الرصين، الهادى، الواثق من نفسه، المبتهج دائماً.. بعلاقاته المتنوعة والمتعددة.. مع أشجاره ونباتاته.. ناسه وأحلامه.. حيوناته وكائناته الأخرى.
يخط سيره بمتعة وفرح أغلب الاحيان.
عاصرالقدر.. ونام بجواره.. متكئاً على أشجاره وماءه وترابه.. على البشرالذين مروا على كتفيه وصدره.. ناس وبشر من مختلف الأنواع.. من بداية التأريخ.. منذ أن كتب الانسان.. أول أبجدية.. دوّن نفسه على الأحجاروالفخار..
الخابور.. ديمومة مستمرة.. ألق الحياة.. قبل تشكل الوعي وبعده.. ولد معي.. انحدر من ملامحي.. من المنعطفات البعيدة والقريبة.. مر من قربي.. ألتف وراء ضفافي وحولي.. عندما ينحرف.. يميل ويغيب عن ناظري.. ينبسط ويقترب من مستوى جسدي.. الارض وأمتداداتها.. يفرش نفسه كشاطئ رملي.. يمكن ان تتبضع منه ما تشاء . ثم يعود لينحدر ثانية الى العمق ويتجوف كالكهوف الوثنية فيبتلع نفسه.. وكل من يقف في طريقه.. مزمجراً ونافثاً روائحه وجلود أسماكه وطميه وبقايا أشجاره على السطح.. عندها يعود ليلتحم بي من جديد.. برفقة الكون والحياة..
كنت هناك..
الخابور كان أنا.. لم يحس بالخطر القادم.. مطمئن البال ومرتاح.
كان..
وما يزال.. مئات الآلآف من السنين.. سنة وراء سنة.. مضطجع ونائم على خاصرته اليمنى أو اليسرى.. على ظهره أوبطنه.. رغم المخاطر.. لم يحس بالخوف أو الرعب.. أعتبركل شبكة غريبة.. خلية دخيلة أو مجس مرفوض.. لهذا ظل مطمئناً.. مستسلماً لمعانقة الحياة..
بقى وما يزال.. يعانق القدر دون ان يجهز الوسائل لتبقيه على قيد الحياة.. يقول لنفسه:
كما جاؤوا سيرحلوا.. سيذهبوا ويزولوا..
الوداعة جزء من طبيعته.. لا يعرف الغدر والخديعة.. يقفزوينط.. يمشي ويغني.. يضحك ويصيح.. بسبب أودون سبب.. يتحرك في الأرض الملتصقة به.. لم ير أويشاهد النصل الحاد فوق رأسه ورقبته.. تحت جدعه وفمه.. بين فخذيه وشرجه.. مسترخياً لمصير غامض .
الخابور.. يريد أن يبقى وديعاً.
القدريحوم حوله.. اسرار غريبة ترمي شباكها حول روحه.. لكنه.. مستمرفي رسم سيفونيته الخالدة.. وأنا.. الذي منه.. صار.. وصرت بعيداً عنه.. وبعيد عني.
عندما جاؤوا إليه.. جاؤوا.. خلسة في أواخرالليل المدلهم.. البارد.. كان الخابور.. نائماً في حضن الزمن.. جاءته قطعان متوحشة.. قطعان غريبة الأوصاف والأشكال.. رابطوا وراء الأكمة.. زحفوا ببطء شديد.. كأسراب الجراد أوالحيونات الخرافية الجائعة.. تلتهم كل شيء.. بدأوا ببياض عينيه.. أخذوا يحفرون بقسوة حتى وصلوا إلى الحدقة والاعصاب.. راحوا يسرقوه ببطء.. يسرقون كل شيء.. أحجارمدافنه.. شواهد القبور.. ويقتلعوا الأماكن الخصبة فيه والقابلة للحياة..
كانوا في أبرة واحدة وخيط واحد رفيع.. لكنه طويل.. متماسكين وأيديهم مشدودة ببعضها البعض بوشائج سميكة مترابطة.. يدفعهم الظمأ لرائحة الدم العطرة.. واقتلاع كل من يقف في طريقهم.. دخلوا في الجذور.. مضوا في نبشها وتخريبها.. كانوا يتلذذون بشي كل شيء حي.. يضعونه على النارالهادئة.. يتنقلون بغرابة عجيبة.. من مكان لمكان.. بسرعة هائلة.. كالطيوف أوالقطعان القاتلة.. يمرون.. يحملون الادران المقيحة في قلوبهم وأيديهم.. يفرغوها فوق وسائد السهول والمساحات المفتوحة..
أضحت مملكة العتمة سميكة.. متماسكة.. وتتغير الأشياء بغرابة وتندثر.. بينما الخابور مستمرفي سلق الزمن برتابة غريبة وأطمئنان أحمق.
هكذا دخلنا السجن.. مملكة الجلاد وعرينه العالي والمتسيد..
مشينا في الممرالطويل..
كل شيء رمادي وباهت.. ألوان الحيطان والسقف.. لون الحياة ومرارة الأنتظارالطويل.
مشينا في الممربحدود عشرة أمتار.. صعدنا بضعة درجات.. بعدها فسحة بحدود خمسة أمتار.. بضعة درجات أخرى.. صرنا في الممرالطويل.. طوله بحدود مئة وعشرون متراً.. يمتد من المهجع الثاني إلى الشبك الحديدي للمطعم.. يطل على ستة مهاجع.. بين المهجع والأخرباحة.. وعلى إطلالة كل باحة نافذة كبيرة عليها شبك معدني سميك يمنع الرؤية ويكون بمثابة عازل.. حتى لا يرى سجناء الحق العام.. السجناء السياسيون وبالعكس.
وصلنا إلى الباحة الرئيسية وهي بحدود خمسة وعشرون متراً في ثمانية عشرة متراً.. كان الباب مفتوحاً.. وقفنا على مصطبة الدرج ورحنا نتأمل الغيوم المتناثرة في قبة السماء.
بينما كنا وقوفاً.. نتأمل محيط الباحة.. اقترب منا أحد السجناء.. يلبس بيجما زرقاء.. سألنا بصورة مباشرة.. قال:
ــ هل أنتم سجناء الحق العام أم سياسيون.. قال محمد خير:
ــ نحن سجناء سياسيون.. أردف:
ــ من أي تنظيم..
الحقيقة أستغربنا من أسئلته المباشرة.. والواضحة.. أهتمامه وصراحته.. التي لم نعتادها خارج السجن.. رد عليه محمد مرة أخرى:
ــ نحن.. من الحزب الشيوعي / المكتب السياسي/.
رحب بنا وقال لنا: تعالوا معي إلى المهجع الثاني.. فهو مهجع رفاقكم.. أستغربنا من وضوحه مرة ثانية.. سألناه:
ــ هل يوجد هنا.. سجناء سياسيون.. قال: نعم.. وأردف:
ــ المهجع الثاني.. هوللحزب الشيوعي/ المكتب السياسي/.. بينما المهجع الرابع.. هو لحزب العمل الشيوعي.. والمهجع السادس.. للأخوان المسلمين.. والثامن للنقابيين.. نقابة المهندسين ونقابة المحامين.. والمهجع العاشر.. لتنظيم الشعبي الناصري.. والثاني عشر.. لأطفال أحداث الشغب في اللأذقية مع سجناء الحق العام.. وخاصة الجرائم الأقتصادية. توقف قليلاً وراح يشير بيديه على كل مهجع بينما نحن نمشي معه.. قال:
ــ لكن في كل مهجع قوى أخر.. وأحياناً الأختلاط بين القوى.. متعدد ومتنوع.. ففي المهجع الثاني.. يتواجد مع المكتب السياسي.. أربعة أشخاص من حزب العمل الشيوعي.. وخمسة من حزب البعث العربي الأشتراكي/ العراق/.. بينما في المهجع الرابع.. الأغلبية من حزب العمل الشيوعي.. لكن فيه ستة من حزب البعث العربي الأشتراكي/ صلاح جديد/.. وواحد من حزب العمال الثوري العربي.. وواحد من الحزب الشيوعي/المكتب السياسي/.. بينما في المهجع السادس بالإضافة إلى تهمة الأنتماء إلى الأخوان المسلمين.. يوجد أثنان من حزب التحريرالأسلامي.. وواحد من التنظيم الشعبي الناصري.. وستة من حزب البعث العربي الأشتراكي/ العراق/.. بينما المهجع الثامن فيه ثلاث أفراد من نقابة المحامين.. وثمانية من نقابة المهندسن.. وثلاثة من المتهمين بالأنتماء إلى الأخوان المسلمين مع مجموعة من الرهائن.. الشيخ أبو سليم وولديه.. وصهريه.. كلهم من محافظ درعا.. أما المهجع العاشر.. ففيه التنظيم الشعبي الناصري مع بعض الرهائن أيضاً.. أزواج بنات الشيخ الجليل مع أثنان من حزب العمل الشيوعي وواحد من حزب البعث العربي الأشتراكي/ صلاح جديد/.. وبعض المتهمين بالانتماء إلى حزب البعث العربي الأشتراكي/ العراق/ مع بعض الأفراد من أحداث الشغب.. أما الثاني عشر فهو خليط عجيب من كل الأنواع سأمرعليه لأحقاً. ثم أردف بصوته الجهوري العالي:
ــ جميع السجناء لهم مدد طويلة في السجن.. تنقلوا بين عدة سجون.. التحقيق العسكري.. القوى الجوية.. سجن القلعة.. الشيخ حسن.. ثم عدرا.. وراح يسأل:
هل جئتم من سجن الشيخ حسن أم من فرع التحقيق.. رد عليه محمد خيربأقتضاب:
ــ جئنا مباشرة من سجن الحسكة.. لم نمر على سجن الشيخ حسن.. قال: هذا فال خير.. إنه سجن صعب للغاية.. وقديم جداً.. زنازينه تبعث على الكآبة من اللحظة الأولى.
منذ دخولنا المهجع الثاني.. قال السجين الذي قادنا بصوته الجهوري والعالي.. موجهاً كلامه للجميع:
ــ لديكم رفاق جدد.. معتقلون جدد.
نهض الجميع من أسرتهم واقتربوا منا.. راحوا يسلموا علينا.. ويرحبوا بنا.. وعلى وجوههم علامات حزن دفين.. وكانت أكثر الأسئلة التي تتوارد منهم: الحمد لله على السلامة.. لا تخافوا.. مرحلة التحقيق أنتهت.. ما دمتم.. جئتم إلى هنا.. إلا إذا أستجد شيء جديد لديهم.. أي لدى الأجهزة الأمنية.
وتعود الأسئلة تطرح بالحاح أكثر..
ــ هل هناك معتقلون جدد؟.. غيركم في الخارج!.. هل هناك ملاحقون؟.. عددهم؟.. من أية أحزاب؟.. هل هناك حملة جديدة على الحزب؟.. الأحزاب الأخرى؟.. ما هو حال الشارع.؟.. وضع الناس والأحزاب؟.. نشاطها؟.. وضع السلطة وعلاقتها بالمجتمع؟.. أسلوب التعذيب.. هل هو قاس؟.. أم أن الأجهزة مسترخية؟.. من خلال الأجابات البسيط.. تتولد لدى السجين القديم.. الذي أمضى سنوات طويلة في السجن.. أنطباع عام عن الحياة.. لظنهم أن السجين الجديد.. القادم من الحياة العامة.. يعرف كل شيء.. لهذا يتفحصون كل كلمة.. وكل حرف يقولها.. تراهم.. يحللون هذه الكلمات ويركبونها.. وكأنها نبراس أو دستورمطلق.. لأحساسهم بأن السجين الجديد.. مطلع على أخبارالوطن كله.. وكل اوضاعه العامة والخاصة.. ولأن محيط السجن صغير.. يتحول العالم الخارجي لديه إلى جزيرة صغيرة.. وجميع الناس تعرف بعضها البعض.
دائماً.. السجين القديم يحس بالكآبة.. عندما يستقبل سجين جديد.. يتولد لديه إحساس بالنفوروالعجز.. يشعرأن السلطة مستمرة في البطش والأعتقال.. وأن لحظة الأنفراج بعيدة.. وسجنه عائم ومستمر.. وأن سيف السلطة مشرع.. سيف خارج من غمده.. يضرب كل من يقف في طريقه.. تتوالد لديه أسئلة حارقة ومؤلمة.. متى سنخرج من السجن.. وبأي ظرف.. الشروط التي ستدفع مقابل الخروج من السجن.. كما إنه يعرف تماماً.. أن خروجه من السجن مرتبط بجملة شروط.. محلية وأقليمية ودولية.. وغير ذلك وهم وضحك على الدقن..
بل لدى السجناء القدامى.. تجربة معروفة مع هذ النوع من الأنظمة.. حيث يوضع السجين في السجن.. هنا.. في هذا المكان.. دون سؤال أو جواب.. إلى أن يتعفن أو ويموت من القهر والغم.. ولا يخرج إلا في ثلاث شروط.. إما جثة هامدة.. أو مرض مستعص كالسرطان أو غيره تؤدي به إلى القبر.. أو بعفو مشروط من رأس النظام.. يتحول فيها صاحب الحق/ السجين/ إلى دمية بيد السلطة.
كنت بين جدران الأمل.. أنظرحولي.. بشر وأشياء.. كصور متنقلة أو حلم غريب الأطوار.. مثبتاً بصري على الوجوه.. ابتسامات مرهونة للزمن.. فيها قدر كبير من المرارة والقهر.. صور لحنين وأمل بعيد.. أرواح مدفونة في عزلة بعيدة.. غائب عنها ألوان الحياة والفرح.. في ظل حصاركبير.. وبمجاهدة رحت أطوف على سطح المياه العذبة.. كالهمسات الخافتة أو الضوء المنبعث من مصابيح البحار البعيدة.. صوتي يرتد علي في ظل الانكسارات المريرة.. في أرض معزولة.. وحدود مغلقة.. أسير في ظل هذيان لا مرئي.. احمل بوحي وأرحل لبعيد.
كنت أنظر إلى السجناء.. إلى وجوههم الحزينة المتعبة.. أعوام طويلة مركونة في زوايا الاهمال.. كل واحد داخل سرد مغلق.. صامتاً.. مبتلعاً كلماته المخنوقة في حنجرته..
تكوموا جميعهم حولنا.. رفاقنا في المكتب السياسي.. أحمد فايز الفواز.. عمر قشاش.. نقولا الزهر.. مصطفى حسين.. أمين مارديني.. عدنان أبو جنب.. عدنان مقداد.. حمزة حبوس.. يوشع الخطيب.. المرحوم رضا حداد ومنير الحصني..
حدق أحمد فايز الفواز فينا وقال:
ــ الحمد الله على سلامتكم.. هنا.. في هذا المكان الشيء الوحيد الذي عليكم القيام به.. هو الأهتمام بصحتكم.. النفسية والجسدية.. السجن.. طويل ومفتوح.. أفاق الخروج منه بعيدة.. لذلك عليكم مزاولة الرياضة اليومية.. أن تنسوا الحياة في الخارج وتركزوا أهتمامكم على القراءة.. يوجد في السجن مكتبة كبيرة.. فيها كتب متعددة ومتنوعة.. تأريخ.. سياسة.. أدب وفن.. كل ما تحبون قراءته. الزيارت هنا كل أسبوعين للسجناء القدامى بينما زياراتكم ستفتح.. ربما بعد سنة أو أكثر.. هذا مرهون بتقديراتهم.. وأمزجة الأجهزة الأمنية.
كان عدد السجناء في تلك المرحلة.. في سجن عدرا بدمشق.. بحدود المئة والخمسون سجيناً سياسياً.. موزعين على مختلف القوى السياسية السورية المعارضة للنظام السياسي في سورية.
بعد فترة راحة واسترخاء.. وحديث عام.. جلب يوشع الخطيب المقص وتقدم نحوي.. قال في أشارة موجهة لي:
ــ تعال أجلس هنا.. أشار إلى كرسي مصنوع من أربعة علب حليب كبيرة.. مربوطة بخيطان مجدولة.. مسك رأسي وراح يحلق شعري أولاً.. ثم شعرمحمد خيرثانياًً..
بعد لحظات قليلة من أنتهاء الحلاقة.. أعطانا رفيقنا حمزة حبوس شفرة حلاقة مع صابونة.. حلقنا دقوننا الطويلة.. ثم تحممنا في مكان ضيق.. متر في متر..
بعد الحمام جلسنا على سرير نقولا الزهرالمحاذي لسرير عمرقشاش..
كل دقيقة.. أو دقيقتين.. كان يدخل أحد السجناء من المهاجع الأخرى.. يسلم علينا ويرحب بنا.. كأننا في عزبة أو مضافة عرب.. في صحراء داشرة لا ناس فيها.. سوانا! حيث الحياة فيها خاضعة لشروط مرتبة ومنظمة.. لكون الكثير من السجناء لهم مدد طويلة.. تصل إلى سبعة أعوام.. ومرشحة لتبقى عشرات السنين القادمة في هذا السجن أو السجون الأخرى.. بالتالي.. الكثير منهم يتعامل مع المكان كأنه مكان دائم.. بيته ووطنه.. حياة مؤبدة في السجن.. ولهذا كانوا يقسمون المكان بالسنتمتروأعشار السنتمتر.. حدود عالية في العلاقات الشخصية.. هذا لي.. وهذا لك.. بدقة كبيرة.. سواء في الأكل أو الحمام أو التنظيف.. سواء في تنظيف المراحيض أو المهجع.. في غسيل الثياب أو سماع الراديو.. في لحظات الأسترخاء والتأمل.. حيث خصص كل مهجع لنفسه.. ساعتين من كل يوم.. يكون فيها الصمت كاملاً.. يسترخي كل واحد على سريره.. كأنه يمارس اليوغا.. أو كناسك يناجي ربه في صومعة بعيدة.. أو يقرأ في كتابه.
كانت أسرتنا.. الفرّش والوسائد.. مرمية على الجدار المحاذي للمهج السادس..
بقينا ذلك اليوم.. بين رفاقنا إلى حلول الظلام.. إلى حين أغلاق الأبواب.. أو ما يسمى وقت التأمين.. حيث يدور الشرطي كل يوم على المهاجع ويقرأ الأسماء ويتفقد السجناء.
دخلنا المهجع السادس مع أسرتنا.. عند الساعة الخامسة مساءاً.. قرأ الشرطي أسمائنا.. أغلق الباب من الخارج ومضى.. كنا وقوفاً بجانب أسرتنا في ممر المهجع بأنتظار أن يجدوا لنا مكاناً في المهجع..
كان رئيس المهجع.. محمد خوجة.. من المتهمين بالانتماء إلى حزب التحريرالاسلامي.. يسعى إلى أيجاد مكان لنا.. حيث يحتل أحد عشرة سريراً من كل جانب على الارض.. وهي للسجناء القدامى.. بينما.. مثلنا.. الجدد!.. يجب أن يوضع فوق سرير أرضي أخر.. سرير فوق سرير.. أجرى خوجة القرعة على المكان.. فوقع الأختيار.. أنا.. سريري فوق سرير.. بسام الأشقر.. وسريرمحمد خير.. فوق سريرحسين قلة.. كلاهما من المتهمين بالانتماء إلى الاخوان المسلمين..
جل سجناء الأخوان.. كانوا.. قد أمضوا سنوات سجنهم السبعة في سجن تدمرالعسكري قبل جلبهم إلى سجن عدرا.. هؤلاء.. لم تثبت عليهم أية علاقة مع التنظيم.. لذلك.. كانت السلطات السورية قد قررت الأفراج عنهم.. كل شهرأثنان.. لكنهم بقوا في السجن.. خمسة سنوات أضافية قبل الأفراج عنهم.. أي إلى نهاية عام /1991/.
كانت الأسرة معدنية.. عرضها بحدود سبعين سم.. وطولها بحدود المترين.. مثل أسرة الجيش والشرطة.
يتبع..



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحافلة البرتقالية
- الرحيل إلى المجهول الترحيل
- الرحيل إلى المجهول سجن الحسكة
- الرحيل إلى المجهول غيض من فيض
- الرحيل إلى المجهول التحقيق
- الرحيل إلى المجهول 1
- الحب.. وأشياء أخرى
- الهرم
- تحت ظلال بادية تدمر
- الدولة والمجتمع وفق منظورأخر
- بعد المعركة الطويلة على لبنان
- الثائر.. الملك السويدي كوستاف الأول
- النظام الدولي وآلياته
- غرفة التحقيق
- النظام العربي
- ظلال الوقت
- من الذاكرة.. إلى الذاكرة
- السجن..مرة أخرى
- الليل في سجن تدمر
- بعض الذكريات من منزل الموتى


المزيد.....




- في يومهم العالمي.. أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة ألهموا الع ...
- سويسرا تفكر في فرض قيود على وضع -أس- الذي يتمتع به اللاجئون ...
- كاميرا العالم ترصد خلوّ مخازن وكالة الأونروا من الإمدادات!
- اعتقال عضو مشتبه به في حزب الله في ألمانيا
- السودان.. قوات الدعم السريع تقصف مخيما يأوي نازحين وتتفشى في ...
- ألمانيا: اعتقال لبناني للاشتباه في انتمائه إلى حزب الله
- السوداني لأردوغان: العراق لن يقف متفرجا على التداعيات الخطير ...
- غوتيريش: سوء التغذية تفشى والمجاعة وشيكة وفي الاثناء إنهار ا ...
- شبكة حقوقية: 196 حالة احتجاز تعسفي بسوريا في شهر
- هيئة الأسرى: أوضاع مزرية للأسرى الفلسطينيين في معتقل ريمون و ...


المزيد.....

- ١-;-٢-;- سنة أسيرا في ايران / جعفر الشمري
- في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية * / رشيد غويلب
- الحياة الثقافية في السجن / ضرغام الدباغ
- سجين الشعبة الخامسة / محمد السعدي
- مذكراتي في السجن - ج 2 / صلاح الدين محسن
- سنابل العمر، بين القرية والمعتقل / محمد علي مقلد
- مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار / اعداد و تقديم رمسيس لبيب
- الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت ... / طاهر عبدالحكيم
- قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال ... / كفاح طافش
- ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة / حـسـقـيل قُوجـمَـان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - أوراق كتبت في وعن السجن - آرام كربيت - الرحيل إلى المجهول سجن عدرا