أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامي الشّيخ - الإصلاح البروتستانتي من المفهوم إلى الشّموليّة















المزيد.....


الإصلاح البروتستانتي من المفهوم إلى الشّموليّة


سامي الشّيخ

الحوار المتمدن-العدد: 562 - 2003 / 8 / 13 - 02:07
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


 ـــ د. سامي الشّيخ
ما الإصلاح؟ ما أنماطه؟ ما العلاقة بين الإصلاح الدّيني البروتستانتي بزعامة (مارتن لوثر) و(جون كالفن) وتلك الأنماط؟.‏
الإصلاح مفهوماً:‏
الإصلاح من حيث هو مفهوم نظرة تستهدف صياغة علاقة الإنسان بعالمه المادي والروحي، صياغة متوازنة، على أساس المواءَمة بين احتياجات الفرد والمجتمع من ناحية، وروح العصر ومتطلباته من ناحية ثانية. والإصلاح بوصفه ممارسة نتيجة طبيعية للتناقضات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأخلاقية والدينية وتصارعها تصارعاً يفضي إلى إعاقة النمو والتقدم وتحطيم صورة الإنسان والواقع تحطيماً ينجم عنه خلق حالة من الاستلاب والعطالة.‏
من هنا يجيء الإصلاح بوصفه عملية علاجية طارئة، تستهدف تخليص المجتمع من التطاحن والتآكل والحيلولة دون انتشارهما، وتجاوز الأخطاء والعيوب والعبث والممارسات اللاعقلانية المختلفة. وعليه فالإصلاح بوصفه نشاطاً إنسانياً، يتجه في مبدئه لتخطي جميع معوقات التقدم والتنمية، وتجاوز حالة الركود والانهيار في ميادين الحياة المختلفة بحدود معينة.‏
والإصلاح وإن كان هدفه إحداث تغيير في الواقع، إلاّ أنه ليس تغييراً جذرياً وشاملاً.‏
أي ليس تغييراً ثورياً بالمعنى الحرفي للكلمة، نظراً لاختلاف النظرتين الإصلاحية والثورية للتغيير، والأدوات المستخدمة في تحقيق ذلك، فإذا كانت الثورة تعني تغييراً جذرياً وشاملاً، في مناحي الحياة كافة باستخدام جميع الأساليب والأدوات والوسائل بما فيها العنف لتحقيق غاية التغيير وإحلال نظام جديد محل نظام بائد، مع انعدام أي إمكانية للتعايش بينهما، فإن الإصلاح يرمي إلى إيجاد نوع من العلاقة بين القديم والجديد والتعايش بينهما على نحو يتيح للجديد إمكانية الإفصاح عن ذاته. بلغة أخرى يهدف الإصلاح إلى إيجاد نوع من المواءَمَة والتوازن بين مختلف الفئات الاجتماعية الحاكمة والمحكومة، الثّرية والفقيرة، المؤمنة بمذهب معين وغير المؤمنة به، وبين القيم التقليدية والقيم الجديدة. وعليه فأساليب الإصلاح وأدواته ووسائله تختلف نوعياً عن أساليب الثورة وأدواتها ووسائلها. لهذا لا تقوم فكرة الإصلاح على النّفي والسّلب، وإنما على التعايش، في حين تقوم فكرة الثورة على النّفي والسّلب –بالمعنى الإيجابي القائم على نفي النفي -. من هنا فما يميز الإصلاح عن الثورة هو أنه مرحلة انتقال تدريجي وتحول بطيء بين مرحلتين، في حين أنّ الثورة ليست انتقالاً تدريجياً أو اتصالاً يربط بينهما، بل لحظة انتقال نوعي ومرحلة جديدة تحلّ محل سابقتها حلولاً كلياً ونوعياً بذاتها، بمعنى أنّ الإصلاح نشاط انتقالي بطيء طارئ ومؤقت وأكثر انحيازاً للمرحلة التي يحاول أن يصلحها، فهو مرتبط بالماضي ومن الماضي يتخذ قاعدة له. في حين أ نّ الثورة تحوّل جذري سريع وفاعل يتجه نحو المستقبل وينكر الماضي الذي يحاول الإصلاح أن يصلحه.‏
لذا كان الزمن الذي يستغرقه الإصلاح أطول من الزمن الذي تستغرقه الثورة، آخذين بعين الاعتبار أثر العوامل الذّاتية والموضوعية في تحديد شكل حركة التّغيير بين أن تكون إصلاحية أو ثورية، وفي هذا السياق يمكن الحديث عن حركة الإصلاح الديني الأوروبي البروتستانتي في القرن السادس بزعامة (لوثر) و(كالفن) –أبرز زعيمين لها –وتحديد علاقتها بأنماط الإصلاح الأخرى، كالإصلاح السياسي والاقتصادي، والاجتماعي، والأخلاقي، وأثر ذلك على مفهوم الإنسان بوصفه –أي إنسان –الهدف النهائي والأخير من وراء القيام بأي إصلاح مهما كان نوعه.‏
لقد حَتّمت جملة من العوامل والظروف الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية المعقّدة ولادة حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، وإن جاءت هذه الولادة مترافقة مع ظهور حركات ثورية تقاطعت معها وافترقت عنها، إزاء كثير من القضايا.‏
على أية حال تكمن أهمية الإصلاح الديني في كونه يشكل أحد الأسباب البارزة للانتقال من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، وتحوّل من الحقبة الإقطاعية إلى الحقبة الرأسمالية، ففي المرحلة السّابقة على الإصلاح كان الإنسان خاضعاً لسلطة الكنيسة خضوعاً تاماً أو شبه تام فتمكّن الإصلاح الديني من تحريره بصورة كبيرة وغير نهائية من السيطرة المزدوجة للكنيسة ورجال الحكم المدني، وحقق لـه كسباً في كثير من الميادين كان أبرزها الحرية والفردية بوصفهما مقدّمتين ضروريتين للديمقراطية التي حَمَلها وبشّر بها العصر الحديث، عصر الرأسمالية والتنوير في أوروبا لاحقاً. فلقد أُطلقت حرية العبادة وأضحت تتّسم بطابع فردي يتمثّل في جعل العلاقة مباشرة بين الإنسان وربّه (كما هو الحال عند لوثر) وأصبحت سلطة الضمير الفردية تحل محل سلطة الكنيسة والبابا، والميل بالإنسان نحو الدنيويات، من خلال جعل الدين أمراً شخصياً وخاضعاً لضوابط أخلاقية محدّدة، وإطلاق حرية العمل الفردي، ومراكمة الثروة، وحماية الملكية الشخصية، والتشجيع على الاستثمار في ميدان الصناعة والتجارة إلى جانب ظهور المراكز التجاريّة والصّناعيّة الكبرى في العديد من المدن والولايات الأوروبية، والدعوة إلى قيام علاقة متوازنة بين الحاكم والمحكوم وعلاقة الفرد بالدولة. وبعبارة أخرى، أحدث الإصلاح الديني نقلة حقيقة في حياة الفرد والمجتمع من حالة الهيمنة الكنسيّة باسم الدّين إلى حالة انعتاق الفرد نسبياً من تلك الهيمنة باسم الإصلاح، وإعادة الاعتبار إلى الإنسان بوصفه كائنا إنسانياً وروحياً ينبغي أن يكون حرّاً من الناحية العَقَدية والروحية، ولا يخضع لسلطة أحد إلاّ الله، ولا لمراقبة أحدٍ إلا الضمير، على الرغم من احتفاظ (كالفن) بمراقبة رجال الدين البروتستانت السلوك الأخلاقي للقاطنين في الحي. على أية حال، لقد حلّت سلطة الإنسان الفرد إلى جانب سلطة الكنيسة بوصفها سلطة دينية ودنيوية في تسيير شؤون حياته المختلفة، بعد أن كانت مختزلة في سلطة واحدة هي سلطة الكنيسة والبابا، الأمر الذي مهّد السبيل للانتقال إلى الحقبة الرأسمالية الحديثة، التي لم تعد فيها السلطة المزدوجة للإنسان والكنيسة قادرة على تلبية احتياجات العصر ومتطلباته، بفعل التغّيرات الهائلة في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية، والتي لم يعد من الممكن معها استمرار علاقة الإنسان بالدين والأخلاق والسياسة على النحو السابق أمراً مقبولاً، فقد جنحت المجتمعات الأوروبية الحديثة إلى فصل علاقة الدّين بالدّولة وبمجالات الحياة المختلفة في الاقتصاد والسياسة والمجتمع والثقافة والأخلاق، فأصبحت السلطة الوحيدة هي سلطة الإنسان العاقل، وليست سلطة الدين ومؤسّساته الروحية، فانتقل الإنسان من حالة الانعتاق الجزئي والنّسبي التي حققها الإصلاح الديني، إلى حالة الانعتاق الكلي والشامل التي بات بموجبها مركزاً للكون، دون شريك أو منازع، الّتي لم يكن من الممكن الوصول إليها لولا الإنجاز الهائل والكبير الذي تحقق على يد دعاة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، وإذاً يمكننا القول: أنّ واحداً من أهم إنجازات الإصلاح الديني، الانتقال بالإنسان من سلطة كنسيّة دينية بابوية أحدية. كان الإنسان عنصراً منفعلاَ فيها، إلى سلطة مزدوجة دينية ومدنية أصبح فيها الإنسان طرف فاعلاً، الامر الذي جعل انتقال الإنسان من سلطة الشّراكة مع المؤسسة المسيحية إلى سلطة مدنية علمانية أمراً ممكناً في العصر الرأسمالي الحديث.‏
هكذا اتخذت علاقة الإنسان بالسّلطة أشكالاً ثلاثة، الأول: علاقة خضوع، والثاني علاقة شراكه، والثالث علاقة سيادة، هذه هي صورة الإنسان الأوروبي قبل الإصلاح وأثناءه وبعده. من هنا فالمصلح الديني شرع في صياغة نظرة جديدة عن الإنسان والعالم والله، على أساس المبادئ الدينية والأخلاقية الواردة في الكتاب المقدّس، اعتقاداً منه بأنّ الكتاب المقدس يصلح أن يكون دستوراً للدين والدنيا. وعليه فقد امتد الإصلاح إلى ميادين الدين والسياسة، والمجتمع والاقتصاد والأخلاق فاتخذ شكل إصلاح ديني، سياسي، اجتماعي، اقتصادي، وأخلاقي.‏
بمعنى أنّ الإصلاح الديني حتى يكتمل لا بد أن يواكبه إصلاح في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، لعلّة التّرابط الحاصل بينها، فالفرد بوصفه كائناً سياسياً اجتماعياً، ينبغي تحريره من القيود التي تحد من فرديته وحريته، وهو ما يستدعي إطلاق طاقاته ومواهبه، ومنحه الفرصة الكافية للتعبير عن ذاته، والإسهام في عملية البناء السياسي والاجتماعي بحرية، من خلال إقامة علاقات متوازنة بين الفرد والحاكم والمجتمع، قائمة على أساس الحق والواجب والاحترام المتبادل وهو ما لا يمكن أن يتحقق من غير توفّر مجموعة من الشروط كالديمقراطية والحرية والسيادة الفردية على الذات، فالفرد بوصفه كائناً متديّناً، ينبغي تحريره من سلطة رجال الدّين والكنيسة على نحو يتيح له ممارسة نشاطه التعّبدي بشكل فردي وحر من سلطة الطقوس الدّينية الشكلية، وجعل حضور المراسم والقدّاسات الدينية بشكل اختياري وطوعي، والتركيز على البعد التّقوي الداخلي فيه والذي لا سلطان لأحد عليه سوى الله والضمير - كما أسلفنا -، بمعنى آخر يتعين على الفرد المؤمن أن يكون إيمانه إيماناً فردياً خالصاً نابعاً من ذاته، وليس من سلطة خارجية، إذ ليس بوسع أحد معرفة حقيقة إيمان أي شخص إلا الشخص نفسه. من هنا ينبغي أن تكون سلطة البابا ورجال الدين سلطة شكليّة في تقرير إيمان الفرد والحكم عليه، فضمائر المؤمنين لا أحد يطلع عليها إلا الله، وعليه فالعلاقة بين المرء وربّه ينبغي أن تكون علاقة مباشرة لا يتوسّطها كاهن، كذلك قبول التوبة وغفران الذنوب والخطايا لا يمكن تفويض أحد من البشر القيام به نيابة عن الله، فالله وحده غافر الذنوب ولا يعطي سلطانه لأحد من الناس على وجه الأرض، مما يعني استحالة معرفة التّائبين الحقيقيين عن خطاياهم من غير التّائبين، بمعنى أخر ينبغي تحرير الفرد من سلطة الإدّعاء بمنح الغفران ومحو الذنوب من جانب رجل الدين، والتقليل من شأن الاعتراف أمام الكاهن، والنظر إليه من زاويةٍ أدبيةٍ خالصة، وإنكار خلاص النفوس بواسطة الأعمال والطقوس المختلفة، وربطه بقضيتي الإيمان والعماد "فمن آمن واعتمد يخلص ومن لم يؤمن يدان".‏
كذلك نَبْذ العنف والدعوة إلى التسامح بين الناس حتى مع الهراطقة الذين يمتلكون آراء دينية مخالفة، والرّد عليهم بواسطة الحوار كما هو الحال عند (لوثر)، الأمر الذي أفسح المجال لظهور أفكار متعددة ومتعارضة. والسؤال: ما هو السبب الكامن والجوهري في جعل الإصلاح الديني بزعامة (لوثر) و(كالفن) إصلاحاً شاملاً؟‏
إن عدم اقتصار نشاط المصلح الديني على إصلاح المؤسسة الكنسية والممارسات الدينية، واتجاهه نحو إصلاح الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية ناتج عن العلاقة القائمة بين ما هو ديني ودنيوي، فإذا كان تصويب علاقة الإنسان بربّه مطلباً إصلاحياً، فإن تصحيح علاقة الإنسان بالإنسان وبمحيطه الاجتماعي والبيئي مطلب إصلاحي أيضاً، انسجاماً مع النّصوص الواردة في الكتاب المقدس، فالكتاب المقدس ينصّ في كثير من تعاليمه على ضرورة تقويم العلاقات الاجتماعية والمعاملات الاقتصادية وتنظيم الحياة الأخلاقية بين الناس.‏
ففي الحياة السياسية وما يتّصل بعلاقة الحاكم بالمحكوم والمحكوم بالحاكم، وفي المعاملات الاقتصادية وما يتصل بالثروة والإقراض والاستغلال، والملكية والعمل، وفي الحياة الاجتماعية وما تنطوي عليه من علاقة الإنسان بأخيه الإنسان ومن إبرازٍ لقيمة الحياة، وللروح الجماعية والعلاقات الأسرية ونبذ العادات السيئة، ثم الدعوة إلى السّلم الاجتماعي مقابل النهي عن الاختصام وإلحاق الأذى بالآخرين، وفي الحياة الأخلاقية وما يتّصل بها من دعوة لامتلاك الفضيلة واجتناب الرذيلة، مثل الحضّ على العفّة والطّهارة والشّرف، والصّدق والأمانة، والاتّضاح، والتسامح، وبرّ الوالدين، وتهذيب النفس، والكرامة، مقابل اجتناب الفسوق والزنا، والكذب، والكبر، والعقوق، والإغراق في الشهوة وغيرها، مسائل حظيت باهتمام الكتاب المقدس، الأمر الذي جعل المصلح الديني يلتفت إليها بصورة كبيرة من الناحية العملية.‏
أنماط الإصلاح الديني البروتستانتي:‏
النمط الديني للإصلاح:‏
شهدت الأوضاع الدينية مستويات من الفساد والتراجع والتخلف بفعل التشريعات الكنسية الخاطئة، وممارسات رجال الدين التي تتناقض في جانب كبير منها مع الروح الحقيقية للعقيدة المسيحية. فقد استُغِلَّ الدين بيد الطبقات الحاكمة كغطاء لتبرير ممارساتها وخدمة لمصالحها، الأمر الذي نجم عنه إفراغ الدّين من محتواه الروحي والأخلاقي والإنساني، وتحويله إلى أداة للاستثمار وجني للأموال، وانتهاك كرامة الإنسان يجعله عبداً وخادماً ومملوكاً للسيد ومطيعاً للكاهن، الأمر الذي ولّد شعوراً عارماً بضرورة التخلص من عسف الكنيسة والحاجة إلى إصلاحها إصلاحاً يعيد لها نقاءها وصفاءها ومحبة الناس لها، إصلاحاً يصبح بموجبه البابا والكهنة خَدَمَاً حقيقيين للدّين والرّعية، فصورة رجل الدين الجشع، الغارق في ممارسات شاذة، المستبّد على الناس، استدعت ضرورة استبدالها بصورة رجل الدّين الورع الذي يكون متواضعاً شريفاً طاهر الذيل، يتخذ من الكتاب المقدس أنموذجاً يحتذى به، وليس من التشريعات الكنسيّة والبابوية التي لا يمكن المساواة بينها وبين الكتاب المقدس بحال من الأحوال.‏
بمعنى أدقّ، أصبحت الحاجة ملحّة لإجراء إصلاح ديني عام وشامل، لتنقية العقيدة من الشوائب التي أَلمّت بها بالعودة إلى أصولها الحقيقية، وجعلها قائمة على خدمة الإنسان بوصفه "صورة الله على الأرض" اعتقاداً من المصلح الديني بأنّ الضمانة الحقيقة لنقاء الدّين، أن يظلّ أمراً إلهياً دون تدخل للإنسان فيه، لأنّ الإنسان خاطئٌ بطبيعته، فحريٌّ به ألاّ يجتهد في النص الديني بما يتعارض من روح النص حتى لا يفسده ويفرغه من محتواه، بمعنى أنه يتعيّن على الإنسان أن يتّبع الدّين لا أن يضيف إليه أو يغير به خشية إفساده، وإنما الخضوع التام لمقاصده الروحية والإنسانية والأخلاقية السّامية.‏
من هنا لم يبتدع المصلح الديني ديناً جديداً، ولم يضف إلى العقيدة شيئاً وإنما دعا إلى العمل بها، في حين أنكر الإضافات والتشريعات والأوامر البابوية التي تتعارض معها، فأعلن أنّ البابا وكنيسته يحكمان بالتشريعات التي يصدرانها، ويضعان الكتاب المقدس جانباً، مما ألحق أشدّ الأذى بالعقيدة المسيحية ومؤسّساتها الروحية والزمنية.‏
النمط السياسي للإصلاح:‏
اتخذ النظام السياسي شكلاً استبدادياً قبل ولادة حركة الإصلاح الديني في القرن السادس عشر، مَثّلته الطبقة الحاكمة المتحالفة مع الأثرياء ورجال الدين، فانعدمت الديمقراطية واتُّبِعَ التّعيين في المناصب والوظائف السياسية والإدارية محلّ الانتخاب، واحتفظ الإمبراطور لنفسه بحقّ تعيين الولاة والأمراء والحكّام في المناصب الرّفيعة مقابل مبالغ تتناسب وأهمية المنصب، وتشكّلت المحاكم الخاصة بالطّبقة الأرستقراطية مقابل المحاكم العامة لباقي فئات الشعب، وأُنشئت محاكم التفتيش وأُنزلت أشد العقوبات بحق الأشخاص المنتقدين للنظام والمختلفين معه إلى حدّ الموت، فَغُيِّبت الديمقراطية، وعمّ الفساد والظّلم والاستغلال مختلف مناحي الحياة السياسية، ناهيك عن خضوع الولايات الأوروبية للسيطرة البابوبة في روما خضوعاً عمقّ الشعور بالاضطهاد المزدوج للإنسان العادي، آخذين بعين الاعتبار أنّ الخضوع السياسي لحكّام الأقاليم والولايات للبلاط البابوي الروماني صاحبه شعورٌ وميل للانعتاق، والاستقلال عن روما، بفعل الجشع المتزايد للبابا، ونهب خيرات البلاد وحرمانها منها، هذا الشعور –من جانب الأمراء والحكّام المحليين –دفع بالمصلحين الدّينيين إلى استثماره استثماراً نجم عنه تأييد الأمراء وعدم استبعادهم أو التقليل من دورهم في تحقيق مطلب الاستقلال القومي، والانعتاق من السّيطرة البابوية إلى جانب مطالبتهم بتحقيق قدر من العدل والإنصاف، واحترامهم للرّعية، في مقابل وقوف الشّعب وتأييده لهم، بمعنى أن المصلح الديني كان على وعي بالمخاطر التي تتهدّد الرعية في صناعات واستثمارات في بلدان أخرى مما يتسبب بوقوع أفدح الأضرار في اقتصاد البلاد المنتجة لها، ناهيك عن الإتاوات الضخمة التي يطالب الأمراء المحلّيون بتأديتها للبلاط البابوي في روما، مقابل إطلاق أيديهم داخل الولايات والأقاليم، بالإضافة إلى انتشار ظاهرة الرّبا والإقراض بفائدة، والمضاربة، والغش، والاحتكار، الأمر الذي نجم عنه وقوع الظلم والأذى على معظم الفئات الاجتماعية من جانب أصحاب رؤوس الأموال.‏
إنّ تردي الأحوال المعيشية لمعظم الناس، دفع البعض منهم للعمل أياماً وأسابيع وأشهر متواصلة دون أن ينالوا قسطا من الراحة الجسدية والنفسية وتسديد ما يترتب عليهم من التزامات مالية واستحقاقات معيشية –لهم ولأسرهم –الأمر الذي عمّق الحاجة إلى القيام بإصلاح اقتصادي عام وشامل، يحقّق توزيعاً عادلاً ومقبولاً للثروة بين أفراد المجتمع الواحد. ويفسح المجال أمام المنافسة الفردية، والاستثمار وتخفيف القيود المفروضة من جانب الأمراء والتّجار على عامة الناس، ورفض توريد الأموال المتواصل إلى روما وتهريب أموال البلاد خارج أراضيها، والدعوة إلى تمويل صناعات وطنية ضخمة، وتشجيع الاستثمار المحلي والوقوف في وجه السياسة الربوية، والجشع والاستغلال الذي يمارسه من يملك بحق من لا يملك، وحماية الملكية الخاصة والفردية وعدّها أمراً مقدساً، والحضّ على العمل ومراكمة الثروة، والدعوة إلى التقشف والاقتصاد في النفقات والاستهلاك، بمعنى آخر، أصبحت الحاجة للقيام بإصلاح اقتصادي عام وشامل مطلباً لدى غالبية أفراد المجتمعات الأوروبية في القرن السادس عشر، وهو ما يفسر وقوفهم إلى جانب الدعوات الإصلاحية، لكبار المصلحين الدينيين في مجتمعاتهم، كـ (لوثر) و(كالفن) و(زونجلي) وغيرهم، نظراً للمضامين الاقتصادية الأخلاقية والإنسانية في دعواهم.‏
النمط الاجتماعي للإصلاح:‏
أمّا الأوضاع الاجتماعية فشهدت تفككاً وانحلالاً وفساداً وتمايزاً بين أفراد المجتمع الواحد، وازدياداً في عدد الأفراد في الأسرة الواحدة بشكل لا يتناسب وإمكاناتها المعيشية، كذلك انتشر الطلاق وعادات لعب القمار والسكر والتبذّل في اللباس، حتى بات لكل طبقة زي تعرف به كماً أُسبِغَتَ الحماية على الرتبة والمنصب، وكَثُر البغاء نتيجة للفقر وغياب التربية الأسرية الصالحة، وارتفع عدد اللقطاء وانتشرت السرقة وجرائم القتل والاغتصاب والشعوذة والسحر واللامبالاة، وتعمّق الاحتقان الطبقي بين أفراد المجتمع إلى حدًّ بات ينذر بانفجار ثورة، واتباع العنف وسيلة في حل التناقضات القائمة بين الطبقات الاجتماعية المختلفة، بمعنى أدق ولّد الشعور بالاحتقار والمهانة وانتشار الفساد، حالة من التذمر الشديد وحافزاً لرجال الإصلاح في دعواهم، وفي الاحتجاج على ممارسات الطبقة الحاكمة المكوّنة من تحالف السياسيين والتجار ورجال الدين الموالين لروما. فبات الاعتقاد لدى فئات الشعب المضطهدة، بأنّ سبيل التغيير الاجتماعي هو الثورة فحسب، في حين وعي رجال الإصلاح بالمخاطر التي تتهدد الأفراد والمجتمع من جرّاء اللجوء إلى العنف، فجاءت دعواهم الإصلاحية حلاًّ لتجنّب سفك الدّماء، ومحاولةً لحلّ التناقضات الاجتماعيّة بين مختلف أفراد المجتمع باللجوء إلى الحوار، والإنجيل، وسنّ تشريعات تزيل الاحتقان والعداء والكراهية بين الناس، وتعميق مفهوم السّلم الاجتماعي الذي يكفل الهدوء والاستقرار ويتجاوز الهوّة السحيقة التي تفصل بين أبناء الطبقات المختلفة، فجاءت الدعوة للإصلاح حلاًّ وسطاً يبن الطبقات الاجتماعية المتناحرة، على الرغم من انفلات التناقضات وتصارعها، واندلاع ثورات الفلاحين وحركات الاحتجاج البروتستانتي التي ذهب ضحيتها الكثير من أبناء تلك المجتمعات التي اندلعت فيها، كألمانيا وسويسرا مثلاً.‏
من هنا لم يكن الإصلاح الديني حلاًّ جذرياً للمشكلات الطّاحنة في المجتمعات الأوروبية التي انتشر فيها، ولم يرق إلى مستوى تطلّعات ثورات الفلاحين وتمرّدهم وعصيانهم من ناحية، وإلى مستوى تطلّعات الأمراء ورجال الإكليروس وأصحاب رؤوس الأموال من ناحية أخرى، والدليل على ذلك تعرّض المصلحين الدينيين كـ (لوثر) و(كالفن) إلى هجومٍ عنيف وانتقادات لاذعة من جانب الأطراف الاجتماعية المتناحرة، نتيجة لعدم مناصرتهم لفئة على فئة، آخذين بعين الاعتبار، أنّ رسالة الإصلاح في جوهرها انصبّت على تحقيق مطلب الانفصال عن الإمبراطورية الرومانية المقدسة وبلاطها البابوي، وإقامة دول قومية مستقلة بالدّرجة الأولى –كما أسلفنا –الأمر الذي يتطلّب حشد جميع القوى الاجتماعيّة المتناقضة في صفٍّ واحدٍ وحلِّ الصراعات فيما بينها، بأساليب سلميّة لتحقيق هدف الانفصال عن روما من جهة، وعملاً بمبادئ الدين المسيحي الذي يدعو إلى نبذ العنف وسفك الدّماء، وتحقيق العدالة الاجتماعية وإرساء قيم المحبة والتسامح والخير من جهة أخرى، كذلك التركيز على دور الأسرة في التربية والتنشئة الصّالحة للأبناء وإدخالهم المدارس والجامعات باعتباره سبيلاً إلى التقدم والتنمية والاستقرار.‏
النمط الأخلاقي للإصلاح:‏
بلغت الأوضاع الأخلاقية حدّاً من الانحلال والفساد انعكس على مجمل الحياة الأخلاقية للمجتمعات الأوروبية، فانتشرت الرذيلة في معظم تلك المجتمعات بفعل عدّة عوامل أبرزها الفقر، والجهل والمرض والتّخلف، حتى أنّ حياة الدير لم تَسلم من حدوث بعض الانتهاكات الأخلاقية لقيم الفضيلة، مما تسبب في خلق تناقض شديد بين القيم الأخلاقية للحياة المسيحية، والممارسات الشاذة بين الأفراد، وهيمنة القيم اللاأخلاقية على المؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية وغيرها، فانتشرت ظواهر السرقة والفسوق والكذب، وأُفرغت الكرامة من محتواها على نطاق واسع، وساد النّهم والجشع والاستغلال وأصبح الإنسان سلعةً مقابل المال، الأمر الذي أثار حفيظة رجال الإصلاح الديني، فدعوا الأفراد للتمسّك بقيم الفضيلة ونبذ قيم الرذيلة وإعادة بناء الإنسان أخلاقياً، في ضوء الكتاب المقدس ومتطلبات العصر، ومواجهة الفساد والظواهر اللاأخلاقية المنتشرة بشتى الوسائل، حتى أن البعض دعى إلى إنزال أشد أنواع العقوبة قسوةً بالأشخاص الشّاذّين أخلاقياً، وشكّل مجلساً مصغراً يتكون من شخصيات دينية مشهود لها أخلاقياً لتنظيم الحياة الأخلاقية بين الناس.‏
بهذا المعنى جعل المصلح الدّيني رسالته تنصبّ على إصلاح شؤون الحياة المختلفة للإنسان، الدّينية والسّياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية، متّخذاً من إصلاح الدين مقدّمة نحو الإصلاح الشامل في باقي الميادين، بمعنى أن الإصلاح لم يَقصُر مهمّته على إصلاح المؤسّسة الدينية فحسب، بل تجاوزها ليشمل إصلاح الفرد والمجتمع على نطاق واسع.‏   
 



#سامي_الشّيخ (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
- “التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
- المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية ...
- بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول ...
- 40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
- المقاومة الاسلامية في لبنان تواصل إشتباكاتها مع جنود الاحتلا ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامي الشّيخ - الإصلاح البروتستانتي من المفهوم إلى الشّموليّة