أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جهاد علاونه - المجتمع العربي مجتمع الحظ والصدفة















المزيد.....


المجتمع العربي مجتمع الحظ والصدفة


جهاد علاونه

الحوار المتمدن-العدد: 1890 - 2007 / 4 / 19 - 07:16
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


من الحظ والصدفة إلى مجتمعات القوة:
إن جميع المجتمعات الزراعية التي كانت تحرث أرضها وتبذرها بطريقة جد قديمة وتقليدية نجدها في أكثر حالاتها تعتمد في تفسيراتها الاقتصادية على مبدأ الحظ والصدفة وهذه قصيدةٌ شعريةٌ تصور لنا بُؤس الحياة في الريف المصري ما بين عام 1930 و 1933 لشاعرٍ مقل يُدعى عبداللطيف النشار:
الزرع ينمــو بطيئــا فالصبر في الريف عاده
مادمت في الريف فاصبر علـى لزوم الوســاده
سهولة العيش في القـوم بثـت روح الـزهـاده
فواجد القوت في الريـف لا يريـــد الزيــاده
ومالك القرش في الريف ليس يخشى نفــــاده
لولا الغريزة ما كــان آكــــلاً قــط زاده
أتلــك دور أنــاس؟ أولى بهن الإبــــاده
ما يستحق الثنــــاء من لم يشــرف بلاده
وليس يُرضي ســواه من ليس يُرضـي فؤاده
ولم يبر أباه مــــن لم يفـــق أجــداده
الماء ليس بــــجار إذا وقف اضطــراده
ولم يبـــر ذويــه من لم يغظ حســـاده
إن الحياة طمــــاح ومتعة مستقـــــاده
تبدُ القناعة في المـرء إن أحس فســـــاده
جو المصانع جو تعيش فيـــــــه الإراده
إبنو المصانع تبنــوا في مصر أسس السعاده( )
عبداللطيف النشار

وكثيراً ما تدخل قوى سحرية غريبة في صناعاتها وحل مشاكلها وتجدها من حيث اللغة جامدة وغير متطورة وتقدس الماضي حتى بأخطائه وتفسر الرزق بالحظ وكذلك الزواج والإنجاب لذلك فإن موضوع الإيمان عند المجتمعات التي ما زالت تحرث أرضها وتزرع بطرق تقليدية ما زالت حتى اليوم لا تخضع لسلطان (العلم) ذلك أنها لا تعتمد في أنماط حياتها على العلم والقوة بقدر ما تعتمد على الوهم والخيال، بل أنها ترى أن تدخل العقل يزعزع عقيدتها وهذا صحيح طالما أنها لا تعتمد في حياتها ومعاشها إلا على الصدفة وضربات الحظ، وجاء في قصة الحضارة( ):
"إن الدين يزدهر عادة في ظل النظام الزراعي على حين أن العلم يزدهر في ظل الاقتصاد الصناعي فكل حصاد معجزة من المعجزات في الأرض ونزوة من نزوات الجو".
لهذا السبب نجد أن أشباه مثقفينا ينادون ويناشدون الحكومات العربية بتوفير الحماية لهم من سوق (الكتب) الأجنبية، ذلك أن مثل تلك الكتب قد يسيء إلى الحظ والصدفة لأنه يغفلهما وينادي بالعقل والقوة واستخدامهما، وبرأيي أن هذا يعود أصلاً إلى أنماط الحياة الجديدة في المجتمعات المتقدمة صناعياً، إذ أن اعتمادها على مبدأ العقل والتنافس الحقيقي وتحسين الإنتاج هما اللذان أغرا بالمثقف الأوروبي إلى نبذ فكرة الحظ والصدفة بعد نهاية العصور الوسطى وبداية الإصلاح الديني خارج "إيطاليا".
وإنه من البديهي أن انتشار الطباعة في أوروبا ساعد هنالك على انتشار الكتابة والكتاب المقدس خارج الكنيسة ومن ثم ساعد هذا على دعوة لوثر بالاحتكام إلى الكتاب المقدس بدل البابوات، وهذا ما حصل عندنا نحن العرب الشرقيين ولربما أن انتشار الوعي والثقافة والعلم في أوروبا قد فتح باب الغيرة على مصراعيه لدى الشباب العرب من المطلعين على الثقافة الأجنبية، وإن الذي قاله: فهمي جدعان سابقاً من أن الإحساس بالفجوة العميقة بين الغرب وبين الشرق هي التي أغرت بالمثقف العربي في أن يقتحم على أوروبا أبوابها لتهب منها رياح التغيير إلى الشرق.
ويقول "ول ديورانت"( ) في قصة الحضارة "من أن سقوط القسطنطينية على أيدي المسلمين هو الذي وضع حداً لنهاية العصور الوسطى في عموم أرجاء أوروبا إذ أحس المثقف هنالك من أن "رب المسيحية لم يستطع حماية أبنائه من سيوف المسلمين".
وإن بعض الكتاب العرب في فترة الستينات (1965م) كانوا يرون أنه من عوائق النهضة العربية هو توجه المثقفين للمذاهب الغربية ( )
وهذا ما حصل في الشرق العربي مرة أخرى، إذ أن سقوط الخلافة العثمانية ودخول الاستعمار، لم يعمل على إيقاظ المثقف العربي من حلمه وسباته فقط بل شعر أن القوة في أوروبا لا تنبع من الحظ أو الصدفة وحدهما، لذلك بدأ يفكر بضرورة التغيير.
وبهذا عمت الفوضى الثقافية بين المثقفين في كافة أصقاع الأرض، وبدأ بعض المثقفين يفكر بطريقة خيالية وهمية، وبدأ المرض يدب في أطراف الجسم العربي، بين من يرى أن العودة للقديم هي التي ستعمل على توفير شروط النهضة، وبين من يرى أن العودة للقديم لا يحقق هذه الشروط لأن للماضي ظروف وللحاضر ظروف ولهذا نظروا باتجاه الغرب لتحقيق شروط النهضة غير أن فريقاً ثالثاً رأى غير ذلك إذ اعتبر أن التوجه للغرب هو مثل التوجه للماضي أي أن الاثنين لا يحققان "الهوية الجديدة" المعاصرة أي أن تقليد الغرب هو مثل تقليد الماضي أي أن كليهما تقليد ويرى الباحث "عبد الله سرور عبد الله" في كتابه "الإعلام والثقافة"( )، يرى هذا الباحث أن الاستعمار الفرنسي لم يغير في الثقافة المصرية لا من قريب ولا من بعيد، وهو يخالف آراء أكثر الباحثين ويقول بالحرف الواحد:
"فلا يمكن أن تحدث نهضة نتيجة لحملة نابليون، أو أثر من آثارها المباشرة أو غير المباشرة، فلا يمكن أن تحدث نهضة نتيجة لحملة استعمارية وقف المصريون منها موقف العداء".
وهنا يجب التنويه إلى أن محاربة التقدم بدأ منذ بدأت الثقافة العربية المعاصرة، وفي أول عدد من مجلة "أنيس الجليس" بدأته صاحبة المجلة بمقال عنوانه "الشعر العصري" وجاء فيه:
"إن أول ما يعتمد عليه الشاعر العربي هو النسق العربي المحض والتراكيب المختصة به، لا المعاني والأوصاف التي يجيء بها"( ).
إن نظرة هؤلاء الكتاب صحيحة إذا بقي أسلوب الإنتاج على حاله القديم وهم غير معنيين بالإفرازات الجديدة التي تفرزها الآلة الصناعية الحديثة من تركيبات اجتماعية، لأنهم لا يملكونها، وطالما أنهم لا يملكونها طالما أنهم غير متأثرين بما يتأثر به الإنسان الجديد المالك للآلة، وهذا هو برأيي الجواب الحقيقي على السؤال الذي طرحه المثقفون الجدد، وهو: لماذا تخلفنا نحن وتقدم غيرنا؟ نعم: إن البقاء على أنماط اقتصادية قديمة روحها روح الصدفة ومتعلقة بالحظ، هو الذي يجعل أدباءنا تقليديين يغوصون في أسفار الماضي بلا عودة.
ولقد نقل لنا "الجبرتي" ملاحظات مدهشة عن واقع الحياة العامة في مصر إبان الحملة الفرنسية:
" وإذا حضر إليهم من المسلمين ممن يريد الفرجة كانوا لا يمنعونه من الدخول إلى أعز أماكنهم ويتلقونه بالبشاشة والضحك والسرور ...وإذا رأوا فيه قابلية أو معرفة أو تطلعاً للنظر في المعارف بذلوا له مودتهم ومحبتهم ويحضرون له أنواع الكتب المطبوع بها أنواع التصوير".
وأرى أن أسباب نفور المجتمعات العربية من المجتمعات الغربية يرجع إلى الخوف المعشش في أذهان العرب المسلمين من طبيعة البناء الاجتماعي للمجتمع الغربي من عادات وتقاليد وهذا الخوف لا يوجد به أي خطأ إذا أن هنالك اعتراف ضمناً بفساد المجتمعات حين تصل إلى الترف علماً أن كل الحضارات والثقافات تسعى إلى تحقيق الرخاء والترف وهي تعلم أنه من أسباب انخذالها وأول من تحدث عن هذه الظاهرة هو الفيلسوف العربي والمؤرخ الاجتماعي (ابن خلدون 1332-1406م) ( ). وحينما ظهر المؤرخ المصري (ابن إياس) وكتب كتاب "بدائع الزهور في وقائع الدهور" وهو يتحدث عن الفترة من سنة 1468م-1522م وهي الفترة التي يتحدث بها "ابن إياس" عن نهاية عصر المماليك وبداية العهد العثماني في مصر وبلاد الشام، ويرى بعض المحللين أن اسم الكتاب بسبب ملاحظة ابن إياس أن للدول أعمار بعمر الزهور التي تذبل مثل دولة المماليك ( )
وإن من الكتاب المتقديمن زمنياً على زمن بدايات النهضة قد حوروا وفلسفوا أبعاد التقدم عبر جمل متعددة الأبعاد ومتناقضة ومن ذلك قول الباحث "بو علي ياسين"( ).
"غير أن الرابطة القومية، وإن كانت قد حولت مركز القرار من السماء إلى الأرض، فإنها نقضت هذا الفعل الإنسانوي العظيم من خلال الصراعات القومية، وخاصة الاضطهاد والاستغلال الذي مارسته الدول القوية بشكل الاستعمار الكولنيالي...."
وإن البذخ لم يكن وحده سبب سقوط دولة المماليك، فقد كانت هنالك ظروف خارجية أيضاً أهمها ضعف الموارد الخارجية للدولة نتيجة اكتشاف البرتغاليون لطريق رأس الرجاء الصالح وبذلك انصرفت التجارة عن الموانئ المصرية، وتراجعت الطبقة التجارية التي كانت تمول دولة المماليك، وكانت تعمل على حماية الطبقة الوسطى من الانسحاق.
وإن واقع مجتمعاتنا العربية هو واقع مخجل، وهو يحاول وبعض مفكريه أن يقفزا من الإطار الجهوي إلى المجتمعات المدنية قفزاً "فيه طفرة" أي أنه يحاول الانتقال من مراحله الأولى إلى المراكز الثالثة، أي إلى المجتمع المدني الحديث، علماً أن المجتمع المدني الحديث قد جاء بعد المرحلة الرأسمالية في أوروبا، وإن المجتمع العربي ما زال يقلد ولا يبتكر نتيجة معوقات اقتصادية أهمها على مستوى فائض الإنتاج من الغذاء ومن المواد الأولية للصناعات الخفيفة والثقيلة، لذلك فإن واقعنا سيبقى في إطار البنى الاجتماعية القديمة القائمة أصلاً على مبدأ "اقتصاد الصدفة" و"الحظ" وبالتالي فإن هذا الإطار يفسر نجاحات الأفراد: أنها صدفة أو ضربة حظ، وبالتالي فإن البنى السائدة سوف تبقى رافضة للتجديد على مستوى علاقات الأفراد والعائلات وخصوصاً على مستوى قضية المرأة وعلى مستوى البناء الفكري والأدبي وعموم العلاقات الإنسانية، وإننا جميعاً متفهمون للمشكلة وقضاياها العالقة، ولكن المشكلة الأكثر تعقيداً هي كيف نحضّر ونمدّن الإنسان الشرقي وهو ما زال ينتظر المعجزات والمخلصين ونزول المهدي وهو يفسر كل شيء بالصدفة والحظ، لأن اقتصاده مبني على مبدأ الصدفة والحظ، وهو نمط زراعي قديم حين كانت الزراعة تقليدية، وحول هذا الموضوع كتب (توفيق شومر):
" ففي حالة المجتمع المدني، فإنه يحتاج لكي يكون فعلياً مجتمعاً مدنياً، حدوث تغيير حقيقي في البنية القائمة بحيث تتوفر فيه شروط المجتمع المدني الأساسية، وكما رأينا فإن المجتمع المدني انطلق أساساً من الثورات البورجوازية في المجتمعات الغربية وترافق بالضرورة مع تعميق فهم المجتمع لعلاقة محددة بين المواطن والدولة تعرف بالمواطنة، وهنا يجدر التنويه بأن المواطنة غائبة أو ناقصة عند الكثير من شعوب العالم، كما هو الحال في الأقطار العربية".
وهذا الكلام من الملاحظات الهامة ويمكن تفسيره عبر إضافة تفسيرات جديدة، مثل: أن المجتمعات العربية ما زالت تنظر إلى الغرب على أنه عدو يريد هدم ثقافته غير أن الغرب لا يهدم ثقافة الشرق كما أن الشرق لا يهدم ثقافة الغرب والذي يهدم هو التحول في أنماط الإنتاج( ) الاقتصادية مثل الانتقال إلى الرأسمالية يقتل ويهدم الأنماط الجهوية والتقليدية القديمة، مثل: الثقافة الزراعية والرعوية، فالثقافة الزراعية القائمة على الحظ والصدفة، قتلتها الأدوات الجديدة التي حسنت الإنتاج وجعلته تراكمياً، كما أن اقتصاد السوق اليوم عمل على خلق مجتمعات مدنية، وهذا آخر ما وصلت إليه المدنية وهي ما زالت في بداية التشكل ولن نصل نحن العرب إلى مستوى هذه الجماعات إلا إذا تحولنا اقتصادياً عن أنماطنا القديمة واتجهنا إلى اقتصاد السوق الحديث.
ومما يدهشني أن أقرأ لمؤرخ مصري قديم هو "تقي الدين المقريزي" ( )تعليلاً يرجع به أسباب المجاعة في مصر حوالي (796-808م) إلى فساد الحكام وليس لجدب نهر النيل في تلك الأعوام التي انتشرت بها الأمراض حيث كان الطاعون يقتل في كل يوم ثلاثين ألفاً من المواطنين، ولربما أن نظرة المقريزي نابعة من غضبه على وفاة ابنته بالطاعون (الموت الأسود) وهذا الأمر جعله متمسكاً بمبدأ فساد الحكام وليس فساد الأرض والغيوم والمطر، وهي تعليلات مقبولة علمياً ولكنها ليست الوحيدة، ومن ناحية أخرى يمكن أن نعتبر كلام (المقريزي) فرضية صحية على اعتبار أن البذخ والرفاهية هي من أسباب تدهور صحة الإنسان اقتصادياً وهي من أسباب تدهور صحة الدولة التي تنتحر بأدوات الترف إذ أن مثل هذه الأدوات تؤدي إلى شل حركة الإنتاج، ويعتبر "الحاكم بأمر الله الفاطمي" أغرب حاكم عرفه العرب والمسلمون من غير العرب، ولكن ليس من المنطق أن نعتبره حاكماً طاغياً كما وصفه بعض المؤرخين العرب، حين اعتبروا أن لوائحه القانونية الجديدة عملاً استفزازياً من أعمال الطغيان، فمثلاً يرى باحث عربي وهو "عبد الحكيم العفيفي"( )
"وحرم ذبح الأبقار السليمة إلا في أيام النحر في عيد الأضحى وغيره وفي غيرها لا يذبح إلا ما كان ذا عاهة أو ما لا يصلح للحرث".
وأعتقد أن هذا لا يعود للطغيان بقدر ما يعود إلى المجاعة التي حلت بالشعب المصري في بداية القرن الرابع الهجري، ولأن الأبقار لا تكبر في مزارع حديثة ومتطورة مثل هذا اليوم، لهذا السبب فقد منع أكلها وذبحها حتى لا تُحرم الناس من ألبان المائدة، وهذا إجراء وقائي، ويدعم وجهة نظرنا في بداية الموضوع وهو أن الصناعات العلفية هي التي عملت على إرضاء "بطون الناس" وغيرت كثيراً من سوء التغذية.

الفردية والجماعية في شرب القهوة:
هذه بلا شك حياتنا... أناسٌ مغادرون ... وأناس قادمون.. والقادمون نعرفهم بأسماءهم وكذلك نعرف مواقعهم... وبلا شك أو قيد نتصرف بعفوية مع من نحب ... وأحياناً نخسر كل شيء بلحظة طيش .. ومهما بلغنا في حبنا لأنفسنا وفي تعظيمنا لذواتنا فإننا مع كل هذا نعيش ونحيا ونضحي بأرواحنا في سبيل من نحب... وهذه الحياة تكشف لنا خيبة أملنا في خلود الذات وتسلط الضوء على الجماعة وخلودها ... كان عصر النهضة في بدايته كما رأينا وقرأنا وسمعنا مفتون في حبه للمعرفة والتنوير .. وهذا السبب جعله مفتوناً بالغرب ويراه كما يرى المعشوق معشوقه والشاعر قصيدته والراوي روايته، أي أنه يرى الغرب خالياً من كل عيب، ولكن سرعان مافتر هذا الحُب الشهواني، وبدأ الشرق يتحسس مواقع الضعف في جوانب الحياة المتعددة،وبدأ يعد عدته للتحدي والتصدي، وبدأ يُحسن إنتاجه المعرفي والصناعي، وهذا ما أشعل ثورة عرابي بعد أن غيرت حكومة محمد علي أنماط التعليم، وأدخلت برابج متطورة على السلك العسكري، وهذا ما لمسه طه حسين، في الحياة الإدارية في جيش محمد علي، كيف أدى تطور الحياة العسكرية إلى إرسال بعثات طبية وهندسية ملأت صفوف الجيش بالصحوة.
وبالعلم والتنوير وبإستمرار التطور خسرنا، إنسانيتنا وكسبنا الجانب الحيواني منها، وكذلك خسرنا المسيح إبن الله وكسبنا المسيح (إبن المرأة)، وفي ظل هذه الظروف نمت فرديتنا وأنانيتنا، بسبب تطور الصناعات ونشوء المدن الكبيرة التي جعلت كل فرد منا يعيش بمعزلٍ عن الجماعة، وبذلك تكون المساكن الحديثة قد وفرت الشرط اللازم لنمو الشخصية الفردية وإجهاظ الشخصية الجماعية، قبل أن تحاول نزوات الفلاسفة التخلص من الفلسفة الجماعية، والإنفراد لوحدها... أليس من الملاحظ أن محاولة العيش بمعزلٍ عن الجماعة – قبل عصر التطور – كان يقابل بكثير من الشك والريبة ولا يسلم من وصفه بالجنون والإعتكاف ... ولكن تغير انماط الحياة قد جعل من العائلة المعتكفة نموذجاً متطوراً من تطورات المجتمع المدني الحديث ونموذجاً يقتدى به، وأصبح بذلك المثقفون يفخرون بإنسلاخهم عن أقاربهم وعائلاتهم الممتدة، واليوم يبدو أن هذا الطابع هو الغالب على إسلوب حياة أبناء المدن وحتى القرى في بعض الأحيان، ومع كل ذلك فقد جرت الفردية وراءها خيبة أملها، بسبب تراجع فرص الثراء للمهنيين الصغار والتجار، وهذا عمل على إيجاد طبقة مناضلة في سبيل اعادة روح العمل الجماعي الذي تمثل أخيراً بأحزاب اليسار.
وفي هذه الأثناء كان يولد في كل يوم مثقفون على إمتداد الوطن العربي الكبير، ولكن إنحسر الغالبية في المجتمع المصري حتى بداية 1952م منذ غزو نابليون لمصر، وانحسر المثقفون في مصر بسبب اعمال القمع والإضطهاد التي عمت بلاد الشام في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، فكان المثقفون يهربون من بلاد الشام إلى مصر، لقد كان ذلك العصر نذير شؤمٍ على بلاد الشام، وكان كل من يتفلسف أو يتكلم بما لا يخصه يطلق عليه إصطلاح (سياسلي) بمعنى (سياسي) وكان الذي يحمل كتاب كالذي يحمل اليوم صندوق حشيش، لقد اصبحت الحياة القديمة لغزاً كبيراً لنا نحن اليوم، وأصبحت معانيها القديمة مغزاً لكبار السن، وهددت حياة التطور اصالة العادات والتقاليد، لقد كانت الحياة القديمة غارقة إلى أذنيها بمعاني الرحمة والصدقات، إما اليوم فقد حلت محل هذه الحياة ، الإستثمارات وتوسيع قاعدة الإنتاج حتى تشمل معها توسيع قاعدة المشاركة وفي الوقت الذي كانت به الطبقة الغنية تسترخي بشرب القوة، كانت غالبية الناس تشقى من أجل الحصول على لقمة عيشها، حتى أننا نلاحظ شرب القهوة عند بعض الفئات الاجتماعية كان يعدُ نمطاً يدل على مظاهر البذخ، وهو غير ضروري للفقراء، وقد إتسعت عادة شرب القهوة مع إتساع قاعدة الشبع، وأصبح الفنجان لا ينزل عن موائد من كنا نسميهم الفقراء، وقد كنت ألاحظ وأنا في سن العاشرة من عمري، كيف كانت (القهوة الحلوة) مظهراً من مظاهر الثراء، وليس بإستطاعة الفقراء شربها، وهذا لا يعود لإرتفاع سعرها ولكنه عائدٌ بشكلٍ رئيسي لعدم توفر فرص الراحة والإسترخاء أثناء الليل والنهار، وقد نلاحظ في إحدى أفلام السينما المصرية فلماً لأسمهان تغني به على القهوة من الممكن للقارئ أن يعود إليه. وقد بالغت النخبة الإجتماعية في العاصمة العثمانية، في تعظيم نفسها، حيث سمحت لليهود والمسلمين في إرتداء جميع الألوان إلا اللون الأخضر الذي إختصت به عن سائر اليهود والمسلمين والمسيحيين وكان الشاه (عباس) يزيد في رواتب الجند على حسب طول الشارب الذي يغطي الشفة العليا من الفم، ولم تكن الرواتب لها سُلم إداري بل كانت أيام الشاه عباس تعتمد على طول الشارب، وليس على الكفاءة، وكان الفقراء يأكلون (الدقة) وهي تتألف من:- (فلفل، زعتر، نعناع، كمون، بذور الكزبرة، قرفة، سمسم، حمص، ثم تغمس قطع الخبز بها) أما الأغنياء فكانوا طوال النهار يستمتعون بشرب القهوة والتدخين، كما يظهر في الصورة المرسومة عن واقع الحياة العامة في مصر سنة 1833-1835م.
ولا يعرف بالتحديد متى بدأت القهوة بالإنتشار، ويقال أن موطنها الأصلي هو اليمن( ) وبدأت من هناك حوالي 1450م أي في أواسط القرن الخامس عشر الميلادي وقد لاقت خصوماً لها في عموم أرجاء الشرق الأدنى وإجتهادات على جواز شربها، ومن المرجح أن الصوفيين هم أول من شربها وذلك حتى تساعدهم على السهر والعبادة والذكر طوال الليل، وقد إنتقلت من مائدة الصوفيين إلى مائدة الأغنياء، وبذلك تكون للقهوة طابع ارستقراطي، ولم تكن رائحتها تخرج إلا من بيوت الأغنياء، ولكن مع تحسن أدوات الإنتاج أصبحت تحمل طابعاً ديمقراطياً في منازل الفقراء والمعدمين من الناس، لذلك يتبين لنا أن للقهوة طابعاً ثقافياً كان في البداية أرستقراطياً مثلها في ذلك مثل الفنون والشعر والأداب التي لم تكن تحيا إلا في منازل الطبقة الأرستقراطية.
إننا نستنتج من ذلك أن المظاهر الثقافية كانت ذائعة الصيت فقط في المواقع المغمورة بالذهب والعملات النقدية، وبما أن الفقراء لا يملكون مثل هذه التغطية لإحتياجاتهم اليومية، فقد كانوا لهذا السبب يبيعون قوتهم العفلية، للحصول على لقمة العيش، ولكن مع توسع دائرة الحياة العامة تغيرت كثيراً الأساليب المعيشية، في مدن الشرق، ومن الملاحظ أن تطور وسائل النقل ساعد المرأة في الشرق على الخروج من منزلها للتسوق وللإستجمام بعد أن كانت رحلات الإستجمام تنحصر في القادرين فقط على تخفيف مشاق السفر، ولكن إنتشار المركبات عمل على توفير فرصة التنقل إما للشراء أو للترفيه وبهذا فقد إنتقلت عوامل الترفيه من بيوت الأغنياء والأرستقراطيين، إلى بيوت الطبقات العامة، وأصبح للجميع قدرة على الذهاب للأسواق العامة، والمسارح والإستمتاع بما كان لا يسمتمع به إلا الباشوات والأغنياء، وبهذا فإن معنى الفردية والجماعية سيلاحقنا في كل المواقع سواء في الصناعات أو في الإبداعات الفكرية والفلسفية، وكان العقاد وسلامة موسى هم من حسم هذه المعارك بفلسفتهما.
ولم يكن بإستطاعة الطبقة العاملة من توفير الغذاء لمجموعة كبيرةٍ من الأفراد، فكيف تستطيع في وضع كهذا الوضع من توفير أوقات الفراغ والإسترخاء وشرب القهوة، حتى أنه في البرازيل كان الفرد الواحد لا يقدر أن نيفق في السنة على أكثر من 5 أشخاص، وفي الهند 4 أشخاص، أما في الدول المتقدمة فقد ارتفع دخل الفرد إلى مستوى الإنفاق على 30 شخص( ) وكان الأقوياء فقط هم من يحصل على الراحة والإسترخاء، وكان الفقراء يشعرون بتبعيتهم للأغنياء، وكانوا يستمتعون بالنظر إليهم وإلى حياتهم الجميلة، وكان الأغنياء على قدرة عالية في سحق معنويات الناس والأفراد وإشعارهم أنهم تافهون ورديؤون لا يستطيعون التفكير إلا من خلال مساعدة النخبة من الأغنياء وكانت الناس تستسلم لهذه الدعايات ، وكما يقول (أريك فروم) العالم النفسي الشهير -: (لاشيء أكثر تأثيراً وفاعلية من سحق معنيوات الفرد وإشعاره وإقناعه من أنه تافه ورديء)( ).
لذلك كانت الجماهير العريضة تفقد سيطرتها على التطور والتجديد ويميلون إلى الخمول واليأس ، وينظرون إلى أدوات الفكر على إعتبار أنها (ترف ذهني) وكماليات، لذلك فإنني أتفق مع الباحث الإجتماعي (هاني الراهب)( ) حول مقولته:- "إن النخبة هي التي تصنع الحضارة والتقدم إلى أبعد حدٍ ممكن" وأتفق معه في هذا الجانب فقط، أما بعد إنتشار العلم والثقافة وتوسع دائرة الخدمات العامة فقد أصبح بوسع الناس أن تشارك ليس في عملية التغيير الشامل بل في عملية البناء الفوقي بعد أن كانت لا تشارك إلا في البناء التحتي وأصبحت ساعات العمل الثمانية، توفر للناس ساعات اطول من الإسترخاء حتى في القرى والأماكن النائية، وهذا عمل على إشاعة شرب القهوة في أغلب أوقات الذروة من الليل والنهار وهذا وفر كثيراً من فتح الحوارات والمناقشات وتبادل وجهات النظر وهذا الأمر أدى إلى وجود أدباء وفلاسفة من طبقة الشعراء في المقاهي الشعبية يشربون القهوة ومعها كثيرٌ من الأفكار والطروحات الثقافية في كافة أرجاء المدن وبذلك أنتهى زمن الذين يكتبون والذين يدفعون وبدء زمن الذين يحاورون ويجادلون الأفكار وظهرت مدارس فكرية وإتجاهات شعبية، كلُ جماعةٍ لها رأيها الذي تؤمن به، وأصبح للكتاب شعبية وللكتاب مناصرون يتغذون من الكتاب حسب ما تمليه عليهم أفكارهم وامزجتهم، ولم يعد الدفع النقدي هو المهم بل أصبح للذوق الفني أهمية أكبر من أهمية الدفع النقدي، ونلاحظ هنا أن للمؤلف رؤيته الخاصة التي تقلب مزاج المتلقي رأساً على عقب ففي قصص الحب والعاطفة الواحدة أكثر من رؤيا واحدة، لقد كتب الكتاب عن الشخصيات العاطفية برؤى مختلفة ، فكل واحد يرى شخصيته برؤيا جديدة، وفي هذه الحالة يقاس نجاح الأعمال السردية بقدر حجم نجاحها وإنتشارها وشعبيتها، ومات الإنسان الذي يدفع وولد الجمهور المتذوق، وفي مثل هذه الحالة أصبح الاديب والمتفلسف لا ينتظر من السلطة أن تتفق معه أو تتفهم رأيه، فهذا غير مهم والمهم في الموضوع، ما مدى إتساع وجهات النظر بين الجماهير العريضة وهنا فإن التطور عمل على إلغاء الفردية لتحل محلها الجماعات الشعبية ، بعد أن تخلص الشعب من همجيته بعد إنتشار العلم والثقافة وبهذا سوف تحل القطاعات الشعبية محل الدولة سواء كان هناك مقاومة أو لم يكن وذلك يعود إلى تجانس وتطابق الشعوب مع حكوماتهم، فكلما تقدم العلم كلما قلة وتراجعت عوامل التجزئة (8) بين الشعب كشعب وبين الحكومات كسلطة، وبذلك سوف تقل في المستقبل عوامل القمع والإستبداد بسبب تراجع عوامل التجزئة وإنجراف السلطة الفردية خلف رغبة الجماهير الواسعة التأثير والإنتشار ويجب هنا أن نؤمن أن هذه الجماهير هي نفسها التي تجلس الآن على المقاهي ودور عرض السينما، والأسواق العامة وفي الحواري تقرئ الصحف اليومية وتشاهد البرامج التلفزيونية.



#جهاد_علاونه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عباس محمود العقاد
- عباس محمود العقاد:من قمة رأسه الى أخمص قدميه
- سيد درويش
- المجتمع العربي مجتمع غير سوي
- التكفير عن خطايا الرأسمالية
- أم كلثوم وهيفا وهبي
- مؤسسات المجتمع المدني 1
- الأخلاق
- نظام التعليم من نظام السلطة
- فلسفة العرب
- سحر الكلمة
- الهوية الثقافية
- لماذا تخلفنا نحن وتقدم غيرنا 2
- العشق
- الدكتاتورية اصل الأرهاب
- الحب
- العرب والعبريون
- تحديد النسل
- اليهود
- خطايا الرأسمالية


المزيد.....




- -قريب للغاية-.. مصدر يوضح لـCNN عن المفاوضات حول اتفاق وقف إ ...
- سفارة إيران في أبوظبي تفند مزاعم ضلوع إيران في مقتل الحاخام ...
- الدفاعات الجوية الروسية تتصدى لــ6 مسيرات أوكرانية في أجواء ...
- -سقوط صاروخ بشكل مباشر وتصاعد الدخان-..-حزب الله- يعرض مشاهد ...
- برلماني روسي: فرنسا تحتاج إلى الحرب في أوكرانيا لتسويق أسلحت ...
- إعلام أوكراني: دوي صفارات الإنذار في 8 مقاطعات وسط انفجارات ...
- بوليتيكو: إيلون ماسك يستطيع إقناع ترامب بتخصيص مليارات الدول ...
- مصر.. غرق جزئي لسفينة بعد جنوحها في البحر الأحمر
- بريطانيا.. عريضة تطالب باستقالة رئيس الوزراء
- -ذا إيكونوميست-: كييف أكملت خطة التعبئة بنسبة الثلثين فقط


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - جهاد علاونه - المجتمع العربي مجتمع الحظ والصدفة