رأينا بشكل مستمر الهياكل الاقتصادية والسياسية المترابطة للأنظمة الشرقية وأسباب الاستبداد في البنية الاجتماعية بمستواها السياسي الحاكم. وبمستواها الاجتماعي الديني الحاكم. وقد امتلك التاريخ العربي الإسلامي أقوى شمولية شهدها التاريخ الإنساني. وأيضاً أكثر المحاولات الكفاحية للخروج منها. وذلك بسبب طبيعة الحراك الاجتماعي الجغرافي الذي تشكلت فيه الحضارة في المنطقة. عبر قدرة الصحارى وسكانها على إعادة عجلة التاريخ للوراء دائما. واعتقال التطور المدني المحدود الذي يتشكل في المدن. في حين أن مناطق آسيا الأخرى كالصين مثلا. عرفت عبر تاريخها الزراعي ـ التجاري المتعاضد. إمكانية للتراكم الحضاري عبر عدة قرون. مما أتاح للعناصر الشعبية العلمانية تفكيك المنظومة الدينية الشمولية والتخفيف من حضورها في الحياة الاجتماعية. وهو المستوى الذي هيمن فيه الاقطاع الديني لدينا بصورة صارمة.
ويعد سور الصين العظيم عن هذا التصدي للعناصر الرعوية من فرض قوالبها المتخلفة دائماً على الحياة الحضرية. في حين كان من الصعب للعراق أو مصر بناء سور مشابه لأنها هي ذاتها جزء من الصحراء. ولكن الأمر لا يعود لقدرة الاقطاعين السياسي والديني على لجم التطور الحضاري فقط. بل هو يعود أيضاً لضعف الفئات الوسطى في إنتاج الليبرالية. وحين ظهرت المدن العربية الكبرى لم تكن من نتاج بناء البرجوازية. وهذا الأصل العربي للبرجوازية. (مدن الأبراج) يوضح الطبيعة الصناعية والتجارية للمدن التي أنشأتها الفئات المتوسطة الأوروبية لحماية املاكها. عبر الأبراج والأسوار. وكان هذا في تعبيره الجغرافي والرمزي. يمثل القطاعات الاقتصادية التي راحت تستقل عن المركز الاقطاعي الحاكم. والتي أخذت تنمو في وضع سياسي كان الاقطاعان السياسي والديني في صراع بينهما ولم يستطيعا ايجاد هيمنة اقتصادية شاملة. فأخذت مدن الأبراج تتقوى سياسياً وفكرياً عبر عدة قرون. إن الفضاء الاجتماعي الأوروبي يختلف عن الفضاء الآسيوي عامة. فالفضاء الأوروبي لم يشهد التداخل الشديد بين الملكية العامة والحكم. الذي تمظهر دينياً بقدرة الحكم على إفراغ الثورات الاجتماعية التي تتشكل عبر عباءات الدين من مضامينها الكفاحية. فقد كانت هناك دائماً في أوروبا قوى المُلكية الخاصة الواسعة. التي تنامت خاصة في بداية العصور الحديثة. والتي غدت مدن الأبراج جوهرتها. ولهذا كان ظهور البرجوازية الصناعية هو تتويج لمسار التراكم بين الملكية الخاصة والثقافة والإنتاج الحرفي.
إن زمن الحرف الذي استمر طوال العصور الوسطى. وهو النظام الاقتصادي المغلق المعادي للتطور التقني والاختراعات. أخذ يخلي المكان الأساسي للصناعة اليدوية. وهذا ما مثل عصر النهضة. ووضع الأسس لعلوم الطبيعة الميكانيكية الرؤية. فمنذ القرن الثالث عشر والتراكمان الصناعي والثقافي يتداخلان. وأدى توسع التجارتين الداخلية والخارجية إلى تبدل أهمية ووزن مدن الأبراج. وانتقال المال من القصور والأديرة إلى خزائن هذه المدن النامية. وهنا يتبدل جمع المال إلى تراكم رأسمالي. والفارق كبير بين الجمع والتراكم. فالجمع يؤدي في أحسن الأحوال إلى إعادة الإنتاج البسيط. وكثيراً ما يقود إلى البذخ والإفلاس. وهما الوجهان المتقابلان المترابطان للحضارات القديمة. يقود التراكم الرأسمالي البسيط في عدة قرون من تكرار الصناعة اليدوية. إلى التراكم الموسع للإنتاج. وإعادة تغيير الهياكل الاقتصادية التقليدية. وقد لعب التقريب المستمر بين العلوم والإنتاج. دوره بدءاً من القرن السابع عشر في تفجير الثورة الصناعية. وهذا أزاح الهياكل التقليدية في الاقتصاد والثقافة والحياة الاجتماعية. لقد أصبحت مدن الصناعة والعلوم قادرة على إعادة تشكيل نسيج المجتمعات الأوروبية بعد ثمانية قرون من التراكم المدني العسير.
إن انفصال المدن الأوروبية الحديثة عن نسيج الاقطاع السياسي والديني بصور شتى متقطعة ومتداخلة. عضدته المساحة القارية الأوروبية الصغيرة قياساً بآسيا. ولكن أيضاً التراكم الاقتصادي والاجتماعي السابق. وخاصة تجذر مؤسسات الحكم المطلق. في حين وجدت دول آسيا نفسها دائماً في كيانات حكومية مُسبقة تسيطر على المدن. وتملك الأرض ووسائل الإنتاج وأحياناً أدواته. ثم تحاصر التجارة والحرف.
إن النمطين الأساسيين من التجارة والحرف في العالم العربي الاسلامي. هما نمط التوريد للاستهلاك الترفي الذي تقوم به الطبقة المسيطرة. أو نمط الاستهلاك الإنتاجي والذي تقوم به الطبقات الشعبية الملبي للحاجيات اليومية ذات الاثمان المحدودة. والنمط الأول وهو الاستهلاك الترفي هو عملية إهدار واسعة ومدمرة للثروة الاجتماعية. وهو الذي ترتبط به الفئات الوسطى. ويؤدي إلى إلحاقها وتوسعها أو انهيارها.. الخ. وبخلاف الإمكانية الفريدة لنشوء مدن الأبراج الأوروبية. فإن الفئات الوسطى الشرقية لم تجد إلا التكوين الإلحاقي والتابع للأشراف. إننا نستطيع تخيل مقدار الثروات المهدرة عبر حساب الأهرامات وحدائق بابل والقبور وثرواتها والقصور والمتع الأسطورية وبذخ الأماكن الدينية وعالم الحريم والرقيق.. الخ. ولهذا كان لدينا دائماً نمط التجار الكبار القلة. ونمط التجار المتوسطين والصغار الكثيرين. ولا يتشكل النمط الأول إلا من خلال الاتصال بالدولة. التي يقول عنها ابن خلدون: إنها (السوق الأعظم). في حين يعتمد الآخرون على الاتجار بالمواد الشعبية. ولا يشكل التجار الكبار أي صلة عضوية بالعلماء الطبيعيين والرياضيين والاجتماعيين. لأن نظام الحرف المغلق يظل مجرد أداة للاستيراد. أو التصدير. مثل الأسواق التي تظل مكاناً جغرافياً للسلع فقط. وليس ثمة صلة معرفية بين التجار والعلماء والحرفيين. ولهذا فإن أدوات الاتصال بين التجارة والحرف والتقنية تظل مقطوعة. فيظل التجار الكبار يتبعون خدمات الترف للقصور سواء كانت للملوك أم الوزراء أم كبار الموظفين أم رجال الدين. أي الأشراف عموماً. وهذا ما يجعل التجار الكبار يتابعون كذلك المناخ الديني والثقافي للقصور. أي لا يساهمون في تشكيل أي نوع من الوعي المتحرر.
فالسلع والحرف والمال هنا لا تقود إلى التراكم الصناعي والعلمي. فهي جزء من كماليات الترف. إن تبعية مصادر تمويل التجار الكبار للطبقة الاقطاعية يجعل الرأسمال التجاري محافظاً على الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التقليدية. وهي الهياكل التي تزداد تخلفاً عبر الهجمات البدوية المتكررة عبر القرون. بحيث تغدو المدن كيانات اجتماعية هشة فاقدة للقدرة على إنتاج التحديث. إن التجار الكبار يتوافقون مع البنية الاقطاعية بمستوييها السياسي والديني. فمسألة احتكار السلطة والنص الديني والإبقاء على تخلف وعبودية النساء والرق.. الخ تُلغى من أي خطاب لهم. عبر هذا الارتباط الاقتصادي المصيري. حيث كلمة واحدة كافية لاختفاء ثروة كاملة. أما التجار المتوسطون والصغار والحرفيون المماثلون. فإنهم يعيشون أساساً على موارد الشعب. وهي السلع المعيشية الُمشتراة بشكل يومي. وهي التي تتيح للسوق البقاء. ولكنها تقوم على الفيض المالي من الطبقة المسيطرة. الذي يقوم أغلبه على منتجي القرى. ولهذا كلما ثار الفلاحون أو تقطعت أراضي الدولة. أو حدثت فيضانات. تدهورت فوائض الدولة وبالتالي تدهورت الحياة المعيشية للجمهور وللتجار الصغار. وحدثت أزمات الغلاء والمجاعات. وغالباً ما تتدهور المدن بعد اتساعها بسبب ان على الريف أن يقوم بإعالة هذه المدن المتضخمة باستمرار. فلا يتحمل ذلك وتبدأ الثورات. وحين تنجح الأرياف والمناطق في تفكيك الدول يتفاقم التدهور في المدن. ولهذا يمكن قراءة مصير تدهور مدينة مثل بغداد. والازدهار المعاكس لمدن الري أو القاهرة أو فاس. ويعد زمن النهضة هنا هو وقت تدفق الفوائض الريفية والتجارية والتوازن بينه وبين الاستهلاك البذخي. وتقود هذه الظروف التجار الصغار والحرفيين والفئات الوسطى عموما. إلى التمسك بقشور الدين التي كرستها الطبقة المسيطرة بفرعيها. السياسي والديني. ويغدو الزهد ثم التصوف هما البدائل لنظام اقتصادي مضطرب وشحيح وزراعي.
كما حددت الطبقة المسيطرة الطابع الاقتصادي والسياسي والثقافي العام للنظام العربي الوسيط. فإنها ستحدد التوجهات العامة للفئات الوسطى منتجة الوعي والثقافة. فإذا كانت سلع الترفيه: سلع البناء كالبلاط والزجاج والعطور والثياب الخ. حصلت على المكانة الرئيسية بين السلع. وبالتالي تحددت فئات التجار على أساسها. وتحدد البناء السياسي ـ العسكري على أساس جلب الخراج والمكوس. فتمظهرت فئاته حسب ترتيب الجلب والمحافظة عليه وتنميته وهي: الولاة. والقواد. والجباة . وموظفو الدواوين.
إذا كان ذلك قد حدد ترتيب الفئات الوسطى العليا. فإن الفئات الأدنى منها. في المجال الفكري والاجتماعي. والمتعيشة من هذا النمط التوزيعي. سترتبط بشكل غير وظيفي مباشر. لكون المهمات الدينية والفكرية يجري ترتيبها في أثناء نمو النظام بآلية السيطرة الفوقية. وهكذا كان تشكل هذا المستوى يجري بتنحية العناصر المضمونية النضالية. وتقوية العناصر الشكلانية الغيبية. أو أشكال الممارسات العبادية. وتضخيم أبنيتها. وكلما نقص المضمون النضالي زاد الشكل الزخرفي والعمراني. وتبقى الجوانب المفيدة من المعاملات التي توسع العلاقات البضاعية وتكرس تقسيم العمل والإنتاج كما تفرضه الطبقة المسيطرة. ولهذا فإن فئات رجال الدين تتشكل على أساس القرب والأهمية للقوة المسيطرة السياسية. أي القادرة على تسويق السياسة العامة للخلفاء. فيظهر كبار رجال الدين الذين يصيرون جزءاً من طبقة الأشراف. بحصولهم على الأراضي الزراعية والقطائع . في حين تبقى الغالبية منهم في المستويات المتوسطة والدنيا. ولأن الدين هو المظلة الفكرية التي يستظل بها النظام. تغدو مؤسساته وإرثه وفئاته. الجزء الآخر من النظام. هو مستواه الفكري الغالب. لأن ثمة أشكالا فكرية تزاحمه كالآداب والعلوم والفلسفة لها مساراتها النوعية في النمو. ولكن قانون الهيمنة الاجتماعية ينطبق عليها كذلك. فيتم تنحية العناصر المعارضة والنقدية والتحليلية للحياة.وإذ تظهر جوانب موضوعية وعلمية ومضيئة في الإنتاج. فإنها تظهر كأشياء وظواهر جزئية. في منظومات غيبية. فتتم السيطرة على الجوانب الموضوعية والنقدية ولا تتحول إلى منظومات فكرية تحليلية كاشفة. مثلما تتقطع فئات الطبقة الوسطى إلى شرائح عاجزة عن تغيير المدينة الإقطاعية. وتظهر جذور المفكرين والكتاب المنتمين إلى الشرائح الوسطى بدءاً من أسمائهم كالغزال واصل بن عطاء. والنظام المفكر المعروف بهذا الاسم. والحلاج والاسكافي.. الخ.
كذلك فإن نسبة الشرائح في فئات الإنتاج الفكري تعبر هي الأخرى عن أدوارها في الحياة. حيث رجال الدين المتوسطون والصغار يمثلون الشرائح الأكبر. وهذا يعبر عن كون إنتاج الوعي الديني يمثل الإنتاج الأكبر. ولهذا علاقة بالوعي ووظيفيته فالدين هنا يمثل اغتراباً عن الطبيعة والإنتاج والمادة. مثلما يمثل النظام الاقطاعي الزراعي والحرفي البسيط. غياباً عن الصناعة. وتعاملاً بسيطاً مع السلع. مما يجعل هذا الوعي يحافظ على الركود الإنتاجي. وإعادة تكرار العلاقات الاجتماعية التقليدية. وباستمرار تدفقها الرعوي والقروي المتخلفين. وفي الوعي الفكري تتنحى عمليات الكشف والتحليل الاجتماعيين. فابن المقفع يُقتل حيث دفعته رغبته الإصلاحية وموالاته للإشراف إلى مصرعه. والاعتزال يتحول إلى اعتزال تابع للسلطة. أو زاهد منعزل. وتتوجه المذاهب الدينية إلى المحافظة وتنحية الاجتهاد. والمعارضة. في حين تبدأ الإسماعيلية في النشاط والترويج لفكر الإمام المستور الموجود. وبالتالي عدم تحليل الواقع المرئي واللامرئي.. الخ. إن الجوانب الليبرالية والديمقراطية في الوعي العربي القديم تغدو ضئيلة لضخامة المبنى التقليدي المهيمن على الحياة. وأساسه في النظام السياسي. فتعجز الفئات الوسطى عن إنتاج تلك الجوانب لأنها تغدو جزءاً ملتحماً بهذا النظام التقليدي بمستوييه السياسي والديني. وهذا كله على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية سيضع بعض الأسس الرئيسية للبرجوازيات العربية المعاصرة .