أوردت صحف الخرطوم، الأسبوع الماضى، أن المجلس الوطنى نظم سمناراً أوصى بإنشاء (هيئة وطنية لحقوق الانسان). ومع أن ذاكرة الكثيرين لاتزال تحتفظ، ولا بُدَّ، بالمحاولات الفاشلة خلال العام الماضى (لتمرير) مشروع هذه الهيئة كمؤسسة يريد لها مُسَوِّقوها أن تنشأ بتعديل دستوريٍّ، فلا بأس من التذكير بأبرز تلك الأحداث.
وقعت المحاولة الأولى على مأدبة عشاء بمنزل عمر شمينا المحامى، ذات مساء من أوائل مارس، حضرها لفيف من مثقفين ومهنيين جرت دعوتهم على المستوى الشخصى، بالاضافة لممثلين للنظام، في مقدمتهم السادة علي يسن وزير العدل النائب العام، وأحمد المفتى مُقرِّر المجلس الاستشارى لحقوق الانسان (منظمة حكومية)، وعبد الرحيم على رئيس هيئة شورى الحزب الحاكم، وأمين بنانى الوزير السابق بوزارة العدل، وفتحى خليل نقيب المحامين، وإلى ذلك ممثلو بعض البعثات الدبلوماسية بالخرطوم، أبرزهم أليستر كنجستون المستشار السياسى السابق بالسفارة البريطانية، وهمايون علي زادة المسئول عن حقوق الانسان بمكتب الأمم المتحدة.حاول المضيف تزيين الفكرة، ومع ذلك انفجر الخلاف، ليس حول ضرورة (الهيئة) نفسها، بل حول توقيتها وطريقة تنفيذها.
فعلى حين بدا أصحابها، مدعومين بالدبلوماسيين الأجانب، في عجلة من أمرهم، يدفعون باتجاه التنفيذ (الفورى)، ويلهجون، كالعادة، بالتحذير من (إدخال السياسة) في المشروع، ويصوِّرونه كما لو كان محض مسألة (فنية) يتولاها (تكنوقراط!)، وممثلو السلطة، للعجب، لا يكفون عن التعهُّد باستصدار التعديل الدستورى اللازم، أثار معارضو المشروع تحفظاً منهجياً يتعلق بخطأ التعويل على لقاء بين أشخاص لا يمثلون إلا أنفسهم وبين خليط من ممثلى النظام وحزبه والبعثات الدبلوماسية، لاتخاذ (قرار) بتكوين (هيئة) لحقوق الانسان يُراد لها أن تتوطن بين أخطر مفاصل (الدولة)، وأن تتسم، مع ذلك، (بالاستقلالية)! فحتى لو جرى (النصُّ) على هذه (الاستقلالية) بتشريع خاص، فإن الحاجة تظل قائمة (لحراستها)، الأمر الذي لا يمكن ضمانه، في الظرف السياسى المحدَّد، سوى بحالة من (توازن القوى) ما برحت الآمال تنعقد على بلوغها عبر (تسوية) تاريخيَّة، أو (حل سياسى شامل) يستتبع جملة ترتيبات من بينها تكوين (الهيئة). لذا فإن أضرَّ ما يضرُّ بقضية (الهيئة) هو انتزاعها من هذا السياق المنطقى بالاجراءات الاستباقية الخرقاء.
ولمَّا لم يكن من الممكن حل هذا الخلاف بطريقة أخرى، فقد اتفق على لقاء لاحق بدار المحامين، وتكليف (لجنة) لإعداد دراسة عن التجارب الأخرى، تحديداً جمهورية جنوب أفريقيا التي تكونت (الهيئة) فيها ضمن جملة (نتائج) ترتبت على (التسوية) السياسية التاريخية بين النظام العنصرى برئاسة ديكليرك والمؤتمر الوطنى بقيادة مانديلا.
أما المحاولة الثانية فقد وقعت بعد أن كرَّت مسبحة الأيام دون أن تفي (لجنة الدراسة) بالتكليف، أو تعقد الاجتماع المُقرَّر، بل سعت للاجتماع بجيرهارد بوم مقرر حقوق الانسان في السودان، لدى زيارته للخرطوم أواسط أكتوبر 2002م، تبثه شكواها من ضراوة المعارضة لمشروعها، زاعمة أنها (لجنة تحضيرية للهيئة)! وليتها، مع ذلك، وعت الكلمة البليغة التي عقب بها الرجل قائلاً: «إن أمر الهيئة سيجرى بحثه ضمن ترتيبات السلام المُتفاوَض عليها»!
وأما المحاولة الثالثة فقد تمثلت في مسعى المُسَوِّقين لاستثمار السمنار الذي أعدَّ له مكتب السيد زادة بفندق هيلتون، أوائل نوفمبر 2002م، تحت إشراف الخبير الدولى بريان بيروكين، بحيث (يُحْشَرُ) موضوع (الهيئة) فيه حشراً لينتهي (باختيار) لجنة تحضيرية، فيبدو الأمر كما لو كان نافذاً بإرادة دولية، فتأمَّل! سوى أنَّ زادة ما لبث أن أقدم، في الساعة الخامسة والعشرين، على تعديل برنامج السمنار وقائمة المدعوين إليه والمتحدثين فيه، لأسباب لا بُدَّ أنه يعلمها جيداً! وما يهمنا إبرازه هنا، بوجه خاص، هو تشديد بروكين نفسه على الطابع (السياسى) للمشروع، بإزاء ما ظل يلوكه المُسوِّقون من تقليل لدور (القوى السياسية)، بقوله السديد إن مشاركة (المجموعات السياسية) في (الهيئة) يساعد في تنفيذ مهامها في المراقبة والمحاسبة (الأيام، 6/11/2002م).
هكذا آلت كل تلك المحاولات إلى الفشل الذريع، ولم يعد أحد يسمع عن المشروع الذي بدا كما لو أنه شبع موتاً، وأن أصحابه نفضوا أيديهم عنه، فأراحوا واستراحوا!
إن للنوبيين مثلاً يقول: «الشعير لا يصير قمحاً ولو غربلوه ست مرات»! لكن، وبرغم هذه الحكمة الميسورة، عاد أهل (الشعير) يُحاولون غربلته للمرة الألف، بالسمنار الذي جرى تنظيمه مؤخراً تحت قبة المجلس الوطنى، فلكأنهم يعتقدون أن مجرَّد المثابرة على تكرار المحاولة تلو المحاولة، دون تصحيح للمنهج، كفيلة وحدها بقلب الفشل فلاحاً، والهزيمة نصراً، والشعير قمحاً!
أغلب هؤلاء الأقوام، وليسوا كلهم بطبيعة الحال (ففيهم من يحتقبون من النوايا الحسنة ما يكفي لبلوغ الجحيم نفسه)، ما ينفكون يتكشفون عن حرص مزر على الالتصاق بالسلطة، والتحرك تحت مظلتها، وتيسير خططها، برغم شنشناتهم المكرورة عن (الاستقلالية) و(الحكمة) و(الحياد)، والزعم البائر بالنأى عن (مزالق السياسة) والوقوف (بين الخنادق)، فيسهمون، فحسب، في تشويه حقائق الصراع السياسى، والتأليب ضد من لا يعوم عوم النظام! وإلا، فما هي الخدمة التي يمكن أن تقدمها هذه (الهيئة) لحقوق الانسان في بلد لا تزال قضية السلطة والثروة فيه عظمة نزاع دموى؟! وما هو المآل الذي ستصبح عليه هذه (الهيئة) غداً إذا تمَّ التوصُّل إلى (تسوية) تشمل إعادة النظر في هيكلة الدولة بأسرها؟! وهل، تراها، مجرَّد مصادفة أن ينعقد هذا السمنار في برلمان هو نفسه جزء من النزاع، ليوصى بإنشاء (الهيئة)، في هذا الوقت الذي تتجه فيه جُلُّ الجهود، ليس فقط لإنقاذ محادثات السلام المتعسِّرة بين الحكومة والحركة الشعبية، بل ولتوسيع مواعينها لتشمل القوى كافة، ولتستوعب مشكلات البلاد أجمعها، بدلاً من حصرها بين طرفين تتقاصر طاقاتهما عن الاحاطة بكل الأطراف، وفي أجندة اقتسام غير عقلانى لأسلاب غير مستحقة، بما من شأنه أن يشعل من حرائق الوطن غداً أكثر مما يطفئ اليوم؟!
برغم مشروعية هذه الأسئلة، فإن كل الدلائل تشير إلى أن (أهل الشعير) لن يقتنعوا، أبداً، بالكفِّ عن غربلتهم العبثيَّة، وسوف يواصلونها، مغمضى الأعين، حتى آخر حبة! غير أن ذات الدلائل تشير أيضاً، وبأكثر من إصبع، إلى أنهم سوف يصطدمون، حتماً، رضوا أم أبوا، بحائط الفشل الصلد! ولكى لا نتهم بضرب الرمل أو قراءة الفناجين، فسنشير هنا لبعض الشواهد من وقائع السمنار نفسه: (1) رفضت (المجموعة السودانية لحقوق الانسان) تلبية الدعوة التي وجهت لها، لأن «قيام المؤسسة سابق لأوانه، والظروف الحالية غير مواتية لتشكيلها» (الأيام، 19/8/2003).
(2) نفي (المركز السوداني لدراسات حقوق الانسان المقارنة)، رغم مشاركته في السمنار، وجود إجماع من المشاركين على قيام (الهيئة)، وأبدى اعتراضه «على قيامها تحت المظلة الحكومية»، كونها «ترتبط عضوياً بما ستتمخض عنه مفاوضات السلام.. وبالدستور المرتقب والذي ينبغى أن يتضمَّن وثيقة حقوق الانسان السوداني التي توصف فيها الحقوق وصفاً دقيقاً» (المصدر نفسه).
(3) إعترض نقيب المحامين، أحد الرموز البارزة للنظام، على أن تكون مرجعية (الهيئة) هي المواثيق الدولية لحقوق الانسان لأنها «تتضارب في بعض بنودها مع القيم الدينيَّة والاجتماعيَّة»، داعياً إلى تعديل هذه المواثيق! (الرأى العام، 19/8/2003).
(4) أكد محد احمد سالم، قاضى الاستئناف السابق والاستاذ الجامعى ومسجل التنظيمات السياسية الحالى، في ورقته القيِّمة، على أن حيدة واستقلالية الهيئة «هي سنام الأمر، ومفتاح النجاح أو قاصمة الظهر»، ولهذا يتوجب أن تحوز على «الاجماع والتوافق بين كل القوى الحية في المجتمع»، وأن يعكس تشكيلها بالضرورة «الواقع السياسى والاجتماعى والثقافي للبلد»، وأن تتمتع «بالارادة الحرة والاستقلالية»، وأن «إحساس الرأى العام بذلك من أقوى عوامل الثقة فيها والاطمئنان إليها» (الورقة، ص 3 ـ 4).ِ
أخيراً، وللمرَّة المليون، أيهما يروم مُسَوِّقو المشروع: شعير السلطة، أم قمح الشعب ؟!