هذه المقابلة أجرتها ما العمل؟ لسان حال التجمع الشيوعي الثوري، بعد عودتها الى الصدور، مع المفكر والمناضل المعادي للصهيونية، ميشال فارشافسكي، بخصوص المأزق الراهن للنضال الفلسطيني، في ظل المستجدات الاخيرة، كحرب العراق، وخارطة الطريق، وحكومة ابي مازن ، الخ.. وفارشافسكي مفكر ماركسي ثوري يدعو لحل يقوم على الدولة الديمقراطية ثنائية القومية في فلسطين التاريخية. وهو يدير مركز المعلومات البديل، الذي يلعب دوراً مهماً في فضح الدولة الصهيونية وجرائمها، وفي التضامن الفاعل مع الشعب الفلسطيني وقضيته، وكان تعرض مراراً للسجن بسبب مواقفه هذه.
• ما العمل؟ (1) - لقد عبرت الانتفاضة الثانية، في الواقع، بين ما عبرت عنه، عن اليأس الفلسطيني من النتائج الكارثية لاتفاقات اوسلو، ومن المسيرة الاستسلامية للسلطة الفلسطينية. لكنها وصلت الى المأزق في نهاية المطاف. هل تتصور وسائل اخرى للخروج منه، ولإحداث تغيير في استعدادات الجماهير اليهودية للعمل من اجل سلام عادل؟
- م. فارشافسكي: تعبر الانتفاضة الثانية قبل كل شيء عن رفض جميع السكان الفلسطينيين الحياة في ظل الاحتلال وعن إرادتهم الاستقلال والسيادة الوطنية. وفي تموز/ يوليو 2000، كان رفض ايهود باراك لهذه التطلعات البسيطة، الواردة تكراراً في قرارات دولية يتعذر احصاؤها، هو الذي اقنع الفلسطينيين بانه لم يعد لديهم ما يأملونه، في الوضع الراهن وموازين القوى الحالية، من السيرورة المتفاوض عليها. وكون ياسر عرفات صمد جيداً، في كامب ديفيد، بمواجهة الضغوط المجتمعة لكل من باراك وبيل كلينتون، عزز شعبيته بالفعل بين الجماهير الفلسطينية في حين كانت هذه الاخيرة تقرر استئناف النضال ضد المحتل.
اما الواقع المتمثل في انه، خلافاً للانتفاضة الاولى، لم تؤد الانتفاضة الحالية الى تغيير ايجابي في الرأي العام الاسرائيلي والى ضغوط دولية لكي تضع اسرائيل حداً لاحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، فهو الناتج المركب لعاملين اثنين: فعالية خطاب باراك الكاذب بصدد "الرفض الفلسطيني لعروضه السخية"، وهو رفض يثبت، بحسب مزاعمه، ان الفلسطينيين لم يريدوا يوماً التفاوض حقاً بل اضعاف الدولة اليهودية، لأجل تدميرها في الوقت المناسب؛ وتغيير الاستراتيجية الاميركية، ولا سيما بعد 11 ايلول/ سبتمبر 2001 . ان جدالاً يخاض اليوم داخل السكان الفلسطينيين والتيارت السياسية المتنوعة التي تتواجد ضمنهم بخصوص استراتيجيات بديلة، من شأنها الالتفاف حول هذين العائقين الكبيرين. وبديهي ان هذا خيار فلسطيني ليس سهلاً على الاطلاق من جهة ثانية، وليس من شأني بوصفي اسرائيلياً ان اقول لهم كيف يخوضون معركتهم. وهو امر اعجز عنه من جهة اخرى... ان تغييراً كبيراً في الرأي العام الاسرائيلي لصالح السلام يفترض في الوقت عينه مواصلة الاستنزاف الذي يمثله الاحتلال العسكري الكثيف للضفة الغربية وغزة، وضغوطاً عالمية شديدة.
• (2)- يبدو أن حركة "السلام الآن" الاسرائيلية متعطلة. ما اسباب ذلك؟ وهل في وسعها ان تنطلق من جديد، وضمن اي شروط؟
- م.ف: ان انهيار غالبية حركة السلام الاسرائيلية هو ناتج كذبة باراك الكبرى والفكرة الملازمة لها والتي مفادها انه ليس ثمة شريك فلسطيني، لأنه حتى عرفات لا يتوخى غير هدف واحد هو الالقاء باليهود في البحر. وليس شارون من يقول ذلك، بل باراك وجماعة حزب العمل. ولكي تندفع الحركة مجدداً الى الامام، يجب ان يحدث انقطاع من جديد بين مواقف الحكومة الاسرائيلية ومواقف الادارة الاميركية التي كانت على الدوام منارة المواقف السياسية الخاصة باليسار الصهيوني.
• (3)- منذ عام 1995، وبعد ان كنت دعمت منظمة التحرير الفلسطينية زمناً طويلاً، توصلت الى خلاصة مفادها ان قيادة عرفات استسلمت كلياً. كيف تنظر الى هذه القيادة، حالياً، لا سيما بعد تعيين ابي مازن وزيراً اول في حكومة فلسطينية ستكون مكلفة بمواصلة المفاوضات، ضمن الشروط الحالية، مع حكومة شارون؟ الى اين قد يفضي ذلك، في تقديرك؟
- م . ف: على العكس، اظن ان كامب ديفيد اثبت انه اذا كان ياسر عرفات مستعداً لتقديم تنازلات كبرى – لا بل كبرى جداً بالنسبة للبعض، وكان هناك وقت (1996) خيّل الي فيه انه تجاوز الخط الاحمر – فهو لم يكن مستعداً للاستسلام والقبول بأي إملاء من جانب كلينتون – باراك. ان الحاجة، بالنسبة لشارون او باراك او بوش، لأن يزيحوا عرفات، تبيِّن انه يبقى ، في نظرهم، عائقاً لمخططاتهم وليس شريكاً.
اعتقد ان عرفات لا يزال يرمز الى الحركة الوطنية الفلسطينية بما فيها من جيد ومن رديء في الوقت عينه: حركة تمثل نضال الغالبية العظمى من الفلسطينيين لاجل حقوقهم الوطنية وتقوده، وتناور بين التعبئة الشعبية، والكفاح المسلح والمناورات الدبلوماسية- السياسية، ولم تعط يوماً الجماهير التي تقودها موقعاً مركزياً في استراتيجية التحرير الوطني. بسبب تاريخ علاقة القيادة العرفاتية مع الانظمة العربية، فإنها احدى القيادات الوطنية الاكثر تبقرطاً والاشد استقلالية حيال الشعب الذي تمثله وتؤطره، وهو ما يمثل عائقاً عظيماً، في حين ان الدعم – الاشكالي بحد ذاته – المتلقى من الانظمة العربية قد تراجع كثيراً وبات ما تقدمه هذه الاخيرة لأجل الاهداف التي حددتها الحركة الوطنية الفلسطينية لنفسها عديم الاهمية اكثر فاكثر.
توجد في هذه الحركة حساسيات متنوعة، تتأثر الى هذا الحد او ذاك بالضغوط الامبريالية ( والعربية)، وهي تسلطية الى هذا الحد او ذاك، لا بل فاسدة. وفقط اقلية صغيرة يمكن وصفها بأنها متعاونة ( مع الاحتلال) لكن وزنها يتعاظم بقدر ما تضعف الحركة بمجملها. ويبدو أن أبا مازن يمثل مساومة بين الشرعية الوطنية التي يمنحه اياها كونه احد مؤسسي فتح/ م ت ف، و"المرونة" التي تعزوها اليه القوى الامبريالية وجماعة حزب العمل. وفي العمق، سوف اتفاجأ جداً اذا وافق ابو مازن على ما رفضه ياسر عرفات . اظن بالأحرى انه سيواصل مناورته، في ميزان للقوى من اسوأ ما يكون ، من دون التوصل إلى شيء ملموس اكثر من ذلك الذي توصل اليه ابو عمار.
• (4)- هل تجد دوراً خاصاً ممكناً لليسار الفلسطيني، في هذا الصراع لكسب الجماهير، بين السلطة الفلسطينية وفتح، من جهة، والسلفيين الاسلاميين، كحماس والجهاد، من جهة اخرى؟ وفي غضون ذلك، كيف تنظر الى هذا اليسار، ممثلاً بحزب الشعب الفلسطيني، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والجبهة الديمقراطية؟
- م . ف : لم يعرف اليسار الفلسطيني، منذ ايام سيرورة اوسلو الاولى، ان يقدم غير انتقادات، سليمة عموماً، لسياسة القيادة العرفاتية. فليس هناك، من جانب مكونات اليسار الفلسطيني المختلفة، مشروع وطني بديل، ولا تختلف سياسته الملموسة عن سياسة فتح في شيء ، ولا سيما ان هذه الاخيرة لعبت منذ مطلع الانتفاضة الثانية، دوراً بطولياً، قتالياً، ومحترماً، في تنظيم النضال ضد الاحتلال. وهذا ما يفسر، بلا شك، لماذا فقد اليسار ثلاثة ارباع الدعم الذي كان يتمتع به قبل عشر سنوات.
• (5)- من الواضح ان الفكر الصهيوني لا يهيمن فقط لدى الطبقات البرجوازية ، العليا والوسطى، بل ايضاً لدى البروليتاريا اليهودية. ما هي الخصوصية التي تجعل هذه الطبقة عاجزة الى الان عن تبني موقف متقدم نسبياً، اذا لم يكن ثورياً، بصدد مسألة الصراع في فلسطين، بدلاً من الالتحاق كلياً برؤية الطبقة البرجوازية الاسرائيلية؟
- م.ف: لقد كان على الطبقة العاملة اليهودية في اسرائيل ان تنبثق كطبقة واعية لمصالحها الخاصة، من الحركة الكولونيالية التي تتشكل ضمنها. والامر يتعلق بسيرورة تمايز لا يزال مطلوباً أن تتم، في منظومة تذكّر ، الى حد ما ، بالمنظومات الحرفوية. وبهذا المعنى، ليست مواقف الطبقة العاملة السياسية مواقف طبقية، بل مواقف مواطنين اسرائيليين ينتمون الى مجتمع كولونيالي، ويشغلون مكانة ما في قسمة العمل. وان كون المنظمة الوحيدة التي كانت بتصرف الشغيلة الاسرائيليين، على امتداد سبعين سنة – اي منذ ما قبل خلق دولة اسرائيل بوقت طويل وحتى نهاية الثمانينيات- هي الهستدروت، كمنظمة سياسية – اقتصادية للحركة الصهيونية لا علاقة لها اطلاقاً باتحاد نقابي، قد جعل من الاصعب بكثير سيرورة التمايز الطبقي للشغيلة الاسرائيليين، بدءاً بوعي المصالح المشتركة للشغيلة اليهود والشغيلة العرب.
• (6)- ما السبب الذي يجعل اليهود الشرقيين يشكلون القاعدة الاجتماعية الاساسية لأقصى اليمين الاسرائيلي، في حين من المسلم به، تاريخياً، انه اذا كان اليهود تعرضوا للاضطهاد على مدى قرون طويلة في الغرب، فإن الأمور كانت مختلفة، في الشرق، وفي البلدان الاسلامية. وهو امر شددت عليه في الفصل الاخير من كتابك" "اسرائيل- فلسطين، التحدي ثنائي القومية" ، المنشور عام 2001، في حديثك عن الحلم الاندلسي؟
- م . ف: ان اليمين واقصى اليمين الاسرائيليين غربيان بقدر ما هما شرقيان. فنتنياهو ليس من اصل عراقي، وليس ليبرمان من اصل مغربي. بعد قول ذلك، ليس من شك في ان اليهود العرب اقلية ضئيلة في حركة السلام، فلكي "يستحق الصهيونية" اليهود العرب، اي لكي تتوفر لهم امكانية ان يصبحوا اسرائيليين مئة بالمئة، كان عليهم ان يظهروا... انهم ليسوا عرباً، لا بل انهم كانوا صهاينة من الاصل، وهذا امر منافٍ تاريخياً للمنطق والعقل. هكذا فعلوا كل شيء ، على مدى جيلين، لإخفاء لهجتهم، وازيائهم الخاصة، الخ. ان العنصرية المعادية للعرب هي اثبات، بهذا المعنى، لوطنيتهم الاسرائيلية.
• (7)- اي تأثير سيكون للحرب على العراق، في رأيك، على صورة الشرق الاوسط؟ ولا سيما على القضية الفلسطينية وسياسة شارون في الاراضي المحتلة؟
- م.ف: كل سياسة عدوان إمبريالية ضد الشعوب تعيشها الطبقة الحاكمة الاسرائيلية كضوء اخضر لمواصلة سياسة القمع الدموي والمدمر ضد الفلسطينيين. وطالما تستمر الحرب الاميركية ضد الارهاب، يعرف شارون ان في وسعه التصرف بحرية . لكن في التحليل الاخير، كل شيء يتوقف على تأثير الحرب في استقرار الشرق الاوسط، وعلى هذا الصعيد لا احد يستطيع التأكيد بأن الولايات المتحدة قد انتصرت. وليس مستبعداً أن تشعل الحرب على العراق، بعد أن تسببت باكبر حركة مناهضة للحرب في التاريخ، بؤر اعتراض على النظام السياسي- الاقتصادي للامبراطورية الاميركية. وفي حالة كهذه يمكن ان تصل الامور بالولايات المتحدة الى ان تفرض على اسرائيل انسحاباً من الاراضي المحتلة، لتهدئة الآراء العامة العربية.
• (8)- هل تظن ان تهجيراً كثيفاً يصبح، اكثر فاكثر ، تهديداً جدياً في فلسطين، علماً بأنه يمارس منذ سنوات لكن على نار خفيفة، بفعل المذابح ، والاضطهادات، وتدمير البيوت والمؤسسات التجارية والصناعية، الامر الذي ادى الى مغادرة اكثر من 150 الف شخص الاراضي المحتلة ، منذ ايلول/ سبتمبر 2000؟
- م.ف: لقد خشينا بالفعل ان تستخدم اسرائيل دخان القصف في العراق غطاء لإنجاز الهدف المعلن لقسم من مكونات حكومة شارون، اي عملية واسعة للتنظيف الاتني في الضفة الغربية، سواء باتجاه الاردن ( او جنوبي العراق) او في اتجاه ما كان قبل عام 2001 المناطق الفلسطينية المحكومة ذاتياً ( المناطق أ) والتي يمكن ان تصبح غداً " الدولة الفلسطينية المؤقتة" التي تتحدث عنها "خارطة الطريق" للجنة الرباعية. وهذا الخطر فعلي ودائم، لكن يبدو ان ادارة بوش فرضت على حكومة شارون "التحفظ"، خوفاً، بالضبط، من ان تزيد مبادرة من هذا النوع، ترافقها مجازر عديدة، مخاطر نزع الاستقرار في الشرق الاوسط .
• (9)- في ختام مقال كنت نشرته ، في مجلة الاممية الرابعة، انبريكور، في تشرين الاول/ اكتوبر 1996، كتبت ما يلي:
"ستكون العدالة للفلسطينيين والسلام للشعبين في فلسطين موضوع معركة اخرى داخل الشعب الفلسطيني بالذات، بين قيادة يبدو انها استسلمت نهائياً وجيل جديد من الكوادر السياسيين ، في الاراضي المحتلة وفي مخيمات المنفى ، قادر على ان يبلور هو ايضاً، استراتيجية للقرن الواحد والعشرين، استراتيجية نضال متناسب مع إطار نظام عالمي جديد". ما هي بنظرك، الملامح الاساسية لهذه الاستراتيجية؟
- م.ف: عموماً، اظن ان العولمة الرأسمالية، التي تترافق مع عولمة الاستراتيجيات السياسية العسكرية المعدة لارساء هذه العولمة وتعزيزها، تتطلب معارك عالمية، وبالتالي اقامة بنى عالمية واممية للنضال. وهي توضع من جهة ثانية في نصابها بصورة واعية الى هذا الحد او ذاك. ان التعبئة العالمية الواسعة ضد الحرب الامبريالية هي ناتج هذا الاضفاء للطابع الاممي، ونحن لا نزال في بدايات هذه الظاهرة ليس اكثر. ولكي ينتصر النضال لاجل تحرير فلسطين يجب ان يندمج في استراتيجيات اكثر كلية، اقليمية وعالمية، وان يستند الى قوى تتجاوز من بعيد حدود الحركة الوطنية الفلسطينية، لا بل الحركة الوطنية العربية. ان البعثات المدنية التي تأتي الى فلسطين للتعبير عن الدعم الملموس والتضامن السياسي مع الفلسطينيين، وتتألف بشكل اساسي من مناضلات ومناضلين في "الحركات الاجتماعية"، من "الحق في السكن في فرنسا" الى "فيا كامبيسينا"، ومن النقابيين المسيحيين في بلجيكا الى الفلاحين من دون ارض في البرازيل، تبيّن ان ذلك ليس حلماً بل واقع بدأ يتخذ شكلاً له.
• (10)- في كتابك "اسرائيل – فلسطين، التحدي ثنائي القومية"، تدعو ليتم ، في نهاية المطاف، تبني حل يقوم على مشروع دولة موحدة ثنائية القومية، حيث تكون هنالك مساواة في المواطنية بين اليهود والعرب الفلسطينيين، ونظام ديمقراطي. هل تظن ان ذلك قد يكون ممكناً، في مجتمع رأسمالي، علماً بانه سيكون عليه ان يمر بممارسة الفلسطينيين بالكامل حقهم في العودة ، وبالمقابل بالغاء قانون " عودة" اليهود الصهيوني من العالم باسره، فضلاً عن ايجاد حل جذري لتقدم "الأمتين" الحالي غير المتكافئ إطلاقاً ؟
-م.ف: لكي يتم حل المشكلة الاسرائيلية – الفلسطينية في اتجاه تقدمي، لا غنى عن التفكير ليس على اساس " التقسيم" وليس فقط على اساس "التحرير"، بل ايضاً على اساس "إعادة البناء". فلاجل العيش معاً، واحقاق العدالة للاجئين من دون خلق مشكلة لاجئين من جديد، ولأجل الادارة العقلانية للموارد الطبيعية والبيئة ، وخلق الثروات ضمن المساواة وليس إعادة توزيع الفقر، ولإتاحة المساواة بين الجماعات لكن ايضاً حكمها الذاتي، ينبغي الايمان، وجعل الآخرين يؤمنون ، بان فلسطين -إسرائيل اخرى ممكنة ، لأنه لا غنى عنها.
مـا الـعـمـل ؟
لسان حال التجمع الشيوعي الثوري
أيـّار 2003 بـيروت