حسيب شهادة
الحوار المتمدن-العدد: 1850 - 2007 / 3 / 10 - 10:41
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
علينا أن نعي أن الثقافة في جوهرها ينبغي أن تكون طريقة حياة وممارسة لا تنحصر في القضايا المعنوية والذهنية فحسب. مفهوم الحضارة أوسع من مفهوم الثقافة فهو يشمل العلوم والصناعات في حين أن نطاق الثقافة يتمحور في اللغات والآداب. من ميزات الثقافة الخصوصية أنها مرآة الأمة، أي أنها قومية أما الحضارة فهي بطبيعتها أممية وهي أسلوب حياة أيضا. التقوقع والانعزال معناه التبعية والتشرذم والاندثار. إن العبرة في ثورة المعلومات التي تكتسح الكرة الأرضية هي القدرة عى الغربلة والتنخيل أي طرح الغث الواهي وانتقاء السمين الرزين
يبدو لي أنه لا بدّ من إعادة النظر بشأن موقفنا من لغة الضاد، اللغة القومية لثلاثمائة مليون عربي تقريبا، والتعامل معها أساسا كوسيلة للثقافة والفكر لا كغابة في حدّ ذاتها. إن الأسلوب الرنّان الطنّان الذي لا طائلَ تحته لا مكان له في الحياة الفكرية المعاصرة والجادّة. إن الزيادة في اللفظ يجب أن تتمخّض عن زيادة في المعنى. حبّذا لو يتذكّر مدرّسو اللغة العربية على وجه الخصوص ما قاله اللغوي العربي الفذّ، أبو الفتح عثمان بن جنّي المتوفى عام 1002 ”عرف بذلك أن الألفاظ خَدَمٌ للمعاني، والمخدوم - لا شك- أشرفُ من الخادم”. وفي مكان آخرَ عبّر عن نفس المعنى بقوله ”فقد علم بهذا أن زينة الألفاظ وحليتها لم يُقصد بها إلا تحصين المعاني وحياطتها. فالمعنى إذا هو المكرّم المخدوم، واللفظ هو المبتذل الخادم
علينا أن نقرّ بأن هذه اللغة العربية الفصحى الحديثة التي تجمع تحتَ كنفها كل بني يعرب من الخليج إلى المحيط ليست لغة أم أي واحد منّا على الإطلاق. هناك لهجات عربية لا حصرَ لها في العالم العربي وهي بمثابة لغة الأم بالنسبة للناطقين بها. يتحتّم على العربي كما هو معروف أن يفهم أولاً قبل أن يقرأ بشكل سليم ثانيا في حين أن معظم أمم هذه المعمورة تقرأ لتفهم . وللأمانة العلمية ينبغي أن نشير إلى أن الفجوة بين اللغة الأدبية واللهجات تضيق باستمرار في أعقاب الانخفاض التدريجي في نسبة الأميين نتيجة للتقدم العلمي والتقني الباهر الذي يجتاح الجميع ويخترق صالوناتنا دون إذن. لكن نحن معشر العرب، والحق يُقال، لسنا من المغرمين بالقراءة وكم أتمنّى أن أصبح مخطئا في يوم من الأيام
لا نأتي بأي شيء جديد إذا ما قلنا بأن شريحة لا يُستهان بها من الأكاديميين العرب تطلّق الكتاب والمطالعة إثر التخرّج والحصول على شهادة جامعية. نعم إنهم يطلقون الكلمة المكتوبة ليتزوجوا ويقيموا أسرة وكأن الحياة الزوجية وعادة المطالعة الواعية والمنتظمة ضدان لا يجتمعان كعدم اجتماع السكونين في العربية، لغويا إنهما يجتمعان في حالتين على الأقلّ. ديدنهم إننا أصبنا من العلم والمعرفة ما فيه الكفاية ”شو العلم للشبع”!. يلاحظ أن ذلك المخزون المعرفي والثقافي الدي حصل عليه هذا الأكاديمي أو ذاك لا يُستغلّ في الأغلب لتهذيب النفس وترقيتها بل يظلّ مادّة نظرية لا تمتّ إلى الواقع بأوهى صلة. من جهة أخرى قد نجد بعض الناس الذين لم ينخرطوا في أية مؤسسة تعليمية إلا أنهم قد علّموا أنفسهم وثقّفوها خير تثقيف في بعض المجالات
المعلم القدير والمخلص في تصوّرنا هو الذي يسعى جادّا دون كلل أو ملل في زرع بذور التفكير العلمي، والاعتماد على النفس والحوار الديمقراطي المثمر في عقول فلذات أكباده وأفئدتهم، وينمي فيهم روحَ الاستقلال والعزّة والشهامة، لا الذلّ والرياء والهوان. بداية الثورة والتجديد من اللغة. اللغة أية لغة لا تعني الأصوات والصرف والنحو والمعجم أو علم الدلالة فحسب بل إنها في الأصل مرآة الشعب وهويته القومية بتاريخه وبثقافته وبتقاليده. هناك جانب آخرُ في غاية الأهمية وهو أن من لا يُجيد لغتَه بالمهارات الثلاث الرئيسية، القراءة والكتابة والمخاطبة لن يستطيع اكتساب لغات أخرى بشكل دقيق وبالسهولة المبتغاة. اللغة وعاء الفكر والوجدان ويجب التعامل معها بصدق وعمق
هناك من قال ”إن المثقفين الذين لا يُتقنون معرفةَ لغتهم ليسوا ناقصي الثقافة فحسب بل في رجولتهم نقص كبير ومُهين أيضا”. لا أحبّذُ استخدام مثل هذه الأحكام بل أقول إن إجادة اللغة العربية لا تتجلّى في حفظ كل شاردة وواردة من صرفها ونحوها وقاموسها كما وردت في أمّهات الكتب ولدى النحويين القدامى، الشعر الجاهلي، القرآن الكريم، الأحاديث النبوية، الأغاني، العقد الفريد، سيبويه، الفراء، الزمخشري، ابن جنّي، الزجاج، المازني، ابن فارس، لبن منظور الخ. الخ. اتقان المثقف العربي للغته معناه في نظري التمكن من المهارات اللغوية الثلاث، القراءة والفهم والتعبير الشفوي والكتابة السليمة. بيت القصيد أن يطبّق المثقف الجانب النظري لقواعد اللغة الأساسية ولا ضير في أن ينساها بعد أن تغدو اللغة لديه ملكةً لسانية راسخة. معرفة شبه تامّة لقواعد العربية وفق مدرستيها الرئيسيتين، البصرة والكوفة، هي مهمة ملقاة على عاتق الباحثين الأكاديميين المختصّين بغية التحليل العلمي وعلم اللسانيات المقارن
إن معرفة قواعد اللغة لا يؤدي بالضرورة إلى اتقانها حديثا وكتابة وخير دليل على ذلك ما نعرفه عن معظم المستشرقين في عالمنا الحاضر الذين لا يتكلمون العربية ولا يكتبونها بل يبحثون فيها ويكتبون عنها بلغاتهم. معرفة الشخص الكاملة لمبادىء السباحة على سبيل المثال لا تجعل منه، كما قال ابن خلدون في مقدمته، سبّاحاً. يبدو لنا أن التطبيق أعسرُ بكثير من النظرية في مجال اللغة على الأقل. رسالة تدريس اللغة العربية وإعلاء شأنها تقع أصلا على عاتق معلّم هذه المادّة في المدرسة الثانوية إلا أن الآخرين مدعوون للإسهام في ذلك
مشوار التربية والتعليم طويل وتراكمي وذو هدف نبيل
ا. د. حسيب شحادة
جامعة هلسنكي
#حسيب_شهادة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟