|
ماركس وفرويد ونيتشه
خضر الآغا
الحوار المتمدن-العدد: 1900 - 2007 / 4 / 29 - 11:53
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تحاط المراحل المعرفية، في بدء تشكلها، بهالة سميكة من عدم الفهم. لننظر في المراحل الشعرية العربية كمثال: قوبلت الحداثة الشعرية العربية في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، فيما أطلق عليها مرحلة "شعر الستينيات" أو "شعر الحداثة"، باحتجاج قوي لدى القراء، نابع من عدم فهم القصيدة الجديدة آنذاك. وبصرف النظر عن علاقة الغموض بالشعر وعن أسبابه، فإن للقراء الحق، جزئياً، في هذه الملاحظة، إذ أن اللغة كانت تَنطق/ تؤدى بطريقة سليمة وصحيحة قادرة على إيصال المضمون دون أن يتم إزعاج القارئ. لكن قصيدة الحداثة أتت في الاتجاه المعاكس لطريق اللغة الذي اعتاده القارئ وتلاءم معه لسنوات طويلة، لقد واجهت اللغة وغيرت لها طريقها. لقد أفقدتها نطقها السليم والصحيح عبر اجتراحها أمراً حاسماً: التأتأة. لقد تأتأت القصيدة الجديدة آنذاك داخل اللغة، فأوقفت، عبر هذه التأتأة، التدفق الفطري للغة. التدفق الفطري للغة يعتمد على الكلام التاريخي والمتداول والشرعي من حيث كونه ابناً طبيعياً للسياق، أو للنسق الذي خلقته اللغة وخلقها في آن واحد عبر تاريخ مديد من محاولات هذا النسق ليكون منسجماً. وكان لا بد للشعر من أن يصنع طريقاً موارباً يمكنه من تحقيق أمرين معاً: أن يتفلت من النسق من نافذة، وأن يمنع عنه الانسجام من نافذة أخرى، هذا الطريق الموارب هو التأتأة داخل اللغة. التأتأة توقف التدفق، وبذا يتم نزع الألفاظ من تاريخها ومن تداولها، ويتم كسر النسق الذي يؤويها ويحميها. التأتأة تمنع النسق من الانسجام، وتخلق لساناً آخر داخل اللسان ذاته، لا يمكن اعتباره ابناً شرعياً للسياق، إنه ليس كذلك أبداً، فهو وليد فعل اغتصابي للغة، يبدو وكأنه لسان أقلية لها صوت مختلف عن صوت المجموع وثقافة مختلفة ولسان مختلف...، لسان هامشيين، ولد هارب بصفة مستمرة من المدرسة، ضال وعاق، لسان أهل التجوال الذين لا يستطيع التاريخ تصنيفهم، بل إنهم يهربون من ذلك. لكن الطريق الموارب هذا ينطوي على مخاطر. أليس التفلت من النسق ينطوي على خطر تأسيس نسق جديد؟ ألا يمكن أن نصادف، أثناء هروبنا من الأب والأم التاريخيين، أوديب على الطريق؟ أليس تحاشي الكلام المتداول والتاريخي مهدد بأن يصير كلامنا ذاته في نهاية الطريق متداولاً وتاريخياً؟ ألا ينطوي التفلت، الذي يعني، هنا، هروباً، على خطر ماحق هو الوصول؟ هذا ما حدث، بالضبط، مع شعراء الحداثة. لقد صادفوا أباهم (العمودي) الذي هربوا منه في نهاية الطريق: شكل شعري ثابت، لقد صلبوا على جدار الدلالات المنتهية، وجففوا النهر الذي نهلوا واغتسلوا منه كثيراً. لقد وصلوا إذاً! الأمر الذي أدى إلى انتهاء تلك المرحلة شعرياً. وقد بدأت مرحلة شعرية جديدة، أطلق عليها مرحلة "شعر التسعينيات". وأمام ما وصل إليه الحال في شعر الحداثة، لم يكن أمام الشاعر الجديد سوى أن يخط، هو الآخر، طريقه الموارب. إن الطريق الموارب ليس مخرجاً اضطرارياً للكاتب والشاعر والفنان، إنه المخرج الملازم لكل حركات الفكر والأدب والفن، إنه هروب من الثبات والسلطة، لذلك لا بد من أسلحة كثيرة ومناسبة كي يبقى، على الدوام، طريقاً موارباً. إذا كان شعر الحداثة لم يحصن طريقه الموارب جيداً من حيث أنه وقع في البؤر التي ساندته في البداية: الإيديولوجيات، النظم السياسية، وكافة اليقينيات التي انطلق منها، الأمر الذي جعله مسرحاً لحركة هائلة من الألفاظ والأفكار التبشيرية والخلاصية والتموزية... وغير ذلك من مفردات المعرفة التي تحتاجها السلطة، وذلك بمفهوم ميشيل فوكو لعلاقة معرفة / سلطة، إذ يعتبر أن كل تشكل للسلطة في حاجة إلى معرفة لا تتوقف عليه، ولكنها تكون، هي ذاتها، بدونه عديمة الفعالية. ففي التاريخ القديم كانت تتشكل معاً وفي وقت واحد: المدينة الإغريقية والهندسة الإقليدية، ذلك أن هذه الأخيرة تشكل المعرفة التي تحتاج إليها المدينة من أجل تنظيمها السلطوي. لقد تم تبادل الفائدة حقاً بين السلطات السياسية آنذاك، وبين شعراء الحداثة. وحيث أن الأمر كان يتعلق بمعرفة استفادت منها السلطة، بصرف النظر عن طبيعة هذه الأخيرة وتوجهها، فإنه جرد تلك الحركة الشعرية من أهم أسلحتها: لقد أفقدها لسانها الهامشي، التجوالي، الهارب، المنتشر كالهواء في الأرجاء... وكان هذا كافياً لأن يحول لغتهم، التي بدأت بوصفها تأتأة داخل اللغة، إلى نسق، حاولوا، هم أنفسهم، أن يجعلوه منسجماً. إذاً، إذا كان شعر الحداثة على ذلك النحو، فإن الشعر الجديد خط طريقاً موارباً أكثر حدةً. فكانت تأتأته داخل اللغة مضاعفة: فهو، وإن مشى على ذلك الطريق ليتفلت، أو ليهرب من النسق الذي أسسه شعر الحداثة وليفكك انسجامه، فإنه، إضافة إلى ذلك، تسلح بالتجوال، وبالنأي عن الإيديولوجيات وباقي تلك النظم السلطوية. فأتت مفرداته من صيغ العزلة والخواء والعدم وانهيار العالم... وكل ما تحاول السلطة نفيه من خطابها. فبدا، لذلك، أنه يكتب بنوع من اللسان الأجنبي. التأتاة هي الكتابة بنوع من اللسان الأجنبي داخل اللسان ذاته. ولا يعني هذا الكتابة بلغة أجنبية، كأن يكتب بالإنكليزية أو الفرنسية... وإنما أن يكون داخل لسانه الخاص كأنه أجنبي، بحيث يبدو وكأنه لسان أقليات، لسان هامشيين، كما ذكرت. يجب، امتلاك أكثر من لسان. ضمن هذا المعطى، وبالتحرر من النظم السلطوية والنظم السائدة، لم يكن ثمة معنى مسبق في الكتابة الجديدة. المعنى هو ما تنتجه اللغة. لذلك سأقصر مفردة "المعنى" على الكتابة الجديدة، فيما سأسمي القول الستيني بالـ "مضمون". إذ سألجأ إلى التمييز الذي أقامه عهد فاضل بين "المعنى" و"المضمون": "المضمون ينتمي إلى المستوى التداولي للعالم. أما المعنى فهو المستوى التخييلي والحدسي والذي يحمل قيمة لاتداولية على العكس من تداولية المضمون. في المعنى تتجسد العلاقة بين الكائن والطبيعة على شكل صناعة متبادلة للذات، في المضمون تتحول العلاقة تلك إلى قوة فاعلة مصيرية من طرف واحد، لا تكون الذات إزاءها سوى الجزء المهمش. في توطيد العلاقة التداولية، للغة، يصبح الشعر عملاً نقلياً وصفياً. أما في المستوى المعنوي، فإن المجاز طريق إجباري لاكتشاف اللغة. ومن ثم اكتشاف الشعر، بالضرورة". يمكن أن أقول باختصار: المضمون من الخارج إلى النص، فيما المعنى من النص إلى الخارج. لقد نقل الشعر الستيني، كنسق وليس كشعراء، قوله من الخارج، من الإيديولوجيات، من الأساطير، من الأفكار السياسية... وهذا شكل نفقاً من أخطر الأنفاق التي علق فيها ذلك الشعر. فيما ليس لدى الشعر الجديد تلك النظم. إن انتفاء تلك النظم من لدن الشعر الجديد يشكل، بحد ذاته، سلاحاً فاعلاً على طريقه الموارب، يحصنه، إلى حد ما، من أن يعلق في تلك الأنفاق المعدة، مسبقاً، لجميع الطرق المواربة. إن التأتأة هي ذلك الطريق الموارب الملازم لكل الحركات الإبداعية. الكتابة الصوفية العربية، كمثال، هي تأتأة داخل اللسان العربي. لذلك لم تزل، على نحو من الأنحاء، مستمرة، بوصفها أسلوباً خاصاً في الكتابة العربية. ينطبق الأمر على أبي تمام، وإلا لكانوا فهموا ما يقول. وعلى المتنبي كذلك، إذ أنه ينام ملء جفونه عن شواردها، ويسهر الخلق جراها ويختصم. إن مطالبة أبي تمام أن يفهموا ما يقول، هي مطالبتهم أن يستوعبوا ويفهموا اللسان الآخر، الخاص الذي يقول به. وإن اختصام الآخرين جراء نص المتنبي، هو محاولة منهم لترجمة ذلك اللسان الذي يمتلكه المتنبي إلى جانب لسانه الشخصي. عندما عرض أدونيس نماذج من شعر محمد الماغوط على شعراء مجلة "شعر"، وقد أخفى اسم الشاعر، قالوا إنها لبودلير أو رامبو. إذ أنه بدا لهم، هم الذين كانوا يرسمون طريقهم الموارب، كأنه مكتوب بلسان أجنبي. لقد تأتأ الماغوط تأتأته الخاصة، بلسانه الخاص الذي يمتلكه إلى جانب لسانه الشخصي. أنسي الحاج اضطر لأن يكتب مقدمة لأولى أعماله الشعرية: "لن"، يوضح فيها مفهوم الشعرية الجديدة آنذاك، وقد اعتبرت بياناً شعرياً- جمالياً لفترة طويلة. الحقيقة إنها بيان في التأتأة، تأتأته الخاصة. إن التأتأة هي ذلك اللسان الخاص الذي يتعين على الكاتب أن يمتلكه إلى جانب لسانه الشخصي. يمكن القول إن المراحل المعرفية، أقله في بدء تشكلها، تنطوي على هذه التأتأة، ولهذا تحاط بتلك الهالة السميكة من عدم الفهم، ذلك أن القراء يكونون قد اعتادوا نوعاً من الأداء السليم والنطق الصحيح للسان المعرفي، وما إن تظهر حالة من حالات التأتأة، حتى يكون قد أصيب اللسان السليم بسلامته، والنطق الصحيح بصحته، وبدا الشك في ذلك يتخذ وضعية متينة، سوف يكون من الصعوبة بمكان زعزعتها، إلى أن تستقر وتتحول إلى نسق معرفي. يبقى هذا النسق هو السائد والمهيمن حتى تظهر حالة جديدة من التأتأة فتزعزعه، وهكذا... إن تأتأة نيتشه وفوكو ودريدا...إلخ، كل بلسانه الشخصي، أدت إلى خلخلة الأنساق المعرفية الغربية برمتها. وكان ذلك يترافق مع قلق أوروبي جراء عدم فهم ما يكتبون. بالإطلاع على ظهور البنيوية، كمثال، نجد أن حالة من السخرية رافقت طريقتها في التعبير، وشاعت حالة من الرسم الكاريكاتيري الساخر الذي يهزأ من الصعوبة في فهمها، كذلك وُضع جاك دريدا موضع التندر من قراء كثيرين جراء المصطلحات التي كان لا ينفك يبتكرها، ولم تزل ما بعد الحداثة تُتهم بأنها تزين الخواء... إن تاريخ المعرفة والإبداع تأتأة متواصلة. كما أن هذا الطريق الموارب يمشي عليه التعبير، فإن القول، أيضاً، يمشي عليه. إنه ليس حالة عرضية تصيب اللغة، أو زخرفية للتزيين، أو مجرد ابتعاد عن الشكل الكتابي السائد. إنه، بالتشديد، أسلوب شخصي في الكتابة. بمعنى أن لكل كاتب طريقه الموارب الخاص. وبوصف الكتابة لغة تقول، فإن التأتأة في اللغة، كما أنها تؤدي إلى لغة تبدو مضادة، أو هي كذلك بالفعل، فإنها تكشف عن/ أو توصل إلى معنى يبدو مضاداً كذلك، أو أنه مضاد حقاً. فإذا كان ماركس وفرويد أسسا فجر ثقافة أوروبية، فإن نيتشه، على العكس، أسس، بتأتأته، فجر ثقافة مضادة.
*العنوان الأصلي للمقال (التأتأة داخل اللغة).
#خضر_الآغا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماذا فعلت الصين لمعرفة ما إذا كانت أمريكا تراقب -تجسسها-؟ شا
...
-
السعودية.. الأمن العام يعلن القبض على مواطن ويمنيين في الريا
...
-
-صدمة عميقة-.. شاهد ما قاله نتنياهو بعد العثور على جثة الحاخ
...
-
بعد مقتل إسرائيلي بالدولة.. أنور قرقاش: الإمارات ستبقى دار ا
...
-
مصر.. تحرك رسمي ضد صفحات المسؤولين والمشاهير المزيفة بمواقع
...
-
إيران: سنجري محادثات نووية وإقليمية مع فرنسا وألمانيا وبريطا
...
-
مصر.. السيسي يؤكد فتح صفحة جديدة بعد شطب 716 شخصا من قوائم ا
...
-
من هم الغرباء في أعمال منال الضويان في بينالي فينيسيا ؟
-
غارة إسرائيلية على بلدة شمسطار تحصد أرواح 17 لبنانيا بينهم أ
...
-
طهران تعلن إجراء محادثات نووية مع فرنسا وألمانيا وبريطانيا
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|