محمد بن سعيد الفطيسي
الحوار المتمدن-العدد: 1849 - 2007 / 3 / 9 - 11:11
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
يعج التاريخ السياسي المعاصر بعدد هائل من النظريات والفرضيات السياسية التي شكلت وجهه السياسي على صورته الراهنة , فالتاريخ السياسي في مجمله ما هو آلا وليد تلك النظريات والحركات السياسية التي شكلت الصور التي شاهدناها سابقا للتاريخ من أحداث وتغيرات وتحولات في الفكر والتطبيق على صعيد الحركة السياسية الدولية , ونشهد اليوم بروز وتطبيق عدد منها على واقعنا السياسي في جميع أنحاء العالم , وسنشهد غدا ما تبقى من تلك الأفكار والنظريات , بحيث ان التاريخ كما بدا بها سينتهي بها , فالفرق الوحيد الذي نستطيع ان نذكره للفصل بين فترة زمنية سياسية وأخرى هو في نوعية تلك الأفكار ومدى تأثيرها على البشرية أكان ذلك الى الأحسن أم الى الأسوأ 0
وقد شهدت الإنسانية في فتراتها الماضية اثر تطبيق تلك النظريات عليها بحيث أننا نستطيع ان نقول ان اغلب النزاعات العرقية والحركات السياسية والحروب الكونية , والموت الجماعي والانيقاد وراء العنف والإرهاب و غيرها من الكوارث التي تسبب به الجنس البشري ضد نفسه , لم تكن سوى الصورة العملية للوجه الآخر - أي - الوجه العملي والتطبيقي لتلك النظريات والفرضيات السياسية , مع عدم تجاهل عدد لاباس به من تلك النظريات التي كان لها الفضل الكبير نحو تحسين الحياة وتشكيل الصورة الحسنة في فترات معينة من التاريخ السياسي للإنسانية , وعلى مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية 00الخ 0
وها نحن اليوم نشهد تقييم الحركة التاريخية السياسية للقرن العشرين وما خلفه لنا من أفكار ونظريات سياسية شكلت صورته التاريخية ومدى تأثير تلك الأفكار والنظريات على القرن الحادي والعشرين , بحيث أننا نستطيع ان نقول بأنه لم يشهد العالم من قبل ذلك الكم الهائل من الأفكار والنظريات السياسية التي شكلت مجمل الحركة السياسية للتاريخ السياسي المعاصر على صعيد السياسة الدولية في قرن واحد 0
ونستطيع هنا ان نجزئ تلك الأفكار والنظريات السياسية التي يتشكل منها التاريخ السياسي في مجمل صوره بداية من الماضي ومرورا بالحاضر وانتهاء بالمستقبل وبجميع أشكالها الحسنة والسيئة الى ثلاثة أقسام :-
أولا :- الفكر الفردي الذي يتناول فيه صاحبه نظرته المستقبلية الى حركة التاريخ متناولا فكرتا ما او نظريتا ما يعتقد بأنها ستكون الاصلح او الأنسب لاستمرار الحركة السياسية للبشرية بشكل صحيح , او يرجو من وراءها تشكيل أيديولوجية ما يعتقد هو بأنها ستشكل الحاضر القائم والمستقبل القادم للإنسانية وبها تبدا او تنتهي الحركة السياسية للتاريخ السياسي , ومن أمثلة تلك النظريات والأفكار التي قام على تشكيل بناءها الأيديولوجي الفكر الفــردي - وقد تناولنا هنا النظريات التي أخذت منحى عام او اصبح لها تأثير عالمي فقط - نظـــرية " نهاية التاريخ " للأســتاذ
فرانسيس فوكوياما الياباني الأصــــل الأمريكـــي الجنــسية والذي شغل مناصب عديدة في الحكومــات الاميريكية المتــتالية , حيـث تقــوم هــذه النظرية علــى أســــاس ان ( الديموقراطيات الغربية الحرة قد انتصرت , وانتصر الغرب معها , ولن يعود ألان أمام الأمريكيين والأوربيين – او حتى العالم بأسره - ما ينتظرونه من جديد , لقد حدث هذا الجديد بانهيار الماركسية وتفكك الاتحاد السوفيتي , واعتماد الدكتاتوريات العقائدية السابقة , واغلب دول أوربا الشرقية للنظام الحر , هذا الانتصار الكاسح – في رأي فوكوياما – قد اغلق باب التاريخ , فلا جديد بعد اليوم , آلا فـي حدود بعض الإصلاحات الطفيفة , لكن لن يتعدى هذا ليصبح حدثا تاريخيا ) ( 1 ) 0
ومن الأمثلة الأخرى على تلك النظريات الفردية التي لازال تأثيرها قائما الى يومنا هذا وبشكل كبير جدا , نظرية " صدام الحضارات " لصاموئيل هنتينغتون وهو أستاذ جامعي بجامعة هارفرد الاميريكية ونختصر نظريته في التاريخ السياسي على فكرة ان الحضارات القائمة - ويعرفها بأنها أعلى تجمع ثقافي للناس و أوسع مستوى للهوية الثقافية لشعب , وتتحد بالعناصر المشتركة مثل اللغة والدين والتاريخ والعادات والمؤسسات معا – ستصطدم معا فــــي حرب من نوع ما وبطريقة ما وعلى أساس ما , ولاسباب كثيرة أكانت مباشرة او غير مباشرة , كالفرو قات الأساسية في الفكر والتطبيق والتفاعل الحضاري الذي جعل من العالم اصغر مساحة بسبب التقدم التكنولوجي والصناعي 000 الخ , وبسبب عمليات التحديث الاقتصادي والتغيير الاجتماعي التي ترمي الى فصل الفرد عن جذوره او العكس كالعولمة , و نمو الوعي بالحضارة نفسها وغيرها من الأسباب النفسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية, وقد حدد الحضارات القائمة بسبع حضارات وهي الحضارة الغربية والكونفوشيوسية واليابانية والإسلامية والهندية والسلافية والأرثوذكسية و الاميريكية اللاتينية 0
ونظرية " الإسلام والغرب " لبريان بيدهام والتي يرى فيها ان القرن القادم سيكون قرن صراع بين عدد من الحضارات التي اختزلها الى ثلاث حضارات من اصل سبع في نظرية صاموئيل هنتينغتون وهي أولا ( حضارة الغرب او بتعبير آخر الثقافة الأوربية الاميريكية , التي نتجت عن النهضة العلمية والانفتاح الحضاري , و أفرزت الرأسمالية والديموقراطية المعاصرتين , وثانيا الحضارة الصفراء او – كما يعبر عنها بيدهام – الثقافة الكونفوشيوسية التي تعتبر تجسيدا للأفكار الناشئة في إطار اللغة الصينية – ولكنه يعود ليقول بان أفكار وثقافة هذه الحضارة – لا تزيد عن كونها ضربا من الوهم نسجه الأدب فتاريخ الناطقين بالصينية يحوي الأنانية والوحشية من طرف الحكام ومن المعاناة من طرف المحكومين , أما الحضارة الثالثة التي يشير إليها بيدهام فهي الثقافة الإسلامية , ويشير كذلك الى ان السبب الجوهري للاعتقاد العام بان الثقافة الإسلامية هي المنافس الفكري الوحيد للغرب في نهاية القرن العشرين , يكمن في ان الإسلام مبني على يقين جازم بأنه فوق الأسس التي يضعها البشر , أي هو – كما يتابع بيدهام – كلمة الله التي أوحى بها على مراحل لمحمد " ص " وبدأت في زاوية يملؤها الغبار من الجزيرة العربية منذ اكثر من 1400 سنة مضت ( 2 )
ويختصر بيدهام بعد ذلك لغة الصراع التي ستقوم وستنشئ في المستقبل بين حضارتين فقط وهما الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية وبعبارة ثانية بين الثقافتين الإسلامية والثقافة الأوربية الغربية , وذلك لعدة أسباب رأى من خلالها بيدهام استحالة التقاء تلك الحضارات و تلك الأفكار في بوتقة واحدة , او على الأقل تفاهم ولو بسيط في ذلك الاتجاه الأيديولوجي رغم بعض حالات التقارب والتسامح في العديد مــن المرات , والمحاولات المستمرة لجمعهما على طاولة واحدة ولو مــن الناحية النظرية , وغيرها الكثير من النظريات الفردية والتي لا زال تأثيرها قائما الى وقتنا هذا , بل ولا زالت في حالة من التطور الثقافي , والاستمرارية في البناء الفكري رغم هشاشتها وضعـف بناءها النظري 0
ثانيا :- الأفكار والنظريات التي تتبناها الشعوب والجماعات كالحركات السياسية المراد من وراءها تغيير الفكر القائم للدولة او على المستوى الفكر الدولي في فترة زمنية ما من التاريخ السياسي المعاصر, او الأفكار التي تتبناها عدد من الأحزاب السياسية او التكتلات الدولية في محاولتا منها للتغيير او التصدي لوضع سياسي او اقتصادي او اجتماعي قائم او على وشك القيام بطريقة او بأخرى , ومن أمثلة تلك الأفكار او الحركات السياسية الحديثة والتي برزت مع بداية القرن العشرين او نهايته او مع بدايات القرن الحادي والعشرين ومن اشهرها على سبيل المثال لا الحصر , الحركة الارتدادية " Backlash " وقد نشا هذا المصطلح في الولايات المتحدة الاميريكية حيث كانت حركة البيض الارتدادية ضد التدابير المتخذة للتخفيف من أوضاع السود القائمة في تلك الدولة , او حركة البلشفيك وهي الفئة المنتمية الى الحزب الاجتماعي الديموقراطي والعمل الذين فازوا في المناظرة الرئيسية في مؤتمر الحزب الثاني في عام 1903 أو الكوميونالية وهي وصف لنوع المجتمع الذي يوجد حين تكون الانقسامات الاثنية واللغوية والدينية فيه عميقة , ويوجد هذا النوع من المجتمعات في أوربا الغربية وايرلندا الشمالية وبلجيكا وهولندا , او حركة المخالفون والتي أصبحت تطلق على المعارضين لنظام الحكم – في دول الكتلة السوفيتية والصين الشيوعية أو الديموقراطية المسيحية , وغيرها من الحركات والأفكار السياسية التي شهدها تاريخنا السياسي الدولي المعاصر( 3 )
ثالثا :- الفكر العام او النظريات التي تتبناها الدول و الحكومات كفكر سياسي او اجتماعي او اقتصادي لتسيير او تغير الاتجاهات القائمة على الصعيد المحلي او الدولي , ومن اشهر تلك الأفكار والاتجاهات العالمية والتي برزت مع بداية القرن الحادي والعشرين ونهاية القرن العشرين , فكرة العولمة – أي – نمو شبكات من الاعتماد المتبادل على صــعيد العالم كـله , ورغم أقدمية هذه الفكرة من الناحية التاريخية , إنما الجديد فيها هو ان تلك الشبكات قد أصبحت أكثف واكثر تعقيدا , ونستطيع هنا ان نقول ان فكرة العولمة هي فكرة عالمية دولية ولكن بمركزية أمريكية , وتختلف المركزية هنا عن التأصل في النشوء والولادة , - أي – ان العولمة في اصلها ليست أمريكية , حتى ولو كان الجزء الأكبر من محتواها الحالي شديد التأثير بما يحدث في الولايات المتحدة الاميريكية , وبمعنى آخر ( ان جزء كبير من ثورة المعلومات يأتي من الولايات المتحدة الاميريكية , كما ان قسما كبيرا من محتويات شبكة المعلومات العالمية يتم تكوينه حاليا في الولايات المتحدة الاميريكية ( 4 )
ولا تقتصر العولمة على شبكة المعلومات فقط إنما تتعداه الى كل أشكــال الحـياة , كالثقافة والعلوم والتكنولوجيا والطعام والشراب والفضاء و000الخ , ومن اقدم أشكال وأنواع العولمة على الإطلاق – على سبيل المثال - هو الاعتماد البيئي المتبادل , وقد كان لهذا الاتجاه منحيين أحدهما سلبي و آخر إيجابي , فعلى سبيل المثال ( فان أول وباء للجدري مسجل في مصر سنة 1350 قبل الميلاد , وقد وصل المرض الى الصين سنة 49 ميلادي , والى أوربا سنة 700 م , والى الأمريكيين سنة 1520 م والى استراليا سنة 1789 م ) رغم ولادته الأصلية في القارة الأسيوية ( 5 ) ولكنها – أي العولمة – من ناحية أخرى وعلى صعيد المجال نفسه فقد كان لها تأثير إيجابي كبير حيث ( استفادت التغذية والمطابخ في أوربا واسيا معا من بعض محصولات الدنيا الجديدة كالبطاطس والذرة والطماطم , كما ان الثورة الخضراء في التكنولوجيا الزراعية في العقود القليلة الأخيرة قد ساعدت الفلاحين الفقراء في جميع أنحاء العالم ) ( 6 )
ومن الأمثلة الأخرى على تلك الأيديولوجيات الفكرية و النظريات العامة والدولية والــتي اعتبرها مــــن - وجهة نظري الشخصية - من اخطر واهم الأفكار والنظريات التي برزت مع بدايات القرن الحادي والعـــشرين و أثرت بشكل خطير وكبير على العالم بأسره و على مختلف الجوانب الحياتية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وربما الأيديولوجية لإنسان القرن الحادي والعشرين , هي نـظرية او فــــكرة " مكافحة الإرهاب " والتي ظهرت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001 بالولايات المتحدة الاميريكية نتيجة ضرب برجي التجارة العالميين بها , رغم ان هذه الحركة السياسية قد ظهرت في مراحل عديدة من التاريخ السياسي الإنساني , في عدد من الدول و في فترات مختلفة من التاريخ وقام بتبنيها عدد من القادة والحكومات كاستراتيجيات عسكرية وسياسية للقضاء على وحش الإرهاب و التطرف والعنف السياسي , ولكن لم يكن ذلك الظهور بهذا المستوى من الاجتماع العالمي والاتفاق الدولي عليه من الناحيتين " الكم والكيف " , وقد أطلقت الحكومة الاميريكية بقيادة الرئيس جورج بوش الابن هذا المصطلح على تلك الفكرة التي تبنت تغير مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني السياسي بهذا القرن بهدف مكافحة الإرهاب والتطرف السياسي والعنف الموجه في مختلف أرجاء الأرض , رغم عدم وجود تعريف دولي على معنى المصطلح او حتى على طريقة مكافحته ومحاربته , ولهذا نجد ان تلك اللائحة الدولية – الغير منصفة - لم تشمل دولة كإسرائيل رغم قيامها بعدد هائل من الخروقات القانونية والاعتداءات على الفلسطينيين , والقتل والإرهاب والتطرف , وسنتناول تأثير هذه الفكرة بشكل منفصل في السطور القادمة من خلال اعتبارها أحد أهم وابرز الأسباب التي أدت الى بروز نظرية الفوضى السياسية او الفوضوية في السياسة الدولية , ودخول العالم بسببها الى سديم مظلم ملئ بالعنف والخوف والدماء والقتل الجماعي 0
وهكذا نرى تأثير تلك النظريات والأفكار العامة والخاصة على مجمل حركة التاريخ السياسي المعاصر, أكان ذلك الى الأحسن أم الى الأسوأ , ومدى تأثيرها في الفكر الإنساني على مختلف نواحي الحياة البشرية , وكيف استطاع بعضها ان يستمر ويقاوم المتغيرات المناخية السياسية , وتلاشى البعض الآخر لعدم وجود من يتبناها من الناحية العملية او التطبيقية , فأصبحت مجرد هباء تذروه رياح التقلبات والتغييرات السياسية الدولية 0
الفوضوية ,,, من النظرية الى التطبيق على الواقع السياسي :-
بالمقاييس الفكرية السياسية الحديثة لا يمكن اعتبار نظرية الفوضى السياسية , او الفوضوية كاستثنائية جديدة من متناقضات السياسة الدولية بالنظرية الجديدة بشكل تام وكامل , نظرا لتناول عدد لاباس به من المفكرين والمنظرين السياسيين لهذه الفكرة على مستوى السياسة الدولية بشكل مباشر او بالإشارة أليها بطريقة غير مباشرة , وان تباينت مستوى الطروحات و الأفكار الجديدة من كاتب الى آخر, فعلى سبيل المثال لا الحصر فقد تناول هذه الفكرة المنظر والكاتب الأمريكي زبغينيو بريجنسكي والذي شغل منصب وزير الخارجية أثناء فترة رئاسة الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر, في كتابه الفوضـى - الاضطراب العالمي عند مشارف القرن الحادي والعشرين - , والذي تناول فيه فكرة الاضـــــــطراب والفراغ السيـــاسي حيال واقع السياسة العالمية اليوم وما يمكن ان يحدث مع مستهل القرن الحادي والعشرين , وتناول فكرة سياسة الجنون المنظم , وغيرها من النقاط الهامة, ككيف سيكون الشكل الجيوسياسي والمذهبي لعالم القرن الحادي والعشرين ؟ وما هي الأهمية التاريخية للفشل الكبير الذي لحق بالمبدأ القمعي خلال القرن العشرين بشكل عام وبالشيوعية على وجه الخصوص باعتبارها قوة أيديولوجية في الشــؤون العالمية ؟ وغيرها الكثير من النقاط الهامة والمفيدة للولوج لمعرفة اكثر عمق لفكرة الفوضى السياسية الدولية 0
وتختلف نظريات الفوضى السياسية من مفهوم الى آخر وذلك بحسب الطرح السياسي المقصود من وراءه وضع الفكرة , كما ان تعريف مفهوم الفوضى السياسية نفسه يختلف كذلك اختلافا تاما من أطروحة الى أخرى, ومن مستوى دولي بمفهومه الشامل والعالمي , الى آخر لا يتعدى الطرح الداخلي او الإقليمي او حتى الشخصي , فتارتا تعرف نظرية الفوضـــى او – Chaostheory - بأنها التغيرات التي تحــدث على التوازنات المســــتقرة فهـي ( نظرية تقول بان تغييرات ضئيلة جدا قد تسبب انهيارات التوازنات المستقرة جدا , وكما هو الحال بالنسبة لمعظم النظريات المستقاة من العـلوم الطــبيعية , فان مكان تطبيقها على العلوم الاجتماعية أمر مشكوك فيه ولم يتم إثباته , ومن الصعب التفكير بأي مثال على ذلك من خلال دراسة الأنظمة السياسية ) 0
وبمفهوم آخر ينظر الى الفوضوية كاصطلاح سياسي بأنها كلمة مأخوذة من اللغة اليونانية وتعني " لا نظام " وبالتالي الفوضى , ( ولقد بدأت صورة الإنسان الفوضوي – كإرهابي يحمل قنبلة – في روسيا حيث قام أحد الفوضويين باغتيال القيصر الكسندر الثاني عام 1881 , وقام الفوضويون الفرنسيون باغتيال الرئيس كارنو عام 1894 , وقتل الفوضويون الأمريكيون الرئيس ماكينلي عـام 1901 م ) ( 7 )
أما بالنسبة لتعريف نظرية الفوضى السياسية المراد الوصول أليها من خلال هذا الطرح او الفوضوية كاستثنائية جديدة من متناقضات السياسة الدولية , فهي نظرية تقوم على استراتيجية نشر الفوضى السياسية بشتى الطرق الممكنة وبمختلف الوسائل المتاحة , أكانت تلك الطرق سياسية كنشر الفوضى والاضطرابات السياسية و إقامة قوى وأحزاب معارضة للمعارضة فقط في الداخل والخارج بهدف زعزعة الاستقرار والأمن الداخلي للدول والشعوب ليس إلا , وبث روح الاختلاف والتفرقة والصدامية , او عسكرية كالتدخلات في الشؤون الداخلية للدول بالطرق العسكرية بهدف إسقاط الأنظمة القائمة وقلبها ودعم المعارضة لنفس الغرض السابق , او اجتماعية و ثقافية بنشر الأيديولوجيات الاجتماعية التي تقوم على القوميات والنعرات الطائفية والعصبيات وخلافه او بنشر الأفكار الهدامة التي تقوم على الفساد والانحلال الأخلاقي بهدف زعزعة المجتمعات المستقرة , وذلك بقصد السيطرة على العالم ككل وعلى تلك الأنظمة القائمة او النظم التي ينتظر بروزها وظهورها كمنافس دولي او إقليمي للطرف الأقوى , - وبمعنى آخر – تحويل العالم ككل وبدون استثناء الى شكل من أشكال الفوضوية والغوغائية السياسية والاقتصادية , بهدف بقاءه في حالة من عدم الاستقرار, وبالتالي تحويله الى ارض خصبة لرعي قوى " الظلام والشر " واصحاب المصالح وعصابات السلاح والموت والمخدرات وخلافه0
وبشكل عام - فان كل ما يحدث في العالم اليوم من متغيرات سياسية , تأخذ منحى الغرابة الواقعية والسير على طريق العنف السياسي , و السياسة الصلبة , وتراجع الدبلوماسية العالمية , والموت الجماعي والحروب وغيرها ما هي آلا استراتيجية عالمية " مقصودة ومفتعلة " بهدف زعزعة العالم وتحطيم بناءه السياسي والاقتصادي بهدف بقاءه في حالة من الانقياد نحو القوي العالمية الكبرى , حيث انه من المعروف سياسيا بان القوى الصغيرة تكون دائما في حاجة الى القوى الكبرى للانزواء خلفها , وبالتالي فان فكرة فرق تسد ونشر الفوضى السياسية في العالم هي الطريقة الوحيدة للوصول الى تلك الاستراتيجية في ظل الواقع السياسي الراهن , وهي الوسيلة الناجحة لبلورة عالم يسير خلف الأقوى سياسيا وعسكريا وثقافيا , وقد نتصور بطريقة أخرى ان تلك الاستراتيجية المفتعلة قد خرجت عن نطاق السيطرة , فأصبحت على ماهي عليه اليوم , حيث أنها قد بدأت تشمل حتى الدول المستفيدة من وراء هذا النوع من الاستراتيجيات – أي – أنها انقلبت على صانعها ومهندسها 0
وقد برزت هذه الظاهرة و بشكل كبير وملفت للانتباه على مشارف القرن الحادي والعشرين على وجه الخصوص , حيث كان وراءها عدد من الأسباب السياسية والاقتصادية و التي أدت الى استفحالها وانتشارها كسرطان ينخر العالم وبشكل مخيف ويهدد البشرية بالانقراض والفناء , لدرجة أننا نستطيع ان نطلق على الحالة المرضية من فلتان الأمن والاستقرار والنزوع الى القتل والحروب الغـير مبررة , ورائحة الموت المنتشرة في كل مكان , وتداخل المصطلحات السياسية , وخلط المفاهيم الواضحة بأخرى موبوءة , بجنون العالم الحديث و أصابته بسرطان الفوضى السياسية 0
الأحداث الدولية وصناعة الفوضى السياسية : -
لقد هز العالم كثير من الأحداث التاريخية على مدى السنوات الماضية , والتي كان لها الأثر البالغ في تحطيم التوازنات المستقرة والثوابت السياسة الدولية والتي كان الاعتقاد السائد – على الأقل – حتى ساعتها بأنها غير قابلة للتصدع والتراجع والانهيار أمام المتغيرات الجيوبولتيكية و الجيوسياسية العالمية , ولكن التاريخ اثبت لنا عكس ذلك التصور , حيث شاهدنا الكثير منها – أي – تلك الأحداث وهي تمخر الجدار الصلب للكثير من الإمبراطوريات والنظم السياسية القائمة فتهوي بها الى القاع , وتعيد صياغة وتشكيل العالم السياسي من جديد بشكل آخر وصورة جديدة لم يكن لتكون على ذلك الشكل بدون تدخل تلك المتغيرات والأحداث السياسية في تشكيلها وبناءها على ذلك النحو 0
فإذا ما عدنا الى الوراء قليلا في استقراء لتلك الأحداث والمتغيرات التاريخية منذ بداية القرن العشرين حتى نهايته, فأننا سنجد ان هناك أحداث كثيرة قد زلزلت العالم وحطمت من بناءه السياسي والاجتماعي والاقتصادي بشكل خطير جدا , فمع إطلالة اليوم الأول من العام 1900ساد العالم بان هذا القرن سيكون بداية السعادة والخير للبشرية قاطبة , بحيث ستندمل جراح كثيرة خلفها قرن فائت طغت عليه رائحة الجثث المتناثرة في كل مكان , واللون الأحمر الذي سطرته عدة حروب دولية كحرب القرم بين فرنسا وبريطانيا من جهة وروسيا من جهة أخرى في الفترة من 1853 – 1856 والحرب البروسية الفرنسية في الفترة من عام 1870 – 1871 وغيرها من الحروب الدامية 0
نعم 00 فقد كان العالم ينتظر إطلالة شمس القرن العشرين ليداوي جراحه النازفة جراء تلك الكوارث التي تسببت بها فكر القوة والسياسية الصلبة التي تحكمت بإنسان القرن التاسع عشر ميلادي , فإذا به يصطدم مع قرن اشد وطئة من سابقه , بل واشد كارثية وخراب وموت بلا حدود , فقد وصفه العديد من المحللين و أطلق عليه الكثير من كتاب التاريخ السياسي المعاصر بأنه " قرن الموت الجماعي " فإذا بتلك الجراح التي ما كادت تندمل , تعود لتنزف من جديد ولكن هذه المرة بشكل اكبر واخطر على خلاف ما كان يتوقع , فكانت تلك الأحداث والمتغيرات السياسية التي هزت استقرار العالم في تلك الفترة من التاريخ , هي بداية لإرهاصات التوجه نحو منطق القوة والسياسة الصلبة والتي تحكمت في العالم بعد ذلك 0
( فقد أمسى القرن العشرون , على نقيض ما وعد به , القرن الأكثر دموية وكراهية في تاريخ الإنسانية , انه قرن الهلوسة السياسية والقتل الوحشي , لقد باتت القساوة جزءا من عمل مؤسساتي على درجة لم يشهد لها العالم مثيلا من قبل , وغدا القتل جماعيا , وبهذا اصبح التناقض بين المسعى العلمي للخير وبين الشر السياسي الذي انطلق عنانه بحق أمرا محيرا بل وصادما , فلم يشهد سفر التاريخ من قبل قتلا بحجمه الكوني هذا , ولم يستهلك التاريخ أرواحا كما استهلك اليوم ولم تكن إبادة الإنسان مسعى مدعوما بالنيابة عن أهداف متهورة تماما 0
فقد اطل القرن العشرين وهو يحمل للإنسانية حربين كونيتين شكلتا صورته القاتمة والسوداوية القادمة , راح فيهما ملايين الضحايا الأبرياء , نتيجة للغطرسة والسلطوية , وتحكم المصلحة الفردية وحــب ألانا , والسير على نهج القسوة السياسية في اتخاذ القرارات المصيرية للعالم , و دونما اعتبار لحق البشرية في الحياة والاستقرار والسلام والعدالة , وكانتا بداية لانقسام العالم الحديث على نفسه وعلى الآخرين , فالأبعاد - ( الفريدة لإراقة الدماء في القرن العشرين إنما هي نتاج نضالات وجودية – آنية - مركزية هيمنت على هذا القرن وحددت هويته , وهي نضالات قد أفضت بدورها الى اشد انتهاكين جماعيين وأخلاقيين في عصرنا , نقلا قرن الأمل الى واحد ميزته الجنون المنظم , فقد شمل الانتهاك الأول على حرب طويـلة ومـدمرة , ليس فقط بضحاياها من العسكر بل من المدنيين أيضا , انهما الحربان العالميتان , وما لا يقل عن ثلاثين حربا دولية كبرى وأهلية ) ( 8 )
و من أبرز تلك الأحداث والمتغيرات السياسية التي شكلت الصورة السوداوية للقرن العشرين , وحطمت من بناءه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي , وحولته الى وحش مضطرب نفسي , يستمد طبيعة من الحروب و الموت و الدمـاء , ويعيش على حالة من الفوضى وانعدام الأمن والاستقرار , الحربين الكونيتين الأولى والثانية والتين أسفرتا عن هتك ستار الإنسانية بكل بجاحة وسفور وقد تم استخدام السلاح النووي – الأمريكي – و لاول مرة في تاريخ الإنسانية وبدون إنسانية ورحمة , و حــرب " بأورغواي – بوليفيا في الفترة من 1928 حتى عام 1935 " و" الحرب الأهلية الأسبانية مع بداية العام 1939 " وحرب التقسيم الهندية الباكستانية و الحرب الكورية , وحرب فيتنام , والحرب الإيرانية العراقية في الفترة من 1980 حتى 1988 , وحرب الخليج بتوابعها بداية من غزو العراق للكويت في 12/ أغسطس / 1990 م الى حرب تحرير الكويت في 17/ يناير/ 1991 , وسقوط الاتحاد السوفيتي " 1917 – 1992 " وغيرها من الأحداث الخطيرة التي أدت الى موت الملايين من الكائنات الحية وبدون مراعاة ولا ضمير إنساني ولا أخلاقي 0
وها هو القرن الحادي والعشرين يستمد امتداده من ذلك الوضع ألا أخلاقي السابق , الوضع الذي لم تستطع البشرية الانتصار عليه والتخلص منه , والحيلولة دون استمراره وولوجه الى هذا القرن , وضع ملئ بدماء الأبرياء , وتطلعات سياسية لقوى عظمى لا هم لها سوى السيادة على العالم وحكمه بشكل مطلق وفردي , ونزوع الى الغطرسة والانا وحب الذات , وبالتالي توفير مناخ مناسب لامتداد ظاهرة الفوضى والغوغائية السياسية والعنف والإرهاب الى عالم ما بعد القرن العشرين , ولكن هذه المرة بشكل اكثر شراسة واخطر من ذي قبل , مع ملاحظة ان هذه الظاهرة قد خرجت عن نطاق السيطرة السياسية واتجهت الى طريق الفلتان السياسي والأمني , كمن يصنع وحش مخيف ويقوم بتربيته وتغذيته حتى يكبر ويقوى , فإذا ما وصل الى تلك المرحلة , انقلب على صانعه بل واصبح من اشد أعداءه 0
وهذا هو وضع الفوضى السياسية المقصودة من وراء هذا الطرح , حيث قامت على إيجادها وصناعتها قوى أرادت ان تنال من وراءها السيطرة والسيادة على هذا العالم , وارتأت من وراءها التحكم بثروات الأرض وخيراتها وإمكانياتها , ولكن ما حدث بعد ذلك هو ان ذلك الوحش قد خرج عن نطاق السيطرة فاصبح قوة مخيفة تآكل الأخضر واليابس , بل وتصيب صانعيها قبل من صنعت من أجلهم , وترتد سهامها على من أطلقها قبل ان تصيب من أطلقت عليه , وقد ساعدها على ذلك بروز عدد من المتغيرات والأحداث السياسية مع مطلع هذا القرن والتي شكلت الوجه الجديد والصورة السوداوية له , فزادت من شراسة ذلك الوحش , وغذته حتى اصبح على ما هو عليه اليوم , وبالشكل الذي نشاهده هذه الآثام في كل أنحاء العالم ودون استثناء , ومن أهم وابرز تلك المتغيرات الدولية والتي أحدثت ذلك الشرخ الهائل بين المفروض والمرفوض في السياسة الـدولية , والمتوقع وعكسه , والتي ربما تكون استمرار ونتاج لأحداث القرن العشرين من كوارث و أخطاء سياسية , وتراجع دبلوماسي , كارثة الحادي عشر من سبتمبر, او أيلول الأسود , بالولايات المتحدة الاميريكية بتاريخ 11 / 9 / 2001 م وإفرازاتها , بداية من بروز النظرية " الهيلامية " لمكافحة الإرهاب والشر, والتي حددت الولايات المتحدة الاميريكية أطرافها الرئيسية بإيران والعراق وكوريا الشمالية وغيرها من الدول التي قد ترفض الدخول الى بوتقة السيادة الاميريكية على العالم , وكتبت و أخرجت ذلك السيناريو , وانتهاء بما قد نطلق عليه الجيوسياسية والجيوبوليتيكية الاميريكية الجديدة للعالم 0
وقد أدت هذه النظرية التي تبناها العالم بأسره " بنكهة " أمريكية بحتة , بقصد مكافحة الإرهاب الدولي والعنف والتطرف السياسي العالمي , وعلى أساسها قد تم ضرب معاقل طالبان في أفغانستان وإسقاط النظام العراقي السابق , وقد يتم بعد ذلك تأديب سوريا وإسقاط النظام الإسلامي بإيران , الى عكس الموازين والأهداف المتوقعة مــن وراءهــا , فقد زاد مستوى التطرف السياسي في العالم بدرجة مخيفة جدا , بل وانتشر الإرهاب والعنف بشكل اكبر واخطر في كل أنحاء الأرض وبطرق مستحدثة وغير متوقعة , واستخدمت فيها التكنولوجيا الحديثة التي لم تستخدم من ذي قــبل , ونتج عنه بروز عدد من الظواهر السياسية الخطيرة والتي لم تكن موجودة قبل ذلك بهذا الشكل المخيف والملفت للنظر 0
مدخل الى أسباب ومظاهر الفوضى السياسية :-
من الملفت للنظر ان النظام السياسي العالمي يتجه هذه الأيام الى طريق لانهاية له وبطريقة انتحارية ومخيفة , حيث يلج الى عالم من الفوضوية والغوغائية في النظرية والتطبيق , ويسير بطريقة مغايرة وغير محددة الزوايا والأهداف , بل بأسلوب متخبط ومترنح لا يوحي سوى بان العالم على شفير الانهيار والدخول الى سديم مظلم ولجج من الخوف والضياع , والدليل على ذلك واقع الحال اليوم , والمشهد السياسي لعالمنا المعاصر وبدون استثناء , فما نراه يحدث هذه الأيام على الساحة العراقية من اختلافات ونزاعات وتدخلات خارجية , وما يدور على صعيد الساحة اللبنانية والسورية , وفي أفغانستان وعلى صعيد الملف النووي الإيراني , وحتى ما حدث سابقا في عدة دول أوربية من مشاهد العنف والإرهاب والتطرف , ومن خلال هذا الباب فأننا سنحاول تحديد أهم وابرز الأسباب التي أدت بالمشهد السياسي المعاصر للسير على هذا الطريق وبهذا النهج المتخبط والغير مدروس , وسارعت من خطاه نحو الفوضوية السياسية , وتنحصر تلك الأسباب – من وجهة نظري الشخصية – التي أدت الى ذلك الانهيار في البناء السياسي الحديث والاتجاه الى الفوضوية الدولية الى الأسباب التالية :-
أولا : - تراجع الدبلوماسية الحديثة والاتجاه العالمي الى السياسة الصلبة , على عكس المفروض , حيث ان الدبلوماسية والحلول السلمية واللينة كان لابد ان تكون على راس الأولويات السياسية لحل النزاعات والمشاكل العالمية المختلفة , حيث تعتبر الدبلوماسية هي الاتجاه الأخر للعمل السياسي , بحيث أننا نستطيع ان نقول ان الدبلوماسية هي التيار الوقائي والجدار الدفاعي للعمل السلمي والسياسة الطـرية الناعمة , وبتهميشها وتجاهلها سيتحول العالم الى طريق القوة ومنطق التصعيد نحو العسكرية لحل قضاياه المختلفة 0
فالدبلوماسي هو ذلك الشخص المتخصص والمتميز في إيصال الفكرة السياسية بطريقة يعجز الآخرين عن تحقيقها , وله ملكات شخصية خاصة به , يستطيع من خلالها إيصال وجهة نظر حكومته بطريقة سلسة وطرية , متجنبا الطريق الآخر والمتمثل في القوة والصلابة والتي تأتى بعد عجز الدبلوماسية الطرية والناعمة وتراجعها عن تحقيق أهدافها المرجوة وفــي ( الحديث العام , الدبلوماسي هو الشـــخص اللبــق الذي يظهر مهــارات فــــي " التعامل " مع الناس , وتلك صفات شخصية لمن يتولون المحافظة على مصالح بلده في عاصمة أجنبية , حيث يراس السفير البعثة الدبلوماسية , على انه يجب ان يكونوا – في الوضع المثالي – أذكياء وبالغي الحساسية والفطنة والقدرة على تمييز ظلال العبارات , الى جانب المقدرة الـلغوية , والدبلوماسية مهنة خاصة متميزة , وللدبلوماسيين وظيفتان رئيسيتان مترابطتان , نقل وشرح مواقف حكوماتهم وسياساتها الى البلدان الأجنبية ونقل أية رسائل و إشارات وردود أفعال وانطباعات من البلاد التي يعينون فيها بلادهم , ويوجد في السفارات – في العالم الحديث – تقسيم للعمل بين الذين يتخصصون في الاتصال بالزعماء الأجانب والملحقين العسكريين والملحقين التجاريين والملحقين العماليين , والذين يمارسون عملية جمع المعلومات , بما في ذلك أعمال الجاسوسية , ولعل تاريخ الدبلوماسية كمهنة يعود الى القرن السابع عشر حين كان التوجه فرنسيا , وكانت فترة مؤتمر أوربا بعد عام 1815م , الذي جرت خلالها اجتماعات دورية بين مندوبي الدول وهي الفترة التي أصبحت فيها الدبلوماسية مؤسسة دولية ضرورية ) (9 )
ولهذا فان الدبلوماسية هي اتجاه رئيسي وهام جدا لاستمرار العملية السياسية , ولابد من تفاعيله وتطويره وتحديثه بشكل مستمر, وبمختلف الوسائل الحديثة , حتى يواكب الواقع الراهن ومعطياته اليومية ابتداء بالتكنولوجيا ومرورا بمفهوم العولمة والحداثة والتطور بمختلف جوانبه , بحيث يظل الخيار الأول والأخير لحل اغلب القضايا الدولية , على ان يسايره في نفس الاتجاه اعتماد مبدا الاتفاق والمشاركة الدولية , واستثمار الاتجاه العام لربطه بالفكرة الدبلوماسية المراد توصيلها وإيــضاحها , و إلا فان التمزق وتفتيت الفكر والرأي سيكون الحليف الملازم لتلك الدبلوماسية , حيث ان التفرق وتشتت الأفكار وتباعدها , لا يخـدم سوى الاتجاه المعاكس , وهو السير نحو طريق السياسة الصلبة والتي انتهت في اغلب الأحيان بعسكرة الموقف السياسي , والاتجاه نحو مبدا القوة والعنف لمعالجة بعض القضايا الحديثة , وان دل هذا على شي فإنما يدل على عجز المنطق أمام منطق القوة وتراجع الدبلوماسية الى الوراء أمام السياسة الصلبة والاتجاه الى العسكرية 0
وهذا هو الاتجاه العام و السائد للصورة الظاهرة و والمرئية للدبلوماسية الحديثة هذه الأيام , والتي أخذت بالتراجع أمام الاتجاه الآخر , فجميع المعطيات تسير في اتجاه الإفراط نحو استخدام القوة والعنف في حل ومعالجة العديد من القضايا الدولية الحديثة في مختلف أرجاء العالم – والتي أدت الى السير على هذا النهج والاتجاه المتشدد في معالجة العديد من القضايا الدولية - رغم السعي الدؤوب للعديد من الدول والحكومات للمحافظة على دور ملموس للدبلوماسية الحديثة , ومحاولة تفعيل دورها أمام منطق القوة العسكرية في كثير من المواقف والمحافل الدولية 0
مما نتج عن هذا الخلل في المعطيات الفكرية السياسية وضعف و هشاشة الحلول السلمية المطروحة الى انحراف حاد نحو الاستخدام المفرط للقوة الصلبة , والتي كان من المفروض ان تتعامل مع الرأي الآخر بطرق سلسة وبعيدة عن التشدد والاتجاه نحو القوة وتصعيد المواقف السياسية , والتوصل لحلول منطقية تدفع الطرف الآخر للانصياع والانقياد للمجموعة السياسية الدولية , و إلا فان عكس هذا الطرح لن يؤدي آلا الى الوصول لطريق مسدود لحلحلة الكثير من القضايا الحديثة التي كان من المفروض ان لا تصل آلا ما وصلت أليه من تصعيد , نتج عنه الكثير من الأعراض الجانبية السيئة على العالم بأسره , كبروز ظاهرة العنف و الإرهاب , والــتشدد الأيديولوجي , والسـعي لامتلاك أسلحة الدمار الشامل المحرمة دوليا والتي أرى – من وجهة نظري الشخصية - أنها ردة فعل طبيعية على الخوف الناتج عن التهديدات الخارجية , وغيرها من الظواهر الســياسية والاقتصادية الناتجة عن الخلل في المنطق الدبلومــاسي الـــحديث , ورغم كون هذه الظواهر بالظواهر القديمة آلا ان ذلك الخلل في البناء الدبلوماسي واستخدام المنطق والاتجاه نحو القوة والحلول الأمنية اكثر من المعقول , اثر كثيرا في استفحال هذه الظواهر وزاد من قوتها , ومنحها مناعة مكتسبة بمرور الزمن ضد أي علاج لمقاومتها والقضاء عليها 0
فانه من المنطق والعقلانية ان ما نستطيع ان نجنيه من وراء قوة المنطق لحل أزماتنا ومشاكلنا وقضايانا على مختلف الأصعدة والجوانب , هو اكبر بكثير مما سنحصل عليه من وراء منطق القوة لحلها , فالدبلوماسية الحديثة يجب ان تعطى دور اكبر بكثير مما هي عليه ألان , كون هذه الأخيرة هي الحل المنطقي لعالم يحاول مسايرة المتغيرات الراهنة بالشكل الصحيح , ويسعى للمحافظة على أدنى الحقوق الإنسانية المفروضة وهو حق البقاء و الأمان , كما يجب إتاحة مساحة اكبر لدور المؤسسات والهيئات الدولية المعنية بالسلام من اجل حل تلك المشاكل والقضايا الدولية , ولن يكون ذلك سوى بسياسة ناعمة طرية , تعطي الآخرين الإحساس بالأمان والشعور بالحرية والعدالة والذين بدورهما يدفعان الطرف الآخر نحو الانقياد للأحسن والأفضل , بعيدا عن الخوف والإحساس بشعور الظلم والاستبداد والتشدد السياسي 0
ان هذه القوة التي نتكلم عنها هي قوة نابعة من إيمان مطلق بان السياسة الخارجية لأي أمة يجب ان لا تفصل نهائيا عن المبادئ الأخلاقية للسياسة , وحتى في ظل المبررات التي تستدعي نوع من القسوة و ألا أخلاقية في التصرف فانه لابد من ان يتم التحكم بتلك المبررات ولو بجزء بسيط من الأخلاق والإنسانية , فبفصل الأخلاق عن السياسة ينشا نوع من الانحراف نحو المصالح والانا و اللامبالاة وبالتالي الاتجاه الى سلوك نابع من منطق القوة التي تتحكم به الغطرسة والغرور كما حدث ذلك في العديد من المواقف السياسية في القرن العشرون وبدايات هذا القرن في أرجاء مختلفة من العالم , حيث فشلت الأخلاق السياسية فشلا ذريعا في التعامل مع الكثير من المواقف والقضايا الدولية التي كان من المفروض ان يتم التعامل معها بقوة ناعمة وسلسة , وسياسة أخلاقية تبرز المعنى الحقيقي لإنسانية السياسة والدبلوماسية 0
أذن فمن الضروري ان يتم إيجاد توازن فعلي بين ما يستدعي تحكم الأخلاق بالسياسة الدولية في بعض المواقــف , وتحكم الســياسة بالأخلاق فــي مـــواقف أخرى , ولن يكون هذا التوازن ممكنا في ظل ممارسة السياسة الأحادية , والتدخل في الشؤون الدولية دون مبررات تستدعي ذلك أبدا , وستكون نتيجة ذلك الخلل في الميزان السياسي خسائر غير محسوبة في الأموال والأرواح , والاتجاه الى عالم تحكمه الفوضى والغوغائية , ومخاطرة غير مدروسة ومسؤولة سينتج عنها انتهاك صريح وسافر للحقوق الإنسانية والدولية للشعوب والحكومات , ويفتح باب لسيادة الغاب وتحكم القوي بالضعيف , واتجاه عالمي للدول الصغيرة والشعوب الفقيرة والتي تشعر بالخوف من القوى الكبرى نحو السعي لإيجاد حلول ربما تعتقد من وجهة نظرها بأنها ستمنحها الأمان وخصوصا الاتجاه نحو امتلاك الأسلحة المحرمة دوليا 0
( فالمبادئ الأخلاقية عالمية وبدون إطار زمني , لكن السياسة الخارجية مقيدة بالـظروف , فهي على حد تعبير بسمارك " فن الممكن " و " علم النسبية " وعندما تطبق المبادئ الأخلاقية دونما اعتبار للشروط التاريخية , تكون النتيجة عادة زيادة في المعاناة بدلا من تحسينها , و إذا طبقت على ضوء الشروط المحلية او الدولية , يكون الغرض المنشود مقيدا بمفهوم المصلحة القومية 0000 إذن تنشا القيود على التدخل الإنساني – او غيره – من الاستعداد لدفع الثمن الضروري , على شكل تضحية في الأموال والأرواح , ولا يمكن الاستمرار في تبني مذهب للتدخل عالمي او غيره , آلا إذا كان الرأي العام مقتنعا بان المصالح التي على المحك تبرر الكـلفة , وهذا العنصر تحديدا كان ناقصا في كل الأمثلة على التدخل الإنساني العالمي في عقد التسعينيات ) ( 10 )
وقد برز هذا التراجع في دور الدبلوماسية في القرن الحادي والعشرين والاتجاه الى مبدا القوة والسياسة الصلبة من خلال النهج العسكري لحل العديد من القضايا السياسية الراهنة , بل ان المخيف في الأمر ان الموضوع قد تطور ووصل الى مستوى اخطر من ذلك , حيث أصبحت العديد من دول العالم تتاخذ قرارات فردية واحادية الجانب و مبنية على القوة ومبدا الضربات الوقائية او الاستباقية المبنية على الشك والتوقع دون اليقين ووجود الأدلة والبراهين ودون الرجوع الى المؤسسات المعنية بذلك لاتخاذ الحلول المنطقية والدبلوماسية , في اعتقاد منها بان تلك الضربات تقضي على الشر قبل انتشاره ووقوعه , وهي اقرب الى أسلوب فرض القوة وسياسة الإرهاب المضاد , ويعرف لنا الكاتب الأميركي ويليام سافير هذا المبدا والأهداف من وراء هذا النوع من الاستراتيجيات السياسية فيقول :-
( إذا ما بات أمن البلاد – أي الولايات المتحدة الاميريكية حيث ان الكاتب هنا يبرر الاستراتيجية الاميريكية من وراء هذه الضربات الوقائية – عرضة لخطر نظام يأوي الإرهابيين وغدا مرجحا تزويدهم بما يحتاجونه من أسلحة دمار شامل فان الولايات المتحدة الاميريكية لن تقف مكتوفة الأيدي لتتلقى عطف العالم وإشفاقه عليها باعتبارها ضحية مستهدفة بل ستسارع هي بتوجيه ضربة استباقية لمن يستهدفها ) ( 11 ) وهذا ما زاد من تعقيدات الوضع الدولي وتأزمه, واتجاهه الى طريق العنف والإرهاب المضاد , حيث ان العالم وبهذه الطريقة سيسلك طريق مبني على القوة الفردية , والفوضوية السياسية , وبالتالي تحوله ألي شريعة " الغاب " التي يأكل فيها القوي الضعيف , وهو بذلك يعلن نهايته الحتمية والكارثية حيث شاهدنا اثر تلك السياسة المبنية على الشك والانا في اتخاذ القرارات الدولية بأنها لم تجدي أي نفع بل و أساءت الى الدبلوماسية والسياسة اللينة في العالم المتحضر والراقي – كما يدعي إنسان هذا القرن - وحولت العالم الى بؤرة كوارث دولية , ومركز صراعات لن تنتهي للأجيال طويلة ستظل الكراهية والحقد تملى صدورهم ونفوس المتضررين من تلك السياسة الرعناء والقاسية والاانسانية 0
ثانيا :- انهيار الاتحاد السوفيتي وبروز الولايات المتحدة الاميريكية كإمبراطورية لا منافس لها , وبالتالي تسيدها وتزعمها كدولة كبرى ومتفردة على طاولة القيادة الدولية , وفرضها لقوتها وثقافتها وأفكارها على العالم ككل - مع التنويه " بأحقية " الولايات المتحدة الاميريكية وبكل جدارة بهذه الزعامة لولا غطرستها وغرورها اللذين حولاها الى كائن بغيض ومكروه من دول وشعوب عديدة وخصوصا في العالم الإسلامي الذي كان اكبر المتضررين من هذه الزعامة - حيث شكل الاتحاد السوفيتي السابق الذي استعرت ناره كالهشيم في أكتوبر من العام 1917 ( لتدق بالمنجل والمطرقة الحمراء كل أوربا والعالم ولتبشر بإمبراطورية الشغيلة على أنقاض إمبراطورية القياصرة ولتفرض نفسها فرضا كقوة رئيسية عسكريا وأيديولوجيا ولتزاحم على مدى سني الحرب الباردة العالم الغربي وزعامته الولايات المتحدة الاميريكية ) نوع من التوازن السياسي والعسكري بين قطبين تجاذبا السيطرة في ذلك الوقت على سيـادة العالم
وبعد ذلك الانهيار والذي بدت ملامحه بدخول الاتحاد السوفيتي الى أفغانستان في عام 1979 , والذي بدا كنار تأكل الأخضر واليابس وتنهش العظم واللحم و تستنزف كل ما تم بناءه خلال سنوات من الكد والعناء والديكتاتورية , والذي أعلن بسقوط ذلك المارد الأحمر في عام 1992, وبتخطيط واخراج أمريكي كما يصفه بريجينيسكي وهو يقول – عن ذلك العمل والإخراج الأمريكي الرائع لسيناريو سقوط المارد السوفيتي , هي ان الولايات المتحدة الاميريكية باشرت مساعداتها للمجاهدين الأصوليين الإسلاميين قبل ستة اشهر من الخطوة السوفيتية , و بأنه توقع وقتذاك , وقد اسر به للرئيس كارتر ان تدفع هذه المساعدات الاميريكية الاتحاد السوفيتي للأقدام على اجتياح عسكري , 00000 وعندما سئل بريجينيسكي عما إذا كان نادما على فعلته أجاب : - اندم على ماذا؟ على فكرة رائعة كفلت استجلاب الدب الروسي الى المستنقع الأفغاني , وتريدني ان اندم ؟! ففي اليوم الذي اجتاح فيه الجيش السوفيتي الحدود الأفغانية أبرقت الى الرئيس كارتر قائلا : - ألان لدينا فرصة إهداء الاتحاد السوفيتي فيتنامه الخاصة , وبالفعل فقد تكبدت موسكو طوال عشر سنوات عناء حرب لا طاقة لها على احتمالها , فتداعيت معنويات جيشها في البدء , ثم انهارت الإمبـــراطورية السـوفيتية بـرمتها )( 12 )
وبالفعل فقد أصبحت الإمبراطورية الاميريكية بعد ذلك الانهيار القوة رقم واحد , والدولة التي تشطح و" تنطح " دون أي رادع ولا منافس دولي , فانهارت بذلك السقوط المدوي للمارد السوفيتي أهم التوازنات السياسية بين القوة والقوة المضادة , ولتمسي الإمبراطورية الاميريكية وحدها على قمة سيادة العالم وزعامته , فكان ذلك مبررا اتخذته الولايات المتحدة الاميريكية لفرض سياستها وقوتها وجبروتها وتدخلاتها كشرطي للعالم من الناحيتين العسكرية والسياسية وحتى الثقافية والأيديولوجية في أحيان أخرى بذريعة مكافحة الإرهاب وإيجاد توازن ثقافي بين الغرب والشرق , فاتجهت بذلك الى فرض سياسة القوة والسياسة الصلبة متجاهلة السياسة الطرية الناعمة والدبلوماسية لحل القضايا الدولية التي أصبحت هي المشرع والمنفذ لها , وبالتالي قد جرت العالم الى صراعات لا نهاية لها وفوضوية سياسية دولية خرجت حتى عن نطاق سيطرتها هي 0
ثالثا :- تهميش دور المؤسسات والهيئات الدولية المعنية بحل النزاعات والقضايا الدولية بالطرق السلمية والدبلوماسية كهيئة الأمم المتحدة وغيرها و تحويلها الى مؤسسات غير فعالة وفي كثير من الأحيان قد تم استخدامها كـ " حصان طروادة " لتمرير بعض القرارات الفردية والأحادية كما شاهدنا في العديد من المواقف الدولية كالحرب على العراق ومحاولة إسقاط النظام العراقي السابق , رغم معارضة الكثير من الأعضاء لشن تلك الحرب , وربما يتكرر السيناريو مع سوريا بسبب تقرير ميليس حول اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري , او مع إيران حول برنامجها النووي او بسبب تشددها تجاه إسرائيل , ودول أخرى قادمة في السنوات المقبلة نتيجة لذلك التهميش الخطير لتلك الهيئات المعنية بالسلام , لذا وكما قلنا سابقا فانه بات من الضروري ان يتم الرجوع لتلك المؤسسات المعنية بالسلام وخصوصا هيئة الأمم المتحدة لحل قضايا العالم وعلى مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية و00 الخ , وعدم التدخل في سيادتها وشؤونها الداخلية , واحترام قراراتها المتخذة , كما يجب بناء تعاون دولي في إطار هذه المؤسسة يقوم على المشاركة والتفاهم والتقارب الدولي , وعليه ( ومن اجل وضع هذا النشوء المستمر لمجتمع كوني مشترك في إطاره المؤسساتي , يتحتم ظهور أشكال جديدة من التعاون المعزز وعلى محورين كبيرين : العلاقة الثلاثية بين الدول الأغنى والديموقراطية في أوربا وأميركا وشرق أسيا – سيما اليابان – ومن خلال الأمم المتحدة باعتبارها إطار العمل الأوسع والتمثيلي للسيادة العالمية , وهذا أمر سيتطلب إعادة تعريف الدور الأمريكي العالمي وتبني أوربا واليابان لنظرة عالمية أوسع , كما سيتطلب دعما مقصودا للدور السياسي الذي تضطل
به الأمم المتحدة حتى وان كان ذلك على حساب القوة الأحادية لبعض الدول المهيمنة حاليا ) ( 13 )
خاتمة الدراسة : -
تناولنا من خلال هذه الدراسة ظاهرة سياسية فريدة من نوعها وخطيرة على العالم المتحضر, تتجه الى الانتشار بشكل سرطاني وكإرثي , آلا وهي ظاهرة الفوضى السياسية التي تعم العالم هذه الأيام كوحش كاسر ينهش كل ما يجده في دربه , وبطريقة مخيفة للغاية تبشر بنهاية كارثية على الجنس البشري ان هي استمرت على هذا النحو , فقد أصبحت الفوضوية نوع جديد من المتناقضات الدولية التي يطالعنا بها التاريخ السياسي المعاصر, ويرسم ملامح صياغتها على وجه صفحاته السوداء في كل أرجاء المعمورة , فما نشهده اليوم من تداعيات سياسية , وأشكال الخراب والقتل والتفجيرات الإرهابية التي تستهدف الآمنين في كل مكان , آلا بكونها نتاج طبيعي لعالم تتحكم به السياسة الصلبة والفوضوية السياسية , والاتجاه نحو تعميق فجوة الخلافات والنزاعات العالمية 0
كما تناولنا أهم الأحداث الدولية والمتغيرات السياسية والتي كانت السبب الرئيسي – من وجهة نظرنا - وراء استمرار وانتشار ظاهرة الفوضى السياسية في مختلف أرجاء العالم , كأحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تبعه من ظاهرة مكافحة الإرهاب , والتي أدت بدورها الى شن الحرب على تنظيم القاعدة بأفغانستان , وإسقاط النظام العراقي السابق تحت ذريعة امتلاكه للأسلحة المحرمة دوليا والتي ثبت عدم وجودها بعد ذلك , و إيواءه للعدد من التنظيمات الإرهابية ودعمها بالسلاح والمال , كذلك النتائج الحتمية لتلك الظاهرة , كتراجع دور الدبلوماسية الحديثة وتهميش المنظمات الدولية المعنية بحفظ السلام وخصوصا الأمم المتحدة , والاتجاه الى سياسة الضربات الوقائية والتي نعتبرها من اخطر الاستراتيجيات العسكرية التي أثبتت فشلها في اغلب الأحيان , كما أنها اكبر دليل على السير نحو السياسة الصلبة وتغلب منطق القوة على قوة المنطق , في عالم أصبحت فيه القوى الكبرى تتربع على عرش سيادة العالم وزعامته وتسير به نحو السيطرة التامة واحادية القطب والاتجاه الى الفردية والأحادية بعيدا عن المشاركة والاتفاق في اتخاذ العديد من القرارات المصيرية التي تهم العالم والبشرية بأجمعها 0
فهل باتت هذه الظاهرة نوع من الوباء الذي يخيم على الأرض كعدد من الأمراض الفتاكة التي لا زال الجنس البشري يعاني مــنها , وعجز عن التوصل لعلاج جذري لها كمرض الإيدز و ألا يبولا وغيره ؟ أم ان العالم سينتبه من هذه الغفلة قبل فوات الأوان , ويحاول اتقاء فتنة نائمة ستكون " لعنة " القرن الحادي والعشرين ان هم استمروا في إيقاظها ؟ ! أم هل بات على البشرية ان تتحمل أخطاء الصراعات الدولية , والحروب المبنية على الأطماع والرغبة في السيادة والسيطرة , لتكون وحدها من يدفع ضريبة الحروب والقتل وسفك الدماء ؟ أم ان هناك أمل يلوح من بعيد لإنقاذ ملايين الأبرياء من وصمة العار التي ارتسمت على وجه الدول الكبرى التي ما فتئت وهي تنادي بالحرية والمساواة وحق البقاء والعيش بسلام للجميع 0
ومن هذا المنطلق - فأننا - نرى بان العالم يسير الى مصير مجهول ومخيف ان هو استمر على نهجه الحالي في التعامل مع قضاياه الراهنة كقضية مكافحة الإرهاب والتعامل مع الدول الفقيرة والضعيفة , و ستسيطر عليه الفوضى السياسية في كل مكان و لسنوات طويلة قادمة , ولن يتمكن العالم من الحصول على وقت للراحة و الأمان والسلام فيه , حيث ان القادم سيكون اشد من ما مضى , ولهذا فانه بات من المحتم وبأسرع وقت ممكن ان يتفق العالم على تعاون دولي وفي إطار الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية المعنية بالسلام , لإيجاد استراتيجية جديدة تكون الجدار الواقي والدرع الصلب أمام هذا الوحش الذي يسيطر على العالم بأسره ونقصد الفوضوية السياسية , وإلا فان مصير العالم قد بات على صفيح ساخن وبركان على وشك الانفجار وتهديد الجنس البشري بالانقراض والفناء
--------------------------------------------------
مراجع الدراسة :-
( 1 ) فرانسيس فوكوياما – نهاية التاريخ – ترجمة الدكتور حسين الشيخ , دار العلوم العربية , بيروت / لبنان , ط 1 / 1993 , ص 9
( 2 ) جودت سعيد و عبد الواحد علواني – الإسلام والغرب والديموقراطية – دار الفكر المعاصر , بيروت - لبنان , ط1 /1996 , ص 26 – 30
( 3 ) لمزيد من المعرفة عن أهم تلك الأفكار والحركات السياسية المعاصرة , راجع فرانك بيلي - معجم بلاكويل للــــــعلوم السياسية – ترجمة ونشر مركـــز الخليج للأبحاث , دولة الإمارات العربـــية المــتحدة , ط 1 / 2004
( 4 ) والتر لافيبر – ما يكل جوردان وراس المال العالمي الجديد - نـيويورك نورتون , 1999 , ص 110
( 5 ) وليام 0 ج 0 برود – الجدري : بلاء الماضي والمستقبل – النيويورك تايمز , عدد 15 / يونيو , 1999 القسمF , ص 1
( 6 ) الفريد كروسبي – التبادل الكولومبوسي : العواقب الحيوية والحضارية لسنة 1492 , ستبورت , كونيكتيكوت , مطبعةغرينوود لعام 1972
( 7 ) فرانك بيلي - معجم بلاكويل للــــــعلوم السياسية , مرجع سابق , ص 25
( 8 ) زبغينيو بريجنسكي , الفوضى – الاضطراب العالمي عند مشارف القرن الحادي والعشرين – ترجمة / مالك فاضل , الأهلية للنشر , عمان / الأردن , الطبعة العربية الأولى / 1998 , ص 12
( 9 ) فرانك بيلي - معجم بلاكويل للــــــعلوم السياسية – ترجمة ونشر مركـــز الخليج للأبحاث , دولة الإمارات العربـــية المــتحدة , ط العـــربية الأولـــى / 2004 , ص 2002 – 203
( 10 ) هنري كيســنجر – هــل تحتاج أمريكا إلى سياسة خارجية ؟ - نحو دبلوماسية للقرن الحادي والعشرين - تـــرجمــة , / عمر الأيوبــي , دار الكتاب العــربي , بيروت – لبنان , بــدون ط / 2002 , ص 262 - 263
( 11 ) وليام سافير , خدمة نيويورك تايمز , لجريدة الاتحاد الإماراتية , عدد الأربعاء – 16 / 4 / 2003
( 12 ) مجلة لونوفيل اوبسرفاتور – الفرنسية – بتاريخ 15 - 21 يناير / 1998 , ص 76
( 13 ) زبغينيو بريجنسكي , الفوضى – الاضطراب العالمي عند مشارف القرن الحادي والعشرين – ترجمة / مالك فاضل , الأهلية للنشر , عمان / الأردن , الطبعة العربية الأولى / 1998 , ص 19
#محمد_بن_سعيد_الفطيسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟