|
حليم والسينما
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1873 - 2007 / 4 / 2 - 09:34
المحور:
الادب والفن
1 لعلّ فيلم " زوجة رجل مهم " ( إنتاج عام 1981 ) ، للمخرج المبدع محمد خان ، كان متفرداً في تسجيل وثائقيّ ، مؤثر ، لجنازة الفنان الراحل عبد الحليم حافظ . هذا الأخير ، المتوفي قبل ثلاثين عاماً ، كان قد فجع محبّيه برحيله المبكر . وقد نقل لنا ذلك الفيلم مشهداً لبطلته ( ميرفت أمين ) ، وهيَ تتابع عبرَ جهاز التلفاز صوراً حقيقية لبعض المراهقات وهن يقذفن بأنفسهن ، منتحرات ، وقت مرور جنازة حليم الشعبية ، الغامرة ، تحت شرفات منازلهن . آهلَ فيلمُ محمد خان ، ذاكَ ، ذكرى الراحل الكبير من خلال مشاهدَ ضافية ؛ كما في لحظة قيام الزوج ( أحمد زكي ) ـ ضابط المخابرات ـ بإنتزاع شريط مسجل لأغاني حليم ، كانت تستمع إليه بطلتنا ، ثمّ تمزيقه بحقدٍ وتشفّ : إنه المشهد الميلودراميّ ، الفذ ، الما فتيءَ يستنهضُ دموع الفنانة ميرفت أمين ، كلما أعادت مشاهدته ؛ بحسب إحدى مقابلاتها الصحفية . فنانتنا هذه ، كانت آخرَ فاتنات الشاشة الكبيرة ، ممن عمل معهن العندليب الأسمر في أعماله ، البالغ مجموعها ستة عشر فيلماً . وعودة إلى موضوع جنازة حليم ، لنلاحظ أنّ ردّ فعل جمهوره ، النسائيّ ، كان بالغ الشدة لدى صدمته بخبر الوفاة ؛ كما أثرناه آنفاً بخصوص الإنتحارات تلك . إنها مرحلة رومانسية ، ربما إنطوت أبداً من حياة موطن النيل ، فيما لو قارناها بحاله الراهنة . فما زال النقاش البيزنطيّ ، العقيم ، محتدماً حول سبب وفاة الفنانة سعاد حسني ، ما دام " الشرع " لا يُجيز للمؤمن هدرَ حياته إنتحاراً ! كذلك أتحفنا حالُ المجتمع المصريّ ، حالياً ، بخرافة اخرى لا تقل خراقة ، شاءَ مختلقوها أن يطعنوا بها ذكرى حليم ، بالذات : لقد أعيدَ الآن ، بمناسبة الضجة المرافقة للمسلسل التلفزيوني " العندليب " ، الحديثُ عن جثمان الفنان الراحل ، وأنّ أهله قد " إكتشفوا " أنه لم يتحلل بعد ـ كذا ..
2 حليم ، كان ملحمة في حياته ورحيله ، على السواء . وإذ إئتلف إسمه بالنغم والطرب والصورة والكلمة ، فإن خلوده قد إستمِدّ من تلك الأسطورة ، المنسوجة للبقاء والفناء. كان اليتمُ قدَرَ الوليد ، الرقيق ، الذي سُجّل في نفوس محافظة الشرقية بإسم " عبد الحليم شبّانة " . فما أن فتح عينيه على ضوء الحياة ، إلا وغابت أمه ، ومن ثمّ والده ، في غياهب ظلمات الموت . لقد إبتدهت الأسطورة ، الموصوفة ، من هنا إذاً . الطريف ، رغم مأساة الموقف ، أنّ فيلم " الخطايا " ( إنتاج عام 1962 ) ، هوَ من ساهم في أسطرة جانب من حياة حليمنا : كان يلعب فيه دور " حسين " ، الفتى الجامعيّ المتفوق ، الحالم ، وإبن الذوات ، وله شقيق وحيد ( حسن يوسف ) يصغره سناً ، يستحوذ لوحده على عواطف الأب الصارم ( عماد حمدي ) . مع دخول " سهير " في حياته ، كزميلة في الدراسة وحبيبة لاحقا ( نادية لطفي ) ، يتفاقم الشقاق بينه وبين والده . هذا الأخير ، كان مصراً على أن تكون تلك الفتاة ـ وهيَ إبنة صديقه ـ من نصيب الإبن الأصغر . وعلى عادة الأفلام الرومانسية ، سرعان ما تتعقد القصة بتداخل القرابة بعضها ببعض ! " حسين " ، كما سيتبيّن لنا ، كان لقيطاً مستجلباً من ميتم ، وقد ظل يملي على البيت حياته ، حتى رزقت الزوجة ( مديحة يسري ) بمولود مذكر . وبالرغم من أن قصة " الخطايا " لم تنتهِ هنا ، بيدَ أنّ الجمهور كان من التأثر بهذا الفيلم ، حدّ أنه حفظ في مخيلته ذلك المشهد ، مماهياً إياه بحقيقة أنّ بطله ، نفسه ، قد نشأ يتيم الأبوين : هكذا ترسخ إعتباطاً في أذهان الكثيرين ، وعلى مرّ الأعوام ، أنّ عبد الحليم حافظ عاشَ في أحد مراكز الأيتام ، وأنه ربما تهيأ له من يتنبناه ، فنياً ، ويرعى خطاه على طريق المجد ، الطويل . وهذا يقود أسطورتنا إلى منحىً آخر .
3 منذ بداية مسيرته سينمائياً ، أثبتَ حليمُ مقدرته ـ كممثل قدير . إنّ وجهه المعتل ، المتعب ، كان يضفي لمسة شاحبة من الرقة ، العذبة ، على قسماته الوسيمة بحق . وكذا الأمر ، فيما يخصّ تعابيره وخلجاته ، الرهيفة ، والتي ضمنت له أداءَ أدواره جميعاً ، من ميلودرامية وكوميدية ، على المستوى نفسه من الإجادة والصدق والعفوية . كان مما له مغزاه ، فعلاً ، أنّ العمل السينمائيّ ، الأول ، المنذور لبطولة حليم ، قد دارت قصته في حومةٍ شبيهة بحياته الحقيقية ـ كفنان مبتديء ، سبق أن إكتشفه الملحن كمال الطويل : إنه فيلم " لحن الوفاء " ( إنتاج عام 1955 ) ، للمخرج محمد عمارة . ففي المحور هنا شخصية موسيقار كهل ( النجم حسين رياض ) ، تلعب بقوتها وهيبتها دوراً أساساً في إحياء موهبة مطرب ناشيء . هذا الأخير ، الذي جسّده حليم في الفيلم ، يقع في هوى مغنية شابة ( شادية ) ، صاعدة بدورها في سلم الشهرة . إلا أنّ ذلك الحبّ ، يجد له خصماً ، عنيداً ، في شخص الموسيقار العجوز ، بالذات ؛ هوَ المعاني من عقدة كراهية الأنثى بسبب خيانة زوجية ، قديمة . ولكن ، إلى الأخير ، ينتصر حبّ الشباب ، بعدما يعترف عجوزنا بعواطفه المتأججة للمطربة تلك ، ويبارك من ثمّ زواجها بتلميذه . أربع سنوات ، على الأثر ، وعبد الحليم حافظ سيكون على موعد مع أحد أهم ادواره ، على الشاشة الكبيرة ، في فيلم " الوسادة الخالية " . ما كان مخرج الفيلم سوى صلاح أبو سيف ، رائد الواقعية في السينما المصرية ؛ هذا الذي تعامل بحرفيته العالية وموهبته الفذة مع رواية إحسان عبد القدوس تلك ، الرومانسية . إنّ عبد الحليم حافظ الآن في دور " صلاح " ، الطالب الجامعيّ ، المرح ، الذي يلتقي بـ " سميحة " ، زميلته على مقاعد الدراسة ( لبنى عبد العزيز ) ، ويهيم بها بشدة ؛ حدّ أنه يتجرأ على الذهاب إلى أهلها لخطبتها . يسخر هؤلاء من الشاب ، وينصحونه بالتفرغ لإنهاء دراسته . إلا أنّ أهل الحبيبة ، أنفسهم ، ما يلبثون أن يكسروا قلب الشاب ، حينما يزوجونها لطبيب ناجح . تمضي القصة في أجواء رومانسية ، معتادة ، فيلتقي " صلاح " بعد أعوام ، مع حبيبته تلك ، ليعلم بأنها زوجة للطبيب ذاته ، الذي ينقذ إمرأته من ولادةٍ عسرة ! هنا أيضاً ، في هذا الفيلم ، وجدَ الجمهورُ أجزاءً اخرى من الأسطورة " الحليمية " : روّج أهلُ الصحافة ، المشغولون بالإثارة ، حكاية ( الحبّ الأول ) لفنان الشعب ، المحبوب ، والأكثر شهرة ؛ وأنه كان قد عشق في صباه فتاة ـ إسمُها كذا ـ أضحت من نصيب غيره .. الخ . لقد ضافرَ من تأثير هذه القصة ، المختلقة على الأرجح ، أنّ " صلاح " ، بطل فيلم " الوسادة الخالية " ، كان مريضاً بعلة في معدته ؛ مما أوجبَ ذلك الإحالة إلى البلهارسيا ، مرض عبد الحليم حافظ ، الحقيقيّ المأسويّ . ما من ريبٍ ، أنّ فناننا عرفَ الحبّ ، كغيره من بني البشر . إلا أنّ معلوماتٍ عن حياته الشخصية ، موثقة ، لم تصلنا بعد ، رغم العقود الثلاثة ، المنقضية على رحيله . وفي الفترة الأخيرة ، جرى التطرق إعلامياً عن علاقة زواج ، عرفية ، كانت قد ربطت حليم بسعاد حسني في سنوات الستينات . هذه الأخيرة ، للمفارقة ، لعبت دوراً سينمائياً ، وحيداً ، مع العندليب ؛ في فيلم " البنات والصيف " ـ كشقيقةٍ له ! لكأنما تلك العلاقة ، المزعومة ، بين الفنانيْن الخالديْن ، هيَ تتمة للأسطورة المرتبطة بسيرتيْهما ، سواءً بسواء . وبكل الأحوال ، فإنّ الإشاعات عن عشق هذه الممثلة وتلك ، وجدتْ لها دوماً مكاناً أثيراً لدى جمهور عبد الحليم حافظ . ربما أنّ إسم نادية لطفي ، النجمة الجميلة ، كان الأكثر تداولاً بهذا الخصوص ؛ هيَ التي لعبتْ مع حليم بطولة أهم أفلامه ؛ " الخطايا " و " أبي فوق الشجرة " . الفيلم الأخير ذاكَ ، المنتج عام 1969 ، كان قد إختتم حياة العندليب ، السينمائية . إنه أيضاً عن قصة لإحسان عبد القدوس ، بالعنوان نفسه ، أخرجها حسين كمال . إنها قصة حبّ ، عارم ، بين طالب جامعيّ وراقصة في ملهى . وعنوان القصة ، مستلهمٌ من أسطورة حواء والشجرة المحرّمة ، حيث الأب هنا ( عماد حمدي ) ، يقع في غواية الراقصة نفسها ؛ هوَ من سعى إليها لكي يحاول إقناعها بترك إبنه ذاكَ ، الطالب الجامعيّ ، والذي كان خطيباً لزميلة شابة ( ميرفت أمين ) . كان مما له مغزاه ، من ناحية اخرى ، أن يُسجّل " أبي فوق الشجرة " أعلى إيراد في تاريخ السينما المصرية : لقد كان فيلمَ النجوم ، حقا ؛ فيلمَ الإثارة أيضاً ، بما ذخر به من مشاهد غرامية ، لاهبة ، على مدى مدة عرضه التي تقارب الساعتين ونصف الساعة : وإذا علمنا أنّ إحدى الفضائيات الخليجية ، قد عرضت الفيلم نفسه في نصف ساعة فقط ـ بسبب مقصلة الرقابة ـ لأدركنا خراقة تلك القصة المختلقة ، عن جسد حليم ، المطهّر ، الذي لم يتحلل بعد بيولوجياً إثر مرور ثلاثين سنة على رحيله ! هكذا ، شاءَ قدرُ فناننا العظيم أن تنتقل سيرته من مراتب الأسطورة إلى مدارج الخرافة ، ما دام زمن الإنحدار ، حالياً ، قد شمل السينما المصرية بسجوفه السميكة ، القاتمة .
[email protected]
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كنتُ رئيساً للكتاب العرب
-
السينما المصريّة وصناعة الأوهام
-
شاعر الملايين : ثلاثة مرشحين للجائزة
-
كمال جنبلاط والتراجيديا الكردية
-
من معالم السينما المصرية : نهر الحب
-
نائبان ومجزرتان
-
نائبان وجزرتان
-
ثلاثة أيام بصحبة الحسناوي
-
العائشتان : شاعرتان صوفيّتان بين دمشق والقاهرة 2 / 2
-
حكايتي مع الحجاب
-
صورة وبقرة وقمر
-
كلمتان أمامَ ضريح الحريري
-
أمّ كلثوم ، مُطهَّرة أمْ مَحظيّة ؟
-
العائشتان : شاعرتان صوفيّتان بين دمشق والقاهرة 1 / 2
-
دايلُ القاريء إلى القتلة / 1
-
دليلُ القاريء إلى القتلة / 1
-
الكوكبُ والشّهاب : أمّ كلثوم في حكايَة كرديّة
-
النغمُ والمشهَد : زمنُ السينما الرومانسيّة
-
تاريخٌ تركيّ ، بلا عِبْرة
-
شيطانُ بازوليني 2 / 2
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|