|
أسطورة النار المقدسة في الأزمنة المنسية
فاضل سوداني
الحوار المتمدن-العدد: 1875 - 2007 / 4 / 4 - 11:27
المحور:
الادب والفن
في تجربة زاهر الغافري الشعرية أ نـّى لي أن أعرف الطريق أ نـّى لي أن أعرف ؟ ) شاعر ياباني
محتضنا حقيبته كغريب مستوحش وحيد في ميناء خال من الكائنات والأشياء ينتظر الشاعر العماني زاهر الغافري ملاك القوة أو زورق الإنقاذ أو حتى حصان هانز آرب الهائم في الصحراء حتى يحمله الى هناك حيث الفراديس الوهمية من أجل أن يلامس جبينه رمال الأحلام . هكذا يعيش الشاعر حياته في انتظار قد لا يجدي . ومن أجل هذا يكتب الغافري شعرا رؤيوياً كتعويذة بصرية تتوهج في روح القارئ النموذجي المتفاعل وليله الصحراوي فقط . حقا أنه الوهم فالشاعر لن يعثر على من يوصله الى الضفة الأخرى من الوجود ، فلا أ حد سيصل مطلقا ، إذ ليس هنالك سفر إلى أي مكان آخر ، ( لا أحد يأتي ، لآ أحد يذهب ) الجميع في انتظار واجم ، والعالم دائما في بئر الصمت وجمود الحركة وليلها البهيم . وبالرغم من هذا فان الشاعر هو القادر على منح الأشياء وكائنات عالمه الشعري ذاكرتها البصرية ـ من مكان انتظاره في وحدته تلك ـ ، إنها الذاكرة الديناميكية التي ستحولها من السكون إلى الحركة ، ومن الفراغ إلى الامتلاء ومن الواقع إلى الأسطورة ومن الحقيقة إلى الأحلام حتى يكون وجودها غنيا في ديناميكيته .ويمتلك الشاعر هذه القدرة لأن ذاكرته دائما بصرية ومثيولوجية تتشكل تلافيف لغتها الشعرية من أسرار أسطورية تجعل النص الشعري يضئ الحاضر كالنور في البرزخ المظلم فيتحول هو( النص ) إلى ذاكرة بصرية أسطورية . لكن ما تستحضره ذاكرة الغافري دائما من خلال شعره ، وتلح على القارئ النموذجي في ديوانيه (عزلة تفيض عن الليل / و أزهار في بئر) ثلاثة أمور سأقرأها بصريا : • ذاكرة الماضي • ذاكرة الأشياء • وعدوى الاغتراب . فالشاعر بوعي الغافري راء تطأ قدماه لأول مرة عالمنا غير المكتمل وكأنه يأتينا من عالم آخر فيه ما يدهشنا من الرؤى مثل : (أتيت وفي يدي أرض ناقصة ، وكأس مليئة بالرمل . كل معجزة لؤلؤة في الطريق . …………………………………. وعلى بعد خطوة مني /تلد الأساطير أزهارا وحشية /أريد أن آكل ثمرة النسيان /ولكن أقسى الظلال /ما يترك طعنة في الظهر ./أتيت لأبقى كذئب في كهف /يحن الى ماضيه .) بهذه اللغة التي نجبر على سماع هسيسها ، يحدثنا الشاعر عن بكورة عالم وحشي من أجل أن يعيد تشكيله وخلقه من جديد عندما يدخله في مرآته التي يرى فيها ذاته والآخر معا ، لكنها سرعان ما تتهشم عندما يعي الشاعر بأن الشيطان أو الملاك المدنس ـ المتوحش هو الذي يحمل المعجزة ، فيتيقن من عدم وجود أرض تؤويه بعد اليوم ، فهو الغريب الذي مرت حياته فوق سلالم نارية وهو الذي ولد من ليل المغفرة بالرغم من أن المتاهة مازالت هناك ، وفي يوم أشرقت من عينيه بروق الصبر فأستيقظ على ملاك متوحش يتأمل في البرية وحيدا ، إلا أن الشاعر عموما هو الوحيد القادر على تحويل الأرض الناقصة الى معجزة تقذف كلؤلؤة في طريق الرائي فقط . في حضرة الشاعر يكون الشعر كالحكمة الأخيرة التي ترتبط بالمصير والتي يلقيها الشاعر ـ الناسك البصير وهو مسرعا في لحظة هبوطه الوهاد البعيدة ليبارك مدننا ، مدن الصفيح المعاصرة المتشبثة بعنفها وقدرتها على تشئ الإنسان ومفاخرتها بذلك ، عندها يكتشف الشاعر بأنه ( وطئ الأرض الأولى، ولديه جمرة في اليد ) هكذا يندهش الشاعر ويدهشنا . لكنه يمتلك حكمته التي يهمس بها إلى ذاته والى قارئه النموذجي ، فالحقيقة تنّزل كتاب الأنبياء بين يديه وهو آسف لأنه ذات يوم كانت لأحلامه رائحة الأبدية ، والآن كمن يستجدي حجارة عذراء . وبما أن القدر يشبه جنة مسمومة ، لم يعد الشاعر يقوى على النوم إلا على حافة السكين ، فهو ظل ومرآة عكست أزهار القارئ النموذجي في بئر ، وهنا فان الأفق الشعري واللغوي يتحول إلى توهج مشع من خلال الاستعارة الميتافوري ( METAPHOR ) لإثراء الذاكرة الشعرية. ملاك القوة ..شيطان الشاعر عندما تقرأ الغافري قرآءة تأويلية نموذجية تستحضرك دائما مقولة بودلير بأن( الحياة غابة من الرموز )حيث يعمق الغافري طريق الرموز للشاعر ـالذات الأخرى ـ ويسير معه حتى الهوة العميقة للمغامرة ، فيضع ذاته على حافة نافذة مفتوحة على هاوية ( فتقذفه شمس ثلجية في أغوار الغابات ) ويجعل من الليل توأمه السري ، بالرغم من أن حياته ( أغنية في فم ملاك ، وعلى ظهره تكر السنوات الثقيلة )ففي الوقت الذي يبحث فيه الشاعر عن فردوسه ، فهو في ذات الوقت يبحث عن جحيمه ، متحديا كأمير أحلام يستيقظ متلفعا بأعشاب الماضي ، بالرغم من أن (ضوء الطفولة هارب من مياه العمر ، لكن رذاذ الماضي يسقط خفيفا في المرآة ) بهذا يستنهض الغافري أسطورة الشاعر في دواخلنا من تداخل الماضي والحاضر. في هذا المقطع من القصيدة التالية يتحقق تلامس للأزمنة : (أمام هذا النهر /نجلس ، نحن أسرى الخسارات /منتظرين أن يظهر في أي لحظة /ملاك القوة ./إشراقةً مليئة بالغضب.) والقصيدة بكاملها عندما تقرأ قراءة ضاهراتية ـ إبداعية سنكتشف بان الزمان والمكان فيها يتكاثفان إلى ماض وحاضر ومستقبل ، فمن أجل ملاك القوة أو سماع صهيل الحصان المنقذ ، فان هؤلاء الغرباء المنفيين يحلمون بيوم شبيه لهذا اليوم الذي يجلسون فيه أمام النهر ينتظرون ذلك الأمل الذي قد يكون كاذبا بالرغم من أنه حلم الشاعر ، و ربما (ستأتي الأمنية وستكون السماء مليئة ربما بالنجوم ) ..ربما ؟!. ولكن هذه الأزمنة ، الحاضر والمستقبل لا يمكن أن تتكامل إلا بتلامسها مع الماضي ، وبالرغم من أن الشاعر نظر بعينه الشعرية للحاضر والمستقبل فقط ، لكننا نشعر بالماضي يتراءى في تلافيف المشهد ( الجلوس المتكرر أمام النهر ) مثلا . فأسرى الخسارات هؤلاء يعرفون المكان لدرجة أنهم يأتون كل يوم لمباركة النهر ، يجلسون أمامه بكل خشوع يهمسون صلواتهم من أجل أن ينبثق ملاك القوة ، أو الأمل ، لكن أي أمل ؟ ، أنه بالـأكيد أمل شاعر فقط الذي لا يمكن أن يمنحه له إلا ملاك له سحر الشيطان لا يأتي إلا في زمان مكثف بالمكان و بالعكس , لذلك هم يجلسون دائما في انتظار قد يطول ، وحيدون خلف أبواب تجهلها الريح ( وتبيْض أعمدة السماء السبعة ) ، أنه المكان المقدس الذي يفضله الملاك المزدوج الذي يتقاسم مع الشيطان قناعه. ولا يمكن أن يكون هذا المكان إلا مكان مكثف بالزمان أيضا فيتمنى الشاعر وأقرانه : ( لعل في يوم شبيه بهذا /ستأتي الأمنية على جناحيها وهاجة مثل /بريق مدية ) لكن لماذا ينتظر أصحاب الخسارات أمام النهر وكأنهم أيقونات تالفة أو بؤساء في لوحة لبيكاسو الزرقاء؟أو كأنهم مازالوا حتى اللحظة في الأزمنة الأولى ، وفي مكانهم المقدس ينتظرون روح الملاك ترفرف على وجه الماء وسط ضباب العالم البكر ، فليس هنالك سوى الماء وليس شئ آخر ، ومن الماء ظهرت الحركة وانبثقت من قلب السكون السرمدي ، وبقوة الحركة تحركت الموجودات البدئية .( محمد صالح العياري ـ في الفكر الأسطوري الشرقي القديم ـ مجلة نزوى ) والشاعر يعرف جيدا بأن لحظة الخلق الأولى انبثقت من المياه البدئية . وتحدثنا المثيولوجا بان رحلة المياه هي رحلة موت ، فالانهار عادة ترفد نهر الأموات او نهر الجحيم ، والماء هو رمز الموت ، ورمز الحياة أيضا ، وفي ذات الوقت الرمز العميق العضوي للمرأة التي لا تعرف سوى أن تبكي احزانها لدرجة تبدو فيها دموعها وكأنها ستملأ انهارا . فإذا عدنا إلى الذاكرة المثيولوجية للشاعر ، يتحتم علينا تتبع رمز الماء مثيولوجيا اعتمادا على غاستون باشلار حيث يكتب أن الماء جوهر الحياة ، وهو رمز أمومي أيضا لكنه في ذات الوقت يمكن أن يكون وسيلة لتفسخ أو تهرؤ جثة الغريق بالرغم من أن الموت في المياه هو أكثر الميتات حميمية ، والماء يؤنس الموت ، وأن رغبة الشاعر ان تصير مياه الموت المظلمة هي مياه الحياة ، ورمز الماء يمتزج وجدانيا برموز متعارضة فيما بينها كالولادة والموت ، أنه جوهر ملئ بتذكارات العرافات وأحلام اليقظة . ( إنظر دراسته القيمة والفريدة تحت عنوان عقدة خارون ـ عقدة أوفيليا ، ترجمة سلام ميخائيل عيد في مجلة نزوى ) إذن هل ينتظر أسرى الخسارات هؤلاء الذين لا يعرفوا فيما إذا أغرق أشرار مدن المنافي الخائنة ملاكهم في النهر ، أم أنهم ربطوه في مكان ما من العالم بزورق مقدر له مسبقا أن يغرق ، فإذا قاوم الأمواج لابد أن يمر أمامهم في يوم ما . ومن جانب آخر فان الشاعر منحنا أملاً آخر بحصان هانز آرب لينقذنا ، فهو سيشق الليل ويصهل قافزا من بئر ذاكرته و(على صدره تتلألأ سهام ذهبية تشب الأزهار ،و لسانه مبلل بدموع الأرض كلها كما لو أنه عبر في طريقه أنهارا كثيرة.) وفي لحظة جحيمية لا نعرف هل مر علينا خطفا فلم نستطع أن نهمس له آلامنا أم أن كل هذا كان حلم الشاعر الذي يتمنى فيه أن يأتي فهو يؤكد بأنه : ( جاء من بعيد دون أن يقول شيئا ثم/اختفى كالبرق خلف تلال الأبدية من عينيه تطايرت ذكريات بعيدة ) هذه قدرة الشاعر البصير الذي يقودنا من البرازخ المظلمة الى وهاد النور . إذن سننتظر نحن أيضا هذا الملاك ـ الشيطان او الحصان الصحراوي الملتاث لنهمس له همسات الروح عسى أن يقلنا معه إلى مكان آخر من أجل نقاء القصيدة . سر ذاكرة المرآة بوعي بصري منبثق من ذاكرة شعرية ، يرفض الشاعر مرآته حتى وإن كشفت عن أعماقها ، لأنه يعتقد بأن الأمل الطالع سيكون ناقصا فيها ، فيهشمها بفاس النبوءة ، لأنها لا تمنحه إلا النظرة الأولى فقط أو مفاتيح أبواب الأحلام وليس الأحلام كلها ، أو( قبلة فوق جذع يابس) ، أنها تمنحه هذا القليل أما هو فيبغي النبوءة والبصيرة ، من أجل أن يكون بصيرا وعارفا حتى يمتلك القدرة على التمعن في ذات الآخر،أنها الأسرار التي تقود أحيانا إلى مقتلة الذات في انغمارها في التوغل في غابة الروح المظلمة. وبالرغم من هذا فان الشاعر يسمع صوت يهمس من قلب المرآة ، قد تكون أزهار الموت الوحشية الآثمة مرمية في بئرها. وهنا تتحدد دلالات المرآة وترتبط بمرادفات أخرى كالصحراء . ففي الصحراء يكتشف الإنسان ذاته ويعرف من هو كما في المرآة ، أما الشاعر فيتماهى معها لدرجة تصبح له كعالم صافي يستطيع فيها ان يرى قناع او حقيقته بدون عواصف من تراب ، أما مرآة الغجري او البدوي التي يفضلها الشاعر ، فانه يحملها في روحه ساعة غسق الليالي ، عندها يرى ذاته فيها ليعرف إلى أي درجة وصل الخراب . والشاعر أيضا لا يستغني عن بئر أسراره فهو مرادف للمرآة الداخلية ، لآن الشاعر يسمع أساطيره المنبعثة من قاع بئر لحظة يفقد فيها الإنسان مرآته او عقله او خيالاته فيضيع كل عاقل ويتيه في الصحراء أما المجنون فيرحل صوب المجهول باحثا عن سر مرآته . إن هذه الاستعارات ـ البئر والصحراء والمرآة ـ هي مرادفات ذات أبعاد مشتركة ، وهي رموز لا يستغن عنها الشاعر حتى وهو يعيش منفاه في حضارة شمال العالم ، وهي دلالات من الماضي ومن طفولة الشاعر تستحضرها ذاكرته اللاإرادية ، فتصبح صدى للماضي الذي يتضخم لدرجة الاستحواذ على الحاضر فيتحقق تلامس الأزمنة الثلاث ـ الماضي والحاضر و المستقبل . تتشكل فرادة عالم الغافري عندما تدخل ذات الشاعر الأخرى مرآتها فيتراءى عنفوان الحاضر ويستنهض الماضي الميت عندما تتحول المرآة الى ذاكرة تنبئية و مستقبلية ، فنسمع هسيس الأشياء وإيقاع الكائنات التي تكوّن المستقبل وكأن الشاعر يستيقظ في الحلم ـ الرؤيا ، من هنا تكون ذاكرة الشاعر هي ذاكرة الألم ـ الماضي ، لأن ( الليل كان مرآة أمام الجمال ، أمام ندم الماضي )، إلا أنه ماض خاص لأنه مغفور بالحرية . هنا تتشكل أسرار الشاعر فتبدو لنا (كنور اليدين ) تشع في طريقنا شعرا رؤيويا . فهو الوحيد القادر على ان يصغي الى الجوهر ـ الذهب وأسرار الحديقة التي لا يمكن للإنسان أن يعرفها إلا إذا توسد هناك زهرة الرؤيا ( التي توجت هامة جلجامش بعد أن خسر زهرة الخلود ) فتتزاحم الأحلام واحدا إثر واحد كرؤيا الأسرار ، وتتخلص من غبار الماضي . وهاهو يكشف لنا في ( نزهة في مرآة ) قدرنا وحريتنا للتخلص من الماضي ، لكن هل يستطيع أن يتحول الماضي حرية للحاضر ، أم أن الأزمنة هي موات مستقبلي إذا لم تدخل مملكة الشعر ، أم أن الشاعر فقط هو القادر على أن يمسك زمنه وزمن ذاته الأخرى وزمن قارئه النموذجي وزمننا. الشاعر لا يود أن يستحضر الماضي ، إلا أن الذات الشاعرية ـ الذات الأخرى ـ لا تتكامل إلا به فتتشكل الإزدواجية الشعرية ، لأن الماضي يصبح تاريخا للحاضر والمستقبل ضمن المنطق الشعري لهذه الذات . يا إلهي إلى أية هوة او منزلق يريد الشاعر أن يضعنا على حافتهما . عزلة الماضي كقصيدة طويلة تؤلف ديوانا أنيقا صغيرا قليل الصفحات أطلق عليها الشاعر ( عزلة تفيض عن الليل ) كتبها في خريف عام 92 وأهداها الى أصدقاءه . فليس غريبا أن يتحول هذا النص إلى نبوءة عراف عن الزمن الذي يتكاثف كالليل البهيم الذي لا ينتهي وفيه يعيش الشاعر زمن عزلته فقط ليسمع صرخات أصدقاءه وسخرية أعدائه من المدن الخائنة ، أما صرخته هو بالذات فإنها أبدية يتردد صداها في ذوات من نور بالرغم من أنها كصرخة ملاك قتيل : (لم نكن نشعر بماء العالم /ولا بمرآة الرماد . /نغمة تلد نفسها باستمرار /نشم جذورها من بعيد .) لا أبالغ إذا قلت بأن على القارئ أن يتسلح بأسرار اللغة والشعر وأحلام اليقظة من أجل أن ينفذ بين مساماته شعر كهسيس النار المقدسة . (ربما لأن عزلتنا /تفيض عن الليل /لذلك تركنا الباب مفتوحاً /فلم ندخل /ثم سمعنا صرخاتنا /من بعيد / أو /ربما لأن ذنوبنا /أزهرت في مزامير /الطفولة .) يفاجئنا هذا النص بكثافة القدرة التأويلية المتعددة لغة الشاعر فتشع كلماته البصرية بالرغم من أنها تخرج من أفواه رعاة بلا بوصلة يهيمون في الصحراء ، كالأيتام يبحثون عن أنهار النور ، بالرغم من أنهم يهّربون جرار الآلهة . في هذا النص ومجمل القصيدة تتحول هذه الكلمات المشعة الى صور بصرية ـ سريالية أحيانا يغتسل الإنسان من خلالها بدموع آدم ، ويزداد الشاعر وأصدقاؤه من الرعاة ، وأصحاب الخسارات الذين يشبهون الآلهة ، جمالا لأنه يدخلهما في زمنه الشعري . ولكن بعد أن يعبر بحر الموت الى ضفته الأخرى ، يسمع هو ـ واصدقاؤه الذين اصطحبوه ـ صدى يرن من هناك ( ربما ملاك القوة أو ملاح بحر الموت أ وصهيل الحصان ) :(لعلنا نزداد جمالا /بعد الموت /فنسمع من يقول: انظر /كيف تقفز الأسماك /من عيونهم .) وفي حلم الشاعر او رؤياه لما بعد الموت ،هناك في الضفة الأخرى تتحول فيه مفردات الواقع ـ الحياة ـ الحاضر الى مفردات لغة تأويلية بصرية ، يتساوى فيها السرير الذي يريح الشاعر رأسه فيه( من أجل حلمه الأبدي ) مع القبر ، فيحدث نوع من تداخل الأزمنة والأحلام لدرجة لم يعد يشعر بالهواء وهو يجرح نومه ـ أحلامه ، أحلامنا ، ولم يعد يشعر أيضا بمرآة الرماد : (نحلم بصدف غامضة /تمنحنا غفرانها /نحلم بصحراء نلدها /ثانية أمام الرب ./بحقيقة نغريها بكلمة وفي طريقها إلينا /نبكي من أجلها ـ من أجلها /نبكي كالنسر الذي من /فرط الندم /اغتسل من دموع آدم ) أن نص ( عزلة تفيض عن الليل ) هو مرثية الشاعر لأصدقائه أو مدح لماضيه في لحظة توهج لوداعه النهائي أو هو مرثية الشاعر لذاته ) هكذا ننحني لغصن الموت /تاركين نبيذنا منسياً /تحت النجوم /نقف كالأيتام /باحثين ربما عن الأنهار عن الطين وعن سلم المغارة /عن طفولتنا التي /أعرناها للخريف .) وهكذا فأن أشباح الماضي تلح على الشاعر أن يعود مفتونا من جديد . (لم نهرب /حتى نرى عودتنا مهجورة /إلى قرى ليست سوى /أشباح ) وبالرغم من أن الشاعر منقسم في ذاته بين الهروب من ماضيه ، وتكامل رؤيته الشعرية عندما يتناوله في قصيدته ، إلا أنه يذكرنا دائما بخطيئته الأبدية ، فهو الذي حملها كصليب مدمي ، أنها شجرة آدم التي لابد أن يأكل ثمرة المعرفة منها ، وهي أيضا شجرة النفي من الجنة الأبدية بعد سقطته الأولى أو هي شجرة الموت في أرض قاحلة : ( ثم إننا أول من بكى /تحت الشجرة / مرثية هي صلاة /دائمة . ) في هذا النص يهمس الشاعر لنا عن سر أعدائه ، ولكن أي نوع من العداوات ؟ ستكون مدن المنفى المستوحشة ، أعداء الشاعر ، لأنها غريبة عنه ، وعندما يعاديها أو يحمّلها خطيئته ، لا يتناقض هذا مع إنسانيته كشاعر ،إنه يبحث دائما عن مدينته الكونية ، لهذا فإن هذه المدن تصبح مدن عدوة لأنها بعيدة عن مملكته البصرية ، لهذا فهو لا يطيق تلك الأصقاع التائهة النائية الملتاثة بالاستهلاك وعافية الواقع اليومي المزيفة ، فهو مجبر على العيش فيها ،بالرغم من أن هذا كان بإرادته . إلا أن خيالات الشاعر الكونية لا تكترث لكائنات هذه المدن الخائنة ، فقط تهدئهم إلى حين ، فيشرب الشاعر من عيون هذه المدن ـ الأعداء ـ ضباب السخرية , لكن يبدو أن الشاعر ذاته هو الذي يسخر من هذه العوالم لأنها تشكل غربته ، وقد يسخر منا أيضا . أن الإحساس بالغربة يجعل حياة الشاعر بلا فرح لدرجة لا يستطيع أن يرد السهام التي يتلقاها في معركة المنفى الخاسرة ، ففي مدنها يصبح الكلام ثرثرة في رحم الحياة ( فمن هذه المدن لن يبقى سوى الريح التي عبرتها ) كما يقول برشت .. بصريات الأشياء إحدى وظائف الشعر في حياتنا المعاصرة هي أن يمتلك الشاعر القدرة على إعادة ترتيب الوجود شعريا من جديد وخاصة ذاكرة تلك الأشياء المرمية والمهملة في الكون ، أنها أشياء الواقع ، والشاعر هو القادر على منحها ذاكرتها وديناميكيتها الإبداعية ، لكن الأهم من هذا هو أن يعيد تشكيل الطبيعة شعريا حتى يستطيع أن يرى ويبصر ، لأن الزمن أوشك ( أن يسقط من بين أصابعنا :/ فلا نعد نرى في أجفاننا /أنهارا كثيرة ) لكن ( ما تبقى يصنعه الشعراء ) هكذا يواجهنا هايدجر ، ومن أجل هذا على الشاعر أن يبغي المستحيل لدرجة أن يدفن الشمس تحت اللسان لتشع الاشياء والكلمات الميتة من جديد و تصبح جزءا من مملكة الشاعر البصرية ، ويمكنه أن يرى جروح السماء في مرآته ، مرآة الابدية . وأن ينظر إلى الجمال الهارب ويعيده إلى تاج السحابة ولتحقيق هذا عليه أن يتحدى الخطر ويواجه عاريا من جميع الأشتات والأدران ، عاريا يتحدى الأبدية ومنطق الواقع الغث حتى لا يضع التابوت في الجسد ، حتى لا يتآكله الزمن أو حتى لا يقذف في واقع شبيه بالموت ، فالشاعر هو ليل الرجاء ، هل هو رجائنا ، أم إننا فقط يجب أن نشعر بالاكتفاء والقناعة حتى تفوح من ضلالنا رائحة خشب العمر . لدرجة أن ننسى منازلنا موطن الطفولة وأخوة الصباح ، أما هو ( الشاعر ) فعليه أن يعيد للحديقة خوفها الأليف ، وأن يعيد بذور اليابسة للمطر ، وأن يوقف زحف الفجر في الصحراء وأن يحول اللمسة الى جحيم وجمرة في فم الإله وعليه أن ينزل الجحيم من جديد لكي يبارك السهرة التي يكون حاضرا فيها الخريف ونسر الجنون وذاته المشاكسة الأخرى وملاك القوة وحصانه المنقذ وإمرأة المنافي الملتاثة بدروب النسيان والبرازخ ، والهائمة في أحلام ليال بلا أقمار . هكذا يبدو صوت الشاعر الذي أضاعه الليل وسط العواصف ، وهكذا يضيع هو ذاته أيضا بين رغباته وأحاسيسه المختلطة التي لايمكن أن تصل إلى مرآتها ، ولا يمكن أن يصل أيضا ذلك الحجر الذي رماه في أرض قفرا في ليل الرجاء ، إلى عين الملاك ،ملاكه وشيطانه . فسيتوارى الشاعر في زاوية السهرة من أجل أن يعيد تماسك وجودنا ، أو الوجود عموما ، وإذا لم يكن قادرا على هذا أو على تحويل الكلام من ثرثرة الى رؤيا ، فإنه سيدور كالثور في جحيم الواقع الميت و سيسخر منا ومن وجوده هو بالذات. إذاً ( مفعما بالجدارات ، لكن شعريا / يقيم الإنسان فوق هذه الأرض ) كما يكتب هولدرلين . هل يمكن للشاعر أن يقيم في الشعر ؟ ( أحيل القارئ الى دراسة الفيلسوف هيدجر ، الشعر مسكن الإنسان ، مجلة نزوى عدد 35 ت : عزيز الحاكم ) وحتى يمتلك هذه القدرة فإن الشعر لابد أن يشكل وجودا للشاعر حتى يكون قادرا على منح الأشياء وظيفة غير وظيفتها الواقعية وأحاسيس إنسانية لينقلها من مواتها وجمودها إلى وظيفتها الجديدة في مملكته البصرية ، وبهذا يكتب الشاعر القصيدة البصرية ، و بالرغم من أنه يتظاهر بعدم قدرته على ذلك ، إلا أنه يكون على حق فقط عندما يكون الزمن قد أوشك أن يسقط من بين أصابعنا . اللغة … جنة نائية يمتلك زاهر الغافري لغة متوهجة تتعدى المفردة الأدبية وتتحول الى كينونة المفردة البصرية الشعرية التي تستند عليها بصريات الصورة والفانتازيا الشعرية وأسلبة القصيدة وتصبح ذاكرة بصرية ، لانه ينتقي الكلمة إنتقاء عراف لحروف تعاويذه في كهوف السحر .فكلمات مثل :جمرة الصبر ، فجر الابدية ، عشبة النسيان ، العين الثالثة وغيرها الكثير ، هي كلمات تشكل رؤياه الشعرية . أما رنين الكلمة وإيقاعها فقد كان واضحا حتى وسط ضوضاء العالم . ومن أجل أن يصل الشاعر لشعرية الحدث واللغة ويكتشف لغته الخاصة ، فإنه يفجر الكلمات بمعاني بصرية جديدة بعد أن يخلصها من مجانيتها فتتشكل كينونة شعرية يستعير فيها من القفر بريته ليمنحه الى الليل ، أو يستعير فعل( يترقرق ) لينسبه الى النسيان فيتحول جذريا : ( وصوتك دائما بالكاد يترقرق/ في النسيان . ) ويتعامل الشاعر مع الأشياء الواقعية و يسميها بأسماء أخرى غير ما هي معروفة به في الواقع ، أو يغير وظائفها لينقذها من جمودها عندما يستخدمها بوعي بصري يسبغ عليها كينونة جديدة . أو يعمد أحيانا الى استخدام الصورة المتناقضة مع صورة أخرى من أجل الوصول الى إيقاع مختلف تماما عن سابقه.أن الغافري حريص في الكثير من قصائده على أن يختفي خلف ذاته الشعرية الأخرى ،فهي الذات الحالمة ، لذا فانه يستخدم دائما لغة المخاطب التي يهمس من خلالها إلى هذه الذات.
والميزة الأخرى التي تمنح لغته آفاقا واسعة فتصبح كأنها لغة تستخدم فقط في كهوف التصوف أو في أكوان أخرى ، هو استخدامه (للاختزال والأسلبة ) مما يخلق جملة مختزلة وقصيدة مكثفة ومؤسلبة الى أقصى درجات الأسلبة حتى تبدو وكأنها كيمياء ضوئية لا نرى في شفافيتها إلا الأحلام المستحيلة وأسرار وحشية في ليل وحشي ، ومن خلالها لا نرى الشاعر حاملا صليبه ، بل يحاول أن يجر العاصفة خلفه فلا يقوى .والشاعر عموما يأتي الوجود عادة في زمن مسروق مثل عراف خانه القدر في اللحظة الأخيرة ، إلا أنه يعيد لنا ذاكرتنا البصرية . هل كان الشاعر متعمدا في كل هذا حتى يجعلنا نستوحش حياتنا ونعيش غربة الوجود في لحظة التماهي مع أسرار شعره البصري ؟ .
كوبنهاكن شمال الكوكب
#فاضل_سوداني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجسد والحضور الميتافيزيقي للشعر البصري
-
عبد الرزاق المطلبي واحلام كانت مرمية في الطريق) سر التجسد)
-
تعاويذ الحب وتوهج الجسد في بهو النساء
-
الحضور الابداعي للكتابة عن المسرح
-
باشلار و ظاهراتية الصورة الشعرية
-
منفى المثقف في شمال الكوكب
-
لا رحيق لزهور تنبت في أرض غير أرضها
-
جــدلية الأحــلام بين المتنكــرين و الرعيــة عندما يتحول الم
...
-
توهج الذاكرة ........مرثية لعامل الطين وقارئ الفلسفة محاولة
...
-
ذاكـــرة المــرآة
-
الأقمــــار المنســــية
-
عزلة الشاعر في أحلامه - عدنان الزيادي إنموذجا
-
النار المتوحشة…. وتحولات المثقف المتكيف
-
توهج الذاكرة الفنان إبراهيم جلال وغربة المسرح في وطنه
-
خليل شوقي وليالي شجون المسرح العراقي
-
توهج الذاكرة عندما يسرق زمن الفنان
-
المثقف المتكيف وأبخرة الثقافة الموبوءة
-
الفضاء السميولوجي لعمل الممثل
-
الوعي البائس للمثقف المتكيف
-
مثيولوجيا الجسد في الطقس المسرحي البصري
المزيد.....
-
من باريس إلى عمّان .. -النجمات- معرض يحتفي برائدات الفن والم
...
-
الإعلان عن النسخة الثالثة من «ملتقى تعبير الأدبي» في دبي
-
ندوة خاصة حول جائزة الشيخ حمد للترجمة في معرض الكويت الدولي
...
-
حفل ختام النسخة الخامسة عشرة من مهرجان العين للكتاب
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|