|
البرشمان / أنيس وجحيم دانتي
عدنان الظاهر
الحوار المتمدن-العدد: 1885 - 2007 / 4 / 14 - 12:16
المحور:
الادب والفن
جحيم الرافعي بين برزخ دانتي وفردوسه تمهيد هذه محاولة لتفسير وفهم إحدى قصص كتاب " البرشمان " التي تحمل عنوان ( ملاحظات حول الصور الفوتوغرافية ) للكاتب والقاص المغربي الأستاذ أنيس الرافعي . مهّدَ الرافعي لقصته هذه بالمقدمة التالية [ مُدخل أولي لدراسة دانتي أليغري ] . دانتي أليغيري Dante Alighieri هو الشاعر الإيطالي صاحب كتاب " الكوميديا الإلهية " الشهير . كتب دانتي كتابه هذا موزعاً على ثلاثة أقسام : الجحيم ( جهنّم ) . غسل الذنوب ( جبل التطهير ) ثم فردوس السماء . لكنَّ أنيس الرافعي شاءَ أن يضيفَ له قسماً رابعاً أسماه " البرزخ " . كذلك شاء القاص أنيس أن يقسّم قصته هذه إلى أربعة أقسام ، كل قسم سمّاه صورة ، أعطى الصورة الأولى للفردوس والثانية للمطهر والثالثة للجحيم والأخيرة للبرزخ . ثم ... شاء أن يجعل هذه الصور الأربع صوراً شخصية له [[ صوري الشخصية الأربع المصفوفة في شبه بروتوكول صارم فوق طاولة صغيرة لدولاب الملابس / ص 17 ]] .
فردوس الرافعي
نجح الرافعي في تحويل أسماء فصول كتاب كوميديا الشاعر الإيطالي دانتي إلى عناوين كبيرة بحيث أنَّ كلَّ عنوان يمثل فصلاً مستقلاً من فصول سيرة حياته الخاصة والخاصة جداً . شكّلت هذه الفصول سيرة القاص مُركّزةً موجزةً لذا جاءت شديدة الوقع بالغة التأثير في عصب القارئ المتلقي . تقرأ الأسطر فيتهيأ لكَ على الفور أنَّ القاص يسرد فصولاً من تأريخ حياتك أنتَ ...فَرَحاً وحزناً ... مسرةً وألماً ... نجاحاً وفشلاً ... حباً وقطيعةً ... بياضاً وظلاماً ... لكأنما إستعارها وفصّلها بدقة حسب أسماء فصول كتاب دانتي . إستعارها ثم أدخلَ فيها نفسه مثل بدلة لها كمّا ذراعين وساقا بنطال . تلبّسها وتلبّسته وكيّفها لدقائق حياته الخاصة وما إعتراها من سلبيات وإيجابيات . بإختصار : جعل كتاب دانتي عالماً شاسعاً مركزه وبؤرته إنسانٌ عادي بكل المقاييس . جعل القرون الغابرة والآماد والأكوان والمجرات تدور حول هذا الإنسان . أشرك السماء والأرض وأشرك الجنة والنارَ . دخل فيها جميعاً ... تنعّمَ وشقيَ ... تطّهرَ ولكن لا إستعداداً لدخول الجنة ، الفردوس ، إنما لدخول الجحيم !! مطهره والنقاء الروحي الأسمى إذاً في نار الجحيم . لا بالسوائل المُعقِّمة والمُطهّرة . وليس بالصوم والتعبد والصلاة وتقديم الخُمس والزكاة . لا بالحج ولا بالعُمرة والتصدق على الفقراء . طهره وتطهره بإشتعاله بالنار الكبرى التي لها شهيق ولها زفير ووقودها الناس والحجارة . لِمَ ، إذاً ، يخشى الناسُ نيران جهنم وفيها يتطهرون ويتخلصون من أوضار وشوائب دنياهم ؟ أليست هذه فلسفة جديدة يطلع علينا بها صاحب كتاب " البرشمان " ؟ نقاؤنا لا بتقوانا ولكن نقاءنا بالنار . بعد هذا التطهر والحصول على نقاوة الروح والجسد المطلقتين ... بعد هذا الطقس الهندوسي يكون السارد جاهزاً للعودة ثانيةً إلى عالم الأرض والبشر . العودة لمن أسعده وأشقاه . نفضّ عن كاهله غُبارَ سيرة حياته ليعودَ طفلاً بريئاً طاهر الجيب والذيل عفيف اليد واللسان ... لكي يعود طفلاً في الخامسة من العمر تتعهده من كانت في طفولته الأولى قد تعهدته : جدتهُ التي أهداها كتاب " البرشمان " . هل يعود جسداً وروحاً أم روحاً حسبُ ؟ هل طهّرت النارُ روحه بعد أن أفنتْ جسده ؟ أم أنَّ الإثنين قد تلاشيا معاً ؟ النار النار ... والبرزخُ ، طريق العبور والرجعة ، جاهز !! قطار الأوبة متأهب فإقفزْ يا أنيس . تمّت الدورة فما مغزى الحياة ؟ هذا السؤال الوجودي الملحاح ظلَّ يمضّك ويوجعك فأين المفر ؟ الكحول ؟ لا . الكحول خَدَرٌ مؤقت وليس حلاً ولا بلسماً . يخدّرك إلى حين ولا يُزيل مسببات ألمك .الوجود نفسه هو سبب الحيرة والشقاء والألم . هو مَن يوجده ومَن يُديمه . صنوان متلازمان ملازمة الظل لصاحبه لا يفارقه إلاّ وقت الظلام وإنسحاب الضوء . الظل ظلام . الظلام يدخل في ظلام . والظلامُ لا يمحو الظلام . في الظلام يتساوى المرء وظله . يتطابقان طولاً وعَرضاً ... يتوحدان . أَلهذا عبدَ المجوسُ النارَ ؟ لأنها تطرد الظُلمة فيفارق الظلُ صاحبه بعد التوحد ، ويتعرى هذا من ظله الذي لا يفارقه تحت النور !! النور يفرِّق والظُلمة توحِّد !!
الصورة الأولى / الفردوس
هل في فراديس سارد النص حورٌ عينٌ وولدانٌ مُخلّدون وأنهرُ خمرٍ ولبنٍ وعسلٍ وظلٍ ظليل وفاكهة مما تشتهي أنفسُ الأتقاء الصالحين ؟ لا شئَ من ذلك البتّة .فردوس السارد فردوسٌ أرضي في متناول أيدي ومشيئة الجميع أتقياءً كانوا أم أشراراً . غرفة واحدة ليس فيها ما يشوّش المزاج . رجلٌ عازب لا شريكة تُنغّص عليه حياته وتقضم معظم دخله الشهري ، ولا أطفال يعكِّرون صفو مزاجه ويرهقون أعصابه . لنلتقطْ الإشارات القوية الدالة على نعيم صاحبنا المتوحد البعيد عن الهموم . يقول السارد : [[ القامة الفارهة مثل سيارة فيراري ]] . فيراري سيارة إيطالية الصنع باهظة الثمن مُصممة لسباق السيارات . لا ننسى أنَّ دانتي شاعرٌ إيطالي وفيراري سيارة إيطالية . ثم َّ : [[ ... وتلكم بالتأكيد الطريقة التي وددتُ على الدوام أنْ أُقدِّمَ نفسي بها للعالم : رجلٌ من الفضاء الخارجي ! ]] . ثم َّ : [[ اللعنة عليَّ ! لقد كنتُ داخلَ الصورة مُستأثراً بالصورة لوحدي .. لوحدي فحسبُ ]] . إنه وحيد لا شريكَ ولا شريكةَ له . مُستأثر بالصورة لوحده فقط . تام الإستقلال مُطلق الحرية فأي نعيم بين يديه وأية أنهار تجري من تحت قدميه ؟ إطار واحد لصورة واحدة . نتابع : [[ اللعنةُ عليَّ ! كيف أحرزتُ هذا الإنتصار الباهر ؟! .. أنْ أُصبحَ وحيداً في الثلاثين ! .. على ما يبدو ، أنَّ اللهَ يُحبني كثيراً إذْ وهبني هذه النعمة . نعمة أنْ أُصبحَ بمفردي دون أنْ يتركَ الآخرون فراغاً إستثنائياً في روحي . دون أن يشاركني أحدٌ ما ممارسة ألعاب الوحدة داخل صالة نفسي . دون أنْ أكونَ تحت وطأة أي وجود إضافي يعرّضني لعفونة الود والنهب المتواصل للمشاعر . دون ، وهذا هو الأهم ، مثقال عضّة ضمير أو وضع إحساس واحد في حصالة الأسف . فطوبى لفردوسك يا رجل الفضاء الخارجي ! ]] .
الصورة الثانية / المطهر
[[ طوبى لفردوسك يا رجل الفضاء الخارجي ]] . أنهى سارد القص فردوسه ( صورته الأولى ) بهذه الجملة ...فما مغزى تعلّقه بالفضاء الخارجي وقد رأيناه قابلاً بنصيبه قانعاً بقسمته وحيداً منعزلاً مكتفياً بحجرة في بيت فردوساً له لا يروم ولا يطمع بسواه ؟ فلِمَ يقفز إلى عوالمَ أُخرَ وفضاءات أُخرَ ؟ إنه التمني ! أجل ، التمني لا أكثر . لقد سئمَ الوحيد من فردوسه الذي صنعه بيديه وكيّف له نفسه وكان فيه سعيداً . السأمُ إذاً ! الآفة التي يعاني منها غالبية البشر وخاصةً المثقفون ومرهفو الحس العالي . السأم في الفردوس والسأم من الفردوس ذاته . السأم من رتابة العيش بين الجدران . السأم ، نعم ، هو محرّك الحرية ومحفّز الوثوب إلى آفاق الحرية التي لا حدودَ لها . السأم هو ضديد الحرية ... لذا فإنه عنصر أو عامل إيجابي يخلق فينا قوة جبارة لخرق طوق رتابة حياتنا وأصفادها التي تكبل الروح والجسد . الفضاء الخارجي أكوان غير محدودة أزلية لا بداية لها ولا نهاية . فما قيمة فردوس مقيم بين جدران أربعة ؟ جاء المطهر بعد الفردوس في كتاب " البرشمان " ... غير إنه جاء بعد الجحيم في كتاب دانتي . لقد قدّمَ الكاتب القاص وأخّر ولم يساله أحدٌ لماذا ... له تصوراته الخاصة التي تفرضها عليه رؤاه الإبداعية وفلتات أخيلته الجسورة التي لا نعرف مصادرها . له جناحان للتحليق العالي لا بدَّ أن يكونا مختلفين عن سائر الأجنحة ، وإلاّ لما أبدع الكاتب والفنان والشاعر ولما إستطاع أن يقول شيئاً جديداً جديراً بالإهتمام . ماذا نجد في الصورة الثانية ( المطهر ) ؟ نجد السارد المسكين الذي فارق فردوسه للتو ... نجده يعاني من سأم آخر لا يقل قساوةً عن سأمه السابق . الوجوه !! الوجوه التي تتكرر أمامه يوماً إثرَ يوم . وجوه صديقة وأخرى صفيقة . وجوه حبيبة ووجوه كريهة . وجوه كسائر الوجوه ووجوه لا تشبه باقي الوجوه . وجوه وجوه وجوه فأين المفر ؟! يتخلص السارد السأمان منها بعملية جراحية أسماها ( تطهير ) ... كل العمليات الجراحية كبُراها وصُغراها تحتاج إلى عملية تطهير قبل التخدير . تطهير الملابس وأدوات التشريح والأفرشة و...و... إلخ . نستمع إلى محنة السارد مع هذه الوجوه التي يروم الخلاص منها ودفعها بعيداً عن كيانه . إذا كان الفردوس قد أسأمه فالسأمُ من تكرار الوجوه ليس بأقل فداحةً من هذا السأم . دفع المكروه تعزيز لحرياتنا . الوقوف في وجه التكرار والرتابة شكلٌ عالٍ من أشكال التحرر ... تحرر النفس البشرية .... نضال مرير لإسترجاع إنسانيتنا والإستمتاع بمواهبنا وقدراتنا وما بين أيدينا من وسائل وممكنات تجلب لنا المسرات والبهجة والثقة بالنفس وتحدي العالم الخارجي . قال السارد : [[ وجوه كثيرة . كثيرة الوجوه . وجوه عرفتها جيداً أو ظننتُ . وجوه عرفتها قليلاً . ووجوه لم أُجشّم نفسي عناء معرفتها بالمرة .وجوه بلا حساب . بلا حساب وجوهها . وجوه لم تعرفني جيداً كما يجب . وجوه عرفتني بإقتصاد مُخل . ووجوه لم أردْ أن تجشّم نفسها عناء معرفتي ولو مرة . وجوه كسائر الوجوه . وجوه مُكلفة ووجوه مجانية . وجوه شائعة ووجوه فريدة الأطرش من نوعها . وجوه للطقس العليل ووجوه لرداءة أحوال الكائن . وجوه صِحاح ووجوه ضعيفة السَنَد . وجوه سعلتني ووجوه تقيأتها . وجوه على غِرار وجوه . وجوه وجدتها بطريقة منهجية ووجوه ضيعتني بطريقة عشوائية . وجوه إنصرفت عني ووجوه إنفرطتُ منها. وجوه تورّطتُ فيها ووجوه تنزّهتُ عنها . وجوه أينعتْ في وجهي ووجوه ضمرتُ في وجوهها . وجوه مثل الضرورات التي تُبيحُ المحظورات ووجوه مثل نواقض الوضوء ]] . ثم زاد فقال في ختام هذه الصورة [[ فلأعترفْ أني تطهّرتُ من كل الوجوه التي بلا وجوه... فلأعترفْ لمرة واحدة ... وها أنا أعترفُ أني راسبٌ كبير في الصداقة ]] . سياحة رائعة وممتعة مع وجوه أنيس السارد التي تقلّب معها في مراحل حياته المختلفة وتقلّبت هي معه كيفما تقلّب وحيثما أراد . لم يقل الرجل أني سأمان أو قرفان لكنه كرر لفظة ( الوجوه ) بتقلب حالاتها وأحوالها فجعلنا نشعر بثقل مقدار ما يعاني من هذا السأم القتّال . هذه هي البلاغة وهذه هي الجرأة في قول الجديد الشديد التأثير في عقل ووجدان القارئ . لقد تلاعب القاص في طبائع هذه الوجوه المنوَّعة وخصائص ظروفها من خلال التلاعب بسياق تسلسل الألفاظ التي تكوِّن جُمَله فيتشكل منها منطق جديد نتقبله. على سبيل المثال : [[ وجوه بلا حساب . بلا حساب وجوهها ]] . لم يكتفَ القاص بتقنية جمع المتضادات لفظاً ومعنىً في جملة واحدة ، بل وسعى فنجحَ في توظيف التقابل والتضاد في الإتجاهات الفضائية : حركة للأمام مقابل حركة أخرى للخلف ... مثلاً [[ وجوه إنصرفت عني ووجوه إنفرطتُ منها ]] ...وجوه تركته ... ووجوه إنصرف هو عنها ... إتجاهان متعاسكان فضائياً . سأفرد فقرة خاصة لموضوعة التداعي في إنشاء أنيس وإنزلاق اللفظ إلى معانٍ لا يتوقعها القارئ وما كانت أصلاً من ضمن المعاني التي صيغت الجملة من أجلها . فكلمة " فريدة " جرّته أو جعلته يتذكر المطرب فريد الأطرش الذي لا ناقةَ له ولا جَمل في موضوعة السأم والوجوه التي تتكرر أمام القاص صباحاً ومساءً ... على سبيل المثال . أحسب من باب التخمين وقراءة المجاهيل بالفنجان وتخت الرمل والمرآة أنَّ القاص يحب أغاني فريد الأطرش ويكرر سماعها لدرجة التشبع والسأم منها ومن مغنيها {{ ذلك يحصل معي أحياناً !! }}. وجدتُ تداعيات أخرى شبيهة من حيث الفكرة لكنها ليست كثيرة . سأعود إليها والعَودُ أحمدُ .
الصورة الثالثة / الجحيم
[[ راسبٌ كبير في الصداقة ]] ... هذا ما قرره القاص بعد أن " إعترف " أمام نفسه لا أمام قسٍ ، وبعد أن نفضَ عن كاهله أكوام الوجوه التي أضجرته وتبرأ منها فخَلُصَ من خطاياها وخطاياه ... أي تطهر منها فطَهُر روحاً وجسداً ... قرر إنه [[ راسب في الصداقة ]] !! هل تركه لهذه الوجوه فشلٌ في حياته أم إنه ولآنه فاشل أساساً تعثر في صداقاته فزهد فيها جميعاً متوهماً أنَّ خلاصه الكبير في ذلك ؟ هل الفشل سبب أم نتيجة ؟ المهم إنه ليس نادماً على ما قد فعل ولسوف يواجه النتائج وما يأتي بعد تنفيذ القرار . إعترف أمامنا وأمام نفسه بشجاعة ومسؤولية إنه فاشل في الصداقة . هل في الفشل تطهير وعملية تنقية ؟ وماذا بعد التطهير والتنقية والتصفية ؟ سيضعنا القاص أمام أمر عَجَبٍ . إنه تطهر لا ليلاقي ربه يوم الحشر ولكن ، لكي يعترف إعترافاً آخر أنه فاشل حتى في زواجه !! في الجحيم يتذكر ماضيه مع مَن شاركته حياته قرينةً شرعية . نراه هنا كأصدق عاشق متصوّف يذوب وَلَهاً ومناجاةٍ ويتعذب في هذا الجحيم الذي إختاره هو لنفسه أو إختارته له أقداره المفروضة عليه حيثُ لم يفارقه الفشل لا مع أصدقائه ولا حتى مع زوجه . فشلٌ في الشارع وفشل في البيت . فشل في المقاهي وفشل في سرير الزوجية . الجحيم هو ثمن الفشل. حين فارق أو تخلص من أصدقائه واجه زوجه أمامه في بيته صباحاً ومساءً . علّة السأم لازمته فلاحقته حتى مع شريكة حياته . إفترق عنها فهي وجه من تلك الوجوه التي سعلته فتقيأها ... وجوه تورط فيها ووجوه ضَمُر في وجوهها . نستمع إليه كيف ينوح بألحان النجوى الضارعة وكيف يرفع صلواته لمن أحب ثم فارق . (( مقتطفات تهمني دلالاتها )). [[ ذا وجهي أنا مُصابٌ على نحو بالغ بإمرأة // صحيح تماماً أنَّ الغياب يكونُ أحياناً ظلاً للحضور // وليس صحيحاً على الإطلاق أنَّ السنواتِ السبع المنصرمة كانت كافية لإغلاق الماضي // فمتى النسيان عزيزتي ؟ فمتى الجحيم ؟ رائحتك ... رائحاتك وغذواتك الذكية على المخدة ... متى ؟ إبتسامتك التي ناهزت دوماً إيقاعَ الديسكو ... متى ؟ عطركِ ... ثرثراتك اللذيذة ... سمرتكِ البرازيلية المصابة بأعراض الجغرافيا // الجنّة التي أسداها لي صدرُك المسهب ... متى ؟ زَندُك الممشوق ... المشنوق المرشوق في مِرجل شهقاتي وحَسَراتي وحشرجاتي مثل ماءٍ يغلي في ماء ... متى ؟ غنجك الذي طالما طالما طااااااال ما قَضَمني بشفاه نمر ... متى // فمتى الجحيمُ يا عزيزتي ؟ متى النسيان ؟ ]] . متى الجحيمُ يا عزيزتي متى النسيان ؟؟ جمع القاص الندمان في هذين السؤالين كلَّ غُصّة روحه وعذاب أعصابه لكأنه يقبض على الجمر بإرادته لكي يتمادى في تعذيب نفسه وتأنيب ضميره وتقريعه جرّاء ما فعلت يداه . الندم والعذاب ثم وطأة الوحدة بعد زواج عمّر سبعة أعوام كاملة فكيف ينسى ؟ كان زواجه جحيماً له لكنه أخذ بالحنين إليه رغم نيرانه المتقدة التي تشوي الوجوه . شرع بالحنين لهذا الجحيم ولا جحيم دانتي ولكن بعد فوات الآوان . لم يبقَ له إلاّ الذكريات وهي ذكريات ممضة قاتلة تنخر في روحه وفي جسده حيث يعود القهقرى لساعات الأنس في الديسكو وفي فراش الزوجية . يحن إلى إبتسامتها وإلى روائحها الأنثوية الطبيعية ... إلى عطرها وإلى سمرة أديمها ... إلى صدرها وزندها و...و... ولكن هيهات !! ما فات مات . إذا كان زواجه جحيماً كما بدا له آنذاك ، فإن المفارقة لأكثر من جحيم . المفارقة تعني الفراغ القاتل ثم الحنين للماضي وللذكريات التي تضاعف جمالها ومفعولها بعد إنقضاء عهدها . لذا نراه يكرر السؤال " متى " أي هل ومتى يعود ماضينا الذي تركناه خلف ظهورنا ؟! إنه يعاني من محنة حقيقية سببها حيرته في الوجود وإستحالة القبول بما لديه والتأرجح بين ما هو متوفر وبين ما يريد ويطمح إليه . صراع بين الواقع والممكن . صراع عنيف بين الحاضر والمستقبل . الحاضر الذي عرفناه وخبرناه والمستقبل المجهول الذي لا نعرف ... الذي نريد أن نعرفه . هذه هي معادلة المحنة في نفس بطل القصة المتسربل بتراجيديا الوجود . مَن أنا وهل في مقدوري أن أغيّر هذا الأنا الراهن المحدد إلى " أنا " آخر أفضل وأتم صنعاً ؟ تتعمق المحنة حين يقف الإنسان حائراً عاجزاً لأنه لا يعرف ماهية وجوهر الأنا الجديد . هل سيكون أفضل من الأنا الراهن أم سيكون أسوأ ؟ هنا تكمن الأزمة الوجودية في روح المثقف الشديد الحساسية والدائم القلق . الهرب من موت غير أكيد إلى خطر أكيد مجهول العواقب ... كما قال شكسبير " تقريباً " في مسرحية هاملت . في بدايات فصل الجحيم قال القاص [[ فمتى النسيانُ عزيزتي ؟ فمتى الجحيم ؟ ]] ، وفي ختام هذا الفصل وفي أخر سطر منه كرر هذين السؤالين لكنه قلب سياقهما فقال [[ فمتى الجحيمُ يا عزيزتي ؟ فمتى النسيان ؟ ]] . يتهيأُ لي أنَّ القاصَ قد عانى ما عانى وعانى من أعمق أعماقه وهو يحاول ويراوح ويعيد المحاولات مستهدفاً بلوغ صياغة محددة مركزة بالغة التأثير معنىً ومبنىً ، وهندسةً لفظية تتطابق مع مشاعره الداخلية المتأججة الشديدة الإضطراب والتي تجهد في أن تجدَ لها القوالب اللفظية المناسبة التي تعبِّر عمّا فيها وأن تُخرجَ هذه المشاعر إلى العالم المقروء والمرئي وأن تضعها تحت تصرف القارئ وتحت سمعه وبصره كيما تظفرَ بالحد الأدنى من المؤاساة والمشاركة الإنسانية ... ففي هذه المشاركة تخفيفٌ للعبء الثقيل الذي ينوء به كاهل وضمير وقلب القاص . كان القاص رائعاً وبليغاً حين وجد في لحظة إلهام نادرة ضالته وأداته التعبيرية فحالفه الحظ في أن يبلور ما في داخله في بضعة كلمات ما أشدَّ وقعها على المتلقي ... كأنها قذيفة مدفع بعيد المدى وقنبلة نووية من حيث التركيز . [[ فمتى النسيانُ عزيزتي ؟ فمتى الجحيمُ ؟ ]] [[ فمتى الجحيمُ يا عزيزتي ؟ فمتى النسيانُ ؟ ]] . فهل النسيانُ جحيمٌ أم أنَّ الجحيمَ في النسيان ؟ هل يخشى النسيانَ أم إنه يريده حتى لو كان جحيماً ؟ زواجه جحيم وحريته بعد الفراق جحيم فأين المفر ؟ لقد لخّصَ السارد محنته الوجودية الكبرى في هذين السؤالين المنقلبين وأفلح في التشويش على القارئ فتخبّطَ لا يدرك كنه السؤالين بشكل دقيق . كهرباء مغناطيسي أو مغناطيس كهربائي يشل يد من يمسك بأسلاكه وجهازه العصبي المركزي . فلتة نادرة من فلتات الإلهام الأدبي تمرق في فضاءات الكون كالكوكب الدرّي الذي يخطف الأبصار ويفتح البصائر .
الصورة الرابعة / البرزخ
لقد نفى السارد على الصفحة 17 الرقم الرابع حيث قال [[ أما رابعاً : فلا وجود لرابعاً على الإطلاق ]] . سنحمل كلامه هذا محمل الجد . لماذا ؟ لأنه أضاف هذا الفصل إلى كوميديا دانتي الإلهية كصورة أو فصل مستقل لا وجود له في كتاب دانتي . إذاً : لا وجودَ لرابعاً على الإطلاق !! فما هي النتائج المترتبة على ذلك ؟ سنرى . لخّص الساردُ في الفصل الرابع تأريخ حياته وإستعرضها بإختصار منذ بواكير طفولته حتى تدرجت فيه الأعوام من مرحلة عمرية إلى أخرى حسب تسلسلها الرقمي [[ سعيداً منتشياً مثل طفلٍ مُفَرد اليدين فوق دراجة هوائية مجنّحة . عبرتُ عاماً ، عامين ، خمسةَ أعوام ، عشرة ...]] أراد أن يوقف عجلة مسار الزمن وأن يخفف من غلواء سرعته الفائقة لكنه لم يفلح . هيهات !! ... [[ وواصلت سرعتها ... أتخطى الثلاثين وفي إثري أثاثُ غرفة . فوق حواجز الأربعين عبرتُ بلا وزنٍ ... أقفزُ بالزانة على الخمسين وعمري الغائر في الخيبات يمرقُ من أمامي ... ثم أرسو عند العقد السادس بفعل عضلات النثر القوية ، مُنهكاً تماماً ومُحطّماً تماماً ]] . ماذا وجد أمامه وقد بلغ الستين من عمره ؟ النكوص إلى زمن الطفولة . هناك كان فردوسه ، وما كان ما قد عاش من سنين َفي الحياة بعد ذلك إلاّ الجحيم بعينه . بؤس . فقر . عذاب . سراب . الحرية جحيم ومعاشرة الأصدقاء جحيم . الزواج جحيم . الطلاق جحيم . النسيان جحيم . عدم القدرة على النسيان جحيم . ما نفعُ خَلقنا إذاً ولأيما غاية خُلقنا ؟!
[[ ... يرتطمُ بصري بالطاولة الصغيرة المقابلة لدولاب الملابس . أَلفي إختفاء الفردوس والمطهر والجحيم .فأكتفي وأنا في الستين بالتحديق في صورتي طفلاً في الخامسة قربَ جَدتي وأبكي ... وأبكي ... وأبكي ! ]] . الطريف أنَّ السارد لم يبلغ الستين بعد ولا حتى الخمسين . لعله في بدايات الثلاثينيات من العمر . لكنه الخيال والتنبؤ بما سيأتينا مستقبلاً . يتخيل نفسه وقد بلغ الستين ولم يجد بين يديه إلاّ الجحيم المضاعف والمركب ، فليبحث له عن مخرج {{ برزخ }} ينفذ منه أو يهرب من خلاله راجعاً القهقرى إلى زمن الطفوله البريئة والطاهرة . برزخ يتدحرج أو ينزلق فيه من الحاضر إلى الماضي وبمنطق يخالف قانون حركة الزمن الأزلية . لقد عبّر عن هذه ( الميكانيكة ) الخيالية غير المألوفة بقوله في فصل البرزخ [[ ... تنطلقُ بي إلى الزمن . في البداية قهقرى نحو الوراء كما لو كنتُ أحفرُ بئرَ حياتي من الأسفل ]] . تذكّرني هذه الآلية الغريبة على قوانين الطبيعة المعروفة بقول شعري للشاعر العراقي المرحوم عبد الوهاب البياتي إذ قال (( وزورقُ الأبد ْ . مضى غداً وعادَ بعدَ غد ْ )) . أليس هذا مثل ذاك ؟ والشعراء يتّبعهم الغاوون . أو القول المنسوب للشاعر العراقي أبي نؤاس ، شاعر المجون والفكاهة واللهو (( هزّني الشوقُ لأبي طوق ْ ... فتدحّرجتُ من تحتٍ إلى فوق ْ )) . حركة زمان أنيس الرافعي رجوعاً من الحاضر إلى الماضي كحركة تدحرج أبي نؤاس من الأسفل إلى الأعلى ضد قوة قانون الجذب الأرضي
Gravitaion
مزايا أخرى في أسلوب أنيس الرافعي
ليس كل ما يكتب الكتّاب من أمور تميّزأساليبهم في إنشاء قصصهم عن أساليب سواهم ... ليست هذه العلامات جميعاً ودائماً ناجحة أو تستحق التصفيق الحاد . فبعضها ناجح أو حتى فائق النجاح ... بينما قد نجد البعض الآخر فاشلاً أو نصف ناجح أو عديم اللون والرائحة والطعم ... كالماء الصافي الرقراق والشديد الشفافية . شفافية الزجاج النقي الذي لا طعمَ له بين الأسنان . وجدتُ في أسلوب أنيس الرافعي وفي قصته التي ما زالت بين أيدينا خصيصتين جديرتين بالملاحظة . حين أقول " خصيصتين " فإني لا أعني بالضرورة أنهما خصيصتان جيدتان أو أن فعليهما إيجابي في مجمل سياق القص . فالبعض منها غث ثقيل على ذائقة المتلقي . البعض الآخر لا ضررَ منه ... قد نتقبله من باب النكتة والمُزحة لتلطيف الأجواء المتوترة والمكهّربة ... فهو هنا إيجابي تتفاوت إيجابيته من مناسبة لأخرى . أمثلة من قصة ( ملاحظات حول الصور الفوتو غرافية ) / كتاب البرشمان * : أولا ً : تخريجات ثقيلة يخترعها القاص عن طريق اللعب على وضع وسياق الحروف في الكلمة . تنبو النتيجة أحياناً عن الذوق الأدبي . أمثلة من فصل الجحيم / الصفحة 20 : [[ ... ولّى شرط قلبي وجهه شطرَ وجدِ سطر وجهها ]] . شطر / شرط / سطر ... لُعبة ساذجة لا تقدم ولا تؤخر . [[ ... عطركِ الفاجر ... الفارج ... الجارف ... ]] . فاجر / فارج / جارف ...بدّل مواضع الحروف في كلماتها لا غير . لعبة ساذجة أخرى . [[ ... زندك الممشوق ... المشنوق ... المرشوق ... ]] . ممشوق / مشنوق / مرشوق ... لقد أساء القاص هنا إلى الزند فذمّه بدل أن يمدحه . ثانياً : إستدعاءات الألفاظ وإنزلاقها من الشبيه إلى الشبيه لفظاً أو معنىً . أمثلة : [[ ... وجوه شائعة ووجوه فريدة الأطرش من نوعها ... ]] . لقد أغرته مفردة فريدة إلى الإنزلاق المرن فذكر المطرب والموسيقار فريد الأطرش. كان مرامه أن يقول : وجوه فريدة من نوعها ... ولو قال ذلك وسكت لكان يكفيه السكوت / فصل المطهر ، الصفحة 19 . [[ ... وجوه صِحاح ووجوه ضعيفة السَنَد ... ]] . هنا إستعار القاص عبارات متواترة في التراث الإسلامي حول مصداقية ولا مصداقية الكثير من الأحاديث المنسوبة للنبي محمد . يقال : هذا حديث صحيح وذاك ضعيف السند أو مشكوك في صحته . و صِحاح البخاري معروفة للمسلمين . كذلك قال في نفس الصفحة 19 من فصل المطهر : [[ ... وجوه مثل الضرورات التي تُبيح المحظورات ووجوه مثل نواقض الوضوء ... ]] . هذه مفردات متداولة ومن ضمن أحكام الشريعة الإسلامية وقضائها . لقد أباح القرآنُ الكريمُ تناول الدمَ والميتَ ولحمَ الخزير في حالات الإضطرار والضرورة القصوى كالجوع الشديد أو المجاعة العامة أو الضرب في الفيافي دون ماء أو طعام (( إنما حرّمَ عليكم الميتةَ والدمَ ولحمَ الخنزيرِ وما أُهلَّ به لغير اللهِ فمَن أُضطرَ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا إثمَ عليهِ إنَّ اللهَ غفورٌ رحيم / سورة البقرة ، الآية 173 )) . قصد السارد هنا واضح شديد الوضوح . لقد قال أبو الطيّب المتنبي شيئاً قريباً من هذا المعنى :
ومن نَكَد الدنيا على الحرَّ أنْ يرى عدوّاً له ما مِن صداقته بُدُّ
أما مسألة نواقض الوضوء فوجدت مغزاها عسير الإدراك وربط هذا المغزى ببعض وجوه السارد أشد صعوبةً . نواقض الوضوء يعرفها المصلّون ، فهل معاشرة أو مصادقة بعض الناس ( رجالاً ونساءً ) ثقيلة وكاسرة لبعض القواعد وربما شاذة حسب أعراف مجتمعاتنا الحالية ؟ هل يقصد السارد إنحراف الطبيعة الجنسية في بعض الناس عن جادتها السوية ؟ التبول بعد الوضوء ناقض للوضوء ... مثلاً . " ملامسة " النساء بعد الوضوء ناقض له . هناك نواقض أخرى تتفاوت في قدرها ومقدارها وأهميتها مما نعرف ويعرف المصلّون . فنواقض الوضوء ليست محصورة بالجسد ، بل وبأمور أخرى تتعلق بطهارة قلب ولسان الذي أصبغ الوضوء وتعففه عن قول الفحشاء والنميمة والكذب والتحريض والفتنة والسرقة ... إلخ . طهارة الجسد والقلب والضمير . فما هي نواقض سارد القصة موضوعة النقاش ؟ الجواب لدى أنيس الرافعي ... لا ريب .
* كتاب " البرشمان لأنيس الرافعي / الناشر : الشاطئ الثالث . دار القرويين ، البيضاء ، الطبعة الأولى 2006 .
عدنان الظاهر جحيم الرافعي / بين برزخ دانتي وفردوسه تمهيد هذه محاولة لتفسير وفهم إحدى قصص كتاب " البرشمان " التي تحمل عنوان ( ملاحظات حول الصور الفوتوغرافية ) للكاتب والقاص المغربي الأستاذ أنيس الرافعي . مهّدَ الرافعي لقصته هذه بالمقدمة التالية [ مُدخل أولي لدراسة دانتي أليغري ] . دانتي أليغيري Dante Alighieri هو الشاعر الإيطالي صاحب كتاب " الكوميديا الإلهية " الشهير . كتب دانتي كتابه هذا موزعاً على ثلاثة أقسام : الجحيم ( جهنّم ) . غسل الذنوب ( جبل التطهير ) ثم فردوس السماء . لكنَّ أنيس الرافعي شاءَ أن يضيفَ له قسماً رابعاً أسماه " البرزخ " . كذلك شاء القاص أنيس أن يقسّم قصته هذه إلى أربعة أقسام ، كل قسم سمّاه صورة ، أعطى الصورة الأولى للفردوس والثانية للمطهر والثالثة للجحيم والأخيرة للبرزخ . ثم ... شاء أن يجعل هذه الصور الأربع صوراً شخصية له [[ صوري الشخصية الأربع المصفوفة في شبه بروتوكول صارم فوق طاولة صغيرة لدولاب الملابس / ص 17 ]] .
فردوس الرافعي
نجح الرافعي في تحويل أسماء فصول كتاب كوميديا الشاعر الإيطالي دانتي إلى عناوين كبيرة بحيث أنَّ كلَّ عنوان يمثل فصلاً مستقلاً من فصول سيرة حياته الخاصة والخاصة جداً . شكّلت هذه الفصول سيرة القاص مُركّزةً موجزةً لذا جاءت شديدة الوقع بالغة التأثير في عصب القارئ المتلقي . تقرأ الأسطر فيتهيأ لكَ على الفور أنَّ القاص يسرد فصولاً من تأريخ حياتك أنتَ ...فَرَحاً وحزناً ... مسرةً وألماً ... نجاحاً وفشلاً ... حباً وقطيعةً ... بياضاً وظلاماً ... لكأنما إستعارها وفصّلها بدقة حسب أسماء فصول كتاب دانتي . إستعارها ثم أدخلَ فيها نفسه مثل بدلة لها كمّا ذراعين وساقا بنطال . تلبّسها وتلبّسته وكيّفها لدقائق حياته الخاصة وما إعتراها من سلبيات وإيجابيات . بإختصار : جعل كتاب دانتي عالماً شاسعاً مركزه وبؤرته إنسانٌ عادي بكل المقاييس . جعل القرون الغابرة والآماد والأكوان والمجرات تدور حول هذا الإنسان . أشرك السماء والأرض وأشرك الجنة والنارَ . دخل فيها جميعاً ... تنعّمَ وشقيَ ... تطّهرَ ولكن لا إستعداداً لدخول الجنة ، الفردوس ، إنما لدخول الجحيم !! مطهره والنقاء الروحي الأسمى إذاً في نار الجحيم . لا بالسوائل المُعقِّمة والمُطهّرة . وليس بالصوم والتعبد والصلاة وتقديم الخُمس والزكاة . لا بالحج ولا بالعُمرة والتصدق على الفقراء . طهره وتطهره بإشتعاله بالنار الكبرى التي لها شهيق ولها زفير ووقودها الناس والحجارة . لِمَ ، إذاً ، يخشى الناسُ نيران جهنم وفيها يتطهرون ويتخلصون من أوضار وشوائب دنياهم ؟ أليست هذه فلسفة جديدة يطلع علينا بها صاحب كتاب " البرشمان " ؟ نقاؤنا لا بتقوانا ولكن نقاءنا بالنار . بعد هذا التطهر والحصول على نقاوة الروح والجسد المطلقتين ... بعد هذا الطقس الهندوسي يكون السارد جاهزاً للعودة ثانيةً إلى عالم الأرض والبشر . العودة لمن أسعده وأشقاه . نفضّ عن كاهله غُبارَ سيرة حياته ليعودَ طفلاً بريئاً طاهر الجيب والذيل عفيف اليد واللسان ... لكي يعود طفلاً في الخامسة من العمر تتعهده من كانت في طفولته الأولى قد تعهدته : جدتهُ التي أهداها كتاب " البرشمان " . هل يعود جسداً وروحاً أم روحاً حسبُ ؟ هل طهّرت النارُ روحه بعد أن أفنتْ جسده ؟ أم أنَّ الإثنين قد تلاشيا معاً ؟ النار النار ... والبرزخُ ، طريق العبور والرجعة ، جاهز !! قطار الأوبة متأهب فإقفزْ يا أنيس . تمّت الدورة فما مغزى الحياة ؟ هذا السؤال الوجودي الملحاح ظلَّ يمضّك ويوجعك فأين المفر ؟ الكحول ؟ لا . الكحول خَدَرٌ مؤقت وليس حلاً ولا بلسماً . يخدّرك إلى حين ولا يُزيل مسببات ألمك .الوجود نفسه هو سبب الحيرة والشقاء والألم . هو مَن يوجده ومَن يُديمه . صنوان متلازمان ملازمة الظل لصاحبه لا يفارقه إلاّ وقت الظلام وإنسحاب الضوء . الظل ظلام . الظلام يدخل في ظلام . والظلامُ لا يمحو الظلام . في الظلام يتساوى المرء وظله . يتطابقان طولاً وعَرضاً ... يتوحدان . أَلهذا عبدَ المجوسُ النارَ ؟ لأنها تطرد الظُلمة فيفارق الظلُ صاحبه بعد التوحد ، ويتعرى هذا من ظله الذي لا يفارقه تحت النور !! النور يفرِّق والظُلمة توحِّد !!
الصورة الأولى / الفردوس
هل في فراديس سارد النص حورٌ عينٌ وولدانٌ مُخلّدون وأنهرُ خمرٍ ولبنٍ وعسلٍ وظلٍ ظليل وفاكهة مما تشتهي أنفسُ الأتقاء الصالحين ؟ لا شئَ من ذلك البتّة .فردوس السارد فردوسٌ أرضي في متناول أيدي ومشيئة الجميع أتقياءً كانوا أم أشراراً . غرفة واحدة ليس فيها ما يشوّش المزاج . رجلٌ عازب لا شريكة تُنغّص عليه حياته وتقضم معظم دخله الشهري ، ولا أطفال يعكِّرون صفو مزاجه ويرهقون أعصابه . لنلتقطْ الإشارات القوية الدالة على نعيم صاحبنا المتوحد البعيد عن الهموم . يقول السارد : [[ القامة الفارهة مثل سيارة فيراري ]] . فيراري سيارة إيطالية الصنع باهظة الثمن مُصممة لسباق السيارات . لا ننسى أنَّ دانتي شاعرٌ إيطالي وفيراري سيارة إيطالية . ثم َّ : [[ ... وتلكم بالتأكيد الطريقة التي وددتُ على الدوام أنْ أُقدِّمَ نفسي بها للعالم : رجلٌ من الفضاء الخارجي ! ]] . ثم َّ : [[ اللعنة عليَّ ! لقد كنتُ داخلَ الصورة مُستأثراً بالصورة لوحدي .. لوحدي فحسبُ ]] . إنه وحيد لا شريكَ ولا شريكةَ له . مُستأثر بالصورة لوحده فقط . تام الإستقلال مُطلق الحرية فأي نعيم بين يديه وأية أنهار تجري من تحت قدميه ؟ إطار واحد لصورة واحدة . نتابع : [[ اللعنةُ عليَّ ! كيف أحرزتُ هذا الإنتصار الباهر ؟! .. أنْ أُصبحَ وحيداً في الثلاثين ! .. على ما يبدو ، أنَّ اللهَ يُحبني كثيراً إذْ وهبني هذه النعمة . نعمة أنْ أُصبحَ بمفردي دون أنْ يتركَ الآخرون فراغاً إستثنائياً في روحي . دون أن يشاركني أحدٌ ما ممارسة ألعاب الوحدة داخل صالة نفسي . دون أنْ أكونَ تحت وطأة أي وجود إضافي يعرّضني لعفونة الود والنهب المتواصل للمشاعر . دون ، وهذا هو الأهم ، مثقال عضّة ضمير أو وضع إحساس واحد في حصالة الأسف . فطوبى لفردوسك يا رجل الفضاء الخارجي ! ]] .
الصورة الثانية / المطهر
[[ طوبى لفردوسك يا رجل الفضاء الخارجي ]] . أنهى سارد القص فردوسه ( صورته الأولى ) بهذه الجملة ...فما مغزى تعلّقه بالفضاء الخارجي وقد رأيناه قابلاً بنصيبه قانعاً بقسمته وحيداً منعزلاً مكتفياً بحجرة في بيت فردوساً له لا يروم ولا يطمع بسواه ؟ فلِمَ يقفز إلى عوالمَ أُخرَ وفضاءات أُخرَ ؟ إنه التمني ! أجل ، التمني لا أكثر . لقد سئمَ الوحيد من فردوسه الذي صنعه بيديه وكيّف له نفسه وكان فيه سعيداً . السأمُ إذاً ! الآفة التي يعاني منها غالبية البشر وخاصةً المثقفون ومرهفو الحس العالي . السأم في الفردوس والسأم من الفردوس ذاته . السأم من رتابة العيش بين الجدران . السأم ، نعم ، هو محرّك الحرية ومحفّز الوثوب إلى آفاق الحرية التي لا حدودَ لها . السأم هو ضديد الحرية ... لذا فإنه عنصر أو عامل إيجابي يخلق فينا قوة جبارة لخرق طوق رتابة حياتنا وأصفادها التي تكبل الروح والجسد . الفضاء الخارجي أكوان غير محدودة أزلية لا بداية لها ولا نهاية . فما قيمة فردوس مقيم بين جدران أربعة ؟ جاء المطهر بعد الفردوس في كتاب " البرشمان " ... غير إنه جاء بعد الجحيم في كتاب دانتي . لقد قدّمَ الكاتب القاص وأخّر ولم يساله أحدٌ لماذا ... له تصوراته الخاصة التي تفرضها عليه رؤاه الإبداعية وفلتات أخيلته الجسورة التي لا نعرف مصادرها . له جناحان للتحليق العالي لا بدَّ أن يكونا مختلفين عن سائر الأجنحة ، وإلاّ لما أبدع الكاتب والفنان والشاعر ولما إستطاع أن يقول شيئاً جديداً جديراً بالإهتمام . ماذا نجد في الصورة الثانية ( المطهر ) ؟ نجد السارد المسكين الذي فارق فردوسه للتو ... نجده يعاني من سأم آخر لا يقل قساوةً عن سأمه السابق . الوجوه !! الوجوه التي تتكرر أمامه يوماً إثرَ يوم . وجوه صديقة وأخرى صفيقة . وجوه حبيبة ووجوه كريهة . وجوه كسائر الوجوه ووجوه لا تشبه باقي الوجوه . وجوه وجوه وجوه فأين المفر ؟! يتخلص السارد السأمان منها بعملية جراحية أسماها ( تطهير ) ... كل العمليات الجراحية كبُراها وصُغراها تحتاج إلى عملية تطهير قبل التخدير . تطهير الملابس وأدوات التشريح والأفرشة و...و... إلخ . نستمع إلى محنة السارد مع هذه الوجوه التي يروم الخلاص منها ودفعها بعيداً عن كيانه . إذا كان الفردوس قد أسأمه فالسأمُ من تكرار الوجوه ليس بأقل فداحةً من هذا السأم . دفع المكروه تعزيز لحرياتنا . الوقوف في وجه التكرار والرتابة شكلٌ عالٍ من أشكال التحرر ... تحرر النفس البشرية .... نضال مرير لإسترجاع إنسانيتنا والإستمتاع بمواهبنا وقدراتنا وما بين أيدينا من وسائل وممكنات تجلب لنا المسرات والبهجة والثقة بالنفس وتحدي العالم الخارجي . قال السارد : [[ وجوه كثيرة . كثيرة الوجوه . وجوه عرفتها جيداً أو ظننتُ . وجوه عرفتها قليلاً . ووجوه لم أُجشّم نفسي عناء معرفتها بالمرة .وجوه بلا حساب . بلا حساب وجوهها . وجوه لم تعرفني جيداً كما يجب . وجوه عرفتني بإقتصاد مُخل . ووجوه لم أردْ أن تجشّم نفسها عناء معرفتي ولو مرة . وجوه كسائر الوجوه . وجوه مُكلفة ووجوه مجانية . وجوه شائعة ووجوه فريدة الأطرش من نوعها . وجوه للطقس العليل ووجوه لرداءة أحوال الكائن . وجوه صِحاح ووجوه ضعيفة السَنَد . وجوه سعلتني ووجوه تقيأتها . وجوه على غِرار وجوه . وجوه وجدتها بطريقة منهجية ووجوه ضيعتني بطريقة عشوائية . وجوه إنصرفت عني ووجوه إنفرطتُ منها. وجوه تورّطتُ فيها ووجوه تنزّهتُ عنها . وجوه أينعتْ في وجهي ووجوه ضمرتُ في وجوهها . وجوه مثل الضرورات التي تُبيحُ المحظورات ووجوه مثل نواقض الوضوء ]] . ثم زاد فقال في ختام هذه الصورة [[ فلأعترفْ أني تطهّرتُ من كل الوجوه التي بلا وجوه... فلأعترفْ لمرة واحدة ... وها أنا أعترفُ أني راسبٌ كبير في الصداقة ]] . سياحة رائعة وممتعة مع وجوه أنيس السارد التي تقلّب معها في مراحل حياته المختلفة وتقلّبت هي معه كيفما تقلّب وحيثما أراد . لم يقل الرجل أني سأمان أو قرفان لكنه كرر لفظة ( الوجوه ) بتقلب حالاتها وأحوالها فجعلنا نشعر بثقل مقدار ما يعاني من هذا السأم القتّال . هذه هي البلاغة وهذه هي الجرأة في قول الجديد الشديد التأثير في عقل ووجدان القارئ . لقد تلاعب القاص في طبائع هذه الوجوه المنوَّعة وخصائص ظروفها من خلال التلاعب بسياق تسلسل الألفاظ التي تكوِّن جُمَله فيتشكل منها منطق جديد نتقبله. على سبيل المثال : [[ وجوه بلا حساب . بلا حساب وجوهها ]] . لم يكتفَ القاص بتقنية جمع المتضادات لفظاً ومعنىً في جملة واحدة ، بل وسعى فنجحَ في توظيف التقابل والتضاد في الإتجاهات الفضائية : حركة للأمام مقابل حركة أخرى للخلف ... مثلاً [[ وجوه إنصرفت عني ووجوه إنفرطتُ منها ]] ...وجوه تركته ... ووجوه إنصرف هو عنها ... إتجاهان متعاسكان فضائياً . سأفرد فقرة خاصة لموضوعة التداعي في إنشاء أنيس وإنزلاق اللفظ إلى معانٍ لا يتوقعها القارئ وما كانت أصلاً من ضمن المعاني التي صيغت الجملة من أجلها . فكلمة " فريدة " جرّته أو جعلته يتذكر المطرب فريد الأطرش الذي لا ناقةَ له ولا جَمل في موضوعة السأم والوجوه التي تتكرر أمام القاص صباحاً ومساءً ... على سبيل المثال . أحسب من باب التخمين وقراءة المجاهيل بالفنجان وتخت الرمل والمرآة أنَّ القاص يحب أغاني فريد الأطرش ويكرر سماعها لدرجة التشبع والسأم منها ومن مغنيها {{ ذلك يحصل معي أحياناً !! }}. وجدتُ تداعيات أخرى شبيهة من حيث الفكرة لكنها ليست كثيرة . سأعود إليها والعَودُ أحمدُ .
الصورة الثالثة / الجحيم
[[ راسبٌ كبير في الصداقة ]] ... هذا ما قرره القاص بعد أن " إعترف " أمام نفسه لا أمام قسٍ ، وبعد أن نفضَ عن كاهله أكوام الوجوه التي أضجرته وتبرأ منها فخَلُصَ من خطاياها وخطاياه ... أي تطهر منها فطَهُر روحاً وجسداً ... قرر إنه [[ راسب في الصداقة ]] !! هل تركه لهذه الوجوه فشلٌ في حياته أم إنه ولآنه فاشل أساساً تعثر في صداقاته فزهد فيها جميعاً متوهماً أنَّ خلاصه الكبير في ذلك ؟ هل الفشل سبب أم نتيجة ؟ المهم إنه ليس نادماً على ما قد فعل ولسوف يواجه النتائج وما يأتي بعد تنفيذ القرار . إعترف أمامنا وأمام نفسه بشجاعة ومسؤولية إنه فاشل في الصداقة . هل في الفشل تطهير وعملية تنقية ؟ وماذا بعد التطهير والتنقية والتصفية ؟ سيضعنا القاص أمام أمر عَجَبٍ . إنه تطهر لا ليلاقي ربه يوم الحشر ولكن ، لكي يعترف إعترافاً آخر أنه فاشل حتى في زواجه !! في الجحيم يتذكر ماضيه مع مَن شاركته حياته قرينةً شرعية . نراه هنا كأصدق عاشق متصوّف يذوب وَلَهاً ومناجاةٍ ويتعذب في هذا الجحيم الذي إختاره هو لنفسه أو إختارته له أقداره المفروضة عليه حيثُ لم يفارقه الفشل لا مع أصدقائه ولا حتى مع زوجه . فشلٌ في الشارع وفشل في البيت . فشل في المقاهي وفشل في سرير الزوجية . الجحيم هو ثمن الفشل. حين فارق أو تخلص من أصدقائه واجه زوجه أمامه في بيته صباحاً ومساءً . علّة السأم لازمته فلاحقته حتى مع شريكة حياته . إفترق عنها فهي وجه من تلك الوجوه التي سعلته فتقيأها ... وجوه تورط فيها ووجوه ضَمُر في وجوهها . نستمع إليه كيف ينوح بألحان النجوى الضارعة وكيف يرفع صلواته لمن أحب ثم فارق . (( مقتطفات تهمني دلالاتها )). [[ ذا وجهي أنا مُصابٌ على نحو بالغ بإمرأة // صحيح تماماً أنَّ الغياب يكونُ أحياناً ظلاً للحضور // وليس صحيحاً على الإطلاق أنَّ السنواتِ السبع المنصرمة كانت كافية لإغلاق الماضي // فمتى النسيان عزيزتي ؟ فمتى الجحيم ؟ رائحتك ... رائحاتك وغذواتك الذكية على المخدة ... متى ؟ إبتسامتك التي ناهزت دوماً إيقاعَ الديسكو ... متى ؟ عطركِ ... ثرثراتك اللذيذة ... سمرتكِ البرازيلية المصابة بأعراض الجغرافيا // الجنّة التي أسداها لي صدرُك المسهب ... متى ؟ زَندُك الممشوق ... المشنوق المرشوق في مِرجل شهقاتي وحَسَراتي وحشرجاتي مثل ماءٍ يغلي في ماء ... متى ؟ غنجك الذي طالما طالما طااااااال ما قَضَمني بشفاه نمر ... متى // فمتى الجحيمُ يا عزيزتي ؟ متى النسيان ؟ ]] . متى الجحيمُ يا عزيزتي متى النسيان ؟؟ جمع القاص الندمان في هذين السؤالين كلَّ غُصّة روحه وعذاب أعصابه لكأنه يقبض على الجمر بإرادته لكي يتمادى في تعذيب نفسه وتأنيب ضميره وتقريعه جرّاء ما فعلت يداه . الندم والعذاب ثم وطأة الوحدة بعد زواج عمّر سبعة أعوام كاملة فكيف ينسى ؟ كان زواجه جحيماً له لكنه أخذ بالحنين إليه رغم نيرانه المتقدة التي تشوي الوجوه . شرع بالحنين لهذا الجحيم ولا جحيم دانتي ولكن بعد فوات الآوان . لم يبقَ له إلاّ الذكريات وهي ذكريات ممضة قاتلة تنخر في روحه وفي جسده حيث يعود القهقرى لساعات الأنس في الديسكو وفي فراش الزوجية . يحن إلى إبتسامتها وإلى روائحها الأنثوية الطبيعية ... إلى عطرها وإلى سمرة أديمها ... إلى صدرها وزندها و...و... ولكن هيهات !! ما فات مات . إذا كان زواجه جحيماً كما بدا له آنذاك ، فإن المفارقة لأكثر من جحيم . المفارقة تعني الفراغ القاتل ثم الحنين للماضي وللذكريات التي تضاعف جمالها ومفعولها بعد إنقضاء عهدها . لذا نراه يكرر السؤال " متى " أي هل ومتى يعود ماضينا الذي تركناه خلف ظهورنا ؟! إنه يعاني من محنة حقيقية سببها حيرته في الوجود وإستحالة القبول بما لديه والتأرجح بين ما هو متوفر وبين ما يريد ويطمح إليه . صراع بين الواقع والممكن . صراع عنيف بين الحاضر والمستقبل . الحاضر الذي عرفناه وخبرناه والمستقبل المجهول الذي لا نعرف ... الذي نريد أن نعرفه . هذه هي معادلة المحنة في نفس بطل القصة المتسربل بتراجيديا الوجود . مَن أنا وهل في مقدوري أن أغيّر هذا الأنا الراهن المحدد إلى " أنا " آخر أفضل وأتم صنعاً ؟ تتعمق المحنة حين يقف الإنسان حائراً عاجزاً لأنه لا يعرف ماهية وجوهر الأنا الجديد . هل سيكون أفضل من الأنا الراهن أم سيكون أسوأ ؟ هنا تكمن الأزمة الوجودية في روح المثقف الشديد الحساسية والدائم القلق . الهرب من موت غير أكيد إلى خطر أكيد مجهول العواقب ... كما قال شكسبير " تقريباً " في مسرحية هاملت . في بدايات فصل الجحيم قال القاص [[ فمتى النسيانُ عزيزتي ؟ فمتى الجحيم ؟ ]] ، وفي ختام هذا الفصل وفي أخر سطر منه كرر هذين السؤالين لكنه قلب سياقهما فقال [[ فمتى الجحيمُ يا عزيزتي ؟ فمتى النسيان ؟ ]] . يتهيأُ لي أنَّ القاصَ قد عانى ما عانى وعانى من أعمق أعماقه وهو يحاول ويراوح ويعيد المحاولات مستهدفاً بلوغ صياغة محددة مركزة بالغة التأثير معنىً ومبنىً ، وهندسةً لفظية تتطابق مع مشاعره الداخلية المتأججة الشديدة الإضطراب والتي تجهد في أن تجدَ لها القوالب اللفظية المناسبة التي تعبِّر عمّا فيها وأن تُخرجَ هذه المشاعر إلى العالم المقروء والمرئي وأن تضعها تحت تصرف القارئ وتحت سمعه وبصره كيما تظفرَ بالحد الأدنى من المؤاساة والمشاركة الإنسانية ... ففي هذه المشاركة تخفيفٌ للعبء الثقيل الذي ينوء به كاهل وضمير وقلب القاص . كان القاص رائعاً وبليغاً حين وجد في لحظة إلهام نادرة ضالته وأداته التعبيرية فحالفه الحظ في أن يبلور ما في داخله في بضعة كلمات ما أشدَّ وقعها على المتلقي ... كأنها قذيفة مدفع بعيد المدى وقنبلة نووية من حيث التركيز . [[ فمتى النسيانُ عزيزتي ؟ فمتى الجحيمُ ؟ ]] [[ فمتى الجحيمُ يا عزيزتي ؟ فمتى النسيانُ ؟ ]] . فهل النسيانُ جحيمٌ أم أنَّ الجحيمَ في النسيان ؟ هل يخشى النسيانَ أم إنه يريده حتى لو كان جحيماً ؟ زواجه جحيم وحريته بعد الفراق جحيم فأين المفر ؟ لقد لخّصَ السارد محنته الوجودية الكبرى في هذين السؤالين المنقلبين وأفلح في التشويش على القارئ فتخبّطَ لا يدرك كنه السؤالين بشكل دقيق . كهرباء مغناطيسي أو مغناطيس كهربائي يشل يد من يمسك بأسلاكه وجهازه العصبي المركزي . فلتة نادرة من فلتات الإلهام الأدبي تمرق في فضاءات الكون كالكوكب الدرّي الذي يخطف الأبصار ويفتح البصائر .
الصورة الرابعة / البرزخ
لقد نفى السارد على الصفحة 17 الرقم الرابع حيث قال [[ أما رابعاً : فلا وجود لرابعاً على الإطلاق ]] . سنحمل كلامه هذا محمل الجد . لماذا ؟ لأنه أضاف هذا الفصل إلى كوميديا دانتي الإلهية كصورة أو فصل مستقل لا وجود له في كتاب دانتي . إذاً : لا وجودَ لرابعاً على الإطلاق !! فما هي النتائج المترتبة على ذلك ؟ سنرى . لخّص الساردُ في الفصل الرابع تأريخ حياته وإستعرضها بإختصار منذ بواكير طفولته حتى تدرجت فيه الأعوام من مرحلة عمرية إلى أخرى حسب تسلسلها الرقمي [[ سعيداً منتشياً مثل طفلٍ مُفَرد اليدين فوق دراجة هوائية مجنّحة . عبرتُ عاماً ، عامين ، خمسةَ أعوام ، عشرة ...]] أراد أن يوقف عجلة مسار الزمن وأن يخفف من غلواء سرعته الفائقة لكنه لم يفلح . هيهات !! ... [[ وواصلت سرعتها ... أتخطى الثلاثين وفي إثري أثاثُ غرفة . فوق حواجز الأربعين عبرتُ بلا وزنٍ ... أقفزُ بالزانة على الخمسين وعمري الغائر في الخيبات يمرقُ من أمامي ... ثم أرسو عند العقد السادس بفعل عضلات النثر القوية ، مُنهكاً تماماً ومُحطّماً تماماً ]] . ماذا وجد أمامه وقد بلغ الستين من عمره ؟ النكوص إلى زمن الطفولة . هناك كان فردوسه ، وما كان ما قد عاش من سنين َفي الحياة بعد ذلك إلاّ الجحيم بعينه . بؤس . فقر . عذاب . سراب . الحرية جحيم ومعاشرة الأصدقاء جحيم . الزواج جحيم . الطلاق جحيم . النسيان جحيم . عدم القدرة على النسيان جحيم . ما نفعُ خَلقنا إذاً ولأيما غاية خُلقنا ؟!
[[ ... يرتطمُ بصري بالطاولة الصغيرة المقابلة لدولاب الملابس . أَلفي إختفاء الفردوس والمطهر والجحيم .فأكتفي وأنا في الستين بالتحديق في صورتي طفلاً في الخامسة قربَ جَدتي وأبكي ... وأبكي ... وأبكي ! ]] . الطريف أنَّ السارد لم يبلغ الستين بعد ولا حتى الخمسين . لعله في بدايات الثلاثينيات من العمر . لكنه الخيال والتنبؤ بما سيأتينا مستقبلاً . يتخيل نفسه وقد بلغ الستين ولم يجد بين يديه إلاّ الجحيم المضاعف والمركب ، فليبحث له عن مخرج {{ برزخ }} ينفذ منه أو يهرب من خلاله راجعاً القهقرى إلى زمن الطفوله البريئة والطاهرة . برزخ يتدحرج أو ينزلق فيه من الحاضر إلى الماضي وبمنطق يخالف قانون حركة الزمن الأزلية . لقد عبّر عن هذه ( الميكانيكة ) الخيالية غير المألوفة بقوله في فصل البرزخ [[ ... تنطلقُ بي إلى الزمن . في البداية قهقرى نحو الوراء كما لو كنتُ أحفرُ بئرَ حياتي من الأسفل ]] . تذكّرني هذه الآلية الغريبة على قوانين الطبيعة المعروفة بقول شعري للشاعر العراقي المرحوم عبد الوهاب البياتي إذ قال (( وزورقُ الأبد ْ . مضى غداً وعادَ بعدَ غد ْ )) . أليس هذا مثل ذاك ؟ والشعراء يتّبعهم الغاوون . أو القول المنسوب للشاعر العراقي أبي نؤاس ، شاعر المجون والفكاهة واللهو (( هزّني الشوقُ لأبي طوق ْ ... فتدحّرجتُ من تحتٍ إلى فوق ْ )) . حركة زمان أنيس الرافعي رجوعاً من الحاضر إلى الماضي كحركة تدحرج أبي نؤاس من الأسفل إلى الأعلى ضد قوة قانون الجذب الأرضي
Gravitaion
مزايا أخرى في أسلوب أنيس الرافعي
ليس كل ما يكتب الكتّاب من أمور تميّزأساليبهم في إنشاء قصصهم عن أساليب سواهم ... ليست هذه العلامات جميعاً ودائماً ناجحة أو تستحق التصفيق الحاد . فبعضها ناجح أو حتى فائق النجاح ... بينما قد نجد البعض الآخر فاشلاً أو نصف ناجح أو عديم اللون والرائحة والطعم ... كالماء الصافي الرقراق والشديد الشفافية . شفافية الزجاج النقي الذي لا طعمَ له بين الأسنان . وجدتُ في أسلوب أنيس الرافعي وفي قصته التي ما زالت بين أيدينا خصيصتين جديرتين بالملاحظة . حين أقول " خصيصتين " فإني لا أعني بالضرورة أنهما خصيصتان جيدتان أو أن فعليهما إيجابي في مجمل سياق القص . فالبعض منها غث ثقيل على ذائقة المتلقي . البعض الآخر لا ضررَ منه ... قد نتقبله من باب النكتة والمُزحة لتلطيف الأجواء المتوترة والمكهّربة ... فهو هنا إيجابي تتفاوت إيجابيته من مناسبة لأخرى . أمثلة من قصة ( ملاحظات حول الصور الفوتو غرافية ) / كتاب البرشمان * : أولا ً : تخريجات ثقيلة يخترعها القاص عن طريق اللعب على وضع وسياق الحروف في الكلمة . تنبو النتيجة أحياناً عن الذوق الأدبي . أمثلة من فصل الجحيم / الصفحة 20 : [[ ... ولّى شرط قلبي وجهه شطرَ وجدِ سطر وجهها ]] . شطر / شرط / سطر ... لُعبة ساذجة لا تقدم ولا تؤخر . [[ ... عطركِ الفاجر ... الفارج ... الجارف ... ]] . فاجر / فارج / جارف ...بدّل مواضع الحروف في كلماتها لا غير . لعبة ساذجة أخرى . [[ ... زندك الممشوق ... المشنوق ... المرشوق ... ]] . ممشوق / مشنوق / مرشوق ... لقد أساء القاص هنا إلى الزند فذمّه بدل أن يمدحه . ثانياً : إستدعاءات الألفاظ وإنزلاقها من الشبيه إلى الشبيه لفظاً أو معنىً . أمثلة : [[ ... وجوه شائعة ووجوه فريدة الأطرش من نوعها ... ]] . لقد أغرته مفردة فريدة إلى الإنزلاق المرن فذكر المطرب والموسيقار فريد الأطرش. كان مرامه أن يقول : وجوه فريدة من نوعها ... ولو قال ذلك وسكت لكان يكفيه السكوت / فصل المطهر ، الصفحة 19 . [[ ... وجوه صِحاح ووجوه ضعيفة السَنَد ... ]] . هنا إستعار القاص عبارات متواترة في التراث الإسلامي حول مصداقية ولا مصداقية الكثير من الأحاديث المنسوبة للنبي محمد . يقال : هذا حديث صحيح وذاك ضعيف السند أو مشكوك في صحته . و صِحاح البخاري معروفة للمسلمين . كذلك قال في نفس الصفحة 19 من فصل المطهر : [[ ... وجوه مثل الضرورات التي تُبيح المحظورات ووجوه مثل نواقض الوضوء ... ]] . هذه مفردات متداولة ومن ضمن أحكام الشريعة الإسلامية وقضائها . لقد أباح القرآنُ الكريمُ تناول الدمَ والميتَ ولحمَ الخزير في حالات الإضطرار والضرورة القصوى كالجوع الشديد أو المجاعة العامة أو الضرب في الفيافي دون ماء أو طعام (( إنما حرّمَ عليكم الميتةَ والدمَ ولحمَ الخنزيرِ وما أُهلَّ به لغير اللهِ فمَن أُضطرَ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا إثمَ عليهِ إنَّ اللهَ غفورٌ رحيم / سورة البقرة ، الآية 173 )) . قصد السارد هنا واضح شديد الوضوح . لقد قال أبو الطيّب المتنبي شيئاً قريباً من هذا المعنى :
ومن نَكَد الدنيا على الحرَّ أنْ يرى عدوّاً له ما مِن صداقته بُدُّ
أما مسألة نواقض الوضوء فوجدت مغزاها عسير الإدراك وربط هذا المغزى ببعض وجوه السارد أشد صعوبةً . نواقض الوضوء يعرفها المصلّون ، فهل معاشرة أو مصادقة بعض الناس ( رجالاً ونساءً ) ثقيلة وكاسرة لبعض القواعد وربما شاذة حسب أعراف مجتمعاتنا الحالية ؟ هل يقصد السارد إنحراف الطبيعة الجنسية في بعض الناس عن جادتها السوية ؟ التبول بعد الوضوء ناقض للوضوء ... مثلاً . " ملامسة " النساء بعد الوضوء ناقض له . هناك نواقض أخرى تتفاوت في قدرها ومقدارها وأهميتها مما نعرف ويعرف المصلّون . فنواقض الوضوء ليست محصورة بالجسد ، بل وبأمور أخرى تتعلق بطهارة قلب ولسان الذي أصبغ الوضوء وتعففه عن قول الفحشاء والنميمة والكذب والتحريض والفتنة والسرقة ... إلخ . طهارة الجسد والقلب والضمير . فما هي نواقض سارد القصة موضوعة النقاش ؟ الجواب لدى أنيس الرافعي ... لا ريب .
* كتاب " البرشمان لأنيس الرافعي / الناشر : الشاطئ الثالث . دار القرويين ، البيضاء ، الطبعة الأولى 2006 .
#عدنان_الظاهر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ورق عاشق / ديوان شعر لفاتحة مرشيد
-
المتنبي وبعض الثائرين
-
الصابئة المندائيون
-
الشعراء والأديان الأُخرى
-
مع أبي محسد المتنبيء في أوربا
-
أطياف الندى
-
السامري
-
تدوين لزمن ضائع للشاعر عباس خضر
-
كيف يحصل التلوث في الكون؟ - البيئة والكيمياء والسموم.. زواج
...
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|