|
الرحيل إلى المجهول غيض من فيض
آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 1845 - 2007 / 3 / 5 - 11:44
المحور:
أوراق كتبت في وعن السجن
عدت إلى الزنزانة.. وحدي بين الجدران العالية.. صامتاً.. لا أسمع إلا صوت خشخشة المفاتيح بالقرب من الباب.. يحركها الشرطي بتقنية عالية وبحرفية مدروسة.. أنظرإلى الكوة الصغيرة العالية.. بضعة خيوط من ضوء الصباح يتسلل منها بخجل وحياء. هذه الكوة.. تعيدني سنوات طويلة إلى الوراء.. إلى ثانوية عربستان.. المدرسة التي درست فيها.. الصف السابع والثامن والعاشر.. القابعة قرب مبنى الأمن السياسي.. بحدود عشرين متراً. يعود بي الحنين إلى الماضي.. أمعن النظرفي تلك اللحظات الآسرة من عمرالزمن.. من عمري.. تحول إلى مصباح صغير.. يبزغ من خلال العتمة التي يغلف المكان.. بالكآبة والمرارة.. أعادتني الكوة سنوات طويلة إلى الوراء.. عندما كنت أخرج من البيت بحدود الساعة التاسعة صباحاً.. من حينا.. حي الوسطى.. حاملاً حقيبتي المدرسية.. الحقيبة الجلدية الجميلة.. متجهاً إلى الحي الغربي.. ماراً بجانب ثانوية العروبة وإعدادية زكي الأرسوزي.. مقترباً من المشتل البلدي.. عابراً مدرستي.. قاطعاً الطريق الذي يقطنه مبنى هذا الفرع الكريه.. عندما كنت أقترب منه.. كان يلفني إحساس بالقرف والإشمئزاز.. حاملاً باليد الأخرى كرة القدم.. متجهاً مع مجموعة من أصدقائي إلى الملعب القريب من الأسلاك الشائكة.. عند الحدود السورية التركية.. كنا نلعب كرة القدم في الهواء الطلق.. وتحت قبة السماء الزرقاء الجميلة.. نفرح ونمرح.. ننظرإلى العسكرالتركي المخندق.. بيده رشاشه وهمجيته.. نضحك من تصلبه في مكانه.. نسخرمن مخافرالأتراك وحركاتهم الدائمة في مراقبة الحدود.. نكره نظراتهم الذئبية القاسية التي لا تتوقف من النظر إلينا. نصنع من ثيابنا أهدافاً.. نركض ونلعب. كنا من مختلف الحارات.. البعيدة والقريبة.. قدوربك.. البشيرية.. الهلالية وغيرها.. تجمعنا مدرسة جميلة.. وبشرلطفاء من مختلف المشارب.. عرب وأكراد وأرمن وسريان وأشوريون وتركمان وداغستانيون وغيرهم. نجتمع هناك.. نضحك ونغني.. دون حدود أوحواجز منصوبة بيننا.. يجمعنا الحب البريءوالمنافسة في اللعب.. وعلى مقربة من الملعب الصغير.. كانت الفتيات الجميلات من أعمارنا يتفرجن علينا.. يصفقن عند إدخال الهدف في المرمى. أيقظني الشرطي من غفوتي عندما خشخش المفاتيح بقوة.. فتبدد كل شيء في لحظة سريعة... عدت إلى الزنزانة.. إلى الوحدة والصمت والفراغ.. أتنفس بصعوبة بالغة.. صدري يعلوويهبط بسرعة.. الأفكار تتزاحم على مخيلتي وذهني.. أسئلة متعددة وكثيرة.. تطرح نفسها علي.. ماذا سأفعل.. ماذا سأعمل.. كيف أهرب من أسئلتهم المتعبة والقاسية. في البدء.. رحت أبعد صوررفاقي.. أسمائهم عن ذاكرتي.. كنت أعلم أنهم يريدون ذاكرتي.. قحف الجمجمة.. يريدون نبشها وإخراج الأسماء التي يبحثون عنها.. كنت أقول: كيف سأحمي نفسي.. جسدي وروحي.. رفاقي وأهلي وأصدقائي.. كيف أبعدهم عن مراميهم. رحت أمشي في الزنزانة الضيقة.. مطأطأ الرأس.. يحاصرني الخوف واليأس.. على مصيري ومصير غيري.. لأول مرة أحس إنني أمام عدو حقيقي.. لأول مرة أحس أن هذا الوطن مقسم.. بشكل عمودي وأفقي.. وإنني في مكان أخر.. وأن هؤلاء لا أعرفهم.. ليسوا من المكان الذي أعيش فيه.. وإنهم في حالة حرب أو معركة كبيرة وطويلة وقاسية معي.. إنني أمام ذئاب حقيقة.. ذئاب لا تعرف الرحمة والشفقة.. ذئاب تريد نهش كياني من الجذور.. صراع حقيقي.. ميدانه أنا .. وهم. كانوا ينظرون إلي كعدو.. علمت وقتها.. أن الوطن.. وطنان.. وطننا.. نحن كبشرمن لحم ودم.. والسلطة المدججة بالسلاح.. تقوده بالحديد والنار.. ولم يكن لدي خيار..سوى أن أكون رابط الجأش.. متماسكاً.. قوياً.. غير مهزوزالقلب والضمير.. كنت أقول لنفسي.. عدوي أمامي.. يريد الدخول إلى أرشيف ذاكرتي.. ينهل منها.. يأخذ كل ما يمكن أخذه.. وأنا.. ليس لدي ما أفعله سوى أن أتمسك بحقي في ما عندي.. الأفكار المغلفة بالكآبة ترسم إطلالتها علي.. تأخذ شكل أرتعاشات بالغة التعقيد.. مثل الإعاصيرالتي تقتلع كل شيء.. صخور من الغم تجثم على صدري وتدخلني في حسابات مختلفة.. كنت أعلم إنني أدخل النفق المظلم الطويل دون أي أمل.. أو بارقة أمل بالخروج من هذا المكان المطبق.. حالك السواد.. مدركاً أن سلاحي الوحيد.. هو بقائي على قيد الحياة.. أن يبقى جسدي قوياً متماسكاً.. يستطيع أن يرفض ويتحمل القسوة والألم الشديد.. والعبء الكبيرالملقى علي.. وأن خياراتي بالخلاص معدومة ولا مخرج من هذا المازق. المحقق.. الجلاد.. أبو يوسف.. فؤاد بدر حسن.. علي محسن.. صورة مصغرة عن حافظ الأسد.. هؤلاء.. لا دين لهم ولا ضمير.. لا مبادىء ولا قيم.. مجرد أدوات تدار في لعبة كبيرة... الزنزانة.. القبوالمظلم.. منذ اللحظة التي يدخل الانسان هذا المكان.. يحدث له ذلك الانفصال الأجباري.. بينه وبين عالمه القديم.. تبدأ الذاكرة القديمة في الأنحسار والتحول.. تتحول إلى غمامة بيضاء ترفرف بأجنحتها.. تطيروتغيب في لجج السماء البعيدة.. راحت الزنزانة.. تعيد تشكيل ذاكرتي الجديدة.. ذاكرة تفرض حضورها علي بقسوة.. رغماً عني.. بدأت ذاكرتي القديمة بالرحيل.. الى ذاكرة.. تشكلت وخلقت من القلق والتوتر والهيجان المنفلت من عقال الزمن المبلل بالفضلات. حاولت مرات إزاحة لحظات الجنون والإعياء.. إبعاد الأوقات المترنحة بفعل القهر. أعود من به رغبة في إقصاء القهروالخوف من دروبه الكثيرة والمجهولة.. أوقظ مواسم القطا والزرازيرمن نومها.. أحثها على الرحيل إلى الأمكان الأكثردفئاً وسكينة.. إلى ما وراء الستائروالمحطات المختفية وراء الاعاصير الغابرة. تراودني رائحة الشهقات المنسية على باب الزمن.. إلى تلك الديار التي أحتوت قامتي الصغيرة في ذراري الحياة.. أجوب في سماء الأمس.. أتزود من فراغات الروح العابرة.. تأخذني الذكريات وشهوات الحنين إلى تلك المواضع النائمة في خلد الأيام التي رحلت إلى غير رجعة. أُكثر الذكريات.. أكثر الذكريات التي تهزني.. هو لون الانهار.. صوت رقرقة الماء وهو يسوح في قاع الارض كأنه على موعد مع القدر.. لون الماء كلون المطريساكن قاع ذاتي.. لا أدري من أين أبدأ وأي تأريخ أسطرفي هذه الأمكنة المرعبة.. والبعيدة. أعود إلى الصمت المطبق.. الذي يطوقني من جميع الجهات.. بأستثناء خشخشة المفاتيح اللعينة. صاح الشرطي بصوت خافت ومحرض: جهز نفسك.. خشخش المفاتيح بقوة.. ضربهم على ركبته.. ثم أدخل المفتاح في القفل. وقفت أمام المحقق أبو يوسف.. رجل كبير بالسن.. لون وجهه اصفر.. وشكله كريه.. ينقط من ملامحه السم.. منذ اللحظة الذي تراه.. تقرأ في تقاطيعه.. امتهان العهروالبغاء الرخيص.. كان ينظرإلي طوال الوقت بحقد دفين.. تتلون شخصيته تبعاً لمتطلبات الأوامر. سألني: ماذا قال لك.. قلت: من تقصد.. أجاب: الرائد.. ماذا تكلم معك.. قلت: يريد كما تريد.. أن اعتراف.. هز رأسه وقال: ما علينا.. أردف: يجب أن تعلم.. إنك تحت رحمتنا الأن.. لا خلاص لك إلا بالإعتراف والتعاون.. لديك شيء تقوله اليس كذلك.. في متناولك أشياء كثيرة الأن.. نحن تحت إمرتك لحين الأعتراف.. وبعدها لكل حادث حديث.. خذ مرة أخرى ورقة وقلم وأبحر في مرافئك الواسعة ومراسيك المتنقلة.. قل ما تشاء.. لكن.. لا بد أن تمنحنا نفسك.. إعترافك يسهل علينا عدم تعذيبك فقط لا أكثر.. لكن في النهاية سننال ما نريده.. ستعترف/ستغتصب/ سواء بإرادتك أو في حال ممانعتك.. في كلا الحالتين أنت من يتوجع ويقهرويتألم.. الإعتراف طريقة سريعة لإخراجك من الدائرة المزودة بالمجاهروالعدسات الراصدة لمساحات أطيافك.. الصغيرة.. والضيقة. ثم أردف قائلاً: إعلم إننا سهلنا عليك المهمة كثيراً.. اعطيناك الوقت الكافي من أجل أن تقول كل ما عندك.. تعترف وترتاح وتريحنا . استسلم للمصير المرسوم لك قبل أن تموت أو تتشوه أكثر . كنت أنظرإلى وجه الداعرة.. أبو يوسف.. أوالشبقة فؤاد بدر أو علي محسن.. أصحاب المبغاي المتحركة.. الى وجههم المنتوفة من الحياء والخجل.. إلى المساحيق الموزعة على كل وجوههم وقسماتهم.. إلى خمائرهم القذرة.. وخماراتهم العفنة.. المربوطة بالمواسم الدائمة والفصول المكررة.. وتداول الليل والنهار. من شدة القهروالإعياء لم أرفع رأسي.. قلت بصوت واضح: ــ إنني أمامك.. تراني لا أملك شيئاً إلا هذا الجسد المرمى تحت قدميك.. لا أعرف شيئا عما تتحدث عنه وليس لدي شيء جديد.. لقد قلت كل ما لدي.. لقد نلتم كل شيء.. ـــ لم ننل شيئاً بعد.. لم ننل منك بعد.. مشوارنا طويل.. نحن وأنت والزمن.. لن تخرج من هنا كما دخلت.. لن تخرج إلا بالإعتراف.. لهذا كما قلت لك.. إذا إعترفت بسرعة.. وأعطيت ما لديك من معلومات.. ترتاح وتريحنا. قلت: ــ لكن.. ليس لدي ما أقوله.. أعود مرة أخرى إلى الزنزانة.. ما أن تطأ قدمي المكان حتى يستدعوني مرة أخرى.. لقد تناوب علي.. لقد حقق معي.. سبعة محققين.. ما أن يدخلوني الزنزانة حتى يطلبوني مرة أخرى.. يبدأون معي من الصباح.. بحدود الساعة التاسعة.. ويستمرون إلى الساعة الثانية عشرة ليلاً... لقد أتلفوا أعصابي وجسدي وروحي.. كنت أقول إن الأذى الجسدي الذي تعرضت له كان أسهل بكثيرمن أسئلتهم التي كانت تخترق رأسي.. مجرد أن أرفض.. أقول لا.. يجهزون الدولاب.. ويبدأون بالضرب.. وأقسى ما كان يؤلمني.. عندما كانوا يحشرون الخيزرانة في عقب قدمي.. يغرسونها في مواضع الوجع والدم.. في البقع المجروحة والمفتوحة. كان الجلاد أبو زهرة يستمتع بفرك الخيزرانة في عقب قدمي ويستلذ لسماع صوت صراخي وآهات الألم الخارجة من أعماق روحي.. وبجانبه كان يقف أبو يوسف.. ينظرإلى الدم بشهية.. ينظر إلي بهدوء وصمت.. كنت أقول لنفسي.. هؤلاء الخنازيرلا يتعبون.. لا يملون.. كثيرة هي المرات التي شعرت فيها.. إنهم فوق جلدي.. يشقونه.. يسلخونه.. ثم يدخلون إلى صدري.. يمشون بين ثناياه.. بأيديهم سواطيرخارجة من تحت الناروالجمر.. يكووا بها قلبي وروحي... كنت أريد بضعة لحظات.. من أجل الأسترخاء أوالراحة.. من أجل أن أعيد توازني النفسي.. أعيد حساباتي.. كانت أسئلتهم متواترة.. متدفقة.. كومات من الأسئلة تطرح علي.. يريدون إجابات محددة وسريعة.. أسئلتهم كانت تتعب أعصابي.. تقلقني.. تكويني.. تمزق أنسجة لحمي وعظامي.. يسألون: من فلان.. من فلانة.. ما صلتك بهم.. من هم.. كنت أقول لهم: تقولون أنكم تعرفون كل شيء.. إذاً: لماذا تسألوني! كانوا يقولون: نريد الجواب منك.. وتتكرر الاسئلة بشكل أخر.. كيف كنتم تجتمعون.. مواركم المالية.. من أين تتلقون الدعم.. بماذا تفكرون.. كيف تريدون التغيير.. لماذا تستغلون الأزمة التي تمر بها البلاد.. ما هو عددكم.. من هي الدول التي تدعمكم.. أنتم حفنة خونة تريدون النيل منا. من خلال التحقيق علمت أن الفرع موزع الولاءات.. الرائد علي محسن والمحقق أبو طارق من جهة وبين العقيد فؤاد بدر حسن وأبو يوسف من جهة ثانية.. وأنهم في حالة منافسة على تربع كرسي العرش.. المبغى الدامي.. وأنهم لا يثقون ببعضهم.. مكان مؤبوء.. كريه.. كل الموبقات.. كل أنواع الدعارة منقوشة أحرفها بينهم.. فهم لا يثقون ببعضهم.. كل طرف يعمل لمصلحته الخاصة.. من أجل ضمان رضا وقبول الجهة الأعلى.. لكنهم كانوا متفقون جميعاً على إنتزاع الإعتراف مني.. يتسابقون على أخذ سبق الإعتراف مني.. لهذا كنت بين أيديهم كمحرقة أو كبش أضحية العيد. إنه مكان..مشحون برائحة تقادم الزمن الفاسد , تستيقظ بين اللحظة والاخرى لترسم أشكال الممانعة والقبول.. تشتم منه روائح المرضى والأنفاس المأكسدة.. العرق المصنن الملتصق بهم من جميع الأطراف. كل الموبقات التي نعرفها اوسمعنا عنها لا توازي أولا تساوي نقطة في بحرموبقات هذا المكان. إنهم لا يخجلون من شيء ولا حدود أمام أحلامهم وطموحاتهم ورغباتهم المريضة والغير قابلة للشفاء . ما أصعب أن تتعامل مكرهاً مع قواد رخيص.. مزين بريبان وأشرطة.. وعلى أكتافه نجوم مرصعة بالذهب.. ولديه إعتراف شرعي بالبقاء.. هذا المكان الكريه.. فيه ممرات كثيرة.. حجرات سرية.. دهاليز عميقة وغميقة.. تسير تحت الأرض وتلف على بعضها.. في قلبها العزلة والألوان الباهتة.. الأشياء الممجوجة والمتداخلة.. الجدران كالحة مع عفونة ورطوبة وظلام. تسكنه.. تستوطنه طيور سوداء كبيرة.. لا تطيرإلا في الليل.. ولا تتعملق وتكبروتتحول إلى مجنحات خارقة إلا في العتمة الدامسة وفي ظل الصمت التام. هذه الطيورالخرافية الجارحة.. تنقض على الفرائس الأمنة.. تأخذ زادها ورغيف خبزها عنوة.. تفتح لحمها الطري وتنهشه.. بعد أن تمزق الثياب وتخرج الجسد.. تنهش أكوام الأحلام والخلايا الحية.. تشرب الدم وتأكل المصارين والمعدة والأكتاف.. ثم ترمي الباقي بعد إعادة تشكيلها الى النسور الجارحة لتنقب الذرات المتبقية بكثير من التلذذ . هذا المكان.. يتسع لكل شيء.. يتسع للاقتتال ومشاهد المصارعة والمذابح والأنقسامات. ما عرفناه عنهم إلا غيض من فيض.. إنهم يمتهن البحث عن اللذة في الوجع.. والسعادة في تمزيق اوصال الأخرين.. من أجل الخروج من حالة العزلة واليأس القاتل. من أجل البحث عن شيء مجهول يسليهم, يبعد الفراغ عنهم. مستعدون لكل شيء.. الخيانة.. القتل.. الدعارة... ثيرانهم المجنحة.. تقتحم الحلبات والمنصات المفتوحة وتدخل في عراك مع مصارعين من الدرجات الأقل قوة... إنهم يضعون البرامج والتصورات القديمة والمستقبلية ويقدروا الاحتمالات القادمة ليبقوا على عرشه الدم خالدون.. إلى الأبد.. لاتزحزحهم المراكب الضعيفة. الذي ليس معنا.. ضدنا. بهذه المعادلة القذرة.. حمل السلطان حافظ الأسد سيفه في وجهنا.. وجه مجتمعنا.. هل كان لدي خيارفي الهروب من أيديهم.. هل كان لدي وسيلة أخرى لم أجربها.. هل يوجد بطولة في هكذا مكان.. ربما.. لا أدري؟. كان الخريف طويلاً تلك السنة.. يعوي ويزبد طوال الوقت.. في الشارع.. عند الخروج من الفرع.. مكبل بالسلاسل.. مررت من جانب مدرستي مرة أخرى.. شاهدت أطفال المدارس.. حقائبهم الملونة الجميلة على أكتافهم.. ضحكاتهم البريئة مرسومة على وجوههم.. مرحهم.. شبان وشابات.. يتسامرون ويتغامزون والآف الرغبات الدفينة تتمازج في قلوبهم.. كدت ألتهم المكان.. مدركاً إنها المرة الأخيرة التي سامر بها من هنا. كنت في قلب الأمواج.. أريد أن اعيش اللحظات بكل مقاساتها.. اتمنى أن أطيربالرغم من القيد الذي يدمي معصمي.. أتفرس في الوجوه العابثة.. أنظرإلى ثيابهم الجميلة.. أشكالهم الوردية الزاهية.. أقول في سري.. طعامكم على المائدة.. ساخن ولذيذ.. والأطباق تنتظركم بفارغ الصبر. السيارة تأكل الاسفلت وتلتهم المكان.. المطر يتساقط بتكاسل.. وغراب أسود يحلق في الفضاء منذراً بجو كئيب. في أعماق الجزيرة المترامية الأطراف.. في طريق طويل ومفتوح.. حيادي وأسود وصامت.. سهول على أمتداد البصر.. بوعي مأساوي.. راحت ذاكرتي تختزن تجربة الألم.. أنظر من النافذة وعلى مدى النظر ونهايات الأفق مساحات شاسعة ممتلىء بالماء.. أرتد على نفسي كأمتصاص الندى للفجر.. عيناي تأخذني إلى الارض المبذورة بالسكون.. رغبتي أن احتضن الطبيعة المنفلتة من يدي وقلبي.. أن التحم بشقوقها.. مع تهلألأت حفيف الشجر.. والخط الفاصل بين مدينة الحسكة والقامشلي لطالما سرت عليه كثيراً.. زمن وبوح وندبات تتغلف في القلب والوجدان. الريح تصفر وتعوي وتترك صداها الحزين على ثلالم الفؤاد.. بيوت متفرقة.. على مسافات متباعدة عن بعضها.. مرمية بين احضان الطبيعة المعطاءة.. والشجر حالها حال البشر.. تعيش وحدانيتها وبوحها وحزنها وفراقها في بقع متباعدة. عند أقترابنا من سجن الحسكة.. فتح الباب الرئيسي بمنتهى الخضوع والتهذيب.. دخلنا والقيد بيدي ويد صديقي محمد خير.. قادونا إلى الطابق الأعلى.. يتبع
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرحيل إلى المجهول التحقيق
-
الرحيل إلى المجهول 1
-
الحب.. وأشياء أخرى
-
الهرم
-
تحت ظلال بادية تدمر
-
الدولة والمجتمع وفق منظورأخر
-
بعد المعركة الطويلة على لبنان
-
الثائر.. الملك السويدي كوستاف الأول
-
النظام الدولي وآلياته
-
غرفة التحقيق
-
النظام العربي
-
ظلال الوقت
-
من الذاكرة.. إلى الذاكرة
-
السجن..مرة أخرى
-
الليل في سجن تدمر
-
بعض الذكريات من منزل الموتى
المزيد.....
-
تقنية التعرف على الوجه سلاح الجيش الإسرائيلي للإعدامات والاع
...
-
نائبة مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة تشير إلى ازدواجية معايير
...
-
أول رد فعل من نتنياهو بعد اعتقال اثنين من مكتبه في قضية التس
...
-
حماس: اتفاق يوليو الماضي هو المفتاح لوقف الحرب وعودة الأسرى
...
-
ممثل الأمم المتحدة يؤكد للسيستاني عدم التدخل في شؤون العراق
...
-
فيديو: ما وراء قرار الاحتلال وقف عمل وكالة الأونروا؟
-
السيسي يؤكد لعباس دعم مصر للسلطة الفلسطينية وحماية حق تقرير
...
-
بعد توقيف 4 أشخاص بمكتب نتنياهو.. اعتقال ضابط إسرائيلي في قض
...
-
أسامة حمدان: حظر الاونروا يؤكد اصرار الكيان على التمرد والاس
...
-
موسكو تطلق سراح بعض العسكريين الأوكرانيين الأسرى
المزيد.....
-
١-;-٢-;- سنة أسيرا في ايران
/ جعفر الشمري
-
في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية *
/ رشيد غويلب
-
الحياة الثقافية في السجن
/ ضرغام الدباغ
-
سجين الشعبة الخامسة
/ محمد السعدي
-
مذكراتي في السجن - ج 2
/ صلاح الدين محسن
-
سنابل العمر، بين القرية والمعتقل
/ محمد علي مقلد
-
مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار
/ اعداد و تقديم رمسيس لبيب
-
الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت
...
/ طاهر عبدالحكيم
-
قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال
...
/ كفاح طافش
-
ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة
/ حـسـقـيل قُوجـمَـان
المزيد.....
|