أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد الله موسى - القيمة والتجربة الجمالية















المزيد.....


القيمة والتجربة الجمالية


عبد الله موسى

الحوار المتمدن-العدد: 1857 - 2007 / 3 / 17 - 07:18
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


... نحو بعث ثقافة جمالية
ـ إن الحديث عن القيمة بمعناها الواسع ، هو حديث عن وجودها من حيث هي بنية للواقع والعالم ووسمه بسمات مطالبنا الدائمة والمؤقتة، ومن حيث هي ملازمة لعملنا . كونها تؤثر في " الوجود المشخص " باعتبارها حافز عمل ، وأفق التزام ، وسبب سلوكنا وتعبيرنا عن ذواتنا في الكون .. " إن تداولها هو من منطلق فهم ، ومن مبدأ إدراك ذكي " . ولأن ما يبرر وجودها الدائم هو ظهورها ـ القيم ـ على شكل بنيات للسلوك الفعلي ، فهي ليست تنظيما خارجيا تفرضه سلطة مثل سلطة العقل أو التقليد الاجتماعي أو النظام الديني . وإذن هي ـ القيمة ـ نظام وهيكل يلازم الوجود وقوامه وغايته .. إنها موجودة من نوع خاص ، أو هي الوجود ذاته .. من ذات الفهم يمكننا إدراك أنواعها وخصائصها وقوام حضورها ومن ثم طبيعة أحكامها...
(1) في القيمة الجمالية :
قد نحكم على جمال لوحة أو امرأة ..بأنها ذات قيمة ما، لأننا في الغالب ندرك لوحة أو امرأة جميلة ..كما تظهر لنا ، في حين الواقع خلاف ذلك . إن الجمال ، وصف غريب عنهما ، ولكننا نثبته لهما ، في مقابل وهمنا أو توهمنا أحيانا اتجاه ( المرأة أو اللوحة ..) الوهم الذي يضللنا ويحملنا على الإيمان بوجوده ، مع أنه لاوجود له في ذاته . وكذلك الأمر بالنسبة لكل قيمة . والسبب يعود إلى ارتباطها في وجودها بوهم أو ظرف أو شيء أو شخص ، أو وعي .
مما حمل " أفلاطون " 429/347 ق م : على القول من أن عالم الحس الذي نعيش فيه والذي تدركه حواسنا ..هو ظل لعالم آخر أسمى منه ، هو عالم المثل الذي يوجد فيه مثال لكل ما في هذا العالم من موجودات مع مثال الخير الذي هو أسمى المثل كلها وقمتها . بحيث يرى وبالمثال : أن الموجود موجود لأن له مشاركة في مثاله . " فالزهرات " التي نراها في عالم الحس تشارك بدرجات متفاوتة تكون فروقها الخاصة ، في فكرة الزهرة الموجودة في عالم المثل ، والتي هي واحدة لا تتغير . وكذلك " الأشكال الهندسية " التي تميزها في الأشياء والتي نسميها بالمربع ، والدائرة ... وكذا " الحقائق " التي تعطي الحياة الإنسانية قيمتها مثل : العدل ، الجمال ، ولا سيما الخير . هذه الحقائق كلها لا وجود لها في عالم الحس إلا بمشاركتها في الأفكار الموجودة في عالم المثل . لأن الأشياء التي تغمر عالم الحس ليست ثمرة مصادفة بل ثمرة
( نظام Ordre ) و ( صحة Justesse ) و ( عدل ، وفن مناسب ) لطبيعة كل شيء سواء كان نفسا أو حيوانا أو جسما أو أثاثا . إذ يقول " أفلاطون " في "المأدبة ": >



ومن ثم المعرفة الحقّة لمفهوم الجمال هي معرفة مباشرة لمفهوم الجمال الأسمى ، الذي تصعد فيه النفس من الجمال المحسوس إلى الجمال المثالي . باعتبار النفس يحركها الحب في شوق دائم إلى الخير ، في البدء يستهويها الجمال الزائف الزائل ، ولاحقا تتجه إلى علة هذا الجمال لترى صفات هذا الجمال ، ثم تصاعديا ، تنتقل إلى الجمال المعنوي ( اشتراك النفوس فيه ) ومن جمال النفوس إلى جمال الفنون ، ثم جمال العلوم النظرية .
فتنتقل ـ أي النفس ـ من علم إلى آخر إلى أن تصل إلى مشاهدة الجمال المطلق السرمدي . وهو الجمال بالذات ، الذي لا شكل له ولا لون ، وهو أسمى موضوع تتجه النفس إليه وتعشقه لذاته . مما يعطي لحياتنا قيمة ، ومما يميز الفيلسوف عن غيره من البشر . فالفيلسوف في شوق دائم إلى مثال الجمال بالذات ، لأننا حينما نطلب الجمال إننا نطلب الخير ، فالجمال والخير شيء واحد .
فالتحديد الأفلاطوني للجمال بهذه الكيفية ، لا يخلو من مطلقية للقيمة لأن (الجمال/ المفهوم) ،لا يسعه أن يقوم في موجود مرئي محسوس. هو، في ذاته، شرط وضوح المرئي ، و ماهيته مثال، على الفنان أن يقترب منه بعقل يستقرئ الموجودات بقدر ما يستذكر ماهية المُثُل ويعي العلائق الممكنة بين المرئي والمثال. إنه يقترب بعقله الجمالي الذي هو مصدر التكوين الفني.
فالقبيح ليس موضوعاً. لأن: تصوُّر ما لمثال الجمال، هو أسمى تصورات المُثُل، يبقى..، وهو الذي يبثُّ الإشراق في الموجودات، وهو وحده حافز الإبداع التصاعدي لأنه لا ينتهي.
هذا الجمال اللانهائي حسُ يتوق ليماثل العقل، باعتبار اللذة في أساسه ذاتية ..ولأن شروط الحكم على الجمال قائمة في فلسفة "كانط" العامة ، الجمال الذي شروط الحكم عليه قائمة في البشر ، كما يقول : "ما يروق كلياً ولكن دون مفهوم" و"وجوده شرعي دون شرع" و"قصديَّته لا نهاية لها".
لذا الجمال عند "كانط" هو مما لا يُعرَف بقواعد ومفاهيم؛ فمعياره فيه وهو موضوع ملكاتنا فوق الحسيّة supra sensorielles. إنه جوهر. ولكنه جوهر توجيه المخيِّلة الحرّة. من هنا هو "حدس لا يطابقه أي مفهوم" لأن المخيِّلة لا تستطيع أن تصبح معرفة. ولذا فإن هذه الأبعاد في جمالية "كانط" تقتضي مَلَكَة قادرة على استحضارها. إنها العبقرية التي تستقطب المُثُل الجمالية. والعبقرية هي الطبيعةُ ماثلةً فيها. من هنا عادت الكلِّية إلى جدليّة الحقَّانية والجمالية، ( الجمال معرفة ، الجمال قيمة ).وهذه الكلِّية هي التي ضمَّنت نقد الحكم، عند "كانط"، مصدراً ميتا فيزيائيا ينعكس مداورةً في كلِّية المحسوس.
هذا المضمون الميتافيزيائي هو مرتكز الفن الذي، بحد ذاته، يوحي المطلق، عند "شلِّنغ". ففيه يتألَّف النظري والعملي اللذان يجتازان ذاتيتهما استمراراً حتى يبلغا مستوى الأنا السامية التي عنها يصدر الفعل الفني. وهذه الـ"أنا" هي، من جهة، لا واعية كما الطبيعة، ومن جهة أخرى، واعية كما العقل. والفعل الفني، مستقطِباً كل هذه الأبعاد، يرسِّخنا في الطبيعة كما يصلها بنا. من هنا فهو أسمى من الفلسفة ـ أي الجمال معرفة حقّه ـ ،لأنه يُحضِر المطلق في الفكر بينما الفلسفة/ العقل ، تقتصر على معرفة بريقه...
(2) تقرُّب من التجربة الجمالية بالمقابلة:
لقد حاول بعض الفلاسفة القدامى توحيد هذه القيم الكبرى الثلاث: الحق والخير والجمال ، كما فعل مثلا "أفلاطون" . وذلك دون أن يفطنوا إلى الفوارق الأساسية القائمة بينها ، وخاصة فيما يتعلق بارتباط بعض هذه القيم بالذات اكثر من الموضوع أو بالعكس وبعلاقتها بالإرادة والوعي ، أو الحس والحدس .
وذلك لأن الفلسفة التقليدية هي أن تقيم التوافق بين الفكر والطبيعة في سبيل إقامة السعادة التي هي تآلف وانسجام بين الذات والموضوع ، تحت هيمنة هذه المثل العليا الثلاثة اعتقد "أفلاطون" بأن الديالكتيك الصاعد يمكن أن يؤدي بالفكر من معاناة تجربة الحقيقة إلى التجربة الأخلاقية وهما بدورهما يؤلفان تجربة الجمال التي هي ذروة التوافق بين الفكر والوجود عند "أفلاطون" .
بينما لا تبدو الأمور لنا بمثل هذه البساطة ، فان هذا التوافق بين الفكر والوجود لا يحدث إلا في مستوى تخيلي وليس في مستوى واقعي وبينما نتأمل من خلال تجربة الحقيقة ما هو موجود فعلا فإننا في التجربة الأخلاقية ننزع إلى ما يجب أن يوجد أو يكون . وفي التجربة الجمالية نتجاوز الوجود وما يجب أن يوجد إلى عالم من الصور والأخيلة ، لا نريد لها تحققا واقعيا مباشرا ، وإلا فقدت قيمتها الجمالية وكلما ابتعد الإنسان عن نظرة تعقيلية للوجود ( الحقيقة ) أو عن مشروع تغيير لصيغة ( الأخلاق) ، وكلما تحرر من الحاجة الحيوية والنفع العلمي كلما أصبح له موقف جمالي حقيقي، يهب له حرية الحلم والتحليق فوق حدود الأشياء وقيم الخير والشر .
وإذا كانت تجربة القيم الأخلاقية لا تتضح إلا باعتبارها تجربة قسر وإرغام في ميدان الفعل فإن التجربة الجمالية تبدو من خلال التأمل وكأنها تجربة انفعالية . يكتب " البير بابيه " : في كتابه "بحث في الاستيتيقا" : بأن "التجربة الجمالية تجربة منفتحة ، تقوم على عدم تحديد الموضوع وابتذاله" . فكل اثر فني إنما هو محاولة للكشف عما يتخطى المعطيات الحية المباشرة وينطلق في عالم من الإيحاء باللامحدودية .
وإذن ، فالقيمة الجمالية كالقيمة الأخلاقية ليست قيمة نسبية ولا تحمل قيمة الواسطة ، إذ أنها هي الغاية في حد ذاتها ، وغاية غير محدودة . ولكن القيمة الأخلاقية تختلف في القيمة الجمالية ، في أن الأولى تتصف بأنها تحمل طابع الإرغام والقسر ، بينما تتصف القيمة الجمالية بأنها ذات قدرة جاذبة إنها تخلق نشوة وقد توحي بعزاء نفسي أو عقلي . وكأن القيمة الجمالية تكمن في الموضوع الخارجي الجميل ، بينما نلقى القيمة الأخلاقية داخل إرادة الذات . وهذا ما جعل " ماكس شيللر " يقول : "بأن القيم الجمالية تخص الأشياء ولا تخص الأشخاص" .




وليس معنى هذا أن صفة الموضوعية تلحق بالقيمة الجمالية كما تلحق بالحقيقة. لأن الحقيقة ذات طبيعة تجريدية . فهي من عمل الفكر بعلاقته مع معنى الموضوع الخارجي ، وأما القيمة الجمالية فهي متجسدة دائما في صورة ليس لها معنى الرمز كما اعتقد الرومانسيون في القرن 19، وإنما هي نفسها مصدر الجاذبية الجمالية . والصورة تنتمي دائما إلى عالم واقعي ، وان كانت توحي بتجربة مفتوحة غير محدودة . ولهذا لا يصح أن نقول مع الرومانسيين بأن الجمال هو حقيقة اكثر من الحقيقة . إذ أن الأثر الفني لا يمكن أن يقدم لنا حقيقة مهما كان شأنها ، وإلا انتفت عنه خاصيته الأساسية وفي انه اثر موح ، وليس بأثر يفرض واقعيته على كل إنسان بنفس الدرجة من المعقولية كما تفعل أية حقيقة أخرى . فلا يستدل بجمالية الأثر الفني بما هو مجسد ومعطى.
لأن الوظيفة العقلية تختفي أمام تأمل الجمال و يحل محلها التأثر والانفعال . ولذلك فإن وسيلة أخرى غير العقل بما فيه من تحليل وتركيب موضوعي يتطلبها الأثر الجمالي للتفاعل معه. إنه "الحدس" كما بحثه " بنديتو كروتشه " يظل وسيلة لاتحاد الذات كوحدة مع الأثر الجمالي اتحادا داخليا ، رحمانيا ، وهو اتحاد اقرب إلى التجربة الصوفية منه إلى التجربة الواعية وعيا عقليا . ولذلك فان الأثر الجمالي يقيم رابطة سرية بينه وبين خالقه من جهة وبينه وبين المتذوق من جهة أخرى . وهي رابطة شخصية غامضة لا يمكن التعبير عنها إلا بألفاظ وصفية غير مباشرة وليس ببراهين عقلية أو علمية ...
مما جعل (هيجل) يعتبر أن التجربة الجمالية ليست سوى تمهيد لتجربة الحقيقة ، وأنها لا تملك سوى صورة تقريبية من الحقيقة . حتى أن الفن عنده لا يلبث أن يترك مكانه للدين وللمعرفة الفلسفية الكاملة ، باعتبارها أعلى مراحل تحقق الروح المطلق .
وهكذا فان التجربة الجمالية ترتد إلى الحساسية باستمرار باعتبار أن الحساسية هي مادتها وهي وسيلتها للتأثير في الذات ولكنها في الوقت ذاته تفرض على الحساسية بنية خاصة تختلف عن القانون الطبيعي كما تختلف عن القواعد الآمرة للواجب الأخلاقي .
من ذات المنظور ، إننا نسعى إلى إدراك التجربة الجمالية كوسيلة لتحرير الذات من مسؤولية فهم الواقع آو محاولة تغييره ولهذا اعتبرها بعضهم فعالية وهمية أو نوعا من اللعب . وحتى عندما يحتج بالقول بأن هناك جمالا آخر ، ليس من تصور الذات ، وهو الجمال ( الطبيعي ) المتجسد في المناظر والأشياء والبشر حولنا ، وهو يفرض نفسه علينا نعتقد بأن هذا الجمال لا يمكن أن يظهر الا بالنسبة لذلك الفرد الذي قرر أن يقف من العالم موقف المتذوق وكأنه أمام منظر جمالي محض ، لا يود أن يعرفه ولا يخفيه في شيء . وهو متحرر من كامل أعبائه العملية .
فماذا يفيدنا منظر الشمس عند الغروب ...مثلا؟ ، وحتى المرأة فهي ليست جميلة الا بالنسبة للإثارات الجنسية والانفعالات الكامنة في نفوسنا، والتي يثيرها في نفوسنا منظرها . ولكن ليست كل امرأة بالطبع قادرة على إثارتنا ، الا إذا حملت بعض الاستعداد للمثل الجمالي الذي نحلم به ، ونسقطه عليها حال ما تجمعنا به الصدف . فنحن نسقط ( الجمال ) على الكائن الذي نحب وقد يكون الجمال هذا لا علاقة له بمن نحب ، وكأنه عرض خارجي نحن ننسجه ونشخصه ضمن أبعاده ، وتصرفاته ، ونرى فيه اكثر مما هو يملك وهذا سبب الخيبة التي قد تلحق بنا عندما نريد أن نحيا هذا الجمال الذي تخيلناه عن قرب ، من خلال الكائن الذي نحب . وهنا يصدق المثل الشعبي القائل بأن >. إذ أن اللغة والتعبير قد تقدم لنا شخص آخر يختلف عن هذا المظهر الجذاب الذي نقلنا إلى عالم من الأحلام العذبة . ولهذا كان يرى أفلاطون أن الجمال لا يحقق لنا عالما موجودا ، ولكنه يعدنا بعالم أعلى . وكل تعلق أو حب جزئي ينصب على فرد من العالم الأدنى ليس سوى ظلال ووهم .
وهكذا فان القيمة الأخلاقية ليست واقعية ، لأن علينا أن نحققها ، أن نجعلها واقعة . فهي ترغمنا وتغرينا ولا تجذبنا . وفي الأخلاق يعاكس الفكر الطبيعة ، وينزع إلى تغييرها . بينما يبدو الجمال انه من طرف الطبيعة ، وهو متحقق خلال الأشياء ، ولكن تحققه هذا لا يزال خياليا إلا تلقاء من اتخذ موقف المتخيل ورفض الواقع . وهذا ما يسبب اليأس عند أكثر الفنانين إذ يشعرون وكأنهم يحيون على هامش الواقع ، ولا يملكون أن يؤثروا فيه مباشرة. ومع ذلك فان الفن مصدر عزائم ومتعة لنا ، انه يفسح لنا مجال الحلم بأن يحقق يوما الانسجام والتجانس بين الذات والموضوع . ولأن الحقيقة في الفن لا تأتي من كتاب أو شرع أو قانون أو تعاليم، بل تأتي من الداخل، من التجربة الحية، ومن الحب والتواصل الحيِّ مع الأشياء والوجود والكون. فإذا بالإنسان يجسِّد في البحث الفني ويتجسَّد، ظامئاً إلى الوحدة، لا إلى التجريد، إلى المشاركة، لا إلى الهيمنة. فلو أن الله والأصل كانا موجودين خارج الوجود، دون اتصال مع الوجود، فما مغزى وجود ذلك الفنان العظيم: الإنسان؟!
فكأن الفن كذلك يعدنا ويجعلنا نأمل بتحقيق كينونة مطلقة ، يسودها الجمال ، وكذلك فإن النزوع الأخلاقي يشرئب نحو مُثل هذه الكينونة التي يدب التوافق بين عناصرها ويسودها الانسجام بين الإرادة والفعل وكذلك أيضا فان تجربة الحقيقة رغم أنها مرتبطة بالواقع إلا أن كل كشف عن جزء من الحقيقة ، يجعلنا نتطلع إلى الحقيقة المطلقة ، إلى ذلك الوجود الذي تحول إلى وضوح كامل أمام عقلنا ، وقضى على هذا التعارض بين اتجاه الفكر نحو المعرفة وامتناع الموضوع وغيابه في حدود المجال اللانهائي. إذ يفترض الفعل الفني، إحياء تلك الطبقات العميقة من النفس البشرية، تلك الطبقات التي خلَّفناها وراءنا لحظة الانتقال نحو مدَنِيَّتِنا، لتكون التجربة الجمالية بحثاً عن تلك المفاتيح التي أضاعها الإنسان والتي ما تزال تختبئ في أعماق نفسه منذ أن غادر همجيَّته؛ تلك المفاتيح التي ما برحت تبقيه على اتصال واندماج مع الطبيعة ومع عوالمه الداخلية، بكلِّ همجيَّتها وإنسانيَّتها.
فصار الوجود إذن هو ينبوع القيم وهو غايتها والتجربة الأخلاقية والتجربة الجمالية ، لا تنفك كل منهما توحي بشيء يتجاوز حدود التجربة ، انهما تنزعان نحو وجود متعال يؤسس لهما وحدتهما . وهو هذا الوجود الذي اتخذ تسميات مختلفة حسب المذاهب الفلسفية المتباينة . كالله والمطلق ، أو عالم المثل أو عالم المعقولات ولكن هذا الوجود ظل هذا المجهول الذي هو موطن كل نزوع ، ولم يتضح مرة وضوحه الكامل لأي مذهب ، أو لأي حدس فلسفي فان فكرته تظل تحيل إلى تجربة القيم من حيث هي رموز عنه .
وهكذا فان وعي الإنسان منفصل دائما عن موضوعه الحقيقي . فطبيعته تقوم على الأمل وليس على التملك وليس الأمل ذاك إلا المجال الذي تتحرك فيه القيم وتحيا .
فالمهمَّشين والأقليات...مثلا، لا يمثِّلون الجسم الاجتماعي، ولا يدَّعون هذا التمثيل أصلاً، إلا أنهم يجسِّدون، بل يختزنون، الطاقة الأكثر قدرة على تحريك هذا الجسم وعلى تغييره. إنهم تلك المحاولة للتوفيق بين النقائض: بين البحث عن المطلق، من ناحية، وبين إرادة العمل في الواقع من ناحية أخرى. محاولة للتوحيد بين النظرية والممارسة، بين الشاعرية والعملية، بين الكلمة والعمل، بين الدهشة والحقيقة. وتحاول التجربة الفنية أبداً أن توفر لنفسها غنى دهشة جديدة. إنها عودة إلى الرومانسية. فالفن إذن يستلهم من روح فرويد ويونغ خصوصاً، من بوذا والمسيح، ومن ماركس والتوحيدي ...
لذا ترفض التجربة الفنية ذلك الفصل الديني أو المادي الرائج بين الروح والجسد؛ بل ترفض مفهوم الخطيئة الموروثة... الخطيئة الجسدية. إنها بحث عن السر، عن الطاقة في حالتها البدائية المتوحشة، عن الكلام الحي، وعن الأسطورة.
فالتجربة الفنية ليست إذن، إلا هاجساً للتماهي مع المجهول، توقاً أبدياً للبحث عن السرِّ في الجمال، السرِّ في الحب. البحث عن الحب بالحب، والبحث عن الجمال بالمزيد من الجمال. إنها حالة حبٍّ وتماهٍ، لا سيطرة؛ إنها حالة تواصل، لا انقطاع. لأننا عندما نحدد الله ، نخونه، ننفيه. .
لذلك تحاول التجربة الفنية استعادة إنسانية الإنسان بما تحمله من نسق من المعرفة والعرفان، وتكون غايتها الاكتشاف المنهجي لأعماق الذات حيث يتجلَّى الحق للإنسان في صورة، فينصبغ الإنسان بهذه الصورة.
فالحب (المحبة) هو القيمة الوحيدة للتجربة الفنية؛ بل إنه القيمة الوحيدة للتجربة الإنسانية، لأنه يسمح للإنسان بلقاء ذاته، وحين يوصلنا الحب إلى الجوهر، إلى قعر الطبيعة البشرية، تغدو القيمة الوحيدة التي تسمح للإنسان بلقاء ذاته. إذ "كل مكان لا يؤنَّث لا يُعوَّل عليه." (ابن عربي)
(3) في الدعوة إلى ثقافة جمالية :
إن ترسيخ الثقافة الجمالية والفنية لا تكمن أهميتها فقط في تثقيف الذوق وترقيته، وترهيف الإدراك وتقويته، وإخصاب الخيال وإثرائه، وتنمية ذكاء وقدرات الإنسان على الخلق والابتكار، والملاحظة والاستيعاب والتفكير، بل كذلك في تجذير بعض القيم معاييرا جمالية من تنظيم وانسجام ووضوح واتزان، وتناغم واعتدال في وجودنا إحساسا وحدسا وتفكيرا، وهي معايير نحن في أمس الحاجة إليها في هذا الكيان حيث التلفيق والتنافر والتطرف والتناقض والعشوائية من سماته وخصائصه، سواء في شقه الملموس أو المجرد.
إن علاقة الفكر النير بالجمال علاقة متلازمة وطيدة، إذ من سمات الفكر السليم الراقي أن يكون منتظما في بنيته، معتدلا، متزنا واضحا، مؤثرا، منسجم المقدمات والنتائج، ولعل هذا الترابط هو ما دعا العالم "إينشتاين" إلى القول: "إن التفكير العلمي ينطوي دائما على عنصر شعري".
إن إثراء تلكم الثقافة للخيال وإخصابه هي مساهمة في إغناء وتقوية الملكات الإنسانية، فكرية كانت أو حسية أو حدسية، والارتقاء بها إلى عالم الإبداع والتجديد والإنتاج في مختلف ميادين أنشطتها، ونخص بالذكر العلوم والآداب والفنون، ذلك أن الخيال المنتج كما يقول "إيمانويل كانت" ملكة التركيب الضروري في اكتساب المعرفة، ولازمة في حصول الفهم، ووسيطة بين الحس والعقل والحساسية والفهم، وطاقة دينامية مفطورة على الخلق والإبداع، واهبة للمفاهيم صورا تعينه على التجريد.
لقد أبانت المدنية الغربية عن تقديرها وتمجيدها لفعل التخيل الذي اعتبره إينشتاين "أهم من المعرفة"، معللا ذلك بقوله: "لأن المعرفة محدودة بينما التخيل يشتمل على كل شيء في الدنيا، ويحفز التقدم، ويشكل مصدر تطوره".
كما حظي الجمال باهتمام بالغ في عصر التنوير، حتى غدا علما وفرعا من فروع المعرفة، في بداية النصف الثاني من القرن الثامن عشر، على يد مؤسسه الفعلي ألكسندر بومجارتن (1714-1762)، تكلل بأعمال هامة لثلة من رواد وأعلام المدنية الغربية، ملتحمة أشد الالتحام بمشاريعهم الهادفة إلى تنوير وتحديث مجتمعاتهم، من مثل هيغل (1770-1831)، وشيلر (1759-1805) الذي قال: "إنه لمن خلال الجمال وبواسطته يستعاد إنسان الحس والمادة إلى الصورة والفكر، ومن خلال الجمال وبواسطته يرجع بالإنسان الروحاني إلى عالم المادة، ويستعاد إلى دنيا الحس".
وهكذا نستشف أن هناك تصورا جماليا في ثقافتنا لكنه ضبابي ..، تغذى من آفة الجهل والتحريم المزمنة التي لا زالت طفيلياتها تنخر كياننا لتسود في صمت رهيب، نتيجة لتلكم الحدود الوهمية المفتعلة ، إذ قلما نصادف في عصرينا الحديث والمعاصر، مفكرا ذا إسهام في ميدان الموسيقى، كما هو الشأن لدى أسلافنا من علماء وفلاسفة كالكندي وابن سينا والفارابي وابن باجة ... مقابل هذا نجد الغربيين لا يعترفون بمثل هذه الحدود المزعومة التي تعوق وحدة وتكامل العلوم والآداب والفنون، وتلاقحها، بقدر ما تعرقل مسار تطورها ونضجها وازدهارها. ولا أدل بذلك على الخلط الحاصل بين المصطلحات التالية "الاستطيقي" و"الفني" و"الجمالي" الذي أضحى إطلاقه في أغلب الأحوال موضة الاستعمال بالكثير من الحقول المعرفية، حتى أمسى يعاني من تخم الاستعمالات الدلالية السُديمية المائعة، لاعتبارات وتقديرات مسبقة لا تراعي حمولة هذه الألفاظ الفلسفية والنظرية والتاريخية، ناهيك عن الخلط بين المعاني الجمالية والمعاني اللاجمالية، أو القيم الجمالية والقيم اللاجمالية، مما يسبب في حدوث فوضى في المفاهيم والرؤى والإدراكات المختلفة، لا يجني منها المشهد التربوي والتعليمي والثقافي ببلادنا إلا ضحالة وشروخا.



حريا بنا أن نهتم بالثقافة الذوقية الفنية والجمالية بصفة عامة، وعلم الجمال على وجه التخصيص، لما يزخر به تراثنا الجمالي والفني بشقيه التشكيلي والتعبيري...، إنها دعوة للتدشين والتأصيل لهذا العلم في ثقافتنا، في مقابل التعامل مع الآخر بأفكار مسبقة وبصورة انتقائية برغماتية ودغمائية، معمقين فتور هذه الثقافة الجمالية في عالمنا العربي والإسلامي. مع استثناء وقوفنا على ومضات من الأفكار والآراء والانطباعات الفنية والجمالية تترجم بعض الاهتمام بفلسفة الفن والجمال وثقافتهما لدى ثلة من مفكرينا ، إلا أنها تبدو مفتقرة إلى الأصالة والتأصيل دون أن ترقى لترسم لنفسها مشروعا تحديثيا يذود عن أهمية الثقافة الذوقية، وتكريسها في مجال التربية والتعليم والتكوين والتثقيف.
فلم يتم الالتفات المنشود إلى غنى وتنوع المساهمات الجمالية في تراثنا المكتوب، كما لم يحصل الانفتاح المتوخى على ما أنتجه الغرب في ميدان تلكم الثقافة الجمالية بصورة جادة وهادفة. وهكذا، ظل علم الجمال مغتربا في تعليمنا وثقافتنا على السواء إلى درجة أننا لا نجده ضمن برامجنا التعليمية الأدبية منها والفلسفية مادة رسمية، وإن وجدت فذلك من باب المماثلة مع الآخر ليس إلا .فليس من الغرابة بمكان أن يفتقر معهد وطني للفنون الجميلة ببلادنا إلى أستاذ مختص يدرس به علم الجمال ..، ألم يحن الأوان بعد إلى الشروع في تدشين وتأصيل هذا العلم بيننا ؟.



هوامش :
ـ Platon , Gorgias , Menon . Les Belles Lettres . Paris . 1967 . P 196 .
2 ـ أفلاطون ، المأدبة ، ت فؤاد جرجي بربارة.دمشق 1969.
3 ـ مطاع صفدي . الحرية والوجود ( مدخل إلى الفلسفة ) مطبعة عيتاني الجديدة . بيروت 1961.
4 ـ F . Alquié : L’expérience. P.U.F 1957
5 ـ وهيب كيروز. الجمالية وأبعادها الكونية . أواسط كانون الأول عدد 72 . بيروت 1993
6 ـ سمير التقي ، مقال : محاولة في التجربة الفنية .مجلة معابر كانون الثاني. عدد.73. بيروت 1993
7 ـ محمد عزيز البازي . مقال :مشروعية تدريس الثقافة الجمالية والفنية . معابر عدد 83. بيروت 1995



#عبد_الله_موسى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- بريتني سبيرز تقول إنها أمضت أفضل عيد ميلاد في حياتها لهذا ال ...
- الجيش الإسرائيلي يكشف تفاصيل عن الأهداف التي قصفها للحوثيين ...
- لماذا تجند فرنسا جماعات متطرفة بالجزائر؟
- خطوة إسرائيلية -مفاجئة- بعد توغل عسكري كبير في ريف محافظة در ...
- علويون يدعون للتهدئة بعد حرق مقام الخصيبي
- عبد المنعم أبو الفتوح.. التحقيق في قضية جديدة للمرشح الرئاسي ...
- خليجي 26.. السعودية تفوز على اليمن بثلاثة أهداف مقابل هدفين ...
- عودة 18 ألف سوري إلى بلادهم عبر الحدود الأردنية، ولبنان يتطل ...
- أقل من نصف السوريين بألمانيا لديهم عمل: فما فرص بقاء الآخرين ...
- بيربوك تقترح تعليق عملية انضمام جورجيا إلى الاتحاد الأوروبي ...


المزيد.....

- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبد الله موسى - القيمة والتجربة الجمالية