|
الرحيل إلى المجهول سجن الحسكة
آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 1858 - 2007 / 3 / 18 - 11:44
المحور:
أوراق كتبت في وعن السجن
كانوا مجموعة من الشرطة المدنية في الغرفة.. يتسامرون عندما فتح المساعد أبو عزيزأحد عناصر الأمن السياسي الباب. نهض كل واحد من مكان.. بقوا وقوفاً.. كالأصنام الملتوية في يوم خريقي بارد.. ينظرون إليه خلسة من تحت رموش عيونهم القصيرة.. خائفون.. ثم راحوا يفسحون المكان له من أجل الدخول.. وعبارات التهليل والترحيب تتوارد من أفواههم بسرعة.. تفضل سيدي.. أجلس هنا سيدي.. المكان مكانك سيدي.. هؤلاء البشرصغارالنفوس.. لم ينضجوا بعد.. وربما لن ينجضوا أبداً.. دخل المساعد أبوعزيزدون أن يرمي التحية. قال: أريد أن تخلوا هذه الغرفة في الحال.. إننا نحتاجها.. هللوا بصوت واحد.. تأمر سيدي. صرخ بشكل فجائي وسريع.. أريد الغرفة فارغة الأن.. في الحال.. تحركوا. خلال لحظات حملت الشرطة المدنية أمتعتها.. أسرة وبطانيات وفرش ووسائد.. رفعوا حقائبهم بصمت وخضوع تام.. ثم كنسوا المكان.. بالمكانس.. بأيديهم. بينما أبوعزيزيدخن السيكارة مختالاً.. متعجرفاً قال: احضروا لهم أسرة وفرش ووسائد.. وقبل أن يرحل أضاف: لا أريد لكائن من يكون أن يقترب منهم.. في إشارة لي ولمحمد خير.. ثم أردف ورماد السيكارة ممدوداً بين يديه القذرتين: لا أريد لأحد أن يتكلم معهم.. أفهمتم.. الحاضر يخبر الغائب.. بعدها أغلقوا الباب علينا من الخارج.. باب خشبي سميك وباب حديدي أسود له طاقة أو كوة صغيرة تفتح من الخارج بقينا وحدنا في محيط الزنزانة الضيق.. قرابة الشهر.. كانت مساحة الزنزانة بحدود ثلاثة أمتار في ثلاثة أمتار.. إذاً.. نحن معتقلون إلى إشعارأخر.. مصيرنا لم يعد بأيدينا.. وحريتنا أضحت مرهونة بالغيب.. سألت محمد: هل التحقيق أنتهى معنا.. قال: لا اعتقد.. التحقيق لم ينتهي بعد.. وبقينا في حالة خوف ورعب وشك من القادم من الأيام.. لأول مرة نجلس مع بعضنا.. بعد فترة التحقيق.. كان الباب مغلقاً من الخارج وعليه شبك حديدي ثخين يطل على ممر صغير يفضي إلى برج السجن الكبيروالمرحاض.. وفي الجهة المقابلة للباب تطل فتحة صغيرة في أعلى الشباك على العالم الخارجي.. بأنين أخرس تمتصه الجدران وتطمسه في طلاسم المكان.. كنت أتأوه من الوضع الجديد.. نارالكاوية تلاحق جسدي داخل جسدي.. قوة حمقاء قبيحة تنبثق من داخل الأستراحة اللعينة.. وتنفجر كشلال جارف.. مفضية إلى طريق طويل من الهروب من العالم القديم.. من الملامح القديمة والسنون المهزومة.. حاملاً امتعتي البالية واسراري في كيس صغيرمصرور وملفوف من كل الجوانب. رحت أدخل السراديب المظلمة من الذات.. ليستعاد بدلاً عنه.. عالم أخر.. فرض علي فرضاً.. اختارته المصادفات اللعينة والحظوظ المخترقة. إنه زمن سديمي عاجز زمن السلطة الجرباء.. سلطة لقيطة.. خيمة سوداء.. كالحة السواد.. لبنة مزمجرة.. مكبلة.. طوقت كل الالوان الجميلة بالحصاروالخوف.. وكنا عراة بين أيديهم.. نار القلق والخوف ينهض بسرعة من الرماد.. نافضاً الغبارعن نفسه.. شاقاً طريقه إلى الأمام. رحت في غيبوبة.. حلم داخل حلم.. في محاولة الهروب داخل ذرية الزمن.. المسروق. استرق السمع للوقت المتبقي.. أترك لنفسي مساحة صغيرة للتحليق في الفضاء الممزوج بالصور: براري السماء العذبة.. الزرقة وغاباتها المطيرية البكر.. التوهج الذي يتسلل إلى الجسد ويوقظ الدفق الغافي من الذاكرة.. في سرية الأماكن المغلقة.. المغلفة.. وتقلب ثنايا الصوت وظلال إعترافاته.. النار المتقدة والحلم الذي يصعد فوق بحارالألوان وإشتعالاتها.. إنزياح الرياح وإحالتها إلى زوبعة من نار.. مخرجا صوتاً عالياً.. مرعباً.. مضموم الشهوة، مندفعاً على شكل بخار خانق.. ممدواً على الأرض الصلبة.. منهكاً.. أراقب الجفاف وأستمني الفراغ وأضيع في متاهات الغربة وأغطية البرد المشرعة.. القادمة من الأماكن المغلقة دون ستائر.. طفقت أجول داخل نفسي، متشبثا بهيكلية البقاء تحت غبش كثافة السحب المنزلقة من اطوارالاسوار العالية، أتنفس فوق الارض الصلبة بفم مفتوح، متعب، متسلقا فوق أبواب القدر، أزفرالألم الحار.. تتوارد على ذاكرتي أسئلة كثيرة ممزوجة بالخوف.. التحقيق.. التعذيب.. إلى أين سيأخذونا.. في أي سجن سنمكث.. شكل التعذيب القادم.. هل سيكون أصعب وأمر.. هل أكتفوا بما أخذوه منا أم أن هناك جولات كثيرة من التحقيق.. رحت أمشي داخل المساحة الضيقة من الزنزانة في حالة عزلة كاملة عن العالم.. بأستثناء الطعام الذي يقدم صباحاً.. بعدها لا شيء جديد.. ثم نبقى أصدقاء الجدران.. نترك لها.. لم يكن في الزنزانة أي شيءيلفت النظر.. بأستثناء الأسرة وبقعة ضوء صفراء خافتة.. تتسلل من المصباح الكهربائي الضعيف.. كثيرة هي المرات التي أصعد على ظهرالسرير.. أتامل زرقة السماء المترامية الأطراف.. وبعض الأبنية البعيدة.. جدران السجن الصادمة من الطرف الأخر.. تحول الماضي إلى طائرطليق.. يحلق فوق أجنحة الوجع والآهات الخارجة من أتون الجسد الملفوف بالدم، ملتصقاً بنفسي.. كأفعى جريئة.. تلتف حولي وتسبح في عيني السارحتين فوق الغيوم البعيدة. أفرش الخطوط الطويلة والعريضة لمصالحة المكان.. علاقة جديدة بالأشياء مختلفة.. متناقضة.. رفض وقبول.. ثم رفض وقبول.. رفض المكان المغلق وقبوله، قبوله مرغماً، رغماً عني في محاولة التواصل مع العالم الخارجي من خلال الألم والتواطأ مع الجديد.. حيث الحسرة والجفاف والرغبات المدفونة والمكبوتة.. أمد الخطوط لاتواصل.. لاجتازالبوابات العالية والمسافات الزمانية المحكومة بعلاقة مباشرة مع الجدران المسورة.. بالحكايات الغريبة المختلفة، المختلطة بالاحلام المشوشة، في مكان جامد ومتصلب ومتصالب، أرسم مرآة وهمية للذات والأخر. أدخل حدود الصمت والعزلة بمرارة.. ادور وادورفي دوامة التكراروالتفسخ. حاولت التماسك والبقاء قوياً.. لكن.. المسافة الوحشية المزمجرة.. المسمرة الرأس.. تطول وتطول، والمساحة البكماء الضيقة تضيق وتضيق.. ليتحول المكان إلى فضاء سديمي مغلق ومسدود.. ويهرب الزمن الجميل من يدي.. يصبح سنبلة ذابلة.. تزداد ذبولا وجفافاً.. تتذرى وترحل مع كل صعود في درجات البقاء.. مخلفة توازناً هشاً ومائعاً.. القديم يرحل ويضيع.. يعبئ مكانه عالم مفكك.. مفتت.. رحت أهجس.. هذا البحرالممتد إلى مالا نهاية.. كيف يمكن ترميمه.. هل أنا الذي كنت في ما مضى من الأيام.. هوأنا الذي هو عليه الأن.. كيف ؟. توقفت قليلاً ثم قلت: لماذا أعذب نفسي وكررت في سخرية قديمة : كم من الاشياء الجميلة تغيرت وتبدلت في داخلي خلال فترة قصيرة.. هذه الفترة مسحت كومة من الأحلام.. وكومة من الأماني والأمال الجميلة القادمة من وراء الريح والغيم والورد المنثورعلى ضفاف القلب.. غرقت في نبش روحي وقلت: هل سأكون أنا الذي كنت.. الذي عرفته وألفته.. هو الذي سأكون عليه.. في المستقبل.. وكيف؟ . ورددت جاهدا: هل مازال عقلي وقلبي هو هو كما كان أيام زمان.. قبل أن تطأ قدمي ديار الغربة.. أم تغيروتحول إلى منفى وغربة هو الأخر.. أسئلة كثيرة تضرب دماغي ونخاعي الشوكي في كل لحظة ودقيقة؟ عدت إلى موضعي.. أغرق في تأمل الأشياء من حولي.. ماذا نفعل.. طرقنا الباب بقوة.. جاء المساعد من الشرطة المدنية طلبنا منه الذهاب إلى الحمام.. قلنا له: لم نغتسل منذ مدة طويلة.. أجسادنا وثيابنا وسخة.. عليها أثار الدم والعرق وعفونة الأماكن الرطبة.. نحتاج إلى القليل من الهواء والشمس من أجل إزالة اللون الأصفر من على وجوهنا.. كما إننا لم نحلق شعر رأسنا وذقننا منذ مدة طويلة.. وقف قليلاً.. تسمر في المكان.. حك دقنه.. ألتفت يميناً وشمالاً.. مخافة أن يراه أحد عناصر الشرطة.. قال بصوت خافت ضعيف: ماذا فعلتم.. لماذا أنتم هنا.. ما هو جرمكم.. قلت: لم نرتكب أية جريمة.. ردد بخوف: إذا لماذا أنتم هنا.. بالتأكيد فعلتم شيئاً لا تحمد عقباه.. وإلا لماذا عزلوكم في غرفة ضيقة بعيدة عن السجناء الأخرون.. بالتأكيد أنتم خطرون.. قلت: صدقاً لم نفعل شيئاً.. لدينا آراء سياسية مختلفة عما تفكربه الحكومة.. قال: إذاً.. أنتم سياسيون.. قلت: نعم.. هو ما تقول.. سد الكوة ولم يعد.. أنتظرنا أن يتبدل هذا المساعد.. برجل أخرأقل خوفاً واكثر تفهماً لمشكلتنا.. في المساء طرقنا الباب مرة أخرى ورحنا نرجو المساعد من أجل الذهاب إلى المرحاض.. كان يردد دائماً: لا استطيع أن اتصرف.. وإنكم أمانة في عنقي.. وليس لدي أوامر في أن أدعكم أن تتحركوا من مكانكم.. قلت له: أطلب من الأمن السياسي أن يسمح لنا في الذهاب.. قال: أنتظروا قليلاً. بعد ساعة عاد وقال: لقد سمحوا لكم الذهاب إلى المرحاض مرتين في اليوم.. لا تطرقوا الباب أبداً.. وإلا ستجلدون. مسكني الشرطي من ثيابي وأخذ يجرني عبر ممرضيق.. يصل طوله إلى عشرة أمتارثم دارإلى اليسار.. قال: لا تلتفت أبداً.. نحو اليمين أو اليسار.. لديك دقيقتين فقط من أجل أن تنتهي.. على هذا المستوى كان الأضطراب يلقي بظلاله المرعبة على هذه الفسحة الحوارية الغاصة في الحلق ولا تخرج الا لتخلف وراءها حزن وتراكمات.. هوة كبيرة يصعب ترميمها بسهولة. أنكفئت على نفسي وعلى فمي بقايا زبد وتلال من المشاعر الغاضبة الجامحة تستيقظ لترتخي وتغفو في عضلة القلب أو بين دفتي الصدر المجروح والمتعب.. لم يغير من هذه المرارة.. إلا فسحة الأمل القادمة من الابواب الخلفية للحياة.. رحنا.. أنا ومحمد خير نتكلم عن التحقيق.. عن الرفاق القريبون والبعيدون عنا.. عن قدراتنا على حماية أنفسنا ورفاقنا.. مقدار الخسائرالتي تلقيناها.. أساليب التحقيق والتعذيب.. كان الفراغ كبيراً.. فراغ يفتح فمه.. يريد أن يلتهمنا.. وسوداوية متيقظة تحوم حولنا.. تريد ان تبتلعنا.. ونحن تحت قبضة فك مفترس.. نواجده الحادة مستعدة لأن تغرس قواطعها في خلايانا.. نحاول الهروب.. تستوقنا الظلال المريرة والخطيرة.. نمشي ونمشي داخل الكتلة الرمادية التي تغلفنا من كل مكان.. نطلق العنان لأذاننا من أجل أن تلتقط مسامات الصوت القادم من الخارج.. تأتينا روائح الأشجار العارية وأصوات احتكاكها ببعضها البعض.. أصوات تكسر الأغصان الهشة.. الضعيفة.. الغير قادرة على مقاومة عاتيات القدر.. قوة ضغط الرياح المهبوبة من الجهات الأربعة للزمن.. تخلف صدى واسع الردات.. لكن.. عند اصطدامها بالأسوار.. تنزاح وتتمايل.. تنحدر بحياء لتقترب منا وتلمسنا.. شكل اللمسة تكون فاقدة القدرة على البقاء. عندما وضعت رأسي على الوسادة.. جائني طيف.. كومة من الأطياف والإندفاعات الحالمة.. انبهق من شروش الذاكرة.. سرح على الضفة الأخرى من الزنزانة.. على الضفة الجميلة.. وراحت تستعيد الأشياء الغافية في جوف القلب.. تحط الرحال عند البدء.. عندما كنت صغيراً.. جنينا في الوهاد والرحم الآمن.. عندما كنت ملامسا لزغب الشمس وبويغات حبة الطلع.. بقيت مسترخياً على مستوى السماء.. أجلس مع أمي ملفوفا بقماش رقيق من جلود الغزلان ومربوطاً بحضنها الدافء.. على ظهرها وكتفيها.. قريباً من موضع القلب والسرة.. وعلى مسافة متر واحد.. كان يتمدد الخابور ويسرح.. حراً طليقا.. فرحاً بلون السماء الأزرق الصافي.. حاملاً هدايا ومسرات.. ألعاب وزينة.. أوراق شجر وبقايا أغصان.. كانت أمي تفرش شعرها الجميل على الارض.. وتمده كوسادة ليسرح عليه الخابور.. كنت مفتتنا باللون الاخضر الفاتح الجميل لخابوري.. وكان انسيابه كالدم في شراييني واوردتي.. يتقطار كدفق.. كنبض.. كحلم.. وأريد ان أضمه وأشمه وأقبله بشفتيي.. ويحلو لي أن أنظر الى الجانب الاخر من الضفة.. وأحسب عرضه وطوله ... وبشغف , ودونما شعور مني , تتكاثر الاسئلة والاستفسارات .. ــ أمي الحبيبة.. أماه.. من أين ياتي هذا الماء كله.. كانت تجيب باختصاروفرح , تربت على كتفي وتضحك وتقول : من زرقة السماء والتماعة البرق والرعود.. من حمم البراكين وأوراق الشجر.. من الينابيع الصافية كقلبك.. هناك على حدود الشمس وعلى مقربة من النار المشتعلة.. ثلاثمائة وخمسة وستون نبعاً يرفد الخابور بالاخضر الحلو . النهر.. يحبي ويزحف على الاعشاب الناعمة ويقترب من الكيش.. يستلهم الطقوس الغريبة.. يضحك ويغرغركتل الماء في فمه ويديه وأقدامه.. كنت قلقاً.. منذ كنت رضيعاً.. في اللفافة أو عند الإندفاع إلى الامام.. كثير الاسئلة والألتباسات.. ادوخها بأستفساراتي. أتذكرشفاهي كيف نطقت عندما قلت: ــ هل لك أن ترسمي لي هذه الشهوة المبدعة المندفعة من الأرض وتضعيها بين يدي.. أين هي هذه الينابيع؟ تصمت وتغرق في افكارها ثم تنطق بصوت مسموع : ــ الينابيع تخرج من شهوة الارض وحبها للقمروالكواكب.. من جوفها الآمن اللطيف.. من النوافذ المفتوحة في الجبال والسطح.. ينبع من الفراغات الحميمة للتراب.. من كل مكان آمن. الينابيع ليست بعيدة من هنا.. عند مرمى قلبك.. فؤادك وكبدك ومن كل خلية منك. يجتاز الكثير من السهب والسهول والبوادي الحنونة.. يرحل عن الينابيع ويمشي الى الغرب.. يتمايل كخصر حسناء غانية ويحرك كتفيه وصدره ويشكل أنصاف دوائر.. ثلاثة أرباع الدوائر.. يرقص ويرسم دوائر خطرة وموجعة. في هذه الاصقاع خرجت.. وأشارت بيديها الى القلب والينابيع.. الصرخة الاولى.. طراوة البشر والشجر.. ونبتت شقائق النعمان وزقزقت العصافير.. وضحك القمر وغرد. يغيب الخابوريا ولدي في الاغوارالعميقة.. يبتعد.. ثم يعود ثانية الى الشرق.. يخترق الاراضي الرخوة والضعيفة.. يرحل مئات الكيلومترات.. يزرع نفسه تحت ظلال الارض ويكتب الجمال والبهاء.. ويكون بكامل زينته في المنحدرات. والخابور نجم يتلالى يا ولدي.. ويتدلى من السمت البعيد.. يتكئ على النجوم ونواميس الوجود.. يجلس في مكان من هذا الكون.. يتابع مجراه من الشمال الى الجنوب.. يقسم نفسه حسب لون الطيف.. يتفرع في مجاري.. ولا يستقر.. فمرة شيخ وقور.. وأخرى عروس تزف لعشيقها.. وفي النهاية شلال هادر. والخابوركائن مسافر في رحلة.. يتنقل من موضع الى موضع.. له مواسم وسلالات.. يسكر من أدنان مفتوحة.. معلقة على خاصرته وجبينه.. تعود أمي لتفرد الخصلات الأخرى من شعرها.. تمده لنا.. تقول: أمشوا فوقه.. تمسك يدي بيدها اليمنى وفي اليد الأخرى يد أختي أنجيل.. نسير في شوارع الحسكة.. نجتازشوارعها الجميلة والنظيفة.. شارع الفردوس الطويل.. نقطع شارع فلسطين.. نمرمن أمام الفرن نشم رائحة الخيزالطازجة.. نتبضع السكاكروالحلويات والشمس.. نمشي على الارصفة الغاصة.. وعند أقترابنا من المدرسة نشاهد البرج العالي للكنيسة.. نمر بجانبه.. ندخل الباحة الجميلة والنظيفة.. نشاهد الهيكل والشموع المضيئة.. غرفة الناطور القريبة منها.. نقف في الطابور..نحيي العلم.. ننشد النشيد الوطني.. أشياء لا يمكن نسيانها.. في مدرسة اللواء الخاصة للأرمن الأرتذوكس.. المطران أنترانيك بجلبابه الاسود الطويل.. بوجهه المليح.. ولحيته السوداء المشذبة وقامته الطويلة.. يقف عند السبورة.. يحرك يديه ويتمايل.. ينشد ويدندن بصوت عذب ورخيم.. ونحن نردد وراءه بفرح طفولي غامر.. شعارنا على الزمن.. عاش الوطن.. عاش الوطن أعود إلى السريرالاسود المأكسد والضيق.. اعود إلى الخوف.. كنت أعود للسؤال دائماً.. أجول داخل جبال من الاسئلة إلى متى سنبقى هنا.. ــ لا أعرف؟ وتزداد الاسئلة الملحاحة علي.. مصيرنا.. ماذا يخططوا لنا.. ماذا يخبئوا لنا من كوابيس ليلية حقيقية.. كان السجن على مقربة من الطريق العام.. كثيرة هي المرات التي كنت أمرمن جانبه في سيارة العمل.. الأن في هذه اللحظات الكئيبة.. داخل سرير القيد.. أصغي للصوت القادم من الخارج.. صوت السيارات.. أستيقظ باكراً.. أنتظرأقتراب الساعة السابعة صباحاً.. أقول لمحمد.. أتسمع صوت السيارت.. إنها أصوات سيارات زملائنا في العمل.. إنهم في الطريق.. أتراهم يعرفون إننا هنا.. في هذا المكان المغلق.. أسمع.. هل تسمع.. يجيب: نعم أسمع. إنهم طلقاء في هذا الفضاء الواسع للعالم.. يذهبون كل صباح إلى عملهم كما كنا نذهب.. ويعودون في الساعة الثالثة بعد الظهر.. كنت ازعج صديقي بالاسئلة: ــ هل سيسرحوننا من عملنا.. سيقطون رواتبنا.. وعندما نخرج.. ماذا سيكون مصيرنا.. هل سيتركونا كما دخلنا السجن.. أم إنهم سيطاردوننا مرة أخرى.. هل التقيت بمعتلقين سابقين.. ما هي مدة إعتقالهم.. تهمهم.. كيف خرجوا من السجن.. هل قدموا للمحاكمة.. كيف ومتى وأين.. كان يجيب بأقتضاب مثل حال أغلبية الأخوة الأكراد.. كنا نتبادل المشي داخل الغرفة الصغيرة.. أو الزنزانة.. يتكلم كل واحد عن ماضيه.. أحلامه وأماله.. عن الزواج والبيت والاولاد.. نروي القصص والحكايات.. نحاول الهرب من الحصار.. ولأن صلتنا بالحاضر معدومة.. ولا صلة لنا مع العالم الخارجي.. كنا نعود إلى الماضي نخطف منه بعض الذكريات.. مع الأيام.. خف ضغط الشرطة المدنية علينا قليلاً.. سمحوا لنا أن نغسل ثيابنا ونستحم.. كما أدخلوا لنا مرة إبريق شاي ساخن.. بل زيادة على ذلك أستطعت أن أرى مهجع السجناء الأحداث القريب من المرحاض والحمام.. مهجع مؤلم للغاية.. فيه أطفال صغار يبكون طوال الوقت في مكان مظلم وكريه.. فيه روائح الشحار والسخام من البوابيرورائحة الكازوالمرحاض.. بدون شبابيك تهوية.. كنت أقول إن بقي أحد هؤلاء الأطفال مدة سنة في هكذا مكان سيقصف عمره إلى الربع.. نتيجة إنعدام التهوية والتنفس.. كما كنا نشم رائحة قلي الفلافل.. وصراخ أحد باعة المشبك من داخل برج السجن وهو يصيح عوامة.. عوامة.. يبدأ مواله.. منذ الساعة السادسة مساءاً وإلى العاشرة منه.. لكن الدخان كان يبقى من أول المساء وإلى الصباح عائماً داخل البرج والمهاجع.. يتبع..
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرحيل إلى المجهول غيض من فيض
-
الرحيل إلى المجهول التحقيق
-
الرحيل إلى المجهول 1
-
الحب.. وأشياء أخرى
-
الهرم
-
تحت ظلال بادية تدمر
-
الدولة والمجتمع وفق منظورأخر
-
بعد المعركة الطويلة على لبنان
-
الثائر.. الملك السويدي كوستاف الأول
-
النظام الدولي وآلياته
-
غرفة التحقيق
-
النظام العربي
-
ظلال الوقت
-
من الذاكرة.. إلى الذاكرة
-
السجن..مرة أخرى
-
الليل في سجن تدمر
-
بعض الذكريات من منزل الموتى
المزيد.....
-
يوم أسود للإنسانية.. أول تعليق من الرئيس الإسرائيلي على أوام
...
-
حماس: أوامر اعتقال نتنياهو وجالانت تصحيح لمسار طويل من الظلم
...
-
رفض إسرائيلي لقرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو
...
-
منظمة الفاو تحذر من وصول المجاعة إلى أعلى درجة في قطاع غزة،
...
-
مذكرات الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت والضيف.. كل ما نعرفه للآ
...
-
مذكرة اعتقال ضد نتنياهو.. أول تعليق من مكتبه وبن غفير يدعو ل
...
-
زلزال سياسي: المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرتي اعتقال في
...
-
حماس ترحب بإصدار المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال بحق ن
...
-
حماس تحث المحكمة الجنائية الدولية على محاسبة جميع القادة الإ
...
-
هولندا تعلن استعدادها للتحرك بناء على أمر الجنائية الدولية ب
...
المزيد.....
-
١-;-٢-;- سنة أسيرا في ايران
/ جعفر الشمري
-
في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية *
/ رشيد غويلب
-
الحياة الثقافية في السجن
/ ضرغام الدباغ
-
سجين الشعبة الخامسة
/ محمد السعدي
-
مذكراتي في السجن - ج 2
/ صلاح الدين محسن
-
سنابل العمر، بين القرية والمعتقل
/ محمد علي مقلد
-
مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار
/ اعداد و تقديم رمسيس لبيب
-
الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت
...
/ طاهر عبدالحكيم
-
قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال
...
/ كفاح طافش
-
ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة
/ حـسـقـيل قُوجـمَـان
المزيد.....
|