|
جديد كين لوتش، فيلم "قصص من السكة" حيث يكمن الالم يكمن الامل
اوريت سودري
الحوار المتمدن-العدد: 60 - 2002 / 2 / 10 - 10:29
المحور:
الادب والفن
تحديدا في الايام التي يعصف بها الركود والازمة الاقتصادية، يتم عرض الفيلم الجديد للمخرج البريطاني التقدمي كين لوتش. الفيلم "قصص من السكة" (الذي كما يبدو لن يعرض في قاعات السينما المجاورة لاماكن سكناكم) يعيدنا الى عام 1995: العام الذي كانت العولمة لا تزال تحتفل فيه بانتصارها على التاريخ، وكان "اقتصاد السوق الحرة" يضرب بقواعد العمل المنظم، ورأس المال العالمي يصول ويجول دون ان تعترض اية حدود طريقه. الالهام لصنع هذا الفيلم جاء من قصة حقيقية. السيناريو وضعه روب دوفر الذي عمل في شركة القطارات البريطانية "Railtrack" وكان عضوا في نقابة عمال القطارات. اثناء عمله تعرض دوفر لاشعاع مادة الاسبست السامة الموجودة في سكة الحديد وكنتيجة لذلك اصيب بمرض السرطان وتوفي في شباط (فبراير) عام 2001. نجح دوفر في رؤية الصيغة النهائية للفيلم. يتناول الفيلم عملية الخصخصة من خلال متابعة مصير خمسة عمال في شركة لصيانة سكك الحديد. تدخل حياة هؤلاء العمال الى منعطف حاد بعد ان يبلَّغوا بان الشركة نُقلت لاياد خاصة، الامر الذي ينعكس في تغيير سلبي في ظروف عملهم وفقدان الامتيازات التي حققوها بعد نضالات ومفاوضات نقابية طويلة. في البداية يتعامل العمال مع هذا التغيير كما لو انه مزاحا باردا ومهينا، ولكن سرعان ما يتبين لهم ان الخيارات امامهم ليست كثيرة: اما ان يتلقوا تعويضات الفصل المبكرة، واما ان يوافقوا على العمل بالشروط التي تمليها الادارة الجديدة. وبما ان العمال المهنيين وذوي الخبرة يعتبرون مكلفين، فان الشركات الخاصة تفضل تشغيلهم من خلال شركات الطاقة البشرية، والتخلص بذلك من المسؤولية عن رفاهيتهم. حقوق مثل "الاجازات" او "المواصلات" تتحول الى جزء من ماض بعيد. في الظروف الجديدة يصبح على العمال ان يصلوا بقواهم الذاتية واموالهم الخاصة الى اماكن عملهم. حتى عامل النظافة يرغَم على التحول الى "مقاول نظافة"، وهو لقب يعطيه "امتياز" شراء المكنسة ودلو المسح من ماله الخاص. ايام العمل لمدى الحياة، ولّت وانتهت. عمال السكة الذين تعرفنا اليهم في بداية الفيلم كفريق واحد، يتفرقون بين شركات جديدة ويعملون من خلال مقاولين. ورغم ان اجرهم يتضاعف في الشركات الخاصة، الا ان طبيعة العمل المؤقت، تفقِد حياتهم الاستقرار. تفكك النقابات لا يقوي العمال الذين يقفون عاجزين ازاء سياسة التشغيل والفصل المتوالي. في احد المشاهد يتوجه احد العمال المفصولين الى شركة الطاقة البشرية، ويسألها لماذا لا توجهه الى مكان عمل رغم ان العمل متوفر بكثرة. بعد اصرار طويل تجيب الموظفة ان المقاولين اعطوا تعليماتهم لشركة الطاقة البشرية بعدم تشغيله لانه يسبب لهم "وجع رأس". المشكلة التي سببها هذا العامل وادت لفصله، كانت اصراره على ان يقوم احد العمال بدور مراقبة مرور القطارات كاجراء وقائي لحماية امن العمال، كما كانت العادة في الشركة قبل خصخصتها. ولكن هذا بالنسبة للمقاول الذي فاز بالمناقصة لانه كان الارخص والاقل نفقات بالنسبة للشركة، كان يعني توظيف عامل اضافي لهذه المهمة وزيادة النفقات. فهم العامل الاشارة. وازاء همومه الشخصية وضغط النفقات اليومية، قرر ان يتنازل. وعاد الى العمل. وكانت المصيبة. العمال الذين كانوا في بداية الفيلم يدا واحدة متعاونة ومنسجمة ومرحة، تحولوا بفعل الوضع الجديد الى افراد يهتم كل منهم بمصالحه الخاصة وبالحفاظ على مكان عمله حتى لو كان هذا يعني ضرب مصالح، وحياة، الآخر. في الليلة التي خرج فيها اربعة فقط للعمل في الليل الحالك دون اضاءة كافية، ودون ان يقف أي عامل لمراقبة الخطر القادم والتحذير منه، اصيب احد العمال بجراح خطيرة جراء اصطدامه بالقطار. اجراءات الوقاية التي يعرفها جميعهم تمنع تحريك المصاب الى حين قدوم الفريق العلاجي. ولكن اذا وصل الاسعاف وتبين ان العامل اصيب بسبب اهمال المقاول فسيعني هذا نهاية المقاول الذي استهتر بقوانين الوقاية. ولكنه سيعني ايضا نهاية العمال الذين سيفقدون مكان عملهم. ذروة الفيلم في النقاش الذي يدور لدقائق عصيبة وطويلة بين اثنين من العمال وبين العامل الذي كان قد طرد في الماضي من عمله لخوفه من عاقبة كهذه. في النقاش يصر العامل الاخير بالذات الذي يخشى طرده من العمل، على نقل صاحبهم الى مكان بعيد عن سكة الحديد والادعاء بان الاصابة نجمت عن حادث سير. وتأتي الموافقة، ويأتي الاسعاف. وفي اليوم التالي تخرج الجنازة. ويتكتم الجميع على السر، وعلى الجريمة التي دفعهم اليها النظام الرأسمالي العنيف الذي قضى على قيم التضامن بين العمال من اجل تحقيق حلم الاقتصاد الجديد.
لوتش سينمائي الطبقة العاملة
فيلم "قصص من السكة" الذي تدور احداثه عام 1995، يصف نهاية العملية التي بدأت مطلع الثمانينات مع تولي مارغريت تاتشر الحكم في بريطانيا. "المرأة الفولاذية" قررت القضاء على دولة الرفاه ومهدت الطريق للخصخصة التي اصبحت اليوم امرا واقعا. ولم تمر المشاريع التاتشرية دون معارضة. فقد خرج العمال للشوارع واضربوا وتظاهروا ضد اغلاق المصانع بالجملة. ولكن مع ذلك، ارتفع عدد العاطلين عن العمل خلال سنة واحدة من نصف مليون الى ثلاثة ملايين. شبكة القطارات في بريطانيا منقسمة بين مئة شركة. هذه الشركات غير ملزمة باعطاء تقارير لاي جهة عليا مسؤولة. عدد العمال الاجمالي انخفض من 159 الفا عام 1992، قبل الخصخصة، الى 92 الفا فقط عام 1997. عدد العمال المسؤولين عن صيانة السكك انخفض من 31 الفا الى 15 الفا. رغم كل التقليصات، تعتبر القطارات البريطانية الاغلى في العالم، واكثر الشركات المكروهة في بريطانيا. وفي الواقع، فان مجال القطارات يجد نفسه في ازمة لان البنية التحتية والسكك الحديدية ليست على المستوى المطلوب جراء الاهمال او "التقليص في النفقات". كين لوتش الذي فهم خطورة المرحلة رد بتغيير في توجهه السينمائي. من الافلام الروائية التي يستغرق تصويرها مدة زمنية طويلة، انتقل لصنع افلام وثائقية تستغرق اياما معدودة. واختار لوتش الانضمام للنضال السياسي ولحركة العمال في بريطانيا. من اشهر افلامه "في أي خندق انت؟" (Which side are you on?) من عام 1985، الذي يوثق فيه الاضراب الكبير لعمال المناجم في شمال انجلترا والمواجهات بينهم وبين الشرطة. في افلامه يحطم لوتش الاسطورة التي بشر بها انبياء العولمة، والتي تقول ان الطبقة العاملة ذابت واختفت. في كتابه "لوتش عن لوتش" يقول المخرج البريطاني: "الدعاية الحديثة تروج الى ان المجتمع الطبقي انتهى، واننا جميعا ابناء نفس الطبقة واصحاب نفس المصالح. ولذلك، فمن مصلحتنا، جميعا، ان تزدهر الصناعة لاننا، جميعا، سنستفيد من الثروة التي تنتجها. انا اعتقد ان هذا المفهوم خاطئ من اساسه. والحقيقة ان هناك مصالح متضاربة ومتعارضة وسيستمر الصراع بين اصحابها حتى يحدث تغيير جوهري". ولكن لوتش يعتبر شاذا عن القاعدة في سينما التسعينات في الغرب التي تركز على حياة واحلام واوهام الطبقة الوسطى. لوتش يواصل منذ 40 عاما متابعة وضع الطبقة العاملة في بلاده. الصورة الاجتماعية الصعبة ينقلها من خلال قصص العاطلين عن العمل وعديمي المسكن وربات البيوت الذين يواجهون الابواب الموصدة، دون عنوان ودون امل. الباب المغلق هو رمز شائع في افلامه. في "قصص من السكة" يفصل الباب بين احد العمال وبين طفلتيه بعد ان تغلقه في وجهه مطلّقته، وتبقيه في الخارج مع باقة ورد. يحاول العامل اقناعها بان تفتح الباب وتستلم الباقة منه، ولكنها ترفض وتطلب منه ان يدخل الباقة من الشق الضيق المعدّ لادخال الرسائل، فيتناثر الورد ويتمزق. افلام لوتش ليست افلاما انسانية تهدف لمساعدة هذا القطاع الاجتماعي او ذاك، بل تسعى لنقل صورة عامة لمجتمع يعاني كله من الازمة. تحسينات شكلية، كتوسيع شق الرسائل في الباب، لن تفيد. الباب المغلق يجب ان يفتَح. رغم الواقع الاليم الذي يصوّره، ليست افلام لوتش كئيبة. انه يفتح لك المجال للتأمل وايجاد مفتاح الحل في نفس الموضع الذي تكمن فيه المشكلة. انه يكمن في ابطال "قصص من السكة" الذين يشكلون جزءا من الطبقة التي لم تختف رغم كل الادعاءات. بازيائهم ذات الالوان الفاقعة يخرجون في الفجر الى العمل، ويخرج معهم في اماكن اخرى عمال البناء وعمال الهواتف وعمال النظافة في المكاتب ومبرمجي الكومبيوتر، ويقف الى يمينهم ويدعمهم تقليد عمالي عريق ونضالات نقابية تاريخية. واذا كان الفيلم يصوّر الاحباط الذي ميز الطبقة العاملة اواسط التسعينات، فان الوضع اليوم اختلف. ان الازدهار الذي حققه الاقتصاد الحديث اصبح جزءا من الماضي. الولايات المتحدة والدول الاوروبية تعاني منذ عدة سنوات ركودا اقتصاديا يزداد عمقا مع تفاقم الازمات الاقتصادية. ازاء الايديولوجية المتسرعة والانانية للرأسماليين قامت الحركة ضد العولمة، تحديدا في المراكز الصناعية الكبيرة. من خلال ابطال فيلمه "قصص من السكة" يوجه لوتش انظارنا الى هذه المراكز الصناعية. في هذه المواقع تكمن الطاقة للتغيير الثوري العالمي في موازين القوى الطبقية. عندما تقفز القوى الجديدة على قطار التغيير الثوري، سينطلق لوتش وراءها بكاميراته ليوثّق نضالاتها على السكة التي ستقود لبناء المجتمع المتساوي.
الصبار 149
#اوريت_سودري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
-
صحفي إيرلندي: الصواريخ تحدثت بالفعل ولكن باللغة الروسية
-
إرجاء محاكمة ترامب في تهم صمت الممثلة الإباحية إلى أجل غير م
...
-
مصر.. حبس فنانة سابقة شهرين وتغريمها ألف جنيه
-
خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع
...
-
كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|