|
التشاؤم العلائي دوافعه ومظاهره
طالب أحمد المعمري
الحوار المتمدن-العدد: 1843 - 2007 / 3 / 3 - 08:34
المحور:
الادب والفن
المقدمة
رهين المحبسين البيت والعمى أبو العلاء المعري الشاعر والفيلسوف والناقد العربي الذي بلغت الآفاق شهرته ، والذي تأثر بأوضاع عصره ذلكم العصر الذي ساءت فيه الحياة السياسية فعم الاضطراب وانتشرت الصراعات ، وساءت الأحوال الاقتصادية ، فأثقل كاهل الناس بالضرائب ، وضعفت العلاقات الاجتماعية بينهم ، فانتشر الفساد وعمت الفوضى .
كما تأثر أبو العلاء المعري بالنكبات التي مرت به في حياته منذ الطفولة إذ أصابه الجدري في الرابعة من عمره فقد على إثره بصره ، ثم فقده لأبويه ، وإساءة الناس إليه ،أضف إلى ذلك قبح منظره ، ونحول جسده ، وقصر قامته .
كل تلك الأسباب مجتمعة جعلت المعري يعيش عيشة الزهد والتقشف ، ويكره الدنيا والمرأة ، ويصر على عدم الإنجاب ويحبس نفسه في بيته بعيدا عن الناس من حوله متشائما مما يراه من نكبات ومصائب ألحت عليه طول عمره .
فهل أثرت تلك الأوضاع على أدبه ؟ وهل طبعته بطابعها ؟ حتى أصبح في جميع أعماله الأدبية يتأثر بها .
والغرض من هذا البحث دراسة هذه القضية للوقوف على أهم الجوانب في حياة المعري والتي كان لها أبعد الأثر في تشاؤمه من الحياة وتأثر أدبه بذلك التشاؤم .
ولما لم أر من الباحثين في أدب المعري وحياته - رغم كثرة الدراسات والأبحاث التي كتبت عنه - من أفرد التشاؤم العلائي ببحث منفرد رغم أنه يشكل الأساس في حياته وأفكاره ، رأيت أن أخص هذا الموضوع ببحث أسميته :
( التشاؤم العلائي دوافعه ومظاهره ) .
وخطة هذا البحث هي :
مدخل : أبو العلاء المعري : عصره ، وحياته ، وآثاره . الباب الأول : دوافع التشاؤم العلائي . الباب الثاني : مظاهر التشاؤم العلائي الفصل الأول : مظاهر التشاؤم في آراء أبي العلاء . المبحث الأول : الطبيعة البشرية . المبحث الثاني : هجر الناس واعتزالهم . المبحث الثالث الدنيا . المبحث الرابع : الموت . المبحث الخامس : العدم والنسل . المبحث السادس : المرأة . المبحث السابع : السياسة . المبحث الثامن : ذروة التشاؤم . الفصل الثاني : التعقيد في النظم والتأليف . المبحث الأول : التعقيد في الشعر . المبحث الثاني : التعقيد في النثر . خاتمة : لخصت فيها مجمل النتائج التي توصلت إليها .
هذا ولا يفتني أن أقدم الشكر الجزيل لكل من أعانني في بحثي هذا واخص بالشكر الأساتذة الأجلاء : عبد الله بن علي البلوشي ، وخلفان بن أحمد البلوشي ، وخالد بن علي المعمري على ما وفروه من مراجع مهمة أعانتني على إتمام بحثي ، فلهما جزيل الشكر .
وأخيرا عسى أن أكون قد وفقت في الإلمام بالموضوع من جميع جوانبه ، وقد تحققت الغاية منه .
الباحث لوى 24/1/2003م
مدخل أبو العلاء المعري
عصره :
هناك ارتباط وثيق بين آراء المعري وبين أحوال العصر الذي عاش فيه فأوضاع العالم الإسلامي ( بدأت في التدهور منذ أن استبد الأتراك بالحكم ... بعد مقتل الخليفة المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان سنة "247"هـ )
وأصبح الأمر بيد الأتراك ( وتطاولوا على الخلفاء عزلا وسجنا وتعذيبا ، وقد كان أسياد بغداد عرضة الكيد والدسائس من الجند والوزراء تارة ، ومن المقربين ونساء القصور تارة أخرى ) ، وأصبح الخليفة العباسي لا حول له ولا طول ، ومما زاد ضعف الدولة العباسية حينئذ كثرة الثورات المذهبية والدينية داخل الدولة مثل : الحركة الخرمية ، وثورة الزنج ، وثورة القرامطة ، وتزايد نشاط الشيعة . 0وليس أدل على ضعف الخلافة العباسية وتفككها في ذلك الدور ، من الحركات الانفصالية التي قامت في جسم الدولة ، وأدت إلى ظهور وحدات سياسية مستقلة ) في قلب الخلافة العباسية ( كالدولة الغزنوية بالهند وأفغان ، والسامانية في فارس ، والإخشيدية والفاطمية في مصر ، والحمدانية في حلب ) . وبهذا فقد تفتت جسد العالم الإسلامي الملتحم على يد خليفة واحد ، إلى دويلات وأمراء عاثوا في الأرض فسادا ، وأصبح ضعاف النفوس والطامعين في الإمارة يكيدون المكائد في الدولة للوصول إلى مآربهم .
وشهد هذا العصر صراعات بين تلك الدويلات الصغيرة التي نشأة في قلب الأمة وتطاحنا شديدا جعل الأمة تغلي من الداخل كما يغلي المرجل بالماء . ( وأبو العلاء المعري عاصر من تلك الدويلات البهويين والحمدانيين والمرداسيين والفاطميين وشاهد التطاحن الدامي بينها ) .
وإذا ما نظرنا إلى موطن المعري ( سوريا ) لوجدنا الاضطراب والفوضى يشيع فيه ( فالحمدانيون لا يزالون يحكمون قسما من شمالي ( سورية ) مهددا بأطماع الفاطميين وغزوات الروم . وكانت أنطاكية واللاذقية حينذاك في أيدي الروم ) وبعد زوال الدولة الحمدانية ( قامت على أنقاضها الدولة المرداسية وهي دولة عربية بدوية كثرت الفوضى في زمنها ) .
وفي ظل تلك الأوضاع السياسية القائمة ( انعدم العدل والأنصاف وساد الطغيان والتحيز والظلم ، وزالت رأفة الراعي على الرعية ، وحلت محلها الغلظة والخشونة ) .
أما الحياة الاقتصادية فلم تكن بأفضل من الحياة السياسية ، فقد أثقل كاهل الناس بالضرائب وخاصة في أواخر القرن الرابع الهجري ( فإن الضرائب زادت واضطربت تبعا لكثرة الولاة الفاطميين ، وعمل كل منهم على جمع كل ما يستطيع من الأموال لنفسه ، فكانت تدخل على الضرائب والجبايات زيادات ترهق الشعب .. إرهاقا شديدا ) ، وما أحسن ما صور به أبو العلاء ذلك الظلم الذي يقع على الناس من جراء فرض المكوس والضرائب ، إذ يقول مصورا حال عصره :
وأرى ملوكا لا تحوط رعية فعلام تؤخذ جزية ومكوس
والحياة الاجتماعية هي الأخرى أصابها الوهن فضعفت الثقة بين الأفراد ، وضعف التماسك العائلي ، وتباينت الآراء والمذاهب ، فانتشر الفساد وعمت الفوضى أرجاء البلاد .
( وقد أدت الأوضاع القائمة إلى تحرر في الدين والفرائض ، فأصبح الدين أضعف من أن يسيطر على النفوس والضمائر ) ، ففشى الغش وانتشرت الجريمة ، وأصبح الإنسان في عصر لا يفكر فيه إلا في مصلحته الخاصة ولو على حساب الآخرين .
وأبو العلاء معاصر لكل ذلك ، وشاهد عليه يرى التنافس على الحكم كما يرى التنافس على المال ، كما يرى انحلالا وتفرقا وظلما وتعسفا . فدفعه ذلك إلى التأثر بتلك الأوضاع القائمة فنقدها نقدا لاذعا ، وصرح بكثير من آرائه السياسية المعارضة لأشكال الحكم ،وأنواع الظلم القائم في عصره .
***** حياته : أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد التنوخي المعروف بالمعري نسبة إلى (معرة النعمان ) اشتهر بكنيته ( أبي العلاء ) وفي ذلك يقول :
دعيت أبا العلاء وذاك مين ولكن الصحيح أبو النزول
ولد بمعرة النعمان يوم الجمعة في السابع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة (363 هـ ) ، أصابه الجدري وله أربع سنين ، فذهبت يسرى عينيه وغشى اليمنى بياض ، وقبل أن يتم السادسة فقد بصره ، وقد ذكر ذلك في رسالة أرسلها إلى داعي الدعاة الفاطميين بقوله : ( وقد علم الله أن سمعي ثقيل ، وبصري عن الإبصار كليل قضي على وأنا أبن أربع ، لا أفرق بين البازل وبين الربع ) وقال : ( لا أعرف من الألوان إلا الأحمر ، فإني ألبست في مرض الجدري ثوبا مصبوغا بالعصفر ، فأنا لا أعقل غير ذلك ، وكل ما أذكره من الألوان في شعري ونثري ، إنما تقليد الغير واستعارة منه ) .
وكان بيته بيت فضل وعلم ( وكان في آبائه وأعمامه ، ومن تقدمه من أهله وتأخر عنه ...قضاة وشعراء ) وقد ذكر ياقوت الحموي طائفة منهم وعدد أشعارهم ومراتبهم .
قال الشعر في الحادية عشرة من عمره ، وأول طلبه للعلم في بلده على يد أبيه فدرس عليه اللغة والنحو بعد حفظه للقرآن الكريم مع القراءات ، وأخذ كذلك عن أصحاب ابن خالويه النحوي ، ثم رحل إلى حلب وقصد أنطاكية واللاذقية وطرابلس يجالس العلماء ، ويطلع على الثقافات المتنوعة ، ثم عاد إلى المعرة في نحو العشرين من عمره .
ولما ضاقت سبل الحياة في وجه المعري ترك المعرة ورحل إلى بغداد سنة(399 هـ ) ولكنه لم يجد بها ما أراده من الشهرة بل وجد الكثير من المضايقات ومنها :
( أنه لما قدم بغداد ودخل على علي بن عيسى الربعي ليقرأ عليه سيئا من النحو ، قال له الربعي : ليصعد الإصطبل ، فخرج مغضبا ولم يعد إليه ) و ( أنه دخل يوما إلى مجلس المرتضى ، فعثر بإنسان فقال له : من هذا الكلب ؟ فقال : الكلب الذي لا يعرف للكلب سبعين اسما ) ، ولما سمعه المرتضى أدناه منه وقربه إليه ، ولكن المرتضى يبغض المتنبي ويتعصب ضده ، والمعري يحب المتنبي ويتعصب له ( فجرى يوما بحضرته ذكر المتنبئ ، فتنقصه المرتضى وجعل يتتبع عيوبه ، فقال المعري : لو لم يكن للمتنبئ إلا قوله :
لك يا منازل في القلوب منازل
لكفاه فضلا ، فغضب المرتضى ، وأمر فسحب برجله وأخرج من مجلسه ، وقال لمن بحضرته : أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر هذه القصيدة ؟ فإن للمتنبئ ما هو أجود منها لم يذكرها ، فقيل : النقيب السيد أعرف ، فقال أراد قوله في هذه القصيدة :
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي أني كامل )
ولذلك فإن أبا العلاء لم يلبث في بغداد كثيرا فقد أقام بها سنة وسبعة أشهر فقط ، ثم رجع إلى المعرة ولزم بيته ، فلم يخرج منه وسمى نفسه رهين المحبسين ، يعني حبس نفسه في المنزل ، وحبسه عن النظر إلى الدنيا بالعمى وقد قال :
أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسأل عن النبــــــــــأ النبيث لفقدي ناظري ولزوم بيتـــي وكون النفس في الجسد الخبيث
ولقد لبث في محبسه ذلك ما يقارب من ( 45 ) سنة امتنع فيها عن أكل اللحوم ومشتقاتها ، فلم يأكل إلا ما هو نباتي .
وجد المعري في محبسه بالمعرة ما لم يجده في بغداد من الشهرة فراسله العلماء والأدباء والأمراء ، ( وكان له محل عال عند الملوك ، يقبلون عليه ، ويقبلون شفاعته ) ، وقصده طلاب العلم من كل مكان يغترفون من بحر علومه وفنونه .
كان أبو العلاء آية في الذكاء والحفظ وسرعة البديهة ، وموسوعة في شتى العلوم والفنون ، رغم عماه الباكر ، وقد ذكر المؤرخون كثيرا من القصص التي فيها علامات واضحة على فرط ذكائه وقوة حفظه . ( قيل له بما بلغت هذه الرتبة في العلم ، فقال : ما سمعت شيئا إلا حفظته ، وما حفظت شيئا فأنسيته ) ، ( ولما دخل إلى بغداد أرادوا امتحانه ، فأحضروا دستور الخراج الذي في الديوان ، وجعلوا يوردون ذلك عليه مياومة وهو يسمع ، إلى أن فرغوا . فابتدأ أبو العلاء ، وسرد عليهم كل ما أوردوه عليه ) وقد حكى عنه المؤرخون حكايات في ذلك لا تخلوا من المبالغة ، تدل على قوة حفظه حتى للكلام من غير العربية الذي لا يعرف معناه .
وما أدل على ذكائه وسرعة بديهة وقوة حفظه وسعة إطلاعه من مؤلفاته العظيمة والتي بلغت السبعين ، وقد ضمنها المعري علوما متنوعة تدل على علم غزير .
وبعد حياة حافلة بالعلم والمعرفة توفي المعري يوم الجمعة الثاني من شهر ربيع الأول سنة ( 449 هـ ) وأوصى بأن يكتب على قبره :
هذا جناه أبي علي وما جنيت عل أحد
ورثاه الكثير من الشعراء ، وقد أنشد على قبره أربعة وثمانون مرثية .
***** آثاره :
ترك المعري الكثير من الآثار بلغت السبعين مؤلفا بين شعرية ونثرية ومن أهمها دواوينه الثلاثة وهي :
1. ( سقط الزند ) : وهو ديوان شعري نظمه قبل عزلته ، تدور موضوعاته حول الوصف والرثاء والفخر وشكوى الدهر وقد ألف المعري كتابا لشرح غريبه أسماه( ضوء السقط ) .
2. ( الدرعيات ) : وهو عبارة عن مجموعة قصائد في وصف الدرع ألحق بديوانه( سقط الزند ) .
3. ( اللزوميات ) أو ( لزوم ما لا يلزم ) وهو أحد عشر ألف بيت من الشعر وهذا الكتاب أكثر ما اشتهر به المعري لما فيه من آراء فلسفية ، جعلت الكثير من العلماء يصفه بالزندقة ، ولما( تكلم بعض الجهال على أبيات لزوم ما لا يلزم ، يريد بها التشرر والأذية ، ألزم أبا العلاء أصدقاؤه أن يؤلف كتابا في الرد عليهم ) فكتب كتابا أسماه ( زجر النابح ) ، رد فيه على من تهمه بفساد عقيدته في اللزوميات ، ثم شرح هذا الكتاب في كتاب آخر أسماه ( بحر الزجر ) وقد شرح اللزوميات في كتاب أسماه ( راحة اللزوميات ) .
هذه أهم دواوينه الشعرية وشروحها أما مؤلفاته الأخرى فأهمها :رسائل أبي العلاء ، ورسالة الغفران ، ورسالة ملقى السبيل ، وكتاب الأيك والغصون ، ورسالة الملائكة ، وكتاب الفصول والغايات ، وكتاب معجز أحمد ، وكتاب ذكرى حبيب ، وكتاب عبث الوليد ، ورسالة الصاهل والشاحج ، وكتاب تضمين الآي ، وكتاب سيف الخطبة ، وكتاب الحقير النافع مختصر في النحو ، وكتاب اللامع العزيزي في تفسير شعر المتنبي ، وغيرها الكثير منها ما وصل إلينا ومنها ما لم يصل ( وأكثر تآليفه فقد في حملة الصليبين الأولى على الشام ، وسقوط المعرة في أيديهم سنة ( 492 هـ ) .
وما وصل إلينا من كتب المعري وتآليفه يدل بحق على إنه كان بحرا في العلم لا ساحل له . ***** الباب الأول دوافع التشاؤم العلائي عاش المعري حياة طويلة مضطربة فيها قلق وتشاؤم ونقمة ومرارة وشكوى ، وكان لعناصر شخصيته أثر كبير ( في توجيه تفكيره ، وصبغ آرائه ) بصبغة خاصة ميزت المعري عن غيره من الشعراء والأدباء ، وخاصة بعد أن قرر المعري لزوم بيته ، وانصرافه عن كل شيء في الحياة إلى النقد والتهكم دون أن يحاول الإصلاح أو يقترح له سبيلا ، بل يرى أن الإصلاح أمر مستحيل ، ومن يحاول ذلك فإن مصيره الفشل .
والمعري شديد التشاؤم ، شديد الكراهية للحياة وملذاتها ، وكان لذلك التشاؤم دوافع متعددة أهمها :
أ . عماه الباكر :
إذ أصيب بالجدري ، وهو في الرابعة من عمره ، ففقد عينه اليسرى ، وغشي اليمنى بياض ، وما أن بلغ السادسة إلا وفقد بصره كاملا ، ( وإن كان هو يتظاهر أحيانا بقوله : أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر ، ولا أرى أنا مثل هذا القول من المعري ... إلا من باب التعزي والتجلد ) . وإن كان المعري يتظاهر بالتصبر والتجلد ، ولكن يخونه تجلده أحيانا فتراه يصرح بالشكوى من العمى :
وكم اشتكت أشفار عين سهدها وشفاؤهــا ممـــــــا ألم شفــــــار ولطالما صابرت ليــــــلا عاتمــــــــا فمتى يكون الصبح والإسفار
ويقول : ومابي طرف للمسير ولا السرى لأني ضرير لا تضيء لي الطرق ويقول : عمى العين يتلوه عمى الدين والهوى فليتني القصوى ثلاث ليال
وعمى المعري كان سببا رئيسا في تشاؤمه ( وأثر هذه المصيبة عظيم يلزم صاحبه في جميع أطوار حياته ، لأنه يذكر بصره كلما عرضت له حاجة ، وكلما ناله من الناس خير أو شر ... والمكفوف ، وإن جالس المبصرين ، أعزل وإن بزهم بأدبه وعلمه ، فقد يتندرون عليه بإشارات الأيدي والألحاظ وهز الرؤوس ، وهو عن كل ذلك غافل محجوب . وإن أشتد ذكاؤه كثرت حاجته إليهم وكثرت نقمتهم عليه ، فهو عاجز عن تحصيل قوته إلا بمعونتهم ، وعاجز عن الكتابة ... فاليأس أخلق به من الرجاء ، والموت خير له من الحياة ...) . وإذا أضفت إلى ذلك الصفات الخلقية التي كان يتصف بها المعري إذ الجدري أثر تأثيرا سلبيا على مظهره ( إحدى عينيه بارزة والأخرى غائرة جدا ، دميم الخلق واسع الجبين ، مجدور الوجه ، وشب قصير القامة نحيل الجسم ) ، كل تلك الصفات الخلقية اجتمعت عند المعري فكونت عنده عقدة نقص جعلته يشك في جميع من حوله بأنه يتنقصه ويزدريه فكانت هذه أعظم المصائب على نفسه وأشدها أثرا في شخصيته التي تميل إلى اعتزال الناس وعدم الاختلاط بهم .
ب . فقده لأبيه :
فقد أبو العلاء المعري أباه وهو من أحوج الناس إليه ( فبالنظر إلى عماه كان أحوج الناس إلى أب يغمره بعطفه وحنانه ، ويوفر له سبل العيش والمعونة . وقد قام الوالد بكل ما تفرضه الأبوة نحو الابن الضرير ، وشعر الصبي بكثير من الاطمئنان في كنف والده ، ولكن الدهر سلبه هذا السند وتركه عرضة لكل ما يمكن أن يصيب فتى في مثل سنه وعماه وحاجته إلى المال والعون ) ، ولذلك تأثر المعري بموت أبيه أيما تأثر ورثاه بقصيدة عظيمة تعتبر من روائع الأدب العربي ، وكان عبء الحياة على أبي العلاء خفيفا حتى توفي والده سنة (395 هـ ) (فضاقت الدنيا بأبي العلاء في المعرة فزار بغداد استزادة للعلم وتكسبا للمال ) .
ج . نكباته في بغداد :
رحل المعري من المعرة إلى بغداد لعله يجد فيها متنفسا لما هو فيه من الحزن والضيق ، ولعله يشغل فيها عما في نفسه بمجالس العلم والأدب ، ولكن لم يكن حظه في بغداد بأفضل منه في المعرة فتباينت مواقف الناس منه ( فقد التقوه بالرحمة والشفقة ، وتارة بالنقد والحسد ، وأخرى بالتعالي والتكبر ... وفي كل ذلك نوع من الازدراء وإيقاع الأذية وجرح الكرامة ) . ومع وجاهة المعري إلا أنه لقي إساءات مختلفة تعرض لها بسبب عاهته ، ومن ذلك اتهامه بالزندقة والإلحاد – وكما مر بنا – قول علي بن عيسى الربعي له : ليصعد الاصطبل ، وتأثر أبي العلاء بذلك وتركه لمجلسه ، ومن المعروف أن أصحاب العاهات يتأثرون بذكرها أمامهم أو بمناداتهم بها لأنهم يحسون بالنقص أمام الآخرين .
ومما أثر في المعري في بغداد إخراجه من مجلس المرتضى مسحوبا برجله ، وقول الرجل له من هذا الكلب ؟ كل ذلك جعل أبا العلاء المعري يتأثر تأثرا بالغا بهذه الإساءات المتكررة و ( صدم .. إذا في بغداد بعد أن كان يطمح في الاستقرار بها للانتفاع بعلومها ) ، فقرر الرجوع إلى المعرة .
د. فقده لأمه :
لقي المعري ما لقي في بغداد من الإساءة لشخصه فقرر الرجوع إلى بلده( معرة النعمان ) وزاده ذلك يقينا بمغادرتها وصول نبأ مرض أمه فتركها مسرعا للقاء أمه المريضة ، فقد فجع المعري في أبيه وها هو يخاف الفجيعة في أمه وهو يعلم أنه لن يصدقه في الحياة إلا هما ، لكن ما خشيه كان فماتت أمه وهو في طريقه إليها . ( فكان هذا الموت النقطة التي طفحت بها كأس مصائبه ، فقرر اعتزال الناس ) .
هـ . مزاجه السوداوي :
لا يثق المعري بغيره ، ينظر إلى الدنيا نظرة سوداوية ، ( يرى الكون من خلال ظلمة بصره ) شديد التأثر تجرحه الكلمة ، يشك في الناس من حوله ، ولا يثق بهم معتمدا على نفسه منطويا على ذاته ، يفكر في الحوادث المؤلمة التي مرت به فيتضايق ويثور ويتشاءم ، يخاف من أن يعيبه الناس أو يمنون عليه ، أو يلحقه من كلامهم الأذى ، ومن تهامسهم عليه دون أن يراهم جعله ينفر منهم ويقرر اللجوء إلى العزلة عنهم ، ورغم ذلك لم يتركوه ، فلحقه الطلاب في بيته ، ونقده النقاد على آرائه ، واتهموه بالإلحاد والزندقة ، خاف من المرأة فلم يقربها ، لأن المرأة تحب الجمال ، وما في المعري من الجمال من شيء ، خاف أن تعيره بقبحه فيزيد ذلك من همه ، فرأى الناس من حوله داء العزلة منه الشفاء .
د . فساد الحالة السياسية في عصره :
الصراع الذي شهده أبو العلاء المعري في عصره بين مختلف الطوائف السياسية والدينية ، والدويلات المتفرقة في قلب العالم الإسلامي تلك الظروف التي طبعت عصره ( بطابع الصراع العنيف ... بين العامة والخاصة ، والمذاهب التي تنصبت مدافعة عن الدين ) ، فأصبح المجتمع مضطربا ( إذ كانت الحروب متواصلة بين الروم والحمدانيين والفاطميين ، وما يتبع ذلك من فوضى .... ، واغتصاب في الحكم واستبداد بالرعية ، وقد أدى ذلك إلى فساد الأوضاع الاجتماعية ، فقسم غرق في الثروة ينفقها على لذاته ، وقسم يموت جوعا ) .
فعم الفساد وانتشر في جميع النواحي ووصل إلى القضاء فعمت الرشوة وكثرة شهادة الزور ، وأصبح المجتمع بؤرة من الجحيم والظلم والفساد ، وأصبحت تسوده شريعة الغاب ، فكون ذلك في نفس المعري نقمة على العامة والخاصة ، ونفورا من الناس واستحبابا لاعتزالهم .
وكل هذه العوامل مجتمعة أثرت في نفسية أبي العلاء فجعلته ينظر إلى الحياة نظرة قلق وتشاؤم ، وهي التي دفعته إلى العزلة وحبس نفسه في بيته ، وإلى تبنيه تلك الأفكار التي ضمنها كتبه وأشعاره ، والتي صور فيها بصدق حالة العصر الذي عاش فيه ، صورة صادقة نابعة عن تجربة مؤلمة في مجتمع تحكمه المادة ، وحب النفس ، والتعالي على الآخرين ، ولذلك اتجه المعري إلى أمر آخر يحقق به ذاته ، وهو التفرغ للعلم والمعرفة ، وتحقق له بذلك ما أراد ، ففاق فيه أهل زمانه ، فكان حقا موسوعة علمية غزيرة .
*****
الباب الثاني مظاهر التشاؤم العلائي
يتخذ التشاؤم العلائي شكلين مهمين :
الأول : آراؤه التي ضمنها كتبه وخاصة ( اللزوميات ) وهما مجلدان ضخمان من الشعر (ضمنهما فلسفته أو تفكيره المتشائم وهو تفكير شغل فيه بإنسان عصره والإنسان عامة وبالقضية التي طالما شغلت كبار المفكرين قضية الشر الذي يصب على الإنسان والحياة الإنسانية صبا دون أن يعرف أسبابه ودون أن يستطيع له دفعا أو ردا)
والثاني التعقيد في كتاباته المختلفة سواء كانت نثرية أم شعرية وخاصة في( اللزوميات ) من شعره أما نثره فقد نهج فيه هذا المنهج إلا في ما ندر منه .
فقد كانت لآراء المعري المختلفة حول الموضوعات التي ناقشها في كتاباته دليلا واضحا عل نظرته التشاؤمية في الحياة وخاصة تلك الآراء التي تحدث فيها عن الطبيعة البشرية والدنيا والموت والمرأة والعدم والنسل والسياسة ، تلك الآراء التي كانت بمثابة الخيوط التي تكونت منها حياة المعري التشاؤمية .
( والمعري متطرف في تشاؤمه لا يرى من الحياة إلا الناحية السوداء ولو تعرضت له الناحية البيضاء لأعرض عنها )
عرفت سجايا الدهر أما شروره فنقد وأما خـيره فوعـود
ويقول :
غلت العقول ولو عقلنا صيرت دية القتيل كرامة للقاتل
ويقول :
ألا إنما الدنيا نحوس لأهلها فما في زمان أنت فيه سعود
هكذا في جميع الموضوعات التي ناقشها وخاصة في طور الشيخوخة من حياته والتي قرر فيها أن يكون حبيس بيته مبتعدا عن أي شكل من أشكال الحياة العامة ، أو أي نوع من أنواع ملذاتها , وأن يعيش عيشة الزهد والتصوف منتظرا نهاية الحياة . والتي سوف نستعرضها في هذا الباب في عدة مباحث سنظهر من خلالها ما وصل إليه المعري من قمة التشاؤم في حياته والتي أثرت فيها تلك الحياة بشكل واضح .
الفصل الأول مظاهر التشاؤم العلائي في آرائه
المبحث الأول : الطبيعة البشرية :
ما لاقاه المعري في مجتمعه وفي حياته من المصائب والشرور دفعه إلى التشاؤم في كل شيء من حوله ( فلم يكن بدعا أن يرى في لزومياته قلقا وتشاؤما ونقمة ومرارة وشكوى وأن ينصرف المعري عن كل شيء في الحياة إلى النقد والتهكم من غير أن يقترح وجها من وجوه الإصلاح الاجتماعي بل هو - على العكس من ذلك – فقد نفض يده من كل إصلاح ممكن ونسب القصور والضلال إلى من يحاول ذلك ) .
والمعري يرى أن تلك المصائب سببها الناس وأخلاقهم وأفعالهم السيئة والتي يصرون عليها ( وقد أكثر البحث وأطال التفكير ، فلم ينتج له ذلك إلا أن الإنسان شرير بطبعه ، وأن الفساد غريزة فيه )
( وجميع البشر في نظره سواء في الفساد وقبح الطباع لأنهم ثمرة فساد ، وهكذا فكل حي فوق الأرض ظالم ، وشرير ، وكاذب ) . فالطبيعة البشرية عند المعري فاسدة من أصل الخلقة ( فالفساد غريزة فيه واللؤم فطرة في طبعه والشر قاسم مشترك بين الناس ) إنهم يتفاوتون غنى وفقرا وجمالا وقبحا ولكنهم يتساوون عند سوء الطبع .
إن مازت الناس أخلاق يعاش بها فإنهم عند سوء الطبع أسـواء أو كان كـل بني حــــــــواء يشبهني فبئس ما ولدت في الدهر حواء
ويرى أن تلك الطبيعة الفاسدة إنما هو قضاء قضاه الله على بني آدم وما الناس في هذه الدنيا إلا كلاب يتصارعون عليها رغم أنها لا تتعدى أن تكون جيفة نتنة .
رأيـت قضـاء الله أوجب خلقـــــــه وعــاد عليـهم في تعرفـه سلبـــــا وقد غلب الأحياء في كل وجهــــة هواهم ، وإن كانوا غطارفة غلبا كلاب تغاوت أو تعاوت لجيفــــــــة وأحسبني أصبحت ألأمها كلبـا أبينا سوى غش الصدور وإنمـــــــا ينـال ثواب الله أسلمنا صــــدرا وأي بني الأيام يحمـــــــــد قـــــــــائل ومن جرب الأقـوام أوسعهم ثلبــا
ولو اختبرت الناس بشتى أجناسهم وألوانهم ومراكزهم في الدنيا لوجدتهم يجرون ذيول الآثام والشرور لما فقدوه من سلامة الصدور.
إذا كشَّفت أجناس البرايا وجدت العالمين ذوي عيوب ذيولهم كثيرات المخازي لما فقدوه من نصح الجيوب
والإنسان ظالم لأخيه الإنسان يمارس القتل في أخيه ، ويتخذ لظلمه هذا شتى الوسائل الممكنة حتى ولو كانت تلك الوسائل مضنية وما ذلك إلا من أجل غاية تافهة حقيرة .
أشباح إنس يخضبون صوارمـا تحت العجاج ، ويركضون الشسَّبا ويمارسون من الظلام غياهبـــــا ويواصلــون فيقطعــون السبسبـــــــــا ومرادهم عذب خسيس قــدره شربــوا له مقــرا لكيمــا يلسبـــــــــــــــا
ويظلم الإنسان أخاه في سبيل أمر تافه ولا سبب لذلك سوى لذة القهر ( إنه ذئب ينتظر سانحة للوثوب والفتك وليس بين الكائنات الحية من هو أشد فتكا من الإنسان )
إن عذب الله قومـا باجترامهـم فما يريد لأهل العـدل تعذيبـا يغدوا على خله الإنسان يظلمه كالذيب يأكل عند الغرة الذيبا
ويتقي شرور الناس بالتقية وعدم التصريح بآرائه ( فهو لا يحب أن يصرح بجميع آرائه لاعتقاده أن ذلك مضر به ، فقد يناله أذى من العامة ومن بعض الخاصة ) لأن الإنسان من طبعه الغدر ومهما حاول إخفاء شروره خلف منظره الجميل فإنه لن يستطيع .
أرائيـــــــــك فليغفــــــــــــر الله زلتـي بذاك ودين العالمين رياء وقد يخلف الإنسان ظن عشيــــره وإن راق منه منظـر ورواء إذا قومنا لم يعبدوا الله وحـــــــــــده بنصـح ، فإنَّا منهـم براءاء
ومن فساد الطبيعة البشرية أن روح الإنسان تأذت منه وتمنت فراقه فكيف إذا بمن حوله من البشر .
تجاور هذا الروح والجسم برهة فما برحت تأذى بذاك وتصدأ
وكيف لا تكون النفس البشرية فاسدة وهي تحب الشر وتستحسن الغدر فقد منها الصدق ومات الهدى وقل الوفاء .
فقد الصدق ومات الهدى واستحسن الغدر وقل الوفاء
ثم يحلف المعري مؤكدا مذهبه في طبيعة الناس الفاسدة أيا كانت منازلهم ، رئيسهم ومرءوسهم فهم في الشر سواء وفي سوء الطبع أبناء رجل واحد .
وأحلف ما الإنسان إلا مذمم أخو الفقر منا والمليك المحجب
ومهما حاول الإنسان أن يظهر النفع لأخيه فإنه في ذلك ماكر ومهما امتدح نفسه فهو كذَّاب يغتاب الأصحاب ويدعي التقوى والصوم والوفاء .
إذا أقبل الإنسان في الدهر صدقت أحاديثه عن نفسه وهو كـاذب أتـوهمني بالمــكـــــــــر أنــك نـــــافـــعي وما أنت إلا في حبــــالك جاذب وتأكل لحـــم الخـــل مستعذبا لــــــــه وتـزعــــم للأقوام أنك عــــــــاذب
والإنسان في هذه الحياة بئس المعاشر لما يتصف به من الغدر وحب السب للآخرين .
بني آدم بئس المعــاشر أنتــم فما فيكم واف لمقت ولا حب وجدتكم لا تقربون إلى العلى كما أنكم لا تبعدون عن السب
والإنسان طبعه الكراهية والبغض لا يجازي على الإحسان ولا يشكر على النعمة .
عرفتـــكم بني حـواء قدمــــــــا فكلكــــم أخــــو ضغن مكــور فما فيكم على الإحسان جاز ولا منكم على النعمى شكور
وما في هذه الدنيا من صغير أو كبير إلا أثوم غشوم ميال إلى الشر فخور بفعل الخيرات يتبع المنَّ الأذى .
لعمرك ما في الأرض كهل مجرب ولا ناشئ إلا لإثـم مراهــق إذا بض بالشـيء القليــل فإنــه لسوء السجايا بالتبجح فاهق
وإذا كانت طبيعة الناس هذه من الفساد وحب الشر فإنها لن تستقيم أمورهم ولن يجتمعوا أبدا فهم على فرقة من عهد آدم إلى الآن .
لن تستقيم أمور الناس في عصر ولا استقامت فذا أمنا وذا رعبـــــــــا ولا يقــوم على حـق بنو زمــــــــن من عهد آدم كانوا في الهوى شعبــــــــا
ومن يريد أن يهذب طبيعة الناس أو يجري وراء إصلاحهم فإنما يمشي وراء السراب فجبلتهم الفساد ، والفساد داء عضال والبرء منه محال .
وجبلة الناس الفساد فضَّل من يسمو بحكمته إلى تهذيبها
ورغم أن الواعظون والأنبياء حاولوا جاهدين إصلاح البشر لكنهم فشلوا في ذلك ولم يغيروا في الناس شيئا فطبعهم باق وشرهم مستطير .
كم وعظ الواعظون منا وقام في الأرض أنبياء فانصرفوا والبلاء باق ولم تـزل داؤك العيـاء
وما دامت هذه طبيعة البشر من حب الفساد والشر فيا ليتهم لم يولدوا لأن ولادتهم كانت شرا وبلاء .
يا ليت آدم كان طلق أمهم أو كان حرمها عليه ظهار ولدتهم في غير طهر عاركا فلذاك تفقد فيهم الأطهار
هذه نظرة المعري إلى الطبيعة الإنسانية ( إن الإنسان شرير بطبعه وأن الفساد غريزة فيه ، ولذلك لم ينتظر له إصلاحا ولم يرج لأدوائه شفاء ) ولا شك أن ما لاقاه المعري من آلام في حياته وشرور في عصره ( هي التي قوت في نفسه هذا الرأي ) مما دفعه إلى اعتبار الناس جميعهم أشرارا وأن الخير معدوم فيهم ، ولا فائدة من إصلاحهم ولا حل إلا في اعتزالهم وهجرهم
*****
المبحث الثاني : هجر الناس واعتزالهم :
ولما كانت طبيعة البشر فاسدة ، ولا يجني الإنسان من معاشرتهم إلا الشر ، ولا يمكن إصلاح تلك الطبيعة على أي حال من الأحوال ، كانت النتيجة الحتمية عند المعري اعتزال الناس وهجرهم فقد ( آثر العزلة والانصراف من الاجتماع ) فهو يصرح أن معرفته الجيدة بالبشر وبطباعهم دفعه إلى هجرانهم .
وزهدني في الخلق معرفتي بهم وعلمي بأن العالمين هباء
والشفاء من عيوب الناس وشرورهم في البعد عنهم وعدم مخالطتهم ، وعليه أن يستغني عنهم مهما كانت حالته فملبس وطعام والعصا التي يهتدي بها تغنيه عن كثير من الأصحاب .
بعدي عن الإنس برد من سقامهم وقربهم للحجى والدين إدواء
ويقول :
عصا في يد الأعمى يروم بها هدى أبر إليه من خــدن وصــــــاحب فأوسع بني حــواء هجــرا فإنهــــــم يسيرون في نهج الغدر لاحـب ويقول: يغني الفتى مـــلبس يستره وقوته في دجى الظــــلام فقط وحظه أن يكون منفـــردا كطائر لا يـــراع أين سقــــــــط
الوحدة راحة عظمى والاجتماع شر محض ، فبالاجتماع تولد القيل والقال .
في الوحدة الراحة العظمى فأحي بها قلبا وفي الكون بين الناس أثقـــال إن الطبـــــــــائع لمّــَا أُلِّفت جلبـت شـــــرا تولــــــد فيه القيـــــل والقـــــال
والموفق في هذه الدنيا الذي يهجر الناس بشتى أجناسهم ، فلا يؤذي أحدا، ولا يظلمه .
فإن كنت قد وفقت فانج بوحدة وخل البرايا من فصيح وأعجمـا ولا تك فيما يكره القوم ساعيــــا ولا مسرجا في نصر غيرك ملجما
وفي الوحدة أمن من الدنايا ، وفي الاجتماع تكثير من الخطايا ، وكم من رجل قام من مجلسه وقد نال بمخالطة الناس الخزي والعار.
إذا انفرد الفتى أمنت عليـــــــــه دنايا ليس يؤمنها الخـــــلاط فلا كذب يقـــال ولا نميـــــــــــم ولا غلط يخاف ولا غـــــلاط وكم نهض امرؤ من بين قــــــوم وفي هاديه من خزي عـلاط
وهجر الناس واعتزالهم ما هو إلا أقوى دليل على التشاؤم العلائي حتى أصبح كل شيء في هذه الحياة سجن بالنسبة إليه حتى نفسه التي بين جنبيه .
أراني في الثلاثة من سجوني فـلا تسـأل عن الخبـــــــر النبيــث لفقــدي ناظري ولزوم بيتــي وكون النفس في الجسد الخبيث
*****
المبحث الثالث :الدنيا :
لم يكن رأي أبي العلاء المعري في الدنيا بأفضل من رأيه في الإنسان فهو لها باغض وعليها ناقم ( ومن لؤمها وخستها اشتق لؤم الإنسان وخسته ) وهو يكنيها بأم دفر( أم النتانة ) فلم يزل يذمها ويصفها بصفات الشر والقبح حتى إنه ليعد أكثر الشعراء ذما للدنيا وبغضا لها ( وكان يرى الدنيا من خلال الظلام المسيطر على عينيه وقلبه ، فيرى في كل شيء فسادا ... وهكذا تلمس في تشاؤمه ألما مكبوتا وعنفوانا مضغوطا ) .
وقد ملأ أبو العلاء كتابه ( اللزوميات ) بهذا التشاؤم الواسع من الدنيا ووصف لها بأنها دار آلام وعذاب ( وقد ذهب يستعرض الحياة فيها من جميع جوانبها وينقدها نقدا ساخرا في جرأة وصراحة ) .
و( الإنسان لئيم في دنيا لئيمة ، وليس لؤمه سوى قبس من لؤمها ) والناس يتصارعون عليها كما تتصارع الكلاب على جيفة نتنة ، ولا يجدون مع ذلك سوى الشقاء والألم .
كلاب تغاوت أو تعاوت لجيفة وأحسبني أصبحت ألأمها كلبا أبينا سوى غش الصدور وإنما ينال ثواب الله أسلمنا صــدرا
وعند قراءتنا لقصيدته ( غير مجد ) سنجدها خير شاهد على تشاؤمه من الحياة ونظرته السوداء إلى الدنيا دار الآلام والبلاء فكلها تعب ، وتنغيص ، وكدر ، وأي فرق بين صوت نعي الميت وصوت المبشر بالميلاد .
غير مجد في ملتي واعتقــــادي نــــوح بــاك ولا ترنــــــــم شـــــادي وشبيــــــه صـــوت النعـــــي إذ قيس بصوت البشير في كل نـــــاد تعب كلها الحيـــــاة فما أعجـب إلا مـن راغـــــــــــب في ازديـــاد إن حزنـــــــا سـاعـــــة المــــــوت أضعاف سرور ساعـة الميلاد
والدنيا خسيسة أف لها ولأبنائها ليس بها إلا المصائب والبلايا .
خسئت يا أمنــا لدنيـا فأفَّ لنـــــــا بنو الخسيسة أوباش أخساء وقد نطقت بأصناف العظات لنا وأنت فيما يظن القوم خرساء
والدنيا في نظر المعري تشبه المرأة الحائض التي لا يستطيع أن يتمتع بها من أراد ذلك ، فحبها شقاء ، ومن طلبها تعب ومن تركها ارتاح ، كل خلاف بسببها ، وكل رياء من أجل نيل مراتبها ، ورغم ذلك فقد جبلت النفوس على حبها .
ووجـدت ديانــا تشابــه طامثـــــــــا لا تستقيم لناكح إقراؤهــــــا هويت ولم تسـعف وراح غنيهــــــــا تعبا وفاز براحة فقراؤهــــا وتجادلت من حبهــــــــــــا فقهاؤهــا وتقرأت لتنالهـا قراؤهــــــــا وإذا زجرت النفس عن شغف بها فكأن زجر غويها إغواؤها
ويقول :
دنيــاك التي عشقـت وأشقت كذاك العشق معروفا شقـــــاء سألنها البقاء _ على أذاهــــا _ فقـالـت عنكــم حظـر البقـــاء
والدنيا في نظر المعري لا تتوقف أبدا عن إظهار القبائح والشرور ، ولا تأتي أبدا إلا باليأس من أحبها أبكته في ليله ونهاره من كثرة مصائبها عليه . وما زالت الدنيـا بأصناف ألسن تبين عـن غير الجميـــــــــل وتعــــــرب إذا أغربت يومـا برد على الفتى فليست على نفسي بمـا حمَّ تغـــــرب وجربتهـا أم الوليد لطامـــــــــــــع وييأس من أم الوليــــــد المجـــــــــــــــرب يحق لمن يهوى الحيـــــــــــاة بكاؤه إذا لاح قرن الشمس أو حين تغــــرب ويشبه المعري هذه الدنيا بليلها ونهارها كالحية الرقطاء شأنها الغدر والقسوة وأحلامها مثل السراب لا يتحقق منها شيء .
إذا تعطفت يوما كنت قاسية وإن نظرت بعين فهي شوساء
ويقول :
دنيــــاك مشبهة السراب فلا تزل برزين حلمك موشكا خدعاتها رقشاء فيها ليلها ونهارهــــــــــــا تلك الضئيلة شأنها لسعاتهــــــــا
ويصل التشاؤم بالمعري من الدنيا أقصاه فيلعنها تلك الدنيا الغدَّارة التي تتصور للناس في صورة بكر جميلة وما هي في حقيقتها إلا عجوز شمطاء لا يعرف حقيقتها إلا من عاشرها وأطال المقام فيها ، ولذلك يطالبها بإنجاز وعدها بالموت فهي طريقه الوحيد ولا وصول إليه إلا عن طريقها .
لحاك الله يا دنيــا خلوبــــــــا فأنت الغادة البكـر العجوز وجدناك الطريق إلى المنايا وقد طال المدى فمتى نجوز سئمنـا من أذاك فنجزينــا فـإن مروءة الوعـد النجـــــوز ويلح على طلب الموت يائسا من الحياة بعد أن أذاقته هذه الدنيا من فنون مصائبها ما لم يحتمله فاسمعه يقول :
لا أخطب الدنيا إلى مالك الدنيا ولكــن خطبتي أختهــــــــــا النفس فيهــــا وهي محســـــــودة ذات شقاء عدمت بَختها تلك تقضي بالردى ذرهـــــــــــــــا كما تقضت بالردى بُختها مـــا أم دفـــــــــر أم طـيب ولــــــــو أنك بالعنبـر ضمختهــــــــــــا
والدنيا شر مستطير ويشبهها أبو العلاء بشر أم أنجبت شر ابنة وهي الخمر ، فإذا ما اجتمعا اجتمع الشر كله .
وأم دفر لعمري شر والدة وابنتها أم ليلى شر مولود
وهذه الدنيا مثل بقرة وحشية فسدت فلم يسلم من أبنائها واحد في الألف بل واحد في ستة آلاف . وهذا يدلنا على الرؤية التشاؤمية للمعري الذي يرى فساد هذه الدنيا المطلق .
كأنمــا دنيــــاك وحشيـــــــة نظرت في آثار أظلافهـــــا ما بقى الواحد من إلفهـــــــا بل هو من ستة آلافهـــــــا إن أخلفتك اليوم موعودها فعرفنـا جـار بإخلافهـــا حلفت مــا حالفها عاقــــل وشانها الغدر بأحلافها
ومن شرور هذه الدنيا ومصائبها ، وما يلقاه الإنسان فيها من ذلة وهوان ، فإن بطن الأم ينادي في الجنين الذي بداخله ألا يظهر إلى هذه الدنيا اللئيمة ، ويدعوه إلى الموت حتى لا يرى من الدنيا ما لا يسره .
نادى حشا الأم بالطفل الذي اشتملت عليه ويحك لا تظهر ومت كمـدا فإن خرجت إلى الدنيـــــــــــــا لقيت أذى من الحوادث بله القيظ والجمدا وما تخلــص يومـــا من مكارههـــــــــــــــا وأنت لا بد فيهـــا بالــغ أمـــــــــدا
ويصل الحال بأبي العلاء المعري أنه لو استشير في أمر الخلق لأشار بالعدم ولو أنه كان سيد القادمين إلى هذه الدنيا لنصح القادمين بعدم النزول في هذه الدنيا لأنه لا خير فيها أبدا فنباتها سقم وشرابها سم ولا تحلو لأحد يوما من الأيام والمعري يبالغ مبالغة شديدة لإثبات تشاؤمه حتى يجعله حقيقة ما خالفها باطل .
لـو كنت رائـــد قـوم ظـاعنين إلى دنيـــــــــــــاك هـذي لمــا ألفيت كذَّابــــا لقلت : تلك بلاد نبتهــا سقـــم وماؤهـا العذب ســم للفتى ذابـــــــا هي العذاب فجدوا في ترحلكم إلى سواها ، وخلوا الدار إعذابا خبرتكـــــم بيقين غير مؤتشب ولم أكن في حبال المين كذابــــــــــــــا
ويتعدى ذلك التشاؤم المعري لتغشى ظلمته كل شيء من حوله ، فالكل في نظر المعري يشهد على فساد هذه الدنيا ، حتى الطيور المغردة تنوح مخبرة بأن هذه الدنيا لم تجد للناس إلا السموم ، وهذا غاية في التشاؤم حيث لا يرى المعري من الدنيا إلا الجانب المأساوي .
دنيـــاك تكنى بأم دفـــــر لم يكنها الناس بــــــأم طيب فـأذن إلى هـاتف مجيـد قــــام على غصنـه الرطيب يكــون عند اللبيب منــا أبلــغ من واعـــــظ خطيب يحلف ما حادث الليالي إلا بســـــم لنـــــــــــا قطيب
ويقول :
حملت على الألى الحمام فلم أقل يغني ولكن قلت : يبكي ويندب
والدنيا متقلبة الحال لا يجد فيها الإنسان إلا الشقاء ، ولا تثبت على حال ، ذل فيها الشريف ، ودب من أجلها الخلاف ، ولن يتبدل حالها بل سيبقى الناس فيها على خلاف دائم أبد الدهر . ألم تر للدنيا وسوء صنيعهـــا وليس سوى وجه المهيمن ثابتــــــــــا تخالف برساها فبرس بهامة أقــر وبــــــرس يذهب القر نـــــابت مصل ودهري وغاو وناسك وأزهر مكبـــــــــوت وأسود كــابت أينحل سبت يعقد الخط يومه فينجح ساع ؟ أم الدهر ســـــابت
وإذا كانت الدنيا هذا حالها وهذه صفاتها ، فهو يدعوا إلى عدم الانغماس في لذاتها ويدعوا إلى الزهد فيها والتخلي عن حطامها ، فهي لا تأتي إلا بالكآبة والحزن .
لا تلبس الدنيا فإن لباسها سقم وعر الجسم من أثوابهـــا أنا خائف من شرها متوقع إكابها ، لا الشرب من أكوابها ويقول :
لا تشرفــن بدنيــــا عنك معرضـــــــــة فما التشرف بالدنيـا هو الشرف واصرف فؤادك عنها مثل ما انصرفت فكلنــا عن مغانيهــــــــا سننصرف يــــا أم دفــر لحـــــــاك الله والــــــــــــــدة فيك العناء وفيك الهـــم والسرف لو أنك العرس أوقعت الطلاق بهــــــا لكنك الأم مـا لي عنــــــك منصرف
وهكذا فإننا نرى أبا العلاء المعري قد بالغ في ذم الدنيا ، والتحقير من شأنها حتى إنه امتنع من أي لذة فيها ، وحذر من الجري وراءها ، أو السير في طريقها حتى لصغار السن .
فلا تطلب الدنيا وإن كنت ناشئا فإني عنها بالأخلاء أربأ
وهي ليست دار قرار إقامة ، والرحيل منها أولى من البقاء .
لعمرك ما الدنيا بدار إقامة ولا الحي في حال السلامة آمن وإن وليدا حلهــــا لمعذب جــرت لسواه بالسعـود أيامـــن
ورغم تحامل المعري على الدنيا ، لكنه لم يخلها من بعض الخير ، ولكنه جزء ضئيل إذا ما قورن بالشر الذي فيها .
نعم ثم جزء من ألوف كثيرة من الخير والأجزاء بعد شرور
المبحث الرابع : الموت :
رأينا رأي المعري في الدنيا فهو لا يرى فيها شيئا من الخير ، وإنما ملؤها الشرور والآثام ( فطبيعي إذن أن يرحب بالموت يريحه من المتاعب ) .
وإذا كانت الدنيا هكذا فإن المخرج منها عند أبي العلاء المعري الموت بل هو الراحة الأبدية التي يتطلع إليها المعري ، بل يبالغ حتى إنه يجعل الموت الأمل الوحيد له في الحياة ، فلا يفكر في غيره ، ولا يرضى أن يدعوا له أحد بالحياة وطول العمر ، لأن في الدعاء بطول العمر دعاء بالشقاء والألم والعذاب .
( وهكذا استمر أبو العلاء يرى الدنيا هذه الرؤيا السوداء ، وتجمعت ظلمات كثيرة من حوله بعضها فوق بعض ، فالدنيا آلام وعذاب ونكبات ونوائب ، بل هي شر مستطير يجب أن نتخلص منه فنخرج من هذا العالم الموحش المظلم ، ونستريح من متاعبه وآلامه ) فالحياة عذاب والموت راحة .
حياتي تعذيب وموتي راحة وكل ابن أنثى في التراب سجين
ومن شدة كراهيته للحياة فإنه يعتبرها صوما ، ويعتبر الموت عيدا ، وأي تشاؤم بعد هذا التشاؤم أن يرى الرجل يوم موته عيدا يسعد به وينتظره بفارغ الصبر ، خلاف الفطرة البشرية التي جبلت على حب الحياة وكراهية الموت .
أنا صائم طول الحياة وإنما فطري الحمام ويوم ذاك أعيد
والعاقل المتدبر في نظر المعري ليست له راحة في هذه الحياة التي عدمت منها مكارم الأخلاق إلا الموت .
تعالى رازق الأحياء جمعــا لقد وهت المروءة والحيــــــاء فـإن الموت راحـــــــة هِبرزي أضــر بلبــــــــــه داء عيـــــاء فمالي لا أكون وصي نفسي ولا تعصي أموري الأوصياء
وأفضل من طول العمر والغنى في هذه الدنيا الموت لأنه راحة من مصائب الدنيا وشقائها .
مـوت يسير معــه رحمـة خير من اليسر وطول البقاء وقد بلونا العيش أطواره فما وجدنا فيه غير الشقـاء ويشبه المعري الموت بأنه شراب طيب يروى الظمآن ويريحه بعد عناء الدنيا الطويل وما لاقاه من مصائب وشرور .
ما أطيب الموت لشرابه إن صح للأموات وشك لقاء
وحينما يفقد الصدق ويقل الوفاء وتحيط بالناس مصائب الدنيا من كل صوب فلا شفاء للعاقل منها سوى الموت .
قد فقد الصدق ومات الهدى واستحسن الغدر وقل الوفاء واستشعر العاقل في سقمــــه أن الردى ممـا عنـاه الشفــــــــاء
والموت – في نظر المعري – أفضل من الحياة لأنه لا يأتي بالهين وهذا دليل على أنه من مكارم الأمور وعظائمها ألا ترى المجد في هذه الحياة لا يأتي إلا بعد تخطي الشدائد والمحن .
يدل على فضل الممـات وكونه إراحة الجســم أن مسلكـه صعب ألم تر أن المجـــــــــــد تلقاك دونه شدائد من أمثالهـا وجب الرعب إذا افترقت أجزاؤنا حط ثقلنا ونحمل عبئا حينما يلتئم الشعب
وبقاء المعري في هذه الدنيا شف لي عن حقيقتها المرة مما حبب إلى تمني الموت وحصوله بسرعة .
وشف بقاء صرت من دون فعله أهش إلى الموت الزؤام وأطرب
والمعري لا يكره الموت كما يكرهه الناس بل هو يتمناه لأن فيه راحة أبدية مما لاقاه في هذه الحياة من المصائب والمحن .
إن يقرب الموت مني فلست أكــره قربـــــــــــــه وذاك أمنــــــــع حصـن يصيِّر القبــر دربـــــــــه من يلقــــــــه لا يراقب خطبا ولا يخشى كربه
ويقول :
بقائي في الدنيا على رزية وهل أنا إلا غابر مثل ذاهب
ويعقد المعري مقارنة عجيبة بين إيجابيات الموت وسلبيات الحياة ، فالموت أغنى والحياة أفقرت ، والدنيا تفتح أبواب الشر وما يغلقها إلا الموت ، وهو أعدل ما يمر على الناس .
ما أعدل الموت من آت وأستره فهيجيني فـإني غيــر مهتـــاج العيش أفقــر منا كل ذات غنى والموت أغنى بحق كل محتاج إذا حياة علينـــا للأذى فتحت بابــا من الشـر لاقاه بإرتـــاج
وانظر إليه كيف يرحب بالموت ، بل وينتظره انتظار الحبيب الولهان ، وحينما طال به البقاء خاطب نفسه مطمئنا لها أن الموت الذي تنتظره لابد آت ولو طالت الحياة .
يا مرحبا بالموت من منتظر إن كان ثم تعارف وتلاق
ويقول :
نفسي أخاطب والدنيا لها غير وفي الحمام إذا طال الأذى درك
ويقول :
متى أنا للدار المريحة ظاعـن فقد طال في دار العناء مقامي وقد ذقتها ما بين شهد وعلقم وجربتهــــا في صحة وسقــام
ويلوذ المعري بربه داعيا إياه تعجيل الموت ، والرحيل من الحياة ، فقد طال به المقام بها ، ولم يجد فيها إلا النحس والشقاء .
رب متى أرحل عن هذه الـ ـدنيا فإني قد أطلت المقـام لم أدر ما نجمي ولكنـــه في النحس مذ جرى واستقام
وهكذا فإننا نرى أبا العلاء المعري يفضل الموت على الحياة لنقمته عليها ، ولما لاقاه فيها من المصائب والإهانة والكوارث ، فهو يلوذ به وينتظره ، خلاصه من كل شر ، وشفاؤه من كل داء .
*****
المبحث الخامس : العدم والنسل :
لم يكتف أبو العلاء المعري بتمني الموت لنفسه ، وجعله منقذا له من حبسه في هذه الدنيا ، بل ( حمله تشاؤمه الشديد على الاعتقاد بأن الإثم كل الإثم إنما هو إنجاب الأبناء وتعريضهم لجميع ألوان الشقاء التي يتعرض لها الحي ) وبالغ حتى تمنى العدم لهذا الوجود ( وتمنى للوليد ألا يولد وللحي أن يفنى )
فليت وليدا مات ساعة وضعه ولم يرتضع من أمه النفساء
( وفي امتناعه عن الزواج والنسل ما يجعلنا نرى جانبا من تشاؤمه الأسود الذي ضرب ظلماته على حياته وجميع أفكاره ، ولعل ذلك ما جعله يوصي بأن يكتب على قبره ) .
هذا جناه أبي علــ ــيَّ وما جنيت عل أحد
ويرى أن الأب بإنجابه لأبنائه فإنه لا يجني عليهم إلا الشر .
أبوك جنى شرا عليك وإنما هو الضب إذ يسدي العقوق إلى الحسل
ويعُد العدم نعمة من الأباء للأبناء وما ظهور الأبناء في هذه الحياة إلا لملاقاة الشرور ، والشدائد والمعري يعلل عدم زواجه وإنجابه أنه أراد أن يمن على أبنائه بنعمة العدم التي – في نظره – لا تعدلها نعمة .
وأرحت أولادي فهم في نعمة العدم التي فضلت نعيم العاجل ولو أنهم ظهروا لعاشوا شدة ترميهم في متلفـــات هواجـــــــــل
والنسل ذنب عظيم من الذنوب التي ارتكبها الإنسان لأنه ساعد به على استمرار الحياة، واستمرار الحياة – في نظره – جناية عظيمة في حق الأبناء وذنب لا يغتفر في حق الآباء ، ولذلك فإن المعري ينصح الرجال بعدم الزواج وإن كان لا بد منه فعليهم بالعقيمة من النساء لأنها أفضلهنَّ .
أرى النسل ذنبا للفتى لا يقاله فلا تنكحن الدهر غير عقيم
ويقول :
إذا شئت يوما وصلة بقرينة فخير نساء العالمين عقيمها
ولو أن الناس يرون رأي أبي العلاء المعري لعطلوا هذه الدنيا ( وليس من وسيلة لعدم الوجود سوى قطع النسل)
لو أن كل نفوس الناس رائيـة كرأي نفسي تناءت عن خزاياهــا لعطلوا هذه الدنيا فما ولدوا ولا اقتنوا واستراحوا من رزاياها
( والمعري يعتقد ان كل أب ينسل فإنما يجني على أولاده ولو قدر لهم أن يكونوا في مواطنهم حكاما ) ، والأب الوالد يلقى العذاب والشقاء من أولاده وبسببهم وكلما كان الأبناء نجباء كلما زاد حقدهم على آبائهم لأنهم يعلمون أكثر من غيرهم أن آباءهم سبب شقائهم لأنهم جلبوهم إلى هذه الدنيا ذات المصائب والبلايا .
على الولد يجني والد ولو أنهم ولاة على أمصارهــم خطباء وزادك بعدا من بنيك وزادهـــم عليك حقودا أنهــم نجبــاء يرون أبا ألقاهـــــم في مؤرب من العقد ضلت حله الأرباء
ويقول :
يشقى الوليد ويشقى والده به وفاز من لم يوله عقله ولد
ويقول :
خير النساء اللواتي لا يلدن لكم فإن ولدن فخير النسـل ما نفعــا وأكثر الناس يشقى الوالدان بــه فليتـــه كان عـن آبائــه دفعـــــــــا أضاع داريك من دنيــا وآخــرة لا الحي أغنى ولا في ميت شفعا وكــم سليل رجاه للجمــال أب فكان خزيــا بأعلى هضبة رفعا
والنسل لا يأتي بالخير فمشكلات الأبناء لا تنتهي ، فآباؤهم وأمهاتهم في هم دائم وخوف مستمر عليهم وعلى مستقبلهم في الحياة و هل سيكونون بارين بهم أم لا ؟ وأما من رزق البنات فهو أشد شقاء ومحنة .
ومن رزق البنين فغير نـــاء بذلك عن نوائب مسقمات فمن ثكل يهاب ومن عقوق وأرزاء يجئن مصممـــات وإن يعط الإناث فأي بؤس تبين في وجوه مقسمـــــات يردن بعولة ويردن حليــة ويلقين الخطوب ملومـــــات
والعدم خير من النسل ، وتربية الأبناء إنما تربية للخديعة والأضغان فعلى الناس أن يفهموا تلك الحقيقة من المعري ويقطعوا النسل لتتوقف الحياة ، ويتوقف معها جميع شرورها .
لو يفهم الناس ما أبناؤهـم جلب وبيـع بالفلس ألف منهـم كسدوا فويحهم بئس ما ربوا وما حضنوا هو الخديعة والأضغان والحسد
وعلى الرجال التوقف عن النسل ، فلا يجنوا على أبنائهم كما جنى عليهم آباؤهم .
فإن أنت لم تملك وشيك فراقها فعف ولا تنكــح عوانا ولا بكــرا وألقاك فيها والداك فلا تضـع بها ولدا ، يلقى الشدائد والنكر ا
ولماذا النسل في هذه الحياة إذا كان نهايتها الموت ، فالعاقل يهجر طيب الخمر مخافة السكر ، فلماذا لا يهجر الناس الولادة مخافة الموت .
دع النسل إن النسل عقباه ميتة ويهجر طيب الراح خوفا من السكر
ويفضل أبو العلاء المعري الخصاء للرجل من الزواج ، فالزواج – في نظره – عار على الرجل ، ولكن إذا أبى إلا الزواج فلا يجمع معه شر الإنجاب .
خصاؤك خير من زواجك حرة فكيف إذا أصبحت زوجا لمومسي
ويقول :
نصحتك لا تنكح فإن خفت مأثما فأعرس ولا تنسل فذلك أحزم
ولو كان الناس يعقلون لفضلوا الموت على الحياة ، والعدم على العيش ، فهنوا على الممات وعزوا على الولادة .
لو يعقلون لهنوا أهل ميتهم ولم تقم بوليد فيهم البشر
والعقم يسيء المرأة ولكنه يرى أنه خير لها ، ولكنها لم ترزق عقلا تفكر به ، وتميز به بين النافع والضار ، وينصحها بعدم الإنجاب فذلك أشرف لها .
قد ساءها العقم لا ضمت ولا ولدت وذاك خير لها لو أعطيت رشدا
ويقول :
كوني الثريا أو حضار أو الجوزاء أو كالشمس لا تلد فتلك أشرف من مؤنثـــــــة نجلت فضاق بنسلها البلـــــد
ويبلغ به تمني العدم غايته فتمنى لو أن آدم طلق حواء أو حرمت عليه بالظهار ، بل يا ليت حواء قد خلقت عقيما ، ولم يولد في هذه الدنيا مولودا .
يا ليت آدم كان طلق أمهم أو كان حرمها عليه ظهار
ويقول :
فليت حواء عقيــم غـــدت لا تلد الناس ولا تحبل وليت شيثا ، أو أبانا الذي جاء بنا أهبلــه المهبـل
وقد بالغ أبو العلاء في ذلك حتى ( استحسن من وأد البنات ما حرم الله ونهى عنه الدين ) .
ودفن والحوادث فاجعات لإحداهن إحدى المكرمات
ويغلب هذا الشعور على أبي العلاء حتى أنه يتمنى ألا يلد على وجه الأرض أحد ، حتى الحيوانات والطيور ، فها هو يخاطب الحمامة ناهيا لها عن الإنجاب .
إن كنت يا ورقاء مهديَّة فلا تبنِّي الوكر للأفراخ
ويقول :
هل تعلم الطير الغوادي علمنا أم لا تصح لمثلها الأفكار لو أنهــا شعرت بما هو كائن لم تتخذ لفراخها الأوكار
*****
المبحث السادس :المرأة :
لم يكن تشاؤم المعري من المرأة بأقل من الدنيا ، ورأي أبي العلاء في المرأة قبيح ( لأنه يسيء بها الظن في جميع أطوارها ، ويرى أن تقطع الأسباب والوسائل بينها وبين الحياة العامة إذ هي لا تصلح منها لشيء ) .
وكان في جميع آرائه حول المرأة متشائما منها محاولا أن يصفها بكل الصفات التي يمكن أن تنفر الرجال منها ، وذلك يمكن أن يكون بسبب أنها ( أصل هذا النسل الذي يعيش في دار النحس والشقاء ) .
ولذلك نراه تارة يشجع الرجال على ترك الزواج من النساء ، وتارة أخرى يصفها بالخيانة ، وأخرى يمنعها من أي عمل سوى القعود في البيت وغزل الصوف .
وعلى هذا الأساس من التشاؤم بنى أبو العلاء المعري آراءه حول المرأة ، ورغم أنه يرى الفساد طبيعة بشرية ، ولكنه ( يرى أن الخطر من فساد الرجل أخف من الخطر من فساد المرأة ) ، بل إن أبا العلاء يرى أن السعادة في هذه الدنيا أن لم تخلق امرأة .
بدء السعادة أن لم تخلق امرأة وهل تود جمادى أنها رجب
ولا يرى المعري حاجة في تعليم المرأة العلم ويكتفى بتعليمها الغزل والنسج ، وإذا تحجج الناس في تعليم المرأة بالصلاة فإن المعري يرى أن قصار الصور تجزيء عن طوالها .
علموهن الغـــــــزل والنسج والردن وخلــوا كتابـــــــــــــة وقراءة فصلاة الفتاة بالحمد والإخـــــلاص تجـــــــزي عن يونس وبراءة تهتك الستر بالجلوس أمــــام الستر إن غنت القيــــــــــان وراءه
( وفي قصيدته التائية أكثر آرائه حول المرأة ، فوسائل الإغراء عندها كثيرة ، لذا ينبغي التشدد في حجابها ، إذ على المرأة أن تنصرف إلى شؤون بيتها ، وإلى غزل الصوف ، فذاك أولى بها من التعلم لأنها لا تحتاج إلى العلم إلا القليل ) ومهما تظاهرت المرأة بالعبادة فإنها غادرة مجرمة .
وليس عكوفهن على المصلى أمانا من غوادر مجرمات ولا تحمد حسانك إن توافت بأيد للسطور مقومـــات فحمل معـازل النسوان أولى بهن من اليراع مقلمــــات
ويقول :
أقل الذي تجني الغواني تبــــــــــــــــرج يري العين حليهــــا وخضابهــــــــــــــــا فإن أنت عاشرت الكعاب فصادها وحاول رضاهــا واحذرن غضابها فكم بكرت تسقي الأمرَّ حليلهــــــــا من العار ، أن تسقي الخليل رضابهــا
وإذا أرادت المرأة أن تأخذ العلم فلا تأخذه إلا من عجوز مرتعش يداه قد بلغ من الكبر عتيا ، ليس له غرض في هذه الحياة .
ليأخذن التلاوة من عجوز من اللاتي فغرن مهتمـــات يسبحن المليك بكل صبح ويركضن الضحى متأثمات
ويقول :
ولا يدنين من رجـل ضريـر يلقنهن آيا محكمات سوى من كان مرتعشا يداه ولمته من المتثعمـات
حتى ولو كانت المرأة من بنات الأغنياء فإن الوظيفة الحقيقية لها غزل الصوف .
والغزل والردن للغواني شيئان عدا من الجزالة والشمس غزالة ولكـن خففت الزاى في غزالـه
ويقول :
إن نشأت بنتك في نعمة فألزميها البيت والمغزلا ذلك خير من سوار لهـا ومن عطايـا والـد أجزلا
والمرأة سبب الفتنة في المجتمع ، ويرجع ذلك إلى ( رفع الحجاب ... " أي اجتماع الرجال بالنساء " حتى في الأماكن التي لا يسبق الذهن عادة إلى سوء الظن بها كمجالس العلم )
ويتركن الرشيد بغير لب أتين لهديه متعلمات
ويقول : سحائب مبرقات مرعدات لمهجة كل حي موعدات
ويقول :
يغـادرن الجليـد قـرين ضعف صوابر للنوى متجلــدات تريق بذلك في قتـــل دمـــــــــاء رؤس في الحجيج ملبدات تعالى الله لم تصف السجايـا وأفعــــال المعاشر مؤيدات
والمرأة من شأنها ارتكاب الآثام باختيارها ، فإذا ما عوتبت كان ردها السكوت خداعا ومكرا .
تقلدن المآثـــــــم باختيـــار أوانس بالفريد مقلــدات إذا عوتبن في جنف وظلم أبتْ إلا السكوت مبلدات
وإذا كانت تلك صفات المرأة في نظر المعري فإنه يرى للرجل أن يبتعد عن طريقها فإن في الجري وراء المرأة شر عظيم ، وحتى السلام فإن على لرجل ألا يرده على المرأة خوفا من الافتتان بها .
لا تتبعن الغانيـــــــات مماشيـــــــا إن الغواني جمة تبعاتهــــا وإذا اطلعن من المناظر فالهدى ألا تراك الدهر مطلعاتها
ويقول :
ولا ترجع بإيمـــــــاء سلامـــــــــــــا على بيض أشرن مسلمـــات أولات الظلم جئن بشر ظلــــــــم وقد واجهننا متظلمــــــــــــات فـــوارس فتنــة أعــــــــــــــلام غي لقينك بالأساور معلمــــــــات وسام ما اقتنعن بحسن أصـــــــل فجئنك بالخضاب موسمات رأين الورد في الوجنات خيمـــــــا فغادين البنـــان معنمـــــــــــات وشنفـن المسامـــــــــــــع قــائلات وكلمن القلوب مكلمــــــــــــات
ويدعوا الرجل إلى الحذر من النساء بلزوم العفة ،والاستغناء عنهن فهن سبب البلاء ، فالبكر منهن مصيبة عظمى ، والأيم حية رقطاء .
توق النساء على عفــة ليجزيك الواحد القيم فأبكارهن ابتكار البلاء وأيمهن هي الأيـــــــــــــم
والمعري في أمر الزواج متناقض فهو يراه نافعا للمرأة لأنه يخفف عنها أعباء الحياة ، كما أنه يحذر الرجل من الزواج ويراه ضار له . واطلب لبنتك زوجا كي يراعيها وخوف ابنك من نسل وتزويج
وإن كان لا بد من الزواج فليكن من عقيمة ، وإذا كانت عند الرجل امرأة عجوز فإنه لا يستبدلها بأخرى أصغر منها ، إن كانت أقل جملا فإنها أقل عيبا .
إذا شئت يوما وصلة بقرينة فخير نساء العالمين عقيمها
ويقول :
إذا كانت لك امرأة عجوز فلا تأخذ بها بدلا كعابـا فإن كانت أقل بهاء وجــه فأجدر أن تكون أقل عابا
والمعري يخاف على المرأة من الاجتماع بالرجال حتى في الحج ، فإنه لا يأمن عليها منهم ، ولذلك ( نهى المرأة عن الحج وعن شهود الجماعات ) ولا فرق في ذلك بين العجوز والصبية .
أقيمي لا أعد الحج فرضا على عجز النساء ولا العذارى ففي بطحاء مكة شر قــوم وليسوا بالحماة ولا الغيـــارى
وللمعري في ( اللزوميات ) تائيتان خصصهما للحديث عن المرأة وهما : التائية الحادية عشرة والتائية الثامنة والأربعون ، وهما قصيدتان طويلتان ضمنهما المعري أكثر آرائه حول المرأة .
*****
المبحث السابع :السياسة :
أما آراؤه السياسية فنابعة من فساد المجتمع الذي كان يعيش فيه ( فالحياة السياسية كانت سيئة إذ استولى الترك على أمر الخلافة وتطاولوا على الخلفاء عزلا وسجنا وتعذيبا ... ولم تكن الحياة الاقتصادية والاجتماعية أقل سوءا ... فانتشر الفساد وعمت الفوضى )
والمعري يحارب السلطة إنها في نظره ( فاسدة لكون المكر والرشوة والفحش هو الطريق إليها ، ولكون الحكام جماعة فوضى ورذيلة ، يتبعون هواهم ويسومون الرعية ظلما وينعمون بمالها وثمرة أتعابها )
وقد أدت الأوضاع القائمة إلى تحرر في الدين وميل إلى الظلم والتعسف مما كان له أكبر الأثر في نقمة أبي العلاء المعري على الساسة والحكام وفي ذلك ( ترك المعري آراء سياسية فيها الكثير من الجرأة ، فهو ينكر الملك ووراثته ، في عهد يسيطر فيه النظام الملكي الاستبدادي )
ويرى أن الملوك ما هم إلا خدم وضعوا لإصلاح شؤون الناس ( وواقع الحال أن الحكام لا هم لهم سوى الجاه والمال وفرض الضرائب ) ، وانظر إليه يصف الحالة السياسية :
وأرى ملوكا لا تحوط رعية فعلام تأخذ جزية ومكوس
ويقول في نقد حكام عصره :
يسوسون الأمور بغير عقل وينفذ أمرهم ويقال ساسة فأف من الحيـاة وأف مني ومن زمن سياسته خساســة
ويقول :
مل المقـام فكـــم أعاشر أمـــــــــــــة أمرت بغير صلاحها أمراؤهــــــا ظلموا الرعية واستجازوا كيدها فعدوا مصالحها وهم أجراؤها
ويقول :
لقد ساس أهل الأرض قوم تفتَّقت أمـور فمـا ألفت لهـــــــــم يد راتق هم هتكـوا بالراح أستـار عــــــــــــاذل ولم يحفظوا بالنسك حرمة ناتق
ويتأفف المعري من الملوك ، وظلمهم للناس وعدم اهتمامهم إلا بالتفاهات من الأمور ، فهم لا يهتمون إلا بشهواتهم .
يا ملـوك البلاد فزتــم بنسء العمر والجور شأنكم في النَّساء ما بكم لا ترون طرق المعالي قد يزور الهيجــاء زير نســــــــاء يرتجي الناس أن يقوم إمـام ناطـــق في الكتيبــة الخرســـــــــــاء
ولو يدري الملوك ما في الظلم من عواقب لفضلوا الخلع من الحكم ، وغزل الخيوط بدلا منه .
خير من الظلم للوالين لو عقلوا عـزل بعنف وغـزل بالصنانير ذللت حتى دنا نِير إلى كتــــــــــد وإنمـــا ذاك من حب الدنانير
والأمراء والوزراء في شر وخسران ، فليس همهم إلا التمتع بالنساء ، وجمع الأموال .
هل الأمراء إلا في خسار أو الوزراء إلا أهل وزر
ويقول :
رأيت الناس في هرج ومرج غــواة بيـن مــعتزل ومــــــــــرجــي فشأن ملوكهــم عزف ونزف وأصحــاب الأمور جبــاة خرج وهمِّ زعيمهم إنهــاب مـال حرام النهب ، أو إحلال فـــــــــرج
وقد فسدت البلاد وعمتها الفوضى ، وتسلط عليها الأعداء ، وما ذلك إلا لفساد الحكام ، وانشغالهم عن خدمة الناس بأهوائهم الخاصة .
إذا دنوت لشام أو مررت بـه فنكبيه وراء الظهر أو حيـدي قد غير الدهر منه كل مبتهج وألحد السيف فيه بعد توحيد
ويقول :
أيا قيل إن النار صال بحرهــــــا مقيـــم صـلاة والمهنـــــــــــــد وارس وبالرملة الشعثاء شيب وولـدة أصابهــم ممـا جنيت الدهــــــارس وقد ظهرت أملاك مصر عليهم فهل مارست من ظلمهم ما تمارس
ولقد تولى الحكومة أراذل الناس ، وصار العبيد حكاما فقهروا الناس وغلبوهم على أمرهم .
غدا العصفور للبازي أميرا وأصبح ثعلبا ضرغام ترج
والسلطان متكبر لا يحب النصح ولا الناصحين ، يغضب من المصلحين ويقرب المفسدين ، والناس لا يستطيعون مواجهته بظلمه وعيوبه ، فهم يهللون باسمه أمامه ، وينقمون عليه خلفه ، فلم يبق في الأرض عدل وكل الناس خائن .
قد عمنا الغش وأزرى بنـا في زمن أعوز فيه الخصـــــــــــوص إن نصح السلطان في أمره رأى ذوي النصح بعين الشصـوص وكل من فوق الثرى خائن حتى عـــدول المصر مثل اللصوص
ويقول :
قد ينصف القوم في الأشياء سيدهم ولو أطاقوا له ريبا أرابــــــــــوه لــم يقـــــــدروا أن يــلاقوه بسيئـــــــــــــة من الكلام فلما غاب عابـوه تحــدثــوا بمخـازيـــه مكتمــــــــــــــــــة وقابلــوه بإجــلال وهابـــــــوه وكــــم أرادوا به كيــدا بيـوم ردى من الزمان ولكن ما أصابـوه
ويتهكم المعري من أولئك الذين يرفعون أصواتهم على المنابر بالدعاء للملوك والسلاطين الظلمة ، حتى بكت المنابر من فعلهم الشنيع هذا .
يدعون في جمعاتهم بسفاهة لأميرهم فيكاد يبكي المنبر
وإذا كان الحكام ظلمة قد سلطوا سيوفهم على رقاب الناس ، وعاثوا في الأرض فسادا فإن المعري يوصي بعدم طلب الرياسة والحكم ، بل يدعوا إلى البعد والاعتزال .
أنهاك أن تلي الحكومة أو ترى حلف الخطابة أو إمام المسجـــــــد وذر الإمامــة واتخـــــــــاذك درة في المصر تحسبها حسام المنجد تلك الأمـور كرهتهــــــــا لأقارب وأصادق فابخل بنفسك أو جد
*****
المبحث الثامن : ذروة التشاؤم :
ويصل أبو العلاء المعري ذروة التشاؤم في هذه الدنيا التي أذاقته أفاويق العذاب أصنافا ، فيحرم نفسه من أي لذة بها عندما تمنى الموت مرارا فلم يجده وطال به البقاء حتى مل الحياة وما فيها ، ولذلك بادر إلى قراره بحبس نفسه في بيته واعتزال الناس ، وفضل أن يكون نباتيا لأن الاعتداء على الحيوان ظلم وتعسف ومن فساد هذه الدنيا التي عم شرها حتى الحيوان ، لم يكتف فيها الإنسان بظلم أخيه الإنسان بل تعداه إلى ظلم الحيوان والجور عليه ، ومن هذا المنطلق فإن المعري يرى ترك هذا الظلم بالعزم على ألا يأكل من إنتاج حيواني باقي عمره وهو يعض أصابع الندم على عمره الفائت الذي كان يشارك فيه الناس ظلمهم للحيوان .
( والمعروف أن أبا العلاء ترك اللحم ومشتقاته رحمة بالحيوان ) . روى الرواة أن سائلا سأله : ( لم لا تأكل اللحم ؟ فقال : أرحم الحيوان ، قال : فما تقول في السباع التي لا طعام لها إلا لحوم الحيوان ؟ فإن كان لذلك خالق فما أنت بأرف منه ، وإن كانت الطبائع المحدثة لذلك فما أنت بأحذق منها ولا أتقن عملا ، فسكت) .
قال ابن الجوزي : وقد كان يمكنه أن لا يذبح رحمة ، وأما ما قد ذبحه غيره فأي رحمة بقيت ؟ )
ولكن أبو العلاء يصر على مذهبه هذا ويسير عليه في غير ما موضع من ( اللزوميات ) مؤكدا على ترك كل ما هو حيواني والاكتفاء بما نبت من الأرض .
يكفيك أدما بنحض ماء نابتة وظلمك النحل ما يعطيكه الضَّرف
ويقول :
غدوت مريض العقل والدين فالقني لتسمع أنباء الأمور الصحائـــــــــح فلا تأكلن ما اخرج الماء ظالمـــــــــــا ولا تبغ قوتا من غريض الذبائـــــــح ولا بيض أمــات أرادت صريحــــــه لأطفالها دون الغواني الصرائـــــح ولا تفجعن الطيــر وهي غوافـــــــل بما وضعت فالظلم شر القبائــــــح ودع ضرب النحل الذي بكرت لـــه كواسب من أزهار نبت فوائـــــــح فما أحرزته كي يكــون لغيرهــــــــــا ولا جمعتــه للنـدى والمنائــــــــــــــح مسحت يدي من كـــل هذا فليتني أبهت لشأني قبل شيب المسائـــــح
وينزه الخالق – سبحانه وتعالى – أن يحل للإنسان ظلم الحيوان وما تنتجه لنفسها .
تعالى الله مـا تلقى المطايــا من الإنسان والدنيـــــــــا تصير إذا سلمت فنص في الموامي قواصد ما به يفنى القصيـــد وما ينفك في السنوات منهــا حليب أو نحير أو فصيـــــــد أتجزي الخير صيد من ركاب كما تجزي من الأملاك صيد
وهو يسخر من الناس الذين يتظاهرون بالعبادة والخشوع ، فيقضي أحدهم صلاته ، ثم يعدوا على الحيوان يذبحه .
صلى الفتى الجمعة ثم انثنى لذراع في مسحه يذبــــح يعطي به التاجر أرباحــــــه وتاجر الخسران لا يربح
ويقول :
قد ذبح الذارع في ساحة فياله من دم أوداج
ويزجر الناس عن ذبح الحيوان وخاصة أفرخ الطيور فإنها بمنزلةالطفل لأمه .
فلا تبكرن يوما بكفك مدية لتهلك فرخان مواطنه دجا
ولا يكتفي بذلك ولكن يصل به الحال ان يزجر كلاب الصيد عن الفريسة مع علمه أنه معرض لنهشها ، ويرى أن الإنسان يستطيع أن ينعم بحياته دون استخدام الفرس أو كلاب الصيد لاقتناص الطرائد الضعيفة.
أذود عن الفرائس ضاريات وأعلم أن غايتها افتراس وقد يغني ابن آدم وهو حر بلا فرس يعـد ولا فراس
ولما لم يرى المعري في هذه الدنيا سبيلا لإصلاح ولا طريقا لشفاء مما يعاني منه المجتمع ومما يراه المعري ظلما وعدوانا على هذه الحياة ، ولم ينفع معها الحبس واعتزال الناس ولا ترك الشهوات والملذات والاكتفاء بالقليل من الزاد ، بدأ يتبرم منها فإذا هو يرى كل ما حوله يبكي وأن الحزن يلتف حول رقبته يكاد أن يقضي عليه ، حتى تغاريد الطيور يراها نواح وبكاء .
لعمرك مـــــا بي نجعــة فأرومهـــــــا وإني على طول الزمان لمجدب حملت على الأولى الحمام فلم أقل يغني ولكن قلت : يبكي ويندب وذلك أن الحــادثــــــــات كثيــــــرة وغالبهـن الفظ لا المتحــــــــدب
وها هو قد مل المقام ، فيستغيث بالمنية أن تخلصه مما هو فيه ويتعجلها أن تأتيه فقد جرب هذه الحياة من غنى وفقر فلم يجد فيها طعم الراحة .
مللت عيشي فعوجي يـا منية بي وذقت فنيــه من بــؤس ومن رغــــــــد غدي سيوجد أمسي لا ينازعني في ذاك خلق ، وأمسي لا يصير غدي
ويتمنى المعري زوال العالم بعد أن لم ينجح هو في الدعوة إليه بقطع النسل وترك الزواج فتمنى أن يأتي طوفان يغسل الأرض من الفساد ، ويذهب بكل من عليها .
هل يغسل الناس عن وجه الثرى مطر؟ فما بقوا لا يبارح وجهه دنس
ويريد العري الهروب من هذه الدنيا ، ولكن لا مفر له منها .
لعمري قد طال هذا السفـــر على وأصبحت أحدو النفر أأخرج من تحت هذي السماء فكيف الهروب وأين المفـر؟
وهكذا يصل بنا أبو العلاء في تشاؤمه ونظرته السوداء إلى الحياة من حوله ، تلك النظرة التي حولت كل شيء أسود قاتم ، فمن يقرأ شعره لا يظن أن في مجتمع المعري خيرا قط ، رغم أن ( لم يكن مجتمع المعري أكثر أو أقل فسادا من سائر المجتمعات في جميع العصور ولكن تشاؤم المعري هو الذي رسم لمجتمعه تلك الصورة القاتمة التي نراها في اللزوميات )
( ولا شك في أن أبا العلاء بتشاؤمه وسخطه على الدنيا والناس من حوله يثير في أنفسنا ضروبا من الشفقة عليه إذ كان يتجرع الحياة غصصا خالصة ، ولو أنه أخذ نفسه بالرضا والتسليم فاقتنع بحظه وحظ الناس من حوله وما في دنيانا من نصب وعذاب لاستراح وأوى إلى ظل ظليل ) ، ولكن المعري لم يرضى وظل في جحيم الحياة يصارعها ويصارع الناس حتى صرعته .
حياتي تعذيب وموتي راحة وكل ابن أنثى في التراب سجين
*****
الفصل الثاني التعقيد في النظم والتأليف
المبحث الأول : التعقيد في الشعر : تلك الحياة اليائسة المتشائمة التي عاشها أبو العلاء المعري في حياته ، والتي – كما مر بنا – كان لها أبلغ الأثر على آرائه التي ضمنها مختلف مصنفاته ، وخاصة ( اللزوميات ) منها ، والتي كانت مملوءة بالتشاؤم من الحياة حوله ، حتى لا يكاد يرى في هذه الدنيا خيرا قط .
والمطلع على حياة أبي العلاء الأدبية لا يجد فيها سوى التعقيد الشديد في جميع مؤلفاته سواء شعرية أم نثرية ( وهو تعقيد أتاحه له فراغه الطويل الذي أمضاه في عزلته عن الناس ، وربما كان لضيقه بالحياة وبرمه بها أثر في هذا التعقيد ، فقد انقلب هذا الضيق من حياته إلى فنه ، فإذا هو يعقده على الناس حتى ينفس بتعقيده عن ضيقه ، وأيضا فإن لفقده بصره وإحساسه العميق بهذا الجانب جعله يطلب التفوق على معاصريه ، وقد ذهب يحاول هذا التفوق عن طريق تعقيده فنه ، تعقيدا لم يكن يستطيعه إلا صانع ماهر ) .
ولم يفق المعري أحد في التعقيد الذي سلكه حيث يبالغ أيما مبالغة في ذلك ويلزم نفسه ما لا تلزمه قواعد العلوم والفنون ، ويخرج في مصنفاته عن مألوف ما تعارف عليه الشعراء والأدباء قديما وحديثا ، حتى يكاد يتميز بهذا الأسلوب عن غيره من الأدباء .
وإذا نظرنا في شعره وخاصة في اللزوميات نجده ( أقرب إلى الشعر التعليمي ، وقد غرق أدبها في خضم من اللفظية ، والإغراب ، والتعقيد ، والغموض ، وجف فيها الماء والرواء ، فكانت دروسا في اللغة والبديع والفلسفة أكثر مما كانت شعرا )
وذلك التعقيد الذي لزمه المعري أسف بشعره حتى أن ( من يقرأ اللزوميات وينظر فيها نظرة فنية من حيث الصياغة والتنسيق يلاحظ أن جوانب كثيرة منها واهية ، إذ استغرقها أبو العلاء بالتكرار ) ، والتعقيد اللغوي حتى يمكننا أن نصفها بالإسفاف والضعف .
والسبب في ذلك راجع إلى أنه أراد بذلك النظم الوعظ والإرشاد وقد صرح بذلك في مقدمة اللزوميات بقوله : ( وقد كنت قلت في كلام قديم أني رفضت الشعر رفض السقب غرسه ، والرأل تريكته ، والغرض ما أستجيز فيه الكذب ، وأستعين على نظامه بالشبهات ، فأما الكائن عظة للسامع وإيقاظا للمتوسن وأمرا بالتحرز من هذه الدنيا الفانية الخادعة ، الذين جبلوا على الغش ، فهو إن شاء الله مما يلتمس به الثواب ) ولقد تنبه إلى أن ما ألزم نفسه به سيكون ضعفا في شعره ، فذكر ذلك في مقدمته ، حتى لا يظن به أنه جاهل بذلك بل عامد فيه مختار له فيقول : ( وأضيف إلى ما سلف من الاعتذار أن من سلك في هذا الأسلوب ضعف ما ينطق به من النظام ، لأنه يتوخى الصادقة ، ويطلب من الكلام البرة )
والمعري ( يصعب على نفسه الممرات إلى شعره ، ويتقيد بلوازم دائمة يتبعها في صناعته ) ، وقد ألزم نفسه ثلاث كلف صرح بها في مقدمة اللزوميات إذ يقول :( وقد تكلفت في هذا التأليف ثلاث كلف : الأولى : أنه ينتظم أنه حروف المعجم عن آخرها ، والثانية : أن يجيء رويه بالحركات الثلاث وبالسكون بعد ذلك ، والثالثة : لزم كل روي فيه شيء لا يلزم من باء أو تاء أو غير ذلك من الحروف ) .
ومن الكلف الدائمة التي ألزم المعري بها نفسه ( استخدامه اللفظ الغريب ، والجناس وقد التمس فيه ضروبا من التعقيد ) ، أراد بها المعري أن يظهر قدرته في استخدام هذا الجناس استخداما مزدوجا فهو ( يأتي به غالبا ليعبر عن جناس من جهة وعن لفظ غريب من جهة أخرى . كان أبو العلاء يستخدم الجناس استخداما لغويا يريد به أن يدل على مهارته في اللغة قبل أن يدل على مهارته في استخدام لون قديم من ألوان التصنع ) .
وبالغ أبو العلاء في هذا التعقيد حتى ( نراه يتصنع الإغراب في ألفاظه ... وحتى ليشعر الإنسان في أحوال كثيرة بأنه يقرأ في متن من متون اللغة العويصة ) ، وكان من المفروض أن يبتعد عن تلك الألفاظ التي لم تكن تلائم موضوع اللزوميات والذي حدده المعري بالوعظ، والوعظ يوجه للجماهير وهي لا تعرف الألفاظ العويصة .
ولم يقف أبو العلاء المعري عند المزاوجة بين الجناس واللفظ الغريب ، بل راح يصعب على نفسه ، إذ نراه يلتزم به بين حشو البيت والقافية في مثل قوله :
عريني من الدنيـــا عرتني بظلمهــــــــــــا فتمنعني قوتي لتأخـــــذ قـــــــوتي وجدت بهـــــــــــــا ديني دنيـــا فضرني وأضللت منهـــا في مروت مروتي أخوت كمـــــــــا خـاتت عقاب لو انني قدرت على أمر فعــــد أخــــــوتي وأصبحت في تيه الحيـــاة مناديـــــــــــا بأرفـع صوتي أين أطلب صــــوتي وما زال حوتي راصدي وهو آخذي فمـــا لمتابي ليس يغسل حـــــــوتي رآني رب النـاس فيهــــــــــــا متابعــــــا هواي فويحي يوم أسكــن هـــــوتي أبـــوتك يـــــا أثمي ومـــــــــــــن لي بأنني أتيتك فاشكر لا شكــــــرت أبوتي ويقول :
يـــــا ثالـــث الثنين في جسمـــــــــــــــه إربع لكي تستخير الأربعا ينبــــــــع مـن عينيك مـــاء لهـــــــــــــا إذا خليط يمموا ينبعـــــــــا فهل ترى كسرا على الأرض مــــــــن كسراك أو من تبع تبعـــــــا ولمـــا لقينـــا ضبعــــــــــــــــــا أقبلت تفترس الآساد والأضبعـا
ويقول :
باهى رجــــــــال في جهــــــل يباهون لاهون في النسك إن ألفاه لاهــــــــون ناهـــوك عن حسن فعـل أمروك بــه والآمرون بسوء الفعـــل ناهونـــــــــــــا خلت النجوم تنادي : أنجموا فرقــا أو السهى قال : أهل الأرض ساهونا
ويقول :
أريد ليان العيش في دار شقـــــوة وتأبى الليالي غير بخل وليــــان ويعجبني شيئان خفض وصحة ولكن ريب الدهر غير سيـــــاني وما جبل الريان عندي بطائــــل ولا أنا من جود اللسان بريـــــان وأحياني الله القـــدير مــــــــلاوة فهلا بخوف الله أقطع أحيــــاني وإن بني الديان اخمل عزهــــــم قيام عميــد من خزيمة ديــــــــــان وما اقتتل الحيان إلا سفاهــــــة ولو صح ودي للمحارب حياني وتهلك أعيان الرجال ، وإنمـــــا مصارع أعيار كمصرع أعيــــان ولم يشو حتف أم عفر بوهـــــدة ولا أم غفـــــــــر بين آس وظيـــــان أريد عليات المراتب ضلــــــــة وخرط قتاد الليــل دون عليــــان
وفي هذه الأمثلة نجده يجانس جناسا غريبا بين القوافي وحشو البيت ( وكأن أبا العلاء يكره الألفاظ إكراها على أن تؤدي هذا الجناس المفتعل الذي لا يحوي جمالا ولا روعة فنية ) وانظر إليه في المقطوعة الأولى كيف يستخدم الواو المشددة في القافية ، والتي تظهرنا على تعقيده في اللزوميات حينما أراد أن يظهر لنا مهارته في نظمه على كل الحروف حتى وقع في مثل هذا التعقيد والتصعيب .
ولا يقف المعري عند ذلك بل يتعداه إلى إلزام نفسه استخدام الجناس بين القافية وبين أول لفظة في البيت كما نلاحظ ذلك في قوله :
أتراك يومــا قائلا عن نيــــــــــة خلصت لنفسك بالجوج تراك أدراك دهرك عن تقاك بجهده فدراك من قبــل الفوات دراك أبراك ربك فــوق ظهر مطيـــة ســارت لتبلغ ساعـــة الإبــراك افراكن أنا للزمان بمحصـــــد بــانت عليه شواهـــد الإفـــــــراك أشراك ذنبك والمهيمن غافر ما كان من خطأ سوى الإشراك
وقوله :
منون رجال خبرونا عن البلى وعادوا إلينا بعد ريب منون بنــون كآباء وكـــــم برح الردى بضب على علاتــه ، وبنـون
ولم يكتف أبو العلاء المعري بذلك التعقيد الذي ألزم به نفسه في المجانسة بين القافية وأول لفظ في البيت بل تعداه إلى أن يجانس بين القافية وبين كلمة وحرف في كلمة أخرى في مثل قوله :
ذوى كالروض روضك يوم سبت جمار من لظى أسف ذواك
فهو يجانس بين ذوي والكاف في الكلمة التي تليها وبين القافية ، ( أ رأيت كيف أصبح الجناس عند أبي العلاء عبثا لغويا لا يراد به شيء أكثر من التصعيب والتعقيد ) ، أضف إلى ذلك جنوح المعري إلى الألفاظ الوحشية والغريب من الكلام حتى يكاد القارئ للزوميات لا يفهم من كلمات الأبيات شيئا حتى يكون لديه معجم يبحث فيه عن تلك الكلمات الغريبة ، وكأنه يتحدث بلغة أخرى غير التي يفهما الناس ويتحدثون بها ، واقرأ قوله في مثل هذه الأبيات :
عنسي في الدنيا سوى الراهي طلقتها تطليـــق إكــــــــــــــــــراه والجد أبراهــا لمن رضاهــــــــــا فانهض إلى عنســـك إبــــــــــراه وإنمـــا نحن أســارى بهــــــــــــــا وسوف تودي بالأسارى هي
ومثل قوله :
إذا ما الردينات جارت سمت مرادن فيها كرسف ومغازل
ومثل قوله:
قد أقطع السبروت يملأ بالآل المروت فيشحب السيــــــر وأجوز في الشعرى القبور مدى المومات ما لبحارها عبر أودى الزمان بذي الأمان فـــلا العرجي موجود ولا جبر
وقوله:
فأجد،واجدد،وآجد،من صمد غفرانه ، واخش واخشش نفسك الطلعة
وهو يملأ اللزوميات بهذه الكلمات الغريبة الشاذة الاستخدام ، بل ويتعمد استبدال لفظة سهلة معروفة بأخرى شاذة عويصة ، وما ذلك إلا لإظهار مقدرته اللغوية وقدرته على التعقيد .
ومن اللوازم التي كان يلزم المعري بها نفسه وإن كانت ليست دائمة ( ما كان يجنح إليه .. من تصنعه لألفاظ الثقافات المختلفة من عروض ونحو وفقه ) ، وانظر إليه يستخدم العروض في التدليل على أفكاره :
إذا أبانا أب واحد ألفيـــا جوادا وعيرا فـلا تعجب فإن الطويل نجيب القريض أخوه المديد ولم ينجب
وهكذا نراه يصف الناس بأوصاف الطويل والمديد ، فالطويل نجيب ، والمديد غير نجيب ، وحياة أبي العلاء تتحول إلى أوزان العروض فيقول :
بقائي الطويل وغيي البسيط وأصبحت مضطربا كالرجز
واستخدامه لعلم العروض كثير في تشبيهاته لقضاياه المختلفة ومن أمثلة ذلك قوله :
كالبيت أفرد لا إيطاء يدركه ولا سناد ، ولا اللفظ إقواء
وقوله :
مالي غدوت كقاف رؤبة قيدت في الدهر لم يقدر لها إجراؤها
وقوله :
كصحيحة الأوزان زادتها القوى حرف ، فبان لسامع نكراؤها
وقوله مشبها أحوال الناس بالأشعار :
والناس كالأشعار ينطق دهرهم بهم : فمطلق معشر ومقيد
وقوله :
الدهر كالشاعر المقوي ونحن به مثل الفواصل مخفوض ومرفوع
وقوله :
لكل حال سجايا ، والقريض بنى لا تقتضيك بغير البدء تصريعا
وقوله :
أخو الحرب كالوافر الدائري أعضب في الخطب وأعقص يرى كامــــلا سلمــه كامــــــلا فيخــزل بالدهــر أو يوقص
ولا يكتفي المعري باصطلاحات العروض فقط يفسر بها مشاكل الحياة من حوله ، بل لجأ إلى اصطلاحات أخرى من النحو والصرف ، فها هو يفسر الصلة بين الأصول والفروع تفسيرا صرفيا فيقول :
في الأصل غش والفـروع توابـع وكيف وفاء النجل والأب غادر إذا اعتلت الأفعال جاءت عليلة كحالاتها أسماؤهـا والمصـادر
وانظر إليه يتحدث عن علته فيفسرها بالعلل الصرفية قائلا:
أعللت علة قال وهي قديمة أعيا الأطبة كلهم إبراؤها
ويستخدم مصطلحات علم الأصوات فيقول :
اجعل تقاك الهاء يعرف همسها والراء كررها الزمان مكرر
ويحاول تفسير بعض المشكلات بمصطلحات نحوية فيقول :
سر سيعلن والحيـاة معــارة ولتقضين بهـــــــــا ديــون المعســر كخبيء نعم وبئس يخبأفيها ويكون ذاك على اشتراط مفسر
ويطلب ذلك في علوم الفقه فيقول :
حيـــران أنت فأي النـــاس تتبـــع تجري الحظوظ وكل جاهل طبـــع والأم بالسدس عادت وهي أرأف من بنت لها النصف أو عرس لها الربع
( وعلى هذا النمط ما يزال أبو العلاء يتعرض في اللزوميات لمسائل العلوم والفنون المختلفة يتخذ منها الحجج والأدلة على ما يزعمه من أفكار وأراء ، وإنه ليكثر من ذلك كثرة مفرطة حتى ليحس من يقرأ في لزومياته بأنه يقرأ كتاب ثقافة لا في ديوان شعر )
إذ ا رأينا تعقيد المعري في شعره ، من التزام ما لا يلزم في القافية ، إلى الجناس المعقد الغريب ، إلى التوسع في استخدام الألفاظ العويصة الشاذة ، وأخيرا التوسع في استخدام مسائل العلوم والفنون يفسر بها مشكلات الحياة ويضع عن طريقها حلولا لتلك المشكلات .
وما دفعه إلى ذلك إلا روحه المتشائمة من الحياة ، حتى صارت الحياة من حوله صعبة معقده ، فأخذ يعقدها في كل شيء حتى في أعذب ما تنطق به الألسنة وهو الشعر .
***** المبحث الثاني :التعقيد في النثر :
يتميز أبو العلاء من بين شعراء كثيرين بأنه يكتب في النثر كما أنه يكتب في الشعر ، بل هو مكثر منه ، بخلاف الشعراء الذين لا يلتزمون إلا الشعر ، ولكنه عقد نثره تعقيدا شديدا فاق تعقيده في الشعر ، وذلك التعقيد فرضته عليه حياته المعقدة المتشائمة ، وضيقه بالحياة ، والتبرم بها .
و ( يختص نثر أبي العلاء بما يختص به شعره ، من الغموض وكثرة الغريب ، لا يتصل بنثر عصره إلا بصلة واحدة ، هي السجع الملتزم ) ، وفي جميع ما كتبه المعري من فنون النثر التزم هذا التعقيد فهو يجري وراء لوازم جعلت نثره يتميز بها ، حتى صار ذلك النثر خاص بكبار اللغويين ، لا يستطيع أن يقترب منه القراء إلا وسلاح المعاجم بين أيديهم ، ( وكأن أبا العلاء في جميع تصانيفه أراد أن يقابل جمهور العلماء من نحويين ولغويين وأدباء فيأتي بالرأي النحوي ، وقد يتفرد به فيرد على غيره ... وهو ينشئ بين هذا وذاك أدبا تلمح فيه جمهرة من الغريب والنوادر يشير في ذلك إلى أنه اختزن في ذاكرته متن اللغة أوابد وغريبا مما لا تلقاه في أدب الكتاب ممن عاصروه أو تقدموه أو خلفوه ) .
لقد سيطرت ظلمات العمى والتشاؤم على أبي العلاء حتى أصبح التعقيد عنده فنا من فنون اللغة يطلبه في جميع أعماله شعرية أم نثرية ، ولقد أتاح له ذلك عزلته التي أقام فيها نحو خمسين عاما ( فماذا يصنع في هذا الحبس الطويل ، وكيف يمضي فراغه فيه ؟ لا بد أن يفزع إلى ضروب من العبث في فنه ، وإنها لضروب تؤديه إلى تعقيد هذا الفن عقدا مختلفة ) .
والعقد التي كان يتلمسها المعري في نثره كثيرة جدا أهمها : استخدامه الغريب والوحشي من الكلام والأمثال والإشارات التاريخية ومن تلك العقد ، ( تصعيب ممراته إلى أسجاعه ، إذ نراه يعنى بالتزام ما لا يلزم فيها ، فإذا هو يبني أسجاعه لا على حرف واحد بل على حرفين أو أكثر ) ، كما أسلفنا في الحديث عن التعقيد في شعره وإلزامه نفسه ما لا يلزم ، فكذلك في نثره قد ألزم نفسه ذلك الإلزام وكأنه شغوف به شغف العاشق بحبيبه .
ولم يكتف به التعقيد إلى هذا الحد بل ( نراه يعدل في أحوال كثيرة إلى المجانسة ) ، ويستعين على هذه المجانسة باللفظ الغريب الذي كان يشغف به شغفا شديدا .
وكما هو الحال في شعره فإنه يستعين كذلك في نثره بمصطلحات العلوم المختلفة يفسر بها أعماله ويقيم بها الشبه بقضاياه المختلفة ، ولن نبالغ إذا قلنا أن أبا العلاء في جميع نماذجه النثرية يطلب فيها الغريب من أي مكان ( فيغرب ما استطاع الإغراب ، ويرمز ما استطاع الرمز ) ، ( وكأن الإغراب زينة ينبغي أن يتحلى بها جيد أعماله ) .
ويتجلى التعقيد في نثر أبي العلاء خاصة في رسائله الشخصية ، والتي كتبها في الغالب إلى علماء زمانه في مراسلتهم أو رده عليهم ، وهو يعقد تلك الرسائل تعقيدا يظهر فيه مقدرته اللغوية ، وإلمامه بمصطلحات العلوم المختلفة ، بما يتناسب مع من يكتب إليهم من العلماء .
وإليك هذه القطعة من رسالة الإغريض والتي وجهها إلى أبي القاسم المغربي لترى ما فيها من التعقيد واستخدام مصطلحات العلوم ، والتزام الغريب من الكلام .
( حرس الله سيدنا حتى تدغم الطاء في الهاء ، فتلك حراسة بغير انتهاء .. وهما في الجهر والهمس ، بمنزلة غد وأمس ، وجعل الله رتبته التي هي كالفاعل والمبتدأ ، نظير الفعل في أنها لا تنخفض أبدا ، فقد جعلني إن حضرت عرف شاني ، وإن غبت لم يجهل مكاني ، كيا في النداء ، والمحذوف من الابتداء ، إذا قلت زيد أقبل ، والإبل الإبل ، بعد ما كنت كهاء الوقف ، إن ألقيت فبواجب ، وإن ذكرت فغير لازب ، إني وإن غدوت في زمن كثير الدد كهاء العدد ، لزمت المذكر فأتت بالمنكر ، مع ألف يراني في الأصل كألف الوصل ، وتكون تارة حرف لين ، وتارة مثل الصامت الرصين ، فهي لا تثبت على طريقة ، ولا تدرك لها صورة في الحقيقة ) .
فانظر إليه كيف يعبر عن دوام حفظ الله لمن يراسله باستحالة دغم الهاء في الطاء ، ويشبه منزلته الرفيعة بمنزلة الفاعل والمبتدأ والفعل في الإعراب إذ لا يلحقها الخفض ويشبه نفسه بأحوال الحروف فهو بفضل هذا الرجل أصبح كيا النداء والمحذوف من الابتداء في معرفة الناس له حاضرا أو غائبا بعد أن كان غير معروف كهاء العدد أو هاء الوقف ، وهكذا المعري يبالغ في استخدام المصطلحات العلمية في قضاياه التي يطرحها في مؤلفاته ، ولعل القارئ لهذه القطعة يظن أنه يقرأ متنا في اللغة لا رسالة إلى شخص .
بالإضافة إلى ذلك – كما أسلفنا – فإنه يلتزم فيه ما لا يلزم كما في هذه القطعة من رسالة المنيح التي كتبها إلى الوزير أبي القاسم المغربي إذ يقول :
( وبلغ وليه السلام الذي لو مر بسلمة وارية لأغدقت ، أو سلمة عارية لأورقت فحمل فؤادي من الطرب على روق اليعفور ، بل فوق جناح العصفور ، فكأنما رفعني الفلك ، أو ناجاني الملك ، جذلا بما لو تبدل الغريزة ، وتحول النحيزة ، لنقلني من آل العامة ، إلى عالي السامة ، نقل الكيمياء ما خالط من المزأبق الجايز إلى جملة النضارالممايز ...)
وفي هذه القطعة نلاحظ أن السجعتين فيها تتفقان في حرفين أو ثلاثة حروف ، كما نلاحظه يستخدم مصطلحات علمية أخرى في علم الكيمياء وتحول المواد .
وهو دائما في رسائله يشير إلى معارفه التاريخية في مثل رسالته التي وجهها إلى رجل اسمه منير بن الحسن ، ( كان والده قد قام بخدمة جليلة للدولة الفاطمية إذ كان السبب في تسليم حصن " أفامية" إليها ) ، وبهذا الحصن استطاعت أن تستولي على سوريا فقال فيها :
( ... وصير الباطل وأهله حلاما يرضون بحلم نابت ، فما بال سلم ثابت ، وفناؤه أعز من قبة عوف بن محلم ، وأنصر للملهوف المتظلم ...) .
فهو يذكر في هذه الرسالة خبر عوف بن محلم سيد بني شيبان الذي كانت تضرب له قبة بعكاظ وفيه يضرب المثل : " لا حر بوادي عوف " .
والذي انتهجه المعري في رسائله من التعقيد انتهجه في بقية نثره ، بل بلغ الذروة في التعقيد في كتابه الفصول والغايات وقد قصد به تمجيد الله تعالى ، وزعم بعضهم أنه أراد به معارضة القرآن ( قال ابن الجوزي : وقد رأيت لأبي العلاء المعري كتابا سماه الفصول والغايات في معارضة السور والآيات ، ... وهو في غاية الركاكة والبرودة ، فسبحان من أعمى بصره وبصيرته ) ، ( وهو كتاب موضوع على حروف المعجم ، ما خلا الألف لأن فواصله مبنية على أن يكون ما قبل الحرف المعتمد فيها ألفا ، ومن المحال أن يجمع بين ألفين ) ، أضف إلى ذلك أنه كان يطلب فيه اللفظ الغريب المتعمق الإغراب في مثل هذه الفقرة التي يقول فيها :
( بل يا جفن ، وابل يا جسم ، وأبلي يا نفس يبل من المرض الدين ، ليس يبل عند الله أبل ، فاطو صديقك على بلته ولا تثق بلابس حبلات )
وهو كعادته لا ينفك عن استخدام المصطلحات العلمية وخاصة مصطلحات علم العروض فاسمعه يقول :
( ألتفت إلى ذنوبي فأجدها متتابعة كحركات الفاصلة الكبرى ، واستقبل جرائم تترى ، طوالا كقصائد الكميت الأسدي ، مختلفة النظم كقصيدة عبيد وعدي ، وأجدني ركيكا في الدين ، ركاكة أشعار المولدين سبقتهم الفصاحة وسبقوا أهل الصنعة ! وأعمالي في الخير قصار ، كثلاثة أوزان رفضها المتجزلون في قديم الزمان ، ولا بد للوتد من حد ، والسبب من جذ ، ورب فرح ، طوى طي المنسرح ، فارحمني رب إذا صرت في الحافرة ، كالمتقارب وحيدا في الدائرة ، وهجرني العالم هجر النون العجمات ) .
فلا يدري القارئ أ يقرأ في كتاب وعظ أم في متن من متون اللغة العربية التي تتحدث عن الشعر وبحوره ؟ بل كيف يتناسب الدعاء مع بحور الشعر وقواعد النحو والصرف ، ولكنه تعقيد أبي العلاء المعري الذي تكلف في طلبه حتى وصل به إلى هذه الدرجة .
وعلى هذا التعقيد سار أبو العلاء في بقية رسائله ومن أشهرها رسالة الغفران ، والتي كتبها إلى علي بن منصور الحلبي المعروف بابن القارح ، وسميت برسالة الغفران لأن المعري كان يزعم فيها بأن الله قد غفر لكثير من الشعراء الزنادقة ، وأدخلهم الجنة .
ومن التعقيد الذي التزمه المعري في هذه الرسالة التزام ما لا يلزم في قرائن سجعه ، كما التزم فيها باللفظ الغريب وأكثر من الإشارات التاريخية كعادته وإليك بعضا من هذه الرسالة في وصف أنهار الجنة إذ يقول :
( وفي تلك الأنهار أوان على هيئة الطير السابحة ، والغانية عن الماء السائحة ، فمنها ما هو على صور الكراكي ، وأخر تشاكل المكاكي ، وعلى خلق طواويس وبط ، فبعض في الجارية وبعض في الشط ، ينبع من أفواهها شراب ، كأنه من الرقة سراب ، لو جرع جرعة منه الحكمي ، لحكم بأنه الفوز القدمي ، وشهد له كل وصاف للخمر من محدث في الزمن وعتيق في الأمر ...) .
وفي رسالته الصاهل والشاحج ، والذي يتحدث فيه على لسان فرس وبغل اعتمد فيه ( الحوار على طريق التشخيص والإخراج التمثيلي الزاخر بالحركة والحيوية ...) ، وهو كما في غيرها يلتزم التعقيد والتصعيب على طريقته يقول فيها :
( ولكن حملني أطيط الحاسة وعلمي بكرم الشيمة ، على النهضة بغير جناح ، وركوب الصعبة بلا أحلاس ، وأنا أجله لفهمه وفطنته ، مثل ما أجله لعزه وسلطانه ، ولو جاء رجل في طمري برس سمل فراري ، أو عاريا لا يصل إلى الطرائد ولا الهيب، يتلهف على منقل أو سميط تحذى له من أم الهنيبر أو غيرها من الهنبر ، ويتعمد على خوارة كأنهامنسأة الميت ...) .
والمعري في جميع ما كتب من النثر يلتزم ذلك التعقيد والتصعيب حتى تنبه القدماء إلى ذلك يقول ياقوت الحموي عندما نقل رسائل المعري إلى داعي الدعاة الفاطميين : ( فلخصت منها الغرض دون تفاصح المعري وتشدقه ) . وبهذا تميز أبو العلاء المعري عن غيره ممن سبقه أو عاصره أو أتى بعده بهذا الأسلوب المعقد . ( والحق أن أبا العلاء يعتبر في نثره مرحلة قائمة بنفسها في تاريخ لغتنا العربية ) ، فهو قد أخذ اللغة عمن سبقوه ولم يقف بها عند الصور التي وقفوا عندها ، أو خرج بها إلى مذهب التصنع ، بل أوغل فيه إيغالا لم يوغله أحد قبله ( بحيث يمكن أن يقال بأن المذهب ابتدأ به ، وانتهى إليه ) ، بما سلكه من وسائل للتعقيد بين ألفاظ مهجورة ، وسجع ملتزم ، وجناس غريب معقد ، وإشارات تاريخية استطاع بها أن يخرج عمله غاية في الغرابة والتعقيد .
*****
الخلاصة رأينا حياة أبي العلاء المعري والتي حقا قد أثرت في اتجاهاته المختلفة وفلسفته في الحياة وقد خرجنا بالنتائج التالية :
1. العوامل النفسية والاجتماعية كان لها أثر كبير على أدب المعري ، وأفكاره التشاؤمية .
2. كان أبو العلاء المعري قلقا متشائما شاكا في كل ما حوله ، لا يثق بأحد ، ولا يعتمد على أحد عزيز النفس كريما ، رغم ما لاقاه في حياته من نكبات .
3. هدف المعري من نظم اللزوميات الوعظ والإرشاد، ولذلك كانت صياغتها ضعيفة وأسلوبها فيه إسفاف .
4. تضمنت اللزوميات آراء المعري حول عصره والحياة فيه فكان لها ناقدا صريح النقد .
5. بالغ المعري في آرائه حول المرأة فلم يجد فيها شيئا حسنا ، بل اعتبرها صغيرة أو كبيرة سبيلا للآثام والشرور .
6. توصل أبو العلاء إلى أن الراحة من شرور الدنيا ونكباتها العدم وقطع النسل .
7. الأمل الوحيد الذي كان ينتظره أبو العلاء المعري هو الموت يريحه من الحياة .
8. تعدى التشاؤم العلائي أفكار المعري إلى مؤلفاته فعقدها تعقيدا شديدا ، طبعت بطابع الحياة التي كان المعري يعيشها من التشديد على نفسه والتعقيد في حياته .
وهذه هي حياة المعري التي تعد تاريخا قائما بذاته ، فلم يوجد في تاريخ الأدب العربي مثل المعري ، أخذ على نفسه العهد أن يسجنها ، ويسجن أدبها معها بكثير من اللوازم والتعقيد وليس أحد أثرت فيه حياته كما أثرت في المعري فكان أدبه صورة عن حياته وما أحاط بها .
*****
قائمة المراجع
1. ابن كثير ( عماد الدين بن عمر ) : البداية والنهاية : ج12 – دار أبي حيان – مصر- ط1 – 1996م.
2. البريكي ( عبيد ) : أبو العلاء المعري من التمرد إلى العدمية – دار المعارف – تونس – ط1 – 1987م.
3. بريل ( أ . جي ) : دائرة المعارف الإسلامية –ج2 – ترحمه إبراهيم زكي خورشيد ، وآخرون – مركز الشارقة للإبداع الفكري _ الإمارات العربية المتحدة - 1995م.
4. الحموي ( ياقوت ) : معجم الأدباء – ج1 – دار الكتب العلمية – لبنان – ط1 – 1991م.
5. حسين ( طه ): المجموعة الكاملة – المجلد العاشر – دار الكتب اللبناني – لبنان – ط2 – 1983م .
6. السامرائي ( إبراهيم ) : مع المعري اللغوي – مؤسسة الرسالة – لبنان - ط1 – 1984م.
7. السقا ( مصطفى ) وآخرون : تعريف القدماء بأبي العلاء – الهيئة العامة للكتاب – مصر – ط3 – 1986م.
8. السمرة ( محمود ) وآخرون : الأدب العربي من نهاية العصر العباسي إلى العصر الحديث- وزارة التربية والتعليم – عمان – ط2 – 1990م .
9. ضيف ( شوقي ) : تاريخ الأدب العربي ، عصر الدول والإمارات ، مصر – الشام – دار المعارف – مصر –1984م .
10. ضيف ( شوقي ) : الفن ومذاهبه في الشعر العربي – دار المعارف – مصر – ط10- 1978م.
11. ضيف ( شوقي ) : الفن ومذاهبه في النثر العربي – دار المعارف – مصر – ط6 – 1971م.
12. عباس ( إحسان) : رسائل أبي العلاء المعري – ج1 – دار الشروق – لبنان – ط1 – 1982م.
13. الفاخوري ( حنا ) الجامع في تاريخ الأدب العربي ، الأدب القديم – دار ذوي القربى – السعودية – ط1- 1422هـ .
14. فرحات ( يوسف ) : الفلسفة الإسلامية وأعلامها- ترادكسيم – سويسرا-ط1 – 1986م .
15. فروخ ( عمر ) : تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون – دار العلم للملايين – لبنان – ط4 – 1983م.
16. فروخ ( عمر ) : حكيم المعرة – دار لبنان – لبنان – 1978م.
17. المعري ( أبو العلاء ) : رسالة الصاهل والشاحج – تحقيق عائشة عبد الرحمن – دار المعارف – مصر – ط2 – 1984م.
18. المعري ( أبو العلاء ) : رسالة الغفران – دار بيروت – لبنان – 1985م.
19. المعري ( أبو العلاء ) : سقط الزند – شرحه أحمد شمس الدين – دار الكتب العلمية – لبنان – ط1 – 1990م.
20. المعري ( أبو العلاء ) : الفصول والغايات – ضبطه وفسر غريبه – محمود حسن زناتي – دار الآفاق الجديدة – بدون تاريخ .
21. المعري ( أبو العلاء ) : لزوم ما لا يلزم – شرحه كمال اليازجي – دار الجيل – لبنان – ط1 1992م.
22. مهنا ( عبد . أ . علي ) وعلي نعيم خريس : مشاهير الشعراء والأدباء – دار الكتب العلمية – لبنان – ط1 – 1990م.
#طالب_أحمد_المعمري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجيش الإسرائيلي ... أسطورة أم سراب ؟
-
مجازر لبنان ... والدم العربي الرخيص
-
التربية والتعليم في البلدان العربية ... وتكريس مبدأ الخضوع ا
...
-
سحب أسلحة المقاومة وسياسة الانبطاح
-
مجرد وجهة نظر ..اجتماع وزراء الخارجية العرب ماذا سيحقق ؟!
المزيد.....
-
دراسة تحليلية لتحديات -العمل الشعبي الفلسطيني في أوروبا- في
...
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|