الحياة 2003/08/17
مؤلف الكتاب، مارك هـ. ايليس، كاتب يهودي أميركي جريء، يحاول في كتابه هذا البحث عن هوية لليهود في القرن الحادي والعشرين، خصوصاً في مرحلة ما بعد "المحرقة". ولعله من الكتّاب اليهود القلائل الذين تحدثوا عن الشعب الفلسطيني، وعن الالتزام الأخلاقي للإسرائيليين ويهود الشتات على حد سواء تجاه الفلسطينيين. وهذا ما جعل البروفيسور إدوارد سعيد يصفه بالعقل الجريء والعميق والمثقف الذي حاول أن يكسر التقاليد الجامدة والصيغ المقبولة. أما المفكر اليهودي المعروف نعوم تشومسكي فوصف كتابه بأنه "إلهام لنا جميعاً".
ومارك ايليس هو عالم لاهوت قبل كل شيء، متعمق في الديانة اليهودية، وهذا ما مكّنه من أن يُفنّد كثيراً من الأساطير الدينية التوراتية القديمة، والأباطيل المعاصرة على يد المتدينين اليهود المتزمتين. وهو يعترف بأن ثمة اشكالية في أن يكون المرء يهودياً أحياناً: ذلك أن شعور الآخرين تجاه اليهود، والحساسية الداخلية المتعلقة بيهودية اليهود لا يتركان إلا حيزاً ضئيلاً للسكينة والهدوء. كان ذلك صحيحاً عندما كان اليهود فقراء ومقهورين، وهو يصح اليوم ونحن نمارس النفوذ والقوة، على حد تعبيره.
يعتقد المؤلف (الذي سيصدر كتابه قريباً بالعربية عن "دار الحوار الثقافي" في بيروت)، أن تاريخ الشعب اليهودي بكامله قد تضاءل شأنه كثيراً بغزوه فلسطين، والذي أضحى الآن غزواً كاملاً. و"كيهود، نعيش الآن مرحلة ما بعد المحرقة، وما بعد إسرائيل، فإن كلا الحدثين يؤكد ازدواجية صعوبة وإمكان الحياة اليهودية في القرن الحادي والعشرين".
وهو كيهودي ولد في الولايات المتحدة وترعرع، شأن آخرين من جيل ما بعد "المحرقة" في مناخ من الأخلاقية والعدالة، كان يتألم من استمرار النزعة العدائية لإسرائيل وتصاعدها. وأثار غضبَه قصفُ المروحيات الإسرائيلية للمدن والقرى والمخيمات الفلسطينية المحرومة من أية وسائل دفاعية. ورأى أن هذه الآلات التي لا هدف لها إلا الدمار والموت قد حددت إطار الحياة اليهودية المعاصرة. إنها تعبر عن القوة من دون احساس بالأخلاقية أو المبادئ الإنسانية، أو على حد وصفه: "ما نقوم به هو ما نعبده". ويتساءل المؤلف بجرأة: هل أصبحنا نحن كيهود أمة تمارس القمع؟ وهل فقدنا دروس "المحرقة" التي علمناها للعالم؟ وهل التهديد واستخدام القوة هما الوصية التي أردنا أن نوصلها إلى أولادنا؟
من الضروري أن نفهم كيف مهد نجاح صهيونية الدولة وتعاظم رواية المحرقة لإسرائيل في الولايات المتحدة أرضية العمل لحركة استيطان متطرفة دينياً، متزايدة الأهمية، مترافقة مع قومية علمانية متطرفة بعد حرب 1967. فقد جعلت الحركات الدينية من القدس ومن "يهودا والسامرة" غنيمة حرب، وراحت تبني المستوطنات بتشجيع من الحكومة الإسرائيلية. وعزز بناء المستوطنات هذا من قوة الاصوليين المتدينين لدى الحكومة الإسرائيلية وفي الطيف السياسي الإسرائيلي.
يقول المؤلف إنه لم يجر في الولايات المتحدة على صعيد عام ووطني أي نقاش عقلاني حول إسرائيل، وكذلك الأمر داخل الجالية اليهودية. وحقيقة التوسع الإسرائيلي، من البحر إلى نهر الأردن، في منطقة تضم أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني، غير معروفة لمعظم الأميركيين وكذلك معظم اليهود. و"الذاكرة اليهودية" التي يعتبرها المؤلف جزءاً من "الحياة اليهودية" أخفت تاريخياً، وفي الوقت الحاضر، الكثير من جوانب الحقيقة. إن قمع الفلسطينيين يمثل التمزيق الأشد في هذا العالم وفي التاريخ. وهذا يطرح مسألة جوهرية، وهي ما إذا كان تفويض اليهود بالسلطة على حساب شعب آخر يمثل معالجة للشعب اليهودي من صدمة المحرقة أو مكافأة له. وهل لا يُشفى اليهود من صدمتهم إلا بصدمة الطرد والاذلال للفلسطينيين؟!
ويتساءل المؤلف بحيرة: لماذا لا تناقش سياسة الاستيطان التي ترعاها إسرائيل في الحياة اليهودية؟ ولماذا ينظر اليهود إلى إسرائيل وكأنها تشبه أية دولة أخرى من حيث رغبتها في الهيمنة والتوسع؟!
لقد كان هناك تقليد في معارضة الصهيونية، في الحياة اليهودية، بل حتى في أوساط الصهاينة أنفسهم. بيد أن هذا التقليد بات معظمه موضع النسيان أو الاستبعاد المتعمد. ولا يعرف إلا قلة من اليهود، ومن غير اليهود بالطبع، أن جودان ماغينس أول رئيس للجامعة العبرية، ومارتن بوبر المثقف التوراتي الكبير، وحنه ارينت الفيلسوفة العقلانية، كانوا جميعاً من المعارضين للدولة اليهودية في فلسطين. وكانوا يدعون بدلاً من ذلك إلى اتحاد تعاوني بين اليهود والعرب.
ألقت العقود التالية على حرب 1967 بظلالها الثقيلة على العلاقة بين اليهود والفلسطينيين، الأمر الذي سبب انقسامات داخل المجتمع اليهودي. وثنائية المحرقة وإسرائيل أضافت بعداً جديداً إلى النقاش اليهودي، وهو الفلسطينيون. وفي رأي المؤلف أن الحياة اليهودية في فجر القرن الحادي والعشرين تأتي بعد المحرقة وإسرائيل، وان البعد الخارجي/ الداخلي للفلسطينيين هو بعد مركزي في تفرق الحياة اليهودية، كما أنه يمكن أن يكون مفتاح قابليتها المتجددة للحياة والنمو. ومع هذا نجد كثيراً من المفكرين اليهود اللامعين من أمثال غرينبيرغ ويروشالي يلتزمون الصمت تجاه آمال الفلسطينيين وأحلامهم تجاه القدس، وكأن الفلسطينيين غير موجودين.
ويطرح المؤلف هنا مسألة مهمة: هل أدت صدمة المحرقة، والتي باتت من طقوس اليوم أكثر من أي وقت مضى، إلى شفاء الشعب اليهودي من عقدته التاريخية؟ وهل أدى دعم الغرب لإسرائيل إلى أن يتخلص اليهود من الخوف والغضب والانكسار، تلك المشاعر التي غالى كثير من الكتّاب والفنانين في تصويرها؟
وهل يمكن اليوم لاندمال الجروح بين اليهود والفلسطينيين أن يصبح جسراً يتجاوز "عقدة المحرقة"؟ أليس السبيل الوحيد للشفاء من هذه العقدة هو الرغبة في العيش مع الفلسطينيين في وطن متجدد لكلا الشعبين، خلق دولة ثنائية القومية قائمة على المواطنة بدلاً من الهوية العرقية أو الدينية؟
أسئلة جريئة يطرحها المؤلف. وهو يرى أن بعض المفكرين اليهود البارزين والمتنوعي الآراء، من أمثال يروشالي وروسكيس وايرينا كليبفيز وسينثيا اويك يفكرون فعلاً بهذا الاتجاه. ويعترف المؤلف بوجود تيار يهودي قوي معادٍ لهذا التوجه. ويصل الأمر ببعضهم إلى حد اعتبار السلام مع الفلسطينيين بمثابة "خيانة" لذكرى "المحرقة"! في حين تجد كليبفيز الجرأة على القول إن التحدي الذي يواجهه الفسلطينيون اليوم هو بمثابة "محرقة" خاصة بهم. وقد تساءلت الكاتبة: هل النازية وحدها أمّ الشرور في نظرنا نحن اليهود؟ وهل أي شيء لا يماثلها يعتبر أخلاقياً من جانبنا؟ هل هذا ما فعلته "المحرقة" بالشعور الأخلاقي اليهودي؟ وتستطرد: إن اليهود مدعوون إلى الشعور بالغضب عندما يرون تمزيق الحياة العادية للفلسطينيين" إن تدمير الحياة الفلسطينية على يد يهود بات جزءاً من تاريخنا الذي ينبغي أن نتذكره.
كتاب غني يربط التاريخ اليهودي القريب بالتاريخ المعاصر، ويقارن بين المُثل التي كانت سائدة بالأمس وبين المفاهيم الخطيرة المتداولة اليوم. ومع هذا ثمة أصوات يهودية مدافعة عن الحقيقة داخل إسرائيل وخارجها لا بد أن نسمعها، أو نقرأ عنها على الأقل.