أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال سبتي - مصائرُ السّرد















المزيد.....

مصائرُ السّرد


كمال سبتي

الحوار المتمدن-العدد: 1842 - 2007 / 3 / 2 - 12:17
المحور: الادب والفن
    


-1 -
لم نصلْ بعدُ إلى أُلفة المدن. كلُّ مدينةٍ كتابٌ ، وكلّ كتابٍ عصيٌّ على الفهمِ ، حتى يعتُق. لم نصلْ بعدُ إلى ألفةِ المدن ولا إلى غربتها.كانت مدينتنا الصغيرةُ نداءً إلى ما وراء البابِ الصغيرالذي كان مغلقاً. وكانت مدينتنا الصغيرة نداءً إلى عالمٍ مجهول ، كنّا نحفظُ أسماءَ مدنِهِ عن ظهرِ قلبٍ :
تلكَ التي كنا نقرأها في خرائطِ المدرسةِ الملونة.
في صباحٍ باردٍ ، انتحرتْ اِبنةُ الجيران : لقد حرقتْ نفسها.
لم تكن ابنة الجيران تفقهُ شيئاً في المعرفة ووعي الموت.وفي صباحٍ آخرَ ، سمعتُ خبرَ فرارِ شابٍ صغير – كان يسكنُ حيَّنا – إلى خارج العراق. وفي الخامسةِ عشَرَة من العمر ، أخذتُ أتأمّلُ نهرَ الفراتِ من على جسر الناصرية في ساعةٍ متأخرةٍ من الليلِ ، مُردّداً جملاً لكتّابٍ تعرفتُ إليهم في المكتبة العامة. لكأنَّما التفكيرُ الوجوديُّ في العالم علامةٌ على الكِبَر.
كان لنا مقهىً ، وكان لنا ليلٌ . كانت لنا مدينةٌ ، وكان لنا وهمُ السفر.
مرةً ، وقد كنتُ في بغدادَ ، سمعتُ خبرَ غرق اثنينِ من صحبةِ القراءةِ والمقهى ووهمِ السفر. كتبتُ قصيدةَ "غابة في نهر".. وبكيتُ أياماً وأياماً. لم نكنْ نجيدُ الخديعة ، ولم أكنْ أعرفُ أننا نجيدُ الموت. من خرّبنا إذن ؟
الخرابُ الذي وُلِدَ معنا ، في مدينتنا الصغيرة ، الخرابُ الذي لا يساويه حجماً خرابُ مدنٍ كبرى، كيف عرفناهُ ؟
كيف وُلِدنا معه ؟ وكيف انتهينا إليهِ هذه النهاية ؟
كان يحيى يكتبُ الشعرَ ، وكان جواد يكتبُ القصة . وقد غرقا ذاتَ يومٍ معاً ، وأخذت الرواياتُ المتضاربة تنتشرُ في كلِّ حيٍّ من أحياء المدينة : لقد انتحرا معاً.. توقفَ الجميعُ – مقتنعاً – في النهايةِ عند هذه الرواية المفجعة. كانت الحربُ مع إيران في أوْجِها،وكان موتنا الكامنُ في نفوسنا: هواءَنا الوحيد.
في لحظةٍ مّا، وجدتُ نفسي مركوناً في "السجنِ : الرقمُ واحد". بدأتُ أقولُ لنفسي إنَّ نهايتي اقتربتْ وإنّ أحداً مّا ، لا أعرفه ، سيقضي عليَّ.
صرخَ ذاتَ مرةٍ في وجهي سجّان : أنتَ..هيه ، ستموتُ قريباً. لم يقل لي أحدٌ ماذا فعلتُ ؟هل أردتُ قلبَ نظامِ الحكم ؟ لاأدري. المصادفةُ وحدَها ساعدتني على الخروجِ من هذا السجنِ الرهيب. قصاصاتُ ورقٍ بمثابةِ رسائلَ إلى من هو في الحياةِ : إنني هنا أيها الناس.
إنَّ الشابَ النحيلَ الذي لا يقوى على شيءٍ هو شاعرٌ أيها السجّان.
لم أتذكّرْ أحداً من الذين أُعدِموا ، ولم تكن ذاكرتي تقوى على المساعدة.
لم أتذكّرْ أحداً ، وتوقّفَ العالمُ كلّهُ عندَ جملةِ ذلك السجّان .
كنّا نُسْجَنُ ، بل ويموتُ بعضنا ،ولم يكن أحدٌ في هذا العالم ينتبهُ لمصيرنا ، وربما لم يكن مصيرُنا يعني أحداً.
فينا من انتحَرَ وفينا من ماتَ في أقبيةِ السجون، وفينا من شُرّدَ ، وعاش فقيراً في فنادق بغدادَ الرخيصة،لم يتبوّأ منصباً في جريدةٍ ولا كانت له حظوة عند حاكمٍ من حكام بغداد.
من نحن؟
شعراءُ ، آثروا الفقرَ والشعرَ معاً.. قد يتلطخُ أحدهم بحزبٍ مّا ، وقتاً في شبابه ، لكنما الشعرُ يأخذه في ما بعدُ ، أبعدَ من كلِّ حزبٍ ، لتبدأ المأساة..
كان غيرُنا من الشعراء الذين جاءوا بعدَ انقلاب "1968" رئيساً لتحرير المجلة أو الجريدة. كان يسمّي نفسه موظفاً كبيراً ، وكان أحدنا تهمة تمشي في شوارع بغداد ، وتنتظرُ الإعلانَ المفاجىءَ – ذاتَ لحظةٍ – عنها ، ليذهبَ بها حامـلُها – الشاعرُ إلى أيّ سجنٍ قريبٍ. فعليه أن يتوخّى الحذر، حتى لا تحلَّ هذه اللحظة ، الحذرُ كانَ مناورةَ الشاعرِ منا!
كانت بغدادُ منفانا..
وكان المنفى الآخرُ يضجّ بأناشيدِ الثورةِ القادمة ،التي لم تحلَّ ، وحلّت محلَّها مساعٍ للثراء،ولشراءِ بيوتٍ في هذه البلاد أوتلك.
كنّا نموتُ وحدَنا أحياءَ ، وكانَ غيرُنا يكتبُ عن عهودٍ سابقـة ، رحيمةٍ إذا ما قورنتْ بعهدِ دكتاتورنا.
وكنّا نُتَّهمُ بشعرنا وحيدينَ وبعذابنا مُشرّدينَ في أروقةِ بغداد.. وفنادقها الرديئة.
كم كانَ صعباً عليَّ أنْ أفهمَ بلادي. مرةً وجّهَ لي أحدُ شعراءِ انقلابِ "1968" تهمةَ تخريبِ الجيلِ اللاحقِ لنا.وقتَها فرحتُ بهذه التهمةِ ، وعلمتُ أننا فعلنا شيئاً –حقّاً– في الشعر ضدّ السياسةِ التي كانت تأكلُ كلَّ شيء. الذي لم يُتَّهمْ بشيءٍ ، لم يكن شاعراً..

-2-

ليسَ ثمّة جيلٌ إرهابيٌّ عرفه الشعرُالعراقيُّ كالجيلِ الذي تسلَّلَ إلى مرافق الدولة بعد انقلاب 1968 في بغداد. فأصبحَ رئيسَ التحرير شاعرٌ منه ، وسكرتيرَ التحرير شاعرٌ منه ، ومحرِّرَ الصفحاتِ الثقافيةِ في أيةِ جريدةٍ أومجلةٍ شاعرٌ منه. نسوا الشعرَ وفرحوا بالوظيفة والسلطة. وتنادوا، مع حلفائهم،إلى تسميةٍ لأنفسهم ، فسمّوا أنفسَهم : جيلَ الستينيات.
أصبحَ الشاعرُ الأميُّ طليعياً ، وحاملُ الثقافةِ البدويةِ داعيةَ حداثةٍ وأصبحَ الآخرُ الذي لا يفقهُ شيئاً في الشعر أو في المعرفة ِعموماً: شاعراً مستقبلياً.
لقد تمّتْ لهم بفضلِ سلطة الانقلابِ وبسرعةٍ فائقةٍ سلطة ثقافية لم يحلمْ بها كبارُ الشعراءِ في العالم. فأوجدوا لهم شرّاحاً لما يكتبونَ ، ومفسّرينَ لما يحلمونَ،وسمّوهم نقاداً..
لقد كانوا السلطةَ كلَّها : سياسةً وثقافة..
أمّا الكتابة النقدية المغايرة عن شاعرٍ منهم ، فلقد أصبحتْ ولأوّلِ مرةٍ في تاريخِ الشعرِ ، مغامرةً وجودية قد تعرّضُ كاتبَها إلى الخطر. بل أنهم هدّدوا شعراءَ آخرينَ ، ذاتَ مرّةٍ ، باجتثاثِ وجودِهم الفيزيقيّ !

- 3 -

صباحاً سيبدأ النشيدُ الذي لم أسمعْهُ منذ سنوات ، وسـتبدأ معَهُ أحلامٌ مبتسرة ، منذ أصبحَ المنفى نوماً لكوابيسَ تبدأ ولا تنتهي. مرةً في أحدِ مقاهي العاصمةِ ، في شارعِ الرشيدِ ، التقيتُ شيخاً طيباً لا يتكلّمُ البتة عن الحاضر. كان الآخرونَ يقولونَ إنّ ذاكرةَ هذا الشيخِ توقفتْ عند مقتلِ الملكِ الأخير أو بعدَها بقليل.
لم أقلْ له شيئاً عن الماضي ،كنتُ مرتدياً بذلةَ الجنديةِ الإلزامية التي أكرهُها ، وكنتُ تعِباً ، أتصبّبُ عَرَقاً من حرِّ بغدادَ وحربِ دولتِها..
طلبتُ شاياً، وسألتُهُ إنْ كانَ يرغبُ في طلبِ شايٍ لهُ هو الآخر. قال :
شكراً ، كيف حالك ؟
قلتُ : تعرفها جيّداً..
ثمّ بدأتْ ذاكرته المزدحمةُ بالأحداثِ ، الزاخرةُ بالمعرفة ، تعملُ عملَها المبارَكَ معي.
وبدأتُ أحسُّ بالفارقِ بين حياتينِ ، في الحدثِ الذي يرويه ، في الاسمِ الذي ينطقه ، وفي الحسرة. فارقٌ بين حياةِ الخمسينيات ، وحياتنا. كان يروي لي أحداثاً عاشها ، أو سمعَها وكنتُ أفكّرُ في الشعر، في جيل الخمسينيات تحديداً، في تلك الحرية التي تبخّرتْ.. وتذكرتُ صديقَنا الراحلَ، الكاتبَ والمحامي محمود شاكر العبطة وهو يفتخرُ أمامَنا ، في مقهى البرلمانِ وفي مقهى حسن عجمي، بدفاعِهِ عن حسين مردان في قضيةِ "قصائد عارية" أيّامَها..
وضحكتُ من أيّامِنا..
لقد عاشُ شعراءُ تلك الفترةِ حريةً لم نعشها نحن.
ربَّما عاشَ شيئاً منها بعضُ شعراءِ انقلاب "1968" ، ممّن تربّى في تلك السنواتِ ، ونشطَ شعريّاً في نهاية الستينيات.
لكنه ركنها بعيداً عنه بعد الانقلاب،عندما نعمَ بالوظيفة والسلطة.




1993 مدريد



#كمال_سبتي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خَريفُ الغِياب
- تلك السَّعادةُ غائبة
- في الليل .. قصيدة بدر شاكر السياب والاستثناء الشعري
- بمناسبة ذكرى رحيل السياب ..تشظّي الصّوتِ الشّعريِّ الأوّل
- الآخَرُ ، العدوّ، عند إدوارد سعيد والشعراء العرب
- الشاعر والتاريخ والعزلة
- قصيدة البلاد
- مكيدة المصائر
- بريد عاجل للموتى
- وسوى الرومِ خلفَ ظهرِكَ رومٌ : نشيد انتصار
- الشاعر واصدقاؤه
- أنعتبُ على أدوارد سعيد وهو غائب عنا ..؟
- الأَقْبِيَة
- حين يبيع الغشيم شعرنا رخيصاً
- الخطوةُ الأولى في الحداثة الشعرية العراقيّة
- الصّوتُ الشّعريّ
- الخوف على الشعر
- التاسع من نيسان واللاءات الأربع
- آخِرُ المدنِ المقدَّسة..براثا: لم اغتسل في السوق القديمة
- كمال سبتي: هربنا من دكتاتور قاس لكن الحرب والاحتلال أفسدا أم ...


المزيد.....




- زيمبابوي.. قصة روائيي الواتساب وقرائهم الكثر
- مصر.. عرض قطع أثرية تعود لـ700 ألف سنة بالمتحف الكبير (صور) ...
- إعلان الفائزين بجائزة كتارا للرواية العربية في دورتها العاشر ...
- روسيا.. العثور على آثار كنائس كاثوليكية في القرم تعود إلى ال ...
- زيمبابوي.. قصة روائيي الواتساب وقرائهم الكثر
- -الأخ-.. يدخل الممثل المغربي يونس بواب عالم الإخراج السينمائ ...
- عودة كاميرون دياز إلى السينما بعد 11 عاما من الاعتزال -لاستع ...
- تهديد الفنانة هالة صدقي بفيديوهات غير لائقة.. والنيابة تصدر ...
- المغني الروسي شامان بصدد تسجيل العلامة التجارية -أنا روسي-
- عن تنابز السّاحات واستنزاف الذّات.. معاركنا التي يحبها العدو ...


المزيد.....

- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / أحمد محمود أحمد سعيد
- إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ / منى عارف
- الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال ... / السيد حافظ
- والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ / السيد حافظ
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال ... / مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
- المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر ... / أحمد محمد الشريف
- مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية / أكد الجبوري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال سبتي - مصائرُ السّرد