|
زهور بلاستيك رواية الفصل الخامس
شريف مليكة
الحوار المتمدن-العدد: 1903 - 2007 / 5 / 2 - 12:21
المحور:
الادب والفن
إيزابل
بستان وكله زهور والقلب شاف زهره قام إنخلع م الشوق.. داب وانتشى ف سهره الشوك بيجرح.. آه.. أصل البنيه ضحيه الجدر جوا الطين.. بس العيون طاهره
وفى صباح الأحد ذهبنا إلى الكنيسة، أمى وأنا، ثم إصطحبنا القس بعد إنتهاء القداس، ومعه جزء من ذخائر التناول فى آنية ذهبية صغيرة ليقدمها لأبى المُقعَد بدار المسنين.. ورأيت الفرحة فى عيونه لمَّا دلفنا بغرفته الصغيرة بالدار.. وسأله (أبونا) عن حاله فأومأ برأسه مبتسمًا.. لأنه كان قد فقد القدرة على الكلام منذ إصابته بالجلطة لأعوام الآن.. وكانت محاولاته للحديث مؤلمة فى البداية، لأنه كان يجاهد بشكل واضح ليلفظ بكلمة هنا أو هناك، يلملها من جنبات ذاكرته المسجونة فى مكان ما برأسه، محاطة بجدار فولاذى يعجز ضعفه عن إختراقه بفعل ذلك المرض اللعين.. ولكنه بدا لى وقد إستسلم مؤخرًا لهذه المعركة الخاسرة، فإستبدل الكلمات بإيماءات مصحوبة ببسمة، أو بزجرة، حسب الموقف.. صلـَّى القس فوق رأسه ثم ناوله الجسد والدم وإنصرفنا، تودعنا نظراته الحانية..
وتركتهم بعدها وإتجهت إلى "سنترال بارك"، تلك الحديقة الوارفة بقلب نيويورك، لأقابل سامى.. وجدته منتظرًا بإبتسامته اللزجة المعهودة، فسألته إن كان قد بقى لزمنٍ طويل حيث أننى كنت قد جئت فى موعدى، فأجاب أنه قرر المجئ مبكرًا ليستمتع بجمال المكان وحتى يحين موعد لقاءنا.. أشار إلىَّ بدفتر كان يحمله، وفتحه أمامى مقلبًا بصفحاته بزهو، وإذا بها مذكراته التى كتبها عن تجربته بالجزيرة.. قال أنه جاء به لتساعده كلماته المكتوبة على تذكر تفاصيل ربما لم تسعفه الذاكرة فى سرد حوادثها.. ثم بدأ حديثه ثانية، من حيث توقف فإستشعرت رغبته الملـِّحة فى إسترجاع أحداث روايته..
* * *
بدأت العمل بعد يومين، كنت قابلت إيزابل فيهما مرتين، طفنا فيهما بسيارتها بكل أنحاء البلدة تقريبًا، وأدركت بأن المدينة هى عبارة عن جزيرة متوسطة الحجم يحيط بها البحر من كل جانب.. وشعرت فى اليوم الثالث بتعلقى بإيزابل ولهفتى للقائها، وتوددت لها أكثر لعلها ترتضى أن نعاود لقاءاتنا حتى بعد إستلامى للعمل، وكنت متخوفـًا من أن يكون إستلامى للوظيفة الجديدة سببًا لإنتهاء مهمتها فى مرافقتى.. ولسعادتى إستجابت إيزابل لدعوتى لمقابلتها فى اليوم التالى بعد إنتهاء ساعات العمل لنتناول الطعام سويًا.. وتوالت لقاءاتنا من بعدها، ونما تدريجيًا إعجاب متبادل، مغلف بالشهوة من ناحيتى، وبالفضول، وكأننى حيوان تجارب، من جهتها.. أعتقد أن دراستى بكلية التجارة كانت السبب فى إلحاقى بهذه الوظيفة بالذات.. وكانت رئيستى "سوزان وايت" إمرأة سوداء شديدة السمنة، فى منتصف الثلاثينيات، كسولة وثقيلة الحركة بسبب آلام فى ركبتيها، عالية النبرات، تبتسم قليلا ً فتظهر أسنانها الناصعة البياض، سريعة الغضب أوالفرح لأهون الأسباب.. لم تبد إرتياح لإستلامى العمل لما وجدته منى من إنعدام القدرة على التعامل مع الكومبيوتر.. والحقيقة أننى، وحتى ذلك اليوم، بحمد الله لم أكن قد قابلت جهازًا للكومبيوتر وجهًا لوجه من قبل.. وكان ذاك يستلزمها بأن تقوم بمزيد من الجهد لتأهيلى لإتمام جوانب وظيفتى، الأمر الذى وجدَته ثقيلا ً على قلبها.. كما أننى لم أقابل سعيها لتعليمى بالإرتياح من ناحيتى لكونى أولا ً وآخرًا رجل صعيدى لا أرضى لإمرأة أن ترأسنى فى العمل، ناهيك عن تعليمى لمبادئ وأساسيات التعامل مع ذلك الكومبيوتر التى لم أفقه عنها شئ، والتى أشعرتنى هى بكل ما فى وسعها بضآلة أفقى ولامحدودية غبائى.. ثم لقبحها الشديد، بالمقارنة بإيزابل بالتأكيد، فلم تثر الزوبعة الأنوثية من حولها، ولأول مرة أجدنى محصن ضد سحر النساء.. وأخيرًا لأنى لم أكن أفهم إلا أقل القليل من لغتها بسبب لكنتها الغريبة التى عرفت فيما بعد أنها خاصة بأهل الجنوب.. "يعنى صعيدى على صعيدى مايركبش.." جاءتنى يومًا قائلة أنه هناك مكالمة تليفونية تنتظرنى، فذهبت الى غرفتها وسمعت صوت إيزابل: ـ "آسفة لمكالمتك أثناء العمل، ولكنى عثرت على صديقك عامر شندويلى ، ففكرت فى أنك سترغب بأن تعرف فى الحال، وقد عرفت لك عنوانه ولكنى لم أنجح فى الحصول على تليفونه.. يبدو أن الرقم غير منشور بالدليل بناء عن رغبته".. ـ "سأراكِ الليلة إذن؟" سألتها فرحًا بهذا الخبر.. ـ "أوكى.. السادسة والنصف مناسب لك؟" .. وضعت السماعة وأنا أحلم بقرب لقائى بعامر.. أذكر جيدًا منظر إيزابل فى تلك الليلة.. جاءت تتبختر بفستان أحمر قانى، مشدود بمقدمته بصف من الأزرار السوداء اللامعة، تركت هى الزرارين الأول والأخير مفتوحين فبرزت مقدمة نهديها البيضاء وأسفل فخذيها فوق ركبتيها مع كل خطوة، وقد ركزت عينيها البنفسجيتين المشعتين إغراء، الى عينى فأذوب هيامًا كالعادة.. وتركت شعرها مسترسلا ً فوق جبهتها وكتفيها تتراقص خصلاته على إيقاع خطواتها، وقد مالت برأسها قليلا ً بدلال وهى تقول: ـ "هاى.. كيف كان يومك؟.. ما رأيك فى أن نذهب الآن لنبحث عن صديقك ثم نصحبه معنا للعشاء؟" وتفكرت عما إنكنت أود أن أبحث الآن عن عامر بعد أن سرى سحر هلـَّتها المشرقة بكل كيانى.. ـ "لماذا تنظر إلى هكذا؟" قالتها بنبرة مستنكرة، وإن كانت بعد فى حدود اللياقة.. لم أجد ما أرد به سؤالها، أو بمعنى أوقع لم أجرؤ على البوح بما إعترانى عندما رأيتها فى ذلك الفستان المثير.. أهناك أى إحتمال ألا تكون قد إرتده خصيصًا لإغرائى وغوايتى؟ ولكن ماذا أقول لها عن ذلك الآن؟ أأصارحها بتلك التساؤلات، ولكنها قد لا تتفهم مشاعرى، أيمكن أن أجرحها بالإجابة التى أريدها لسؤالها؟ ولم أجد بدًا من أن أجيب بضحكة مبتورة، عصبية، متشنجة، وأنا أركز عينى نحوها، مستعطفـًا إياها أن تجنبنى الإجابة.. ولكنها إستنكرت ردة فعلى تلك وقالت مغيرة دفة الحديث: ـ "ألم يكن هذا هو حلمك منذ جئت، أن تعثر على صديقك عامر؟" فأجبتها: ـ "عامر.. أعنى.. أين سيذهب؟.. ممكن أن أزوره غدًا أو بعد الغد.. إنما أنا بصراحة.. لا أريد أن أتعبـِك معى.." فردت هى بلهجة متعجبة: ـ "كنت أعتقد بأنك سترقص فرحًا عند سماعك بأنى عثرت على عنوان عامر، وتهيأت لإصطحابك إليه لأفرح معك لرؤيته بعد هذا الفراق الطويل.. وخصوصًا بعد حكاياتك لى عن مقدار تقارب علاقتكما، فأنتما كنتما شبه مرتبطين بإمرأة واحدة.." ثم أردفت مبتسمة: "ألا يعتبر ذلك فى بلدك بوليجامى؟" ـ "مرتبطين بإمرأة واحدة؟" سارعت بالرد مستنكرًا.. ـ "نعم.. أمينة" ـ "أمينة مين؟ .. آه.. لا هذه حكاية ثانية..بس ماذا تعنى بالـ (بوليجامى)؟" أجابت بسرعة: ـ "الزواج من أكثر من (شخص).. لكنى كنت أظن أنه مسموح به للرجال فقط عندكم.." فأجبتها بقهقهة عالية ـ بسبب سذاجتها ـ بعد أن فهمتُ ما كانت ترمى إليه: ـ "لأ طبعًا.. هذا مسموح به للرجال فقط.. أمينة التى تتكلمين عنها كانت موضوعًا مختلفـًا.. يعنى كما مايقولون (طيش).. طيش شباب أعنى.. ليست قصة إرتباط و(بوليجامى) التى قلتِ تلك..".. وسكتت قليلا ً ثم سألتنى: ـ "ماذا تريد أن نفعل الآن إذن؟".. وأجبتها فورًا بمهارتى المعتادة فى إستغلال الماقف بأحسن إستغلال: ـ "معكِ كل الحق.. أنا كنت فعلا ً متشوق لأن أرى عامر، لكننى ما كنت أبتغى أن أتعبك معى، ولذلك قلت لك بأننى قد إعتزمت لقائه لاحقــًا.. على العموم مثل ما تريدين.." فردت بسرعة قبل أن أغير رأيى: ـ "لنذهب إذن الى هذا الشاندويلى، ففضولى يكاد يقتلنى"
ركبنا سيارة إيزابل وخضنا فى الطريق الساحلى أولا، حيث الأشجار تحتضن جانبيه، وتفصله عن زرقة البحر اللازوردية، فتقطع إنسيابه الممتد بتردد محسوب مع إنسياب السيارة بنا.. وشاب صفاء السماء من خلفها تجمع بعض السحب عند الأفق، تضفى فوق الطريق جزرًا من الظلال تتخلل بريق ضياء الشمس الغاربة السخىّ.. وكانت صفوف الأزهار الملونة تكسو مفرقه، فسألتها: ـ "حقيقى أتمنى أن أعرف منذ أول يوم جئت، هذه الزهور هل هى طبيعية؟ أعنى هل هى بلاستيك؟" فضحكت إيزابل وإن لم ترد على تساؤلى، فضحكت معها إذ أيقنت أنها إعتبرتها نكتة لا تتحمل سوى الضحكات.. وبعد قليل، إنحرفت بالسيارة الى شارع جانبى يؤدى الى وسط البلد.. وبدأ الشارع يرتفع تدريجيًا عند سفح الجبل، ويضيق رويدًا، وصارت الأبنية أكثر إرتفاعًا وتلاصقـًا، وإستـُبدلت جزوع الأشجار على جانبى الطريق بعواميد النور، وأوراقها الخضراء بلافتات الحوانيت المتتابعة، والبحر الممتد عند جانب الطريق الساحلى، بزجاجها ومعروضاتها الصامتة خلف الواجهات.. ولاح فى الهواء ضباب يملأ الجو بوجوم، أو بغموض، ولكننى مع ذلك شعرت فجأة بإرتياح ينساب فى وجدانى..
كأننى عدت ثانية الى إحدى ضواحى القاهرة.. بدأت الشوارع تتلاحق، وإشارات المرور والإزدحام المتزايد، وشكل المارة يكتظ بهم الرصيف، فيلفظهم إلى الشارع من حول السيارات المارقة ـ ببطئ الآن ـ يدغدغنى، وإرتسمت بسمة خفيفة فوق شفتاى، لاحظتها إيزابل فإبتسمت هى الأخرى.. وبين ثقل الضباب المحيط ، بدت لى الآن محلات بقالة بلافتات عربية، بل وقهوة مصرية يدخن روادها النارجيلة على قارعة الطريق.. وبهدوء وبراعة مرت السيارة من شارع إلى آخر حتى قالت إيزابل: ـ "ثلاثة وعشرون، خمسة وعشرون" وأوقفت السيارة بجوار مبنى من أربعة أدوار، وأضافت: ـ "ها قد وصلنا، الدور الثالث، الشقة رقم أربعة وثلاثون".. وإرتجلتُ لتصطدم قدمى بزجاجة ملقاة بجوار الرصيف..
نهجت بعد تسلقى درجات الأدوار الثلاثة.. ضغطُّ زرار الجرس ولكن بدا أنه لايعمل، فطرقت الباب، وسمعت خطوات تقترب، وصوت نسائى: ـ "مين؟" (بالعربى) .. قلت: ـ "أنا سامى إبراهيم، صاحب عامر" ففتح الباب، وإذا بوجه إمرأة فى أواخر العشرينيات، متشحة بشال أبيض يغطى رأسها، يطل من فتحة الباب.. وهُيئ لى إننى ربما أعرف ذلك الوجه، وخاصة حين لمحت شبه إبتسامة، بتـَرتها هى حين أعلنـَت: ـ "بس هو للأسف مش هنا.. فى الشغل ومش ح يرجع قبل نص الليل" فأخرجتُ بسرعة ورقة وقلم من جيبى وكتبت رقم تليفونى.. ـ "أنا آسف للإزعاج، بس ممكن تديله النمرة دى يكلمنى فيها بُكره لوسمحتِ؟" .. وإستدرت لأرى عيون إيزابل تتابع الموقف بتعجب، او ربما بأسف لفشل ترتيباتها فى أن أتقابل مع عامر الليلة فى وجودها.. فقلت مراضيًا بعد أن أغلقت المرأة الباب: ـ "أنا سأموت من الجوع، وبمناسبة أول مرتب، أنا عازمك على العشاء الليلة، أين تحبين أن نذهب؟".. وبهدوء جازت بالسيارة حتى القهوة المصرية، وبهدوء أيضـًا، صفــَّتها ونزلنا، وفى نظراتها لمَحت شقاوة وفرحة طفل يعبر الطريق وحده لأول مرَّة..
أكلنا الشاورمة وورق العنب والكفتة والفلافل والسلطات وطلبت شايًا ونارجيلة تبغ معطر بنكهة التفاح، ونظرت لإيزابل بود وسألتها إنكان الأكل قد أعجبها فأومأت إيجابًا بنوع من الخجل، وشكرتنى.. فتشجعتُ عندها وقلت: ـ "أنا أعرفك يا إيزابل منذ ثلاثة أشهر، ولكنى أزعم أننى لا أعرف عنك أى شئ، لأنك إما كنتِ تسأليننى عن حياتى فى مصر، أو أحكى لكِ عن تجربتى الجديدة هنا فى أمريكا، أتمنى الآن أن تروى لى عنكِ أنتِ، عن إيزابل.." فأطرقت قليلا ً ثم قالت: ـ "ماذا أحكى لك؟ أنا إمرأة أمريكية عادية وليس عندى قصص طريفة مثلك لأحكيها لك.." قالتها وهى تعبث بخصلة من شعرها رمتها بإهمال فوق كتفها بعد أن أتمت جملتها.. ـ "طيب قولى لى مثلا ً من أين أنتِ؟ حدثينى عن أهلِك، عن تعليمِك، عن قصص الحب والغرام".. ولاحظت إنقباضة خفيفة بوجنتها وأنا أتكلم.. تلتها بضحكة عصبية متشنجة أعرفها شخصيًا جيدًا جدًا.. ـ "أنا من (وست فرجينيا) ولم أدرس بعد المرحلة الثانوية، ولم أقع فى حياتى ضحية قصة حب تجتاحنى ـ كما يشاع، إنما مجرد علاقات عابرة مع شباب فى الدراسة أو فى العمل، لم تترك أى منها علامة هنا" وأشارت إلى قلبها..
سألتنى إذا ماكنت أبتغى أن نمر ببار قريب من الفندق لتدعونى إلى شراب، فوافقتُ ـ طبعًا ـ حيث أننى لم أكن أنوى تركها هكذا سريعًا، والساعة لم تكن بعد قد تجاوزت الثامنة والنصف.. فتحت الباب وتركتها تمر أمامى ونفذ عطرها فأسكرنى قبل المشروب الذى طلبته لى الذى سمَّته (التزحلق على الطين).. وتزحلقنا معًا مع الكأس الثانى.. وعلت ضحكاتنا فملأت المكان.. ضحكنا على "عامر" الذى لم تره بعد، وإمرأته التى لم تدعونا للدخول لأنه ليس بالمنزل، بالرغم من أنها أبدت معرفتها بى، وحتى عن الكفتة التى فاجأتنى بأنها إشمئزت من منظرها أول الأمر، ومحشى ورق العنب، أصابع غامقة منبعجة لا تشبه أى طعام تعرفة.. أجسام غريبة التكوين، مطروحة هكذا بلا ألفة لمن لم يذقها، أو يشم رائحتها من قبل.. فتساءلتُ ضاحكـًا: ـ "أمَّال لو كنتِ شفتِ البصارة، ولا الكوارع".. ـ "ما هى البصارة؟ وماذا تعنى الكوارع؟".. ـ "بعدين.. مصيرك ستعرفين".. وضحكنا وضحكنا على كل شئ وعلى لاشئ مطلقـًا.. وهمـَّت بطلب المشروب الثالث، ولكنى عارضتها بأن عندى زجاجة نبيذ بالغرفة، ودعوتها لأن نقضى عليها سويّا الليلة، فرحَّبت..
أضأتُ المصباح بجوار السرير، ودعوتها للجلوس فى حين فتحت الدولاب وأخرجت زجاجة النبيذ الأحمر، وأتيت بكوبين وضعتهما إلى جانبى الزجاجة، ولكنى إكتشفت أننى لا أملك (فتـَّاحة) وأسقط فى يدى.. فضحكت هى وسألتنى أن أعيرها قلمى الذى كتبت به رقم تليفونى لعامر، فأعطيتها.. وبثقة نزعت بطرفة الغلاف المعدنى والخاتم الشمعى ثم عملت تدفع بالسدادة الى داخل الزجاجة حتى دفعت بها كلية فعامت فوق سطح النبيذ، ومالت تملأ الكوبين، ثم رفعَت إحداهما نحوى وصاحت بفرحة المنتصر: ـ "فى صحّة الفتـَّاحة!".. وجلست بجانبها وقلت: ـ "ف صحّتِك.. يا أجمل فتـَّاحة عرفها التاريخ".. وشربنا فى صحّة الفتـَّاحة وفى صحّة الهجرة العشوائية، والمنظمة، وكل أنواع الهجرة التى تقرب بينى وبين كل هذا الجمال.. ثم هدأنا نوعًا بعد إنتهاء النصف الأول من الزجاجة، وكنت عندها قد بدأت أجد صعوبة فى ضبط كلامى، فبدأت الكلمات العربية تطفو، وإيزابل تنظر إلى ولا تفهم ما أقول، وأنا لا أعرف لماذا لا ترد علىّ، حتى أتدارك نفسى فنغرق معًا فى الضحك، وتميل برأسها فوق كتفى.. ولم أدر إلا وكنت قد إحتضنتها بين ذراعىّ، وغبنا فى قبلة حميمة..
ذبتُ وذابت إيزابيل بين الأحضان والقبلات وتناوبنا فى نزع أرديتنا عن أجسادنا تسوقنا حمية الشهوة معًا.. وإنزلق عنها فستانها الأحمر فأطل أمامى جسدها العارى المرمرى تحت الضوء الخافت الوحيد بالغرفة، فطفت به أدور بقبلاتى فوق كل ثناياه ومرتفعاته ووديانه، فى حين غابت إيزابل فى لجة النشوى، تعتصر جسدى بقبلاتها، وتلاحم جسدانا وتداخلا وتوحّدا، فترجرجنا وإهتزت الغرفة بالذروة معنا حين بلغناها.. ثم رحنا أنا وهى فى سبات عميق، وهى مسحوقة بين ذراعىّ، وأنا ذائب فى حضنها..
ولم ندر إلا وأشعة الشمس تتسلل بين جفوننا فتوقظها من إستسلامها لسباتها، ففتحت عيناى وإبتسمت لرؤية هذا الجمال الملائكى بين أحضانى، أنظر إليه قبل أن تبصر عيناى أى شئ آخر فى هذا الوجود فإستبشرت خيرًا.. ووضعتُ قبلة فوق تلك الشفتين النضرتين، ففتحت إيزابل جفنيها المثقلين بالنوم بعد، وتبسمت بأنوثة هادئة..
ويطل بريق عينيها البنفسجية فتملأ عيون قلبى نشوة، وأمطر وجهها بقبلات خاطفة تأخذنى لعنقها، فصدرها الناهد وحلمتيها النافرتين بعد أن أيقظـَتهما قبلاتى النارية، فبطنها الطرىّ، ثم.. ثم.. وشهقـتُ.. يارب! ماهذا؟ جراح.. وجراح.. وجراح.. خطوط مبتورة وملتحمة بعرض فخذيها.. ندبات وندبات وندبات .. عشرات.. لا بل مئات الجروحات القديمة الصغيرة، تغطى النصف الأعلى منهما، بانت وردية، ذابلة، تتابع بعرض فخذيها، بعد أن تسللت أشعة الشمس فأضاءت جنبات الغرفة، وكانت قد غابت عن عينىَّ ليلة أمس مع شحوب نور المصباح الوحيد..
ورفعت رأسى، مستندا على ساعدىّ، تبحث عيناى عن عينيها، تشحذ إجابة أو تفسير، فلاترجع إلا بدموع ساخنة تنزلق فوق الوجنتين المخضبتين بالنشوة، أوبالغضب، أوالخجل.. ـ "ما هذا يا إيزابل؟؟" بكاء.. تهدج.. صمت…………………………………………...……………………………………………....... ـ "أتريد أن تعرف.. حقـًا؟" خفضتُ عيونى عنها وأخذتـُها ثانية بين ذراعىّ محتضنًا.. ـ "طبعًا.. لابد أن أعرف من فعل بك هذا.. لابد..".. صمت جديد.. وربتُّ بحنان فوق كتفها.. ـ "أنا آسف..".. وفجأة قالت: ـ "أنا.. أنا التى قطـَّعت جلدى بالسكين ،أقطع وأقطع، كل يوم وكل لحظة تمزقنى فيها الذكريات، فأكره نفسى.. ولا أستطيع إلا أن أمزق لحمى .. وأتألم.. وأستعذب الألم.. لأنى بكل أسف.. أستحقه.." وراحت فى نحيب مزق أوصالى.. وتساءلت.. أى شئ فى هذه الدنيا، يستحق كل ذلك الألم..
قامت إيزابل متدثرة بملاءة السرير، ودلفت الى الحمام، وأغلقت الباب وراءها.. ومازلت أسمع صدى بكائها المصمت خلف الباب، ثم هدير الماء يقرع بأرضية البانيو، ثم يخفت حينما يرتطم بجسدها، ويغسلها، فيكف النحيب.. خرجت إيزابل وقد لفت جزعها بمنشفة وشعرها بأخرى، وتبدل الحزن بإبتسامة حنونة إرتسمت فوق وجهها المنكسر.. ـ "لابد لك أن تعرف الحقيقة كلها.. هذا حقـك عندى، وأنا فعلا ً أريد أن أحكيها لك لأننى.. لأننى مشدودة إليك.. فعلا.. أعتقد إننى.. أحبك..".. فتحتُ ذراعىَّ داعيًا إياها إلىّ وغبنا فى قبلة طويلة.. ـ "ولكننى لابد وأن أذهب الآن لألحق ببداية يومى فى العمل.. سأراك الليلة؟".. قالت وهى تغير ملابسها بسرعة.. ـ "طبعًا!".. وفى لحظات كانت قد إختفت عنى خلف باب الغرفة بالفندق، فإرتميت أنا فوق أقرب مقعد..
أفقت من شرودى على رنين التليفون، فممدت يدى تلقائيًا ورفعت السماعة.. ـ "آلو.. مين؟" وجاءنى صوت هادئ ، مرتب ، رخيم ، لم أعرفه لأول وهلة وإن تذكرتُ نبراته: ـ " أنا عامر ..إيه مش عارفنى ولا إيه؟.. حمدالله على سلامتك.. بقى لك أد إيه فى البلد دى؟" .. والحقيقة هى أننى فعلا ً لم أتعرف عليه، ولكننى أوعزت ذلك لصوت التليفون أو للزمن .. ـ "أنا بقالى ييجى تلاتـُّشهر وشوية.. بس لسه لحد إمبارح لمَّا عرفتلك طريق.." أجبت بلهفة الصديق المشتاق.. فرَد ببرود: ـ "أنا لازم ح شوفك طبعـًا.. بس معلش مش النهاردة علشان عندى شغل.. بُكره كويس؟" حمَدت ربنا أنه لم يطلب لقائى اليوم لأننى كنت سأعتذر للقاء إيزابل، فالليلة ليلتها ـ بعد ماحدث اليوم.. ـ "ماشى ..بُكره كويس".. لحظات صمت مرَّت بنا، ثم بنبرة هامسة سألنى: ـ "شفتها؟".. إعتقدت فورًا أنه يسألنى عن إيزابل، لأنها كانت كل ما يشغلنى حينذاك، ولكنى تداركت أفكارى بسرعة، لأنه حتمًا لم يكن يعرفها.. ـ "شفت مين؟".. وجاء صوته مقررًا: ـ "أمينة.." فتساءلت وأنا أدور بمخيلتى أبحث عن ذلك الإسم: ـ "أمينة مين؟" .. ـ "مش عارف أمينة مين؟ .. إنت عرفت ف حياتك كام أمينة يعنى؟" .. ولاح لى وجه أمينة إبنة عم أنور البواب، وهى داخلة تتسلل من باب شقتنا فوق السطوح.. ـ "آه! .. أمينة! .. طب وح شوفها فين ست أمينة دى؟" .. ـ "لما جيتنى إنت وصاحبتك.. أمينة.. بقت مراتى!" .. إنعقد لسانى فلم أقدر أن أنطق ولو بحرف واحد.. الآن عرفت سر إبتسامتها المبتورة، وإحساسى بأننى ربما أعرفها.. أعرفها؟.. وحق المعرفة!!.. ولكن عامر!! ما الذى فعل هذا المعتوه!! دمَّر حياته!!.. وكسر هو جدار الصمت الذى فصلنا .. ـ "ح بقى أحكيلك كل شئ لمَّا نتقابل"..
فوجئت بإيزايل تقف أمامى فى المكتب فى حوالى الثالثة بعد الظهر، وقد إرتدت بنطلون جينز وحذاء كاوتش، وبلوزة زرقاء باهتة، متدلية بإهمال فوق صدرها، وفى عينيها نظرة كئيبة، وإسوداد يحيط بجفونها، وكأنها لم تنم منذ أيام.. قالت بنبرة منكسرة أنها لم تذهب إلى عملها اليوم، بل أمضته كله هائمة، تقطع شاطئ البحر سيرًا بلا هدف محدد.. ولمَّا تملك منها الإعياء جاءت لتسألنى أن أصحبها إلى أى مكان لنأكل شيئـًا حيث كانت تتضور جوعًا.. وكان لم يزل أمامى ساعتين حتى موعد الإنصراف، ولكننى أشفقت على حالها وأدركت أن المسألة لا تحتمل التأجيل، فطلبت إذنـًا بالإنصراف مبكرًا من سوزان وايت، شخصيًا، وكنت قد بدأت أعتاد لكنتها وطبعها المنـَفر.. وبالرغم من توقعى لمعركة صغيرة على الأقل، إلا أننى فوجئت بموافقتها السريعة، وبدون أى تحفظات..
إقترحت هى أن نبتاع طعامًا من أى مكان على أن نذهب سويًا إلى بيتها لأنها كانت متعبة جدًا من جراء يومها المنهـِك، ولأن ملابسها لم تكن لتسمح بأن نذهب الى أى مكان محترم على أى حال..
كانت تلك أول مرة أدخل منزلها.. رقيق وبسيط، أبيض الجدران والأثاث بصورة مزعجة، كل قطعة فيه كانت بيضاء حتى غابت تفاصيله من فرط تمازج البياض من حولى.. ولكن فى الواقع لم تكن هناك الكثير من التفاصيل لتجعلك تذوب بينها بسبب كل ذلك البياض، فالأثاث عبارة عن أريكة صغيرة بيضاء وكرسى فوتيل أبيض، وإن كان من خامة مختلفة، متعامدين فى جانب من الصالة الواسعة، وفى الجانب الآخر ترابيزة دائرية وحولها سكنت فى صمت أربعة كراسى ـ بيضاء طبعًا ـ وكانت الأرض مكسوة بسجاد بيج فاتح أميل إلى البياض. وتزين الحوائط صورتان لملائكة ناعسة النظرات تستريح عند شاطئ بحيرة فى واحدة، ومجموعة هائمة بين تجمعات من السحب فى الأخرى.. وكانت إيزابل قد تركتنى أجول فى جنبات الصالة وحيدًا، فى حين غابت فى الداخل ربما لتأخذ حمامًا سريعا، وفعلا ً لاحت بعد قليل وهى متدثرة بروب الحمام، وقد تركت خصلات شعرها الأصفر المبتلة تنساب بإهمال فوق كتفيها وماتزال قطرات المياه تتساقط من أطرافها..
ـ "هل أعجبك البيت؟" سألتنى بلهجة روتينية لا تهتم بإجابة بعدها، وكأنها سألت نفس السؤال لمئة شخص من قبل.. قلت مازحًا وقد بان تكلفى: ـ "جميل طبعًا.. وإن كان حدة البياض تشعرنى بالخوف من أن أتهَم بالتسبب فى تلويثه.. أشعر وكأننى جرثومة دخلت لتوها إلى ردهات مستشفى معقمة.." صمت.. ولاتعليق! ـ "ماذا بـِك يا إيزابل؟ هل أكون قد ضايقتِك.." قلت بعد أن أصرَّت هى على صمتها، وكانت مشغولة بفتح زجاجة نبيذ، ثم أتت بعلب دجاج كنتاكى وبكأسين وببعض المناشف الورقية، ووضعـَت الأكل فوق المنضدة وسألت: ـ "هل نأكل الآن؟" ..
وبدأنا نأكل، ونرشف من كأسى النبيذ بين قضماتنا الصامتة، حتى تبدت لى إيزابل وكأنها قد عادت لتوها من رحلة فى غياهب ذكرياتها، حين رفعَت عينيها وصوبتهما نحوى وقالت، وفمها مملوء ببقايا قضمة لم تزل تلوكها: ـ "أتدرى ياسامى؟.. كانت أكلة الدجاج المقلى من كنتاكى هذه، حفلة فى دارنا نرتقبها أنا وأختى الصغرى روزالين، أيام صبانا.." وبدت بوادر إبتسامة تتسلل إلى شفتيها الحمراوين وهى تزدرد قطعة الدجاج فى حلقها بصعوبة فتلحقها بجرعة نبيذ بسرعة.. ولم أشأ أن أقاطعها لئلا أقطـِّع حبال أفكارها، ولأننى لم أتجرأ ـ خجلا ً ـ أن أعلِمها بأننى لم آكل هذا الدجاج المقلى إلا بعد تخرجى من الجامعة، فتلك كانت قصة أخرى.. وتابعت حديثها بعد أن رشفت رشفة ثانية من النبيذ.. ـ "كانت أمى مدمنة للخمر، تكاد لاتفيق منه أبدًا، وكنا نتمنى لها ألا تفيق، لأنه عندها كانت تتحول أمام أعيننا الصغيرة إلى حيوان جامح، ترغى وتزبد، وتصرخ وتأمر بأغرب الأوامر والطلبات منـَّا نحن الطفلتين العاجزتين، كأن ننظف المنزل كله حالا ً مثلا ً، أو نذهب لنعد الطعام لنا ولها، ونحن بعد أطفال، فنهرب من أمامها ونسجن أنفسنا بداخل حجرتنا، حتى يعود من الخارج صديقها "أنكل توم" أو أخوه "ستيف"، الذى كان أيضًا صديقـًا لأمى، بزجاجة الخمر فتتجرعها، حتى تهدأ وتعود ثانية إلى مزاجها المعهود".. وبدأت عيون إيزابل البنفسجية الحالمة، تتغورق بالدموع، وإلتزمت أنا بالصمت إحترامًا لمشاعرها، وخوفًا من أن أصدر بتعليق غير مؤاتٍ.. ـ "كبرنا معًا وتولينا تربيتنا بأنفسنا، وبمساعدة الجيران وأنكل توم أو ستيف، الذى كان يغيب عن البيت لشهور ثم يعود، إلى أن خضنا فى سنوات المراهقة، وتبدلت أجسادنا بفعل الزمن ونفحات الطبيعة بداخلنا.. وبدأت معها نظرات ستيف لى ثم لروزالين من بعدى تتغير.. كنت أعتبر ذلك فى البداية إمتداح لجمالى وأنوثتى، وإن بدا لى الأمر غريبًا، لأننى كنت متأكدة.. أنه لايمكن أن.. لايمكن أن يفكر فىَّ كإمرأة لأنه.. لأنه كان يضاجع أمى أيضـًا، بالتناوب مع أنكل توم أخيه.." صمت... لم أجرؤ على مقاطعتها.. ـ "وفى ليلة جمعة ما، وكنت عائدة لتوى من المدرسة، إذا بستيف وحده بالمنزل، وقد ذهبت أمى مع أنكل توم إلى مكان ما، وذهبت روزالين لقضاء الليلة مع صديقتها بعد الدراسة.. كان ستيف مخمورًا، كما بدا لى من ثقل لسانه عندما دعانى لمشاهدة التليفزيون معه، ثم دعانى بعدها لكأس من النبيذ، فقبلت على الفور حيث كانت تلك هى فرصتى الأولى لأتذوق ذلك النبيذ الذى حكت لى زميلتى عن تأثيره المسحور.. وجلست بجانبه أرتشف النبيذ وأتعجب من مذاقه اللاذع، وأتابع أحداث فيلم فى التليفزيون بلا إهتمام، وبدأت أشعر بإسترخاء فألقيت برأسى للوراء لمسند الأريكة من خلفى، وكانت ذراع ستيف ممتدة فوقها أولا ً فسندت برأسى فوق ذراعه، مسلوبة الإرادة وشبه عاجزة عن الحراك.. ومال ستيف بعد قليل برأسه نحوى وطبع أول قبلة فوق شفتاى.. لم أشعر معها بأى إستساغة، أو بالأحرى أحسست بشئ من الإشمئزاز، ولكن حالتى الجسدية لم تكن تسمح لى بالقيام بأى حركة.. فتشجع هو ومضى تتسلل أصابعه بشعرى، ثم بعنقى، ثم تسلل إلى داخل قميصى يعبث بحركات جهنمية بثديى، فإجتاح جسدى شعور مباغت باللذة لم أعهده من قبل.. ولمّا لم يكن لى قِـبَـلٌ بأى مقاومة على أى حال، دار هو بجسده الثقيل فوقى وبمهارة كان قد رفع عنى ثيابى وجذب عنه سرواله، وحشر عضوه المتحجر حشرًا بداخلى، فشعرت بألم هائل يمزقنى، مصحوب ـ مع حركته الدءوبة المتلاحقة ـ بنوع من التلذذ، كالذى تشعر به حين تحك جرحًا بجلدك لحد الألم.. كان تركيزى كله محصور بكأس النبيذ فى يدى اليمنى، أضمه بكل ما تبقى لدىَّ من عزم لأبقيه رأسيًا، حتى لا ينسكب فوق الأريكة، او على الأرض فتكتشف أمى بأمر إحتسائى إياه، وتوسعنى ضربًا.. لحظات قليلة حتى أتم مهمته، وإنقلب عائدًا لمكانه بجانبى على الأريكة، وأصلح من هندامه، ثم رمانى بإبتسامة منتصرة تظللها سحابة الخمر الأرجوانية الماجنة، ومضى يتابع أحداث الفيلم فى التليفزيون.. ووجدتنى أبكى صامتة، فألقيت ببقية النبيذ بجوفى ومضيت أغسل الكأس بعناية، ثم جريت إلى الحمام لأغتسل، فإكتشفت دمًا لزجًا يغطى أعلى فخذىَّ، فرُحت فى نواح وحيدٍ وأنا أتطلع إلى إنعكاس صورتى فوق المرآة أمامى.."
عندها كانت إيزابل قد إرتكزت على حافة المنضدة أمامها بمنكبها الأيسر، ونكست جبهتها لتسكن فوق ساعدها المهمل هكذا عند حافتها، فى حين بقيـَت يمناها مختفية عنى، أمامها، وتحت سطح المنضدة تعبث بشئ، وبعد لحظة تفوهت بأنين : "آه.. آااااه.. " فإنتفضتُ نحوها ودرتُ حول مقعدها، ثم رفعتُ كتفيها ورأسها المكفية، فإذا بها قد جرت بسكين كانت قد سحبته خلسة، ومرت به فوق فخذها الأيمن محدثة به جرح نازف.. و غطى أحمر الدم جلدها، وروب الحمام الأبيض المنسدل طرفاه حول رجليها، ثم بدأ يتسرسب رويدًا ليصبغ سجاد الأرضية حول قدمها.. وبسرعة إنتزعتُ السكين من يدها، ولملمتُ قماش الروب فى قبضتى أضغط بها وبقوة فوق الجرح لأوقف النزف ولأحجب منظر الدم عن عيناى، وأنا أقاوم بصعوبة شعورًا بالغثيان، وإطلالة إغماء تنتابنى، فلم أكن قد رأيت دم بشر ينزف من قبل.. * * * مالت الشمس نحو المغيب.. كانت تقترب من الخامسة مساء، وبدأت برودة أمسيات الربيع فى نيويورك تستفحل.. وبان تأثير البرودة مع شجون الذكريات على سامى حينذاك، فآثرت مقاطعة السرد عندها، ودعوته لتناول العشاء فى مطعم أعرفه.. كان يمكننا أن نصله سيرًا على الأقدام فى أقل من نصف الساعة، ودعوته ـ تغييرًا لكآبة حلت نسائمها فوق رأسه ـ على أن يقص على حكايته عن عامر ، أثناء سيرنا.. فلاقى إقتراحى إبتسامة من جانبه حين أدرك بأننى آثرت تغيير سياق السرد.. لا، ليس بغبى على الإطلاق..
وكالعادة جعل سامى يجتر ذكرياته، وأنا أستمع.. وطال بنا الطريق، لإنهماكنا فى الحديث، ولكثرة توقف سامى عندما كان يمر بنقطة هامة أو موقف معين يريد التأكيد عليه، فكان يمد يده ويضغط بقبضته حول ذراعى ليستوقفنى للحظة.. ولم أستسيغ أنا كل هذا التلاحم بينه وبينى، حتى وإن كان متقطعًا، ذلك أننى كنت قد تعودت مع طول سنين هجرتى، على الإحتفاظ بمساحة شخصية من حولى، ملك لى، لا يشاركنى فيها أحد، خاصة وإن كان غريبًا عنى، من جزيرة أخرى!!..
#شريف_مليكة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زهور بلاستيك رواية الفصل الرابع
-
زهور بلاستيك رواية الفصل الثالث
-
.زهور بلاستيك رواية.. الفصل الثاني
-
زهور بلاستيك رواية
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|