|
اعترافات عاشق من زمن الرصاص
محمد المهدي السقال
الحوار المتمدن-العدد: 1863 - 2007 / 3 / 23 - 11:26
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة
إلى المبدعة هويدا صالح
بيد حملتْ رأسي المتعب ، و بأخرى أمسكت الزاوية اليسرى من الوسادة ، استغـرقـتْـني بنظراتٍ كئيبةٍ مثقلة تجر خلفها هموم سنين الجدب و الغياب ، لعلها مثلي أتعبها انتظار الفرج المستحيل ، يأتي راكباً ضوء الشمس الموعود في الذاكرة ، يعلن المؤذن عن صلاة الفجر ، بينما مقلتاها النديتان تصبان بسهام لحظيها سأم الوجود المتلاشي في أعماقي ، تقرأ في عيوني رغبة صمِّ سمعي عن اختراق مُكبِّـر الصوت سقفَ البيت ، لكنها لا تنبس بشيء ، تنشغل بتفادي الألم في بعض الجنبات السفلية من رأسي , لم تفلح بعد في ترويض رأسي للاستواء كما تريد ، كنتُ إذا شرع المؤذن في التهليل لصبح جديد، أدفن رأسي تحت اللحاف ، أشكو لها انزعاجي مما تحدثه في نفسي تموُّجات كلماته المبهمة ، فلا تزيد إلا على الدعاء لي بالهداية، أحيانا كنت أهمس لنفسي ، لعلي كنت أكون الآن أحسن، لو أنني استجبت لرغبتها في رؤيتي أمشي في الأسواق ، لا تحركني هذه الأساطير السياسية ، مازالت مترددة في تصديق ردتي عن الاعتقاد المطلق في " رأس المال " ، تلصصت على حديثها الهامس عنِّي مع جارتها ، أحرجتْها جارتها بالسؤال عن إقامتي للصلاة ، فاضطربتْ ، سمعتُ تَقَطُّعَ صوتها قبل المبادرة بالجواب : يُصلِّي في البيت ، واحتجَّتْ لها بما أعانيه مع المرض ، رغم أنه لم يكن قد تطوَّر إلى هذه الحالة ، أسندت رأسي إلى الجدار ، ظلَّتْ نظراتها مُسمَّرةً عليَّ ، قالت: في هذا الشتاء ، لم يعد أحد يجرؤ على الخروج لصلاة الفجر ، وتسكت شهرزاد عن الكلام في الحرام ، قبل أن تستدرك ، حتى أولئك المؤمنون بحق ، صاروا يفضلون إقامتها في بيوتهم ، أحسَّتْ أنني أريد مزيداً من الإيضاح ، يصيب زيغ مقلتيَّ بين خديها والنهدين شبه العاريين ، شيئا في داخلها الملتهب وسط جزيرة ثلجية : يسمعون عن عصابة " الحواشي" و سيوفها الجاهلية ، تصيب الأبرياء قبل المتهمين المحتملين، حتى المسجد المحاذي لقسم الشرطة في المدينة، لا يعمِّره أصحاب الفجر، يغمز بعض الشهود بما يغيظهم من الحياد السافر للمخزن ، فيسخرون من زمن حقوق الإنسان المقلوب ، أتذكر الشجار الذي انتهى بأحد الخضَّارين إلى حتفه ، رمى أحدهما الآخر بأثقل ما يزن به ، شرخ مؤخرة رأسه ، سقط الرجل كالجدار ، فار الدم ، جحظت عيناه ، ارتعش كالخروف الذبيح ، ثم همد , بينما كان رجلا أمن في الرصيف المقابل ، ينسحبان في غير هدوء ، اختفيا عن الأنظار تلاحقهما همهمات و غمغمات منكرة ، استرسلت " أمينة " : قال أحدهم : ليت الشباب كانوا يخرجون لاعتراض طريق السراة في دهاليز الوطن المحاصر بالظلام ، و زادت : الضعيف يأكل الضعيف , كما يأكل القوي الضعيف ، شدتني ألفاظها , تأملت وجهها المنشغل عني بإعداد كوب الدواء ، تتحدث إليّ وهي غير متأكدة من استجابتي لسماع حديثها عن هذا الزمن المقيت ، تبَّاً لهذا الأقراص التي لا فعل لها إلا في الهزيع الأخير من الليل ، أكرِّرُ في نفسي الدعاء على المرض ، فلا أتسمع أكثر من تنهيداتها التَّعْـبى ، تحاول ثالثة لاستواء صدري عموديا ، لا يعرف القرص طريقه إلى معدتي عبر دفع الماء ، إلا بإسناد رأسي إلى الجدار . مر الآن شهران على عودتي إلى البيت ، خاوي الوفاض من غير نياشين نصر كان موعودا في الصحف الحمراء ، طرقت الباب في منتصف ليلة العاشر من رمضان ، عام الغزو الثاني على العراق ، تماما كما تصور الأفلام لقطة اللقاء بعد طول فراق ، كادت " أمينة " أن تسقط واقفة ، لولا أنني ارتميت عليها بما تبقى لدي من قوة المحارب المهزوم ، حضنتُها إليّ ، أجهشتْ مشدودة بالاختناق ، ثم استسلمتْ بكل ثقلها على صدري الواهن يسبقها نهدان تركتهما تفاحتين في أول القطف ، شعرتْ بعيائي ، دلفنا إلى فناء باهت وهي تنظر خلفي، لعلها كانت تبحث عن حمل العائد بعد عشرة أعوام ، من منفى الكهوف المنسية بعيداً عن عيون نشرات الأخبار . شعرتُ برعشةٍ سرتْ في أوصالي المنهوكة، ثم برودةٍ تسللتْ كالماء بين لُزوجة البلَّور في كؤوس الخلفاء ، هل نطقت شفاهي ؟ لا أذكر، غير أني الآن أعي عجزي عن الكلام , أصرخ صامتا كأني أستغيث من غرقي في لج يتوزعه ضجيج الأشياء، فقط ، عيناي كانتا ترفَّان للإمساك بوجهها ، يسود صمت غريب ، لم تعد تتساءل عن احتباس الكلمات في حلقي ، لحظة ، بدت متطلعة لسماع صوتي بإشارات الأهداب ، ساعتها أنقذني تقدم خطوي نحو الداخل ، كان الصداع قد نال مني مأخذه ، لمحتُ في نظراتها استغراباً من رغبتي في الوقوع على فراش يدفئ برودة سكنت أحشائي ، حملتْ رأسي إلى الأعلى قليلا لتحاشي برودة الجدار ، كما تفعل كل ليلة منذ تمكن مني هذا الشلل النصفي آخذاً من جسدي حتى الصوت ، لم أشعر بِبَحَّةٍ قبل انسداد تدفق الهواء من الحلق ، من يومها ، و" أمينة" لا تسمع لي غير إشارات بالعينين ، أو تنمل أصابعي اليسرى، أرسم من خلالها رغائبي المكبوتة . هل تدري أنني أحس بوجودها الآن ، تماما كما كنت حين أحضنها في الليالي الباردة ، أدعوها للاقتراب مني أكثر ، تتمنع جذلى بدلع النساء ، بيننا لغة نستفز بها حاجاتنا إلى دفء اللحاف ، أغازلها، ألامس بيدي رقبتها، تتنثَّر منِّي ، أعرف و تعرف أنا نُشرع نافذة على الحلم ، يكسر السجان خلوتي بها ، أتبعه إلى مدخل الباحة , حيث لا سماء ، سوى جدارات عالية تربَّع فوقها غطاء إسمتني ، الكوى تذكرني باستمرار ، بمنافذ الضوء عبر ثقوب الحمامات العتيقة . ليتني كنت أحسن قراءة الفنجان ، ليتني كنت صدقتُ رفاقاً عادوا من جزائر النسيان ، ظلُّوا يصرخون بملء عقيرتهم أن لا فائدة من الموت في سبيل هذا الوطن ، وظللت عنيداً أراود الحلم بالثورة ، في غابة أشجار رضيتْ أن تموت واقفة على حافة النهر يجرفها تيار الغضب . رغم أن أيامنا كانت معدودات ، فقد كانت لحظاتُ الوصال بحجم العمر الذي لم نعشه بعد الانفصال ، انتهيت إلى إسنادي بمقدمة ظهري إلى ركن حائط الغرفة المهترئة، لم تتحقق أمنيتنا في طلائها باللون الأزرق الذي كانت تعشقه ، وبقيت كما تركتها منذ عشرة أعوام ، لم أسألها عن علَّة عدم طلاء الجدار ، كنت أعرف أنها ستحتج بالخوف من حجْب لونِ البحر لونَ وجهي في الذاكرة ، قالت لي يوما بأنها ترى وجهي أزرق ، لم تعجبني عبارتها ، لكنها استدركت بأن البحر أزرق ، وأنها لا تحب شيئا أعز من البحر ، كدت أقبلها لولا تردد أصوات العيال بالبهو الفاصل بين الغرفة والمطبخ . ولم أسألها حين عودتي عن حجم تشوقها لوجودي الجسدي ،لأن الكلمات تهرب في عز الحاجة إليها ، استبعدت أن تصبر عليَّ طول هذه المدة ، ولم تخطئ فراسة شكِّي ، فقد نما إليَّ بالتلميح تردُّد جاري عليها أثناء غيابي ، يأتيها باسم العشرة والملح ، فتفتح له الأبواب ، صار يدخلها متى يشاء أو تشاء . حين زارتني قبل خروجي بأيام ، وكانت الأولى والأخيرة ، قرأتُ في عينيها الذابلتين الخوف من السؤال ، لم تنجح في معرفة الطريق إليّ، إلا بعد السنة العاشرة ، أسرتْ لي بأنها أقامت فيَّ العزاء ، ثم استدركت أنها ظلت تُمنِّي نفسها ببقائي على قيد الحياة ، رغم طول الفراق ، ورغم الغيبة التي يقبل فيها الشرع بالطلاق ، أسرَّتْ لي أنها لم تكن تتخيَّل إقدام السجان الذي احتفظ بنا كل هذه الأعوام ، خلف كهف يمتد عميقاً في جوف جبل في لا مكان ولا زمان، على أن يفرج عن مجموعة " صيف الريف " ، بيني وبين نفسي تمنيت القدرة على النطق ، لأسرَّ لها بهواجسي اتجاهها ، هل تسمع تفكيري " أمينة " الآن؟ لم أشعر ببرودة الجدار ، ناولتني كأس ماء ، يهرق في فمي منسكبا نحو الحلق مائلاً إلى الوراء ، أتعلَّق بالنظر إلى ما بين حاجبيها ، لا أحس بأدنى إحساس بالرغبة في حضنها إليّ ، ترمق استراق نظراتي، تبتسم ، لا أدري هل كانت قسمات وجهي تنبئ بابتسامة ، ثم ابتسمتْ ثانية كأنها ترد عليّ ، قلت لها في نفسي : ليت الذي حضنتِ يوماً في الليل أثناء غيابي حبيبتي ، كان صدري الحزين قبل الرحيل .
#محمد_المهدي_السقال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المحاكمة
-
المسألة الأمازيغة /من الأصل إلى القضية
-
العراف
-
ملحق حول :ممارسة النقابات للإضراب تعبر عن دكتاتورية عدوانية
...
-
- أفول الليل -يوميات من سنوات الرصاص
-
حكاية وزير مرتعب
-
لعنة - بن لادن
-
العرافة
-
فراغ من زجاج
-
الإضراب
-
المسألة الأمازيغية العد العكسي
-
حكايتي مع السيد المفتش
-
رقصة الكلاب
-
قراءة في عنوان مقالة* ممارسة النقابات للإضراب تعبر عن دكتاتو
...
-
مشروع تركيب إيقاعي من الطويل والبسيط
-
رائحة المرأة و الشيطان
-
العار
-
عبث اللحاق
-
من مزامير داوود الأولى في بغداد
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|