سلام إبراهيم
روائي
(Salam Ibrahim)
الحوار المتمدن-العدد: 1902 - 2007 / 5 / 1 - 13:37
المحور:
الادب والفن
عالم القرية وعلاقته بفترة محددة من تاريخ العراق المعاصر:
من بين فصول الرواية الـ 60 تابع السارد تطور شخصية ابن قرية الجوابر ـ جاسم العطية ـ في 26 فصلاً، الذي عاش في المدينة لفترة وعاد منها ملوثاً بصراعات المدينة السياسية في الستينات والسبعينات. فراح يدعو أبناء قريته إلى الانخراط في تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي. لابد من الإشارة إلى أن الكاتب أمسك بمفصل حيوي من تاريخ الصراع السياسي في العراق خلال النصف الثاني من القرن العشرين حيث لعب الشيوعيون دوراً بارزاً فيه إذ كانوا طرفاً معارضاً للسلطة الحاكمة، كما كانت شخصية ـ جاسم العطية ـ محورية مكنت الراوي من التحكم بفصول النص بالعودة إليه بين الحين والحين في فصلٍ مستقل. وبسبب سماتها الجديدة المتمثلة باختلاف مفاهيمها ومعتقداتها التي تتناقض تماماً مع معتقدات القرية ستكون هذه الشخصية نافذة توسع عالم النص من خلال حركتها بين قرية المعدان وقرية الدبن في عمق الأهوار، وما تكتظ به ذاكرتها من تفاصيل الأيام التي قضتها في المدينة بين الرفاق، هذه الفترة التي تقدم تبريراً فنياً مقنعاً للجوء قادة الشيوعيين إلى قرى الأهوار أواخر الستينات والذين سيقتل ـ جاسم العطية ـ دفاعاً عنهم في الفصل الختامي. مما يخدم تطور الحبكة. أي أن الشخصية المحورية أصبحت النقطة المركزية في المشروع السردي وبنية النص. رغم شجن السارد في تعامله مع سذاجة جاسم العطية الحالم نلمس سخرية دفينة في تفاصيل محاولته زحزحة ذلك الإرث الروحي الهائل، المتجسد في الطقوس الدينية الممزوجة بالخرافة، الواشمة الطبيعة البشرية والجغرافية، سينتج العديد من المواقف الكوميدية لتصادم القيم الفكرية والمفاهيم النظرية مع بيئة النص ومستوى وعي الفلاحين المتخلف، مما يضطره إلى العيش في المنفى ـ قرية الدبن ـ المجاورة.. النص هنا يتألق فكرياً من ناصيته الحيادية التي تلقي نظرة موضوعية على الصراع والحياة في النص تفتقر إليها العديد من النصوص الروائية العراقية التي تستقي تيمتها من تفسير أيديولوجي. ذلك أكسب الشخصيات حيوية وجعلها حية، ففي الوقت الذي سوف نسخر من محاولات جاسم العطية وأفكاره سنحبه ونتألم لعذابه ومقتله.
في مقابل هذه الشخصية الديناميكية في النص والتاريخ العراقي المعاصر نجد شخصية ـ شرهان قاطع ـ ابن نفس القرية المنتمي إلى حزب السلطة المركزية قومية التوجه وهي شخصية مكروهة، شاحبة في المحيط الاجتماعي تفرض نفسها بالقوة، مراوحة بين تهديد وترغيب في محاولتها إجبار الفلاحين على الانتماء إلى حزب البعث وأفكاره الاشتراكية القومية. وتقوم هذه الشخصية المعزولة الظالمة بمساعدة الجيش في حملة تسفير قسم من سكان القرية بحجة التبعية الإيرانية عقب نجاح ثورة الخميني 1979 في إيران.
بنية النص وتقنياته :
شيّد هيكل النص على هيئة فصول قصيرة غالباً وقد تطول حسب منطق الحدث وموضوعة السرد، بلغ عددها الـ 60 . تستقي الفصول أو المشاهد منطقها الحكائي من الحكاية الشفوية المتناسلة في المخيلة الشعبية سواء المنسوجة منها من الموروث الديني الشيعي أو الموروث الخرافي السابق لظهور الأديان السماوية. أما أحداث حبكة النص الملاحقة لتطورات الواقع الاجتماعي والنفسي والسياسي في الفترة التي تناولها النص فمبنية وفق رؤية ومخيلة وتصور الفلاحين الذي يمنح أي حدث عابر مبالغةً تناسب مخيلتهم فأقترب السرد من الحكاية الشفاهية وموروثها الديني والخرافي، وذلك منح النص إيقاعاً ومناخاً آسراً امتزج فيه الواقعي بالخرافي امتزاجاً متناغماً. الحكايات رتبت في هيكل النص بشكلٍ يتناسب مع الخيط السري الرابط لحبكة النص في بنيته التقليدية، إذ يبتدئ في الفصول الأولى بوصف حياة ومعتقدات الفلاحين وطبيعة المكان الذي سوف تجري الأحداث والصراعات فيها فيخصص السارد فصولاًً مستقلة لوصف المكان فقط وكأنه عين كاميرا سينمائية تصور بانورما جغرافية للمكان قبل الدخول في تفاصيله، هذا ما نجده في الفصل الافتتاحي الممهد للدخول في طقوس الشيعة، وفي الفصل ـ 12 ـ التي يشرح فيها كيف يبني سكان الأهوار جباشاتهم العائمة وسط الماء كتمهيد لدخول القارئ مع جاسم العطية الهارب من قريته بسبب أفكاره الشيوعية الغريبة على معتقداتهم وحياتهم الاقتصادية والاجتماعية البدائية حيث لا يجود جائع لتكافلهم القبلي والدين. أقصد بتقليدية البناء هو ذلك البناء المتسلسل بتتابع أحداثه من البداية فالوسط ثم النهاية التي تتجمع فيها كل مسارات السرد والمصائر وتنتهي وهذا ما فعله السارد في فصل الرواية الأخير. هنا أصل إلى استنتاج مغاير لما توصل إليه الناقد المغربي د. عبد الله سفيان الذي قارن بين ـ عراقيون أجناب ـ و ـ وليمة لإعشاب البحر ـ لحيدر حيدر في مقالته المنشورة في القدس العربي بتاريخ 17 ـ 8 ـ 2000 مضخماً في تحليله حدثاً صغيراً في رواية فيصل عبد الحسن يشترك فيه مع رواية حيدر حيدر إلا وهو لجوء مجموعة من الشيوعيين في أواخر الستينات إلى الأهوار لخوض الكفاح المسلح وهذا محور نص الكاتب السوري المعتمد في كتابة نصه على روايات اليساريين العراقيين الذين لجأوا إلى سوريا، فيصل الناقد سفيان إلى استنتاج مفاده أن نص فيصل عبد الحسن عبارة عن كولاج رتب دون خبرة كافية للتخلص من رتابة السرد التقليدي، التضخيم المذكور قاده بالإضافة إلى عدم دقة تحليل بنية النص إلى المقارنة بين نصين مختلفين كلياً بانشغال عالميهما، فنص فيصل عبد الحسن ينشغل بالبشر المهمشين المنسيين من شيعة ريف الجنوب العراقي بينما ينشغل نص حيدر حيدر بأجواء النخبة اليسارية العراقية المعزولة والتي خاضت أخر معاركها الخاسرة في الأهوار. ونص فيصل عبد الحسن يتناولها واضعاً تلك الحركة المسلحة في وزنها المعقول في الواقع العراقي زمنه التاريخي المعاصر، وزمن توازنات النص أيضاً. وهذه المقارنة العسيرة جعلته يستنتج أن نص الوليمة أحكم وأجمل من نص ـ عراقيون أجناب ـ .
أستخدم الكاتب في السرد الضمير الثالث المناسب لبنية عملٍ تتناسل فيه الحكاية تناسل حكايات ألف ليلة وليلة. فشهرزاد في سردها المتسلسل تقول عن آخرين وتستخدم ضمائرهم عندما يروون تجربتهم. نجد هذه التقنية في الفصل ـ 21 ـ رحلة السيد مهنا بصحبة أبيه إلى مكان حفظ كنوز الشيعة في عمق الأهوار، فالسارد هنا هو مهنا رجل الدين الذي يرحل بنا من كوة جباشه وسط إلى جغرافية مختلفة .. إلى بحيرات وجبال وكهوف لنكتشف في نهاية الفصل بأن الحكاية مجرد تهويمات ذاكرة طاعن في السن في رحلة مفترضة مع والده إلى ذلك الموقع الخرافة.
لا تقبل مثل هذه البنية الروائية سوى لغة بسيطة، لغة تستعير من السرد الشفاهي روحها، ومن موروث السرد العربي في ألف ليلة وليلة تركيب جملته البسيطة، لكنها ترسم المشهد مجسداً بتفاصيله وكأن القارئ يلمس حيوات النص بأصابعه . ففي خضم دراما الأحداث المتلاحقة يصاب شيخ المعدان بالعنة في زيارته الأولى إلى البصرة ومحاصرته من قبل الشرطة في بيت البغاء عندما يقضي ليلته وسط العاهرات اللواتي يتناوبن عليه لحدود القرف والعنة، فتصاب زوجاته الثلاث بالحيرة وهن محتدمات في ليل الغريزة، لنقرأ:
( ذهبت فيما بعد زوجاته الثلاث في إحدى الصباحات إلى الصابئي بصحبة عمه، لخوف الشيخ من اصطحابهن إلى المدينة مخافة أن يكون مطلوباً بعد حادثته المعروفة في بيت البغاء بالبصرة. وعادت الزوجات من عند الصابئي بالكثير من التمائم والأدعية والتوصيات وأحرقن الكثير من البخور وجعلنه يستحم ببول الجواميس ويأكل في العشاء ذنب الأفاعي، ويشرب في الفجر دم السلحفاة، لكن كل تلك الأعاجيب والمعالجات لم تفد معه ص 141 )
رغم بساطتها التي تبدو مفرطة ظاهراً، لكنها تتفجر شعرية في المشاهد الحسية وهي تصور الألم في احتدام طقوس الحزن الكربلائية، والقرويين يضربون الرؤوس الحليقة بالقامات حد الإغماء والموت أحياناً تكفيراً عن الأسلاف الذين خانوا الحسين وصحبه في كربلاء، أو في تصوير مشاهد أولئك المنسيين المسحوقين في عنفوان علاقاتهم الحسية وحبهم المجنون،ففي حكاية بلقيس بنت الحائك التي اختفت من القرية في ظروف غامضة وتعلقت بجنون بجاسم العطية الذي عثر عليها صدفة في مبغى عام في البصرة، تلتحق به إلى مكان اختفائه في الأهوار بعد أن طالها عسف السلطة الطهرانية الثورية التي قامت بغلق بيوت البغاء. تتألق لغة النص ببساطتها الآسرة فتنفث من حروفها سحر المكان البائس ـ الجباشة ـ وجاسم العطية يستمتع بالإنصات إلى بلقيس وهي تروي تفاصيل مغامراتها الجسدية مع البحارة الغرباء الذين ترسو سفنهم في ميناء البصرة قبل أن يمتزجا :
( زاحفةً على ظهرها بكل رغبات الأنثى فوق أرض الصريفة وفوقها فارسها مثل مشحوف أغرقه حمل ثقيل ص152 )
* صدرت عن ـ الأحمدية للنشر ـ الدار البيضاء 1999
#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)
Salam_Ibrahim#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟