حيدر وسام
الحوار المتمدن-العدد: 1847 - 2007 / 3 / 7 - 12:15
المحور:
الادب والفن
في 5/آذار-مارس/2007 تعرض شارع المتنبي لهجمة إرهابية شرسة وحاقدة , هذا الشارع الذي يعد من أبرز شوارع العاصمة بغداد إن لم يكن أشهرها على الإطلاق لما له من أثر واضح في المسيرة الثقافية للبلد ولأنه يضم على أرصفته وعلى رفوف محاله ومكتباته أهم ما سطره المثقفون والمؤرخون وقادة الفكر أي بمعنى آخر فإن هذا الشارع وبتقديري المتواضع يختزل ثقافات الدنيا كلها في أمتار بسيطة من قلب العراق بغداد .
العملية الإرهابية الهمجية والتي أودت بحياة 39 مدنياً وجرح 65 آخرين والتي أسفرت أيضاً عن تدمير 75 محلأً ومكتبة و 15 مطبعة و محت 7 بنايات بالكامل , لم و لن تستطيع أن تزعزع في داخلنا حبنا له ولن تستطيع أن تمحي من ذاكرتنا محاله وباعته وأرصفته الغنية ومقاهيه التاريخية التي كنا نجول فيها وكأننا في عالم آخر مليء بالثقافة والرقي ولن تخيفنا همجية التفجير الذي ذكرنا بهمجية المغول عند إحتلالهم بغداد .
بل ستجعلنا أكثر تمسكاً به وأكثر إصرراً على إعادة إحياءه بأقلامنا وكلماتنا ( وهو أضعف الإيمان ) ولأنه واجب علينا أن نرد الجميل له ولمرتاديه وللذين عملوا على نشأته ورفده بكل ما هو قيم ولأنه يشكل شريان الثقافة الممتد على مر عصور من تاريخنا ليس لبغداد فحسب وإنما لكل العراقيين ولكل شريف ومثقف في هذا العالم ... ولأجل ما تقدم نورد هنا لمحات من تأريخ شارعنا الغالي ( شارع المتنبي ) ...
** شارع المتنبي .... نبذة مختصرة :-
كل شارع وله شخصيته وملامحه التي تميزه، وقد تتحدد ملامح الشارع بالمارة ، أو ما تحويه طرقاته من محال تجارية تصبغ رائحته بعطر مميز، يجعلك كلما استنشقته تذكرت مرورك به.. ومن أكثر الشوارع التي اشتهرت بشخصيتها المتميزة كان شارع المتنبي ببغداد..
ويعد شارع المتنبي المحصور بين نهر دجلة وشارع الرشيد، مركزا لتجارة الكتب في العاصمة العراقية بغداد، وقد أطلق عليه خلال الحكم العثماني اسم (الخامنيه) وهي كلمة تركية تعني (ثكنات الجيش) التي يمكن مشاهدتها من أحد المقاهي الموجودة فيه.
ويحمل الشارع الآن اسم الشاعر العباسي الكبير (المتنبي)، ذلك الشاعر الذي أصيب بجنون العظمة وادعى النبوة، ومات شهيد بيته الشهير "الخيل والليل والبيداء تعرفني.. والسيف والرمح والقرطاس والقلم، عندما خرج عليه اللصوص في الصحراء ليلا، فهم بالفرار، لولا أن قال له غلامه "يا أبا الطيب أما أنت القائل "الخيل والليل والبيداء تعرفني.. والسيف والرمح والقرطاس والقلم"، فرد المتنبي قائلا "قتلتني قتلك الله"، فرجع وقاتل حتى قتل هو وابنه وغلامه.
**شارع الثقافة :-
تاريخ الشارع مع الكتب يعود إلى العصر العباسي الذي بدأ في القرن التاسع، وتزايدت فيه أعمال التأليف والترجمة للكتب العلمية وازدهر خلاله الشعر العربي في بغداد، بالإضافة إلى الفنون والآداب الأخرى. وغالبية محال بيع الكتب الموجودة في الشارع صغيرة الحجم، ويتركز أغلب نشاطها يوم الجمعة، حيث ينشر الباعة الكتب العربية والانجليزية على حصير فوق أرصفة الشارع , ليقوم الجمهور بالاطلاع عليها وشرائها، ليتحول شارع المتنبي إلى سوق مفتوح للكتب في قلب بغداد.
ويحكي (نعيم الشطري) صاحب أشهر مكتبة في شارع المتنبي عن قيامه بمزاد للكتب كل يوم جمعة، يبيع خلاله الكتب النادرة، ومن بينها كتب منع نظام الرئيس المخلوع صدام تداولها، مثل قصائد الشاعر العراقي الشهير محمد مهدي الجواهري وغيره، ويقول (الشطري) :"قبل 17 سنة جاءتني فكرة تأسيس مزاد للكتب القديمة والحديثة، فأسسته يوم الجمعة قبل 17 سنة، ولاقيت تشجيع من العلماء وخيرة المثقفين العراقيين، وبدأ المزاد على كتاب (للجواهري) بنحو 4500 دينار عراقي أو ما يعادل ثلاثة دولارات أمريكية." وبسبب عشقه للكتب باع (الشطري) مكتبته في البصرة جنوب العراق، وجاء للعيش في بغداد للعمل بتجارة الكتب منذ عام 1963.
**معاناة المتنبي :-
منذ عام 1917 بدأ شارع المتنبي في الازدهار كمركز رسمي لبيع الكتب في وسط بغداد، وكان باعة الكتب يصطفون على جانبيه لعرض أفضل المطبوعات في الشرق الأوسط. ولعقود كان الشارع أحد المراكز الرئيسية للحياة الفكرية في العراق، واعتاد المفكرون ورجال الدين وأساتذة الجامعات والعراقيين العاديين التجمع في الشارع لمناقشة القضايا وتبادل الأفكار.
وجاءت سبعينيات صدام، وتم سحق الحياة الفكرية في العراق مما أدى إلى قيام أصحاب المكتبات في شارع المتنبي ببيع الكتب سرا.. وكان هناك مخبرون سريون يبلغون السلطات بأي كلمة يتفوه بها معارض في مقاهي الشارع.. كان الشارع في هذه الفترة يخضع لرقابة الأمن العام، الذي كان يعمل على ضمان حظر تداول كتب تتناول التاريخ الحديث للعراق، لذلك كانت الكتب التي حظرها حزب البعث الحاكم آنذاك تتداول بشكل سري ، وكان صاحب أي مكتبة لا يعطيها لأي زبون يطلبها إلا إذا كان يثق به.
وكان يتم تهريب الكتب الممنوعة والتي غالبا ما كانت تطبع في بيروت وتهرب إلى العراق عبر الأردن وسوريا وتركيا.. وبعد الغزو العراقي للكويت والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الأمم المتحدة على بغداد عام 1991 تراجع الاقتصاد العراقي، وكان لذلك أكبر الأثر على شارع المتنبي، حيث اختفت المجلدات والمطبوعات الفاخرة، وتحول الشارع إلى سوق للكتب المستعملة..
**عشق لا ينضب :-
ولكن آثار عشق العراقيين للقراءة والكتب ظلت موجودة بوضوح حتى اليوم في شارع المتنبي، حيث توجد مطبعة يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر تحولت اليوم إلى مقهى يرتاده أصحاب الفكر والقلم.
يقول (محمد كاظم الخشالي) صاحب هذا المقهى المسمى (الشابندر) : "شارع المتنبي هو الشريان الثقافي للمواطن العراقي الذي يمتد منه والى الأمة العربية بكاملها، حيث تروج جميع الكتب الأدبية الدينية والثقافية والكتب التي تصدر في جميع أنحاء العالم وعلى الخصوص العربية منها."
ورغم ما تعرض له هذا الشارع العلامة في تاريخ الثقافة العربية من تفجير إرهابي حاقد ، إلا أنه ما زال مصرا على القيام بدوره، حتى لو اضطر رواده للبحث عن الكتب وسط أكوام التراب والأنقاض وعلى الأرصفة. لأن شارع المتنبي باقٍ ليس كشارع فقط وإنما كشريانٍ رئيس في قلوب كل العراقيين .
#حيدر_وسام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟