أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - الصمت في المدرسة الفيثاغورية















المزيد.....

الصمت في المدرسة الفيثاغورية


عبدالجبار الرفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 8573 - 2025 / 12 / 31 - 10:01
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


عبد الجبار الرفاعي
فيثاغورس (نحو 570–495 قبل الميلاد) فيلسوف يوناني سابق لسقراط، يعد من أكثر شخصيات الفلسفة القديمة تأثيرًا وإثارة للجدل، إذ امتزجت سيرته التاريخية بالأسطورة، وتداخلت فلسفته مع نمط عيش جماعي وروحي خاص. ولد في جزيرة ساموس في بحر إيجة وعاش في القرن السادس قبل الميلاد، وهو قرن تأسيسي في تاريخ الفلسفة اليونانية، حين كانت الفلسفة أسلوب عيش قبل أن تكون خطابًا نظريًا مجردًا. غادر فيثاغورس ساموس احتجاجًا على حكم الطغيان، وانتقل إلى مدينة كروتونا في جنوب إيطاليا، حيث أسس جماعة فلسفية روحية عرفت بالمدرسة الفيثاغورية، قامت على حياة جماعية منضبطة بشدة، وزهد وتربية أخلاقية صارمة.كان الصمت فيها ممارسة تربوية أساسية يُلزَم بها المبتدئون سنوات طويلة لتأديب النفس وتهذيبها قبل السماح لهم بالكلام والمشاركة.
تقوم فلسفة فيثاغورس على تصور يرى أن العدد هو جوهر الوجود وأساس انتظامه، وأن الكون بأسره يتأسس على نسب رياضية دقيقة وتناغم عددي يشبه ما عرف بالموسيقى السماوية، حيث لا تفهم النغمات الموسيقية بوصفها أصواتًا عابرة، بل بوصفها تجليات حسية لنظام كوني يقوم على التوازن والانسجام، في ضوء هذا الرؤية يغدو العدد لغة الوجود الخفية التي تتكلم بها الطبيعة. وانطلاقًا من هذه الرؤية، اعتقد فيثاغورس أن النفس البشرية قادرة على الارتقاء والتحرر من اضطرابها عبر حياة منضبطة، تتأسس على ممارسة الرياضات التربوية والصمت والتأمل، وضبط الإيقاع الداخلي للإنسان بما ينسجم مع إيقاع الكون، مقرونًا بإيمان بتناسخ الأرواح يربط السلوك الأخلاقي بمصير النفس، ويجعل تهذيب الحياة اليومية شرطًا ضروريًا للانسجام مع النظام الكوني، بحيث لا تنفصل المعرفة عن الأخلاق، ولا ينفصل التفكير عن نمط العيش.
يُنسب إلى فيثاغورس قيامه برحلات إلى بابل، ويُقال إنه اطّلع خلالها على معارف دينية ورياضية وفلكية شرقية، غير أن هذه الروايات تبقى موضع شك ونقاش تاريخي واسع، لأن تفاصيل تلك الرحلات لم ترد في مصادر معاصرة له، وإنما نُقلت في كتابات متأخرة اختلط فيها التاريخ بالسرد الأسطوري، فتداخلت الوقائع الممكنة مع نزعة تعظيمية سعت إلى تقديم فيثاغورس بوصفه جامعًا لحِكَم الأمم، الأمر الذي يجعل التمييز بين ما هو تاريخي وما هو اسطوري في سيرته قضية إشكالية لا يمكن حسمها بيقين. ولا دليل تاريخي يؤكد موثوقية رحلاته إلى بابل، لأن فيثاغورس لم يخلف أي وثيقة مدونة تدل على ذلك، وكل ما نعرفه عنه ورد في مصادر متأخرة تعود إلى القرنين الثالث والرابع الميلاديين، مثل روايات بورفيريوس ويامبليخوس، وهي نصوص تمزج بين السيرة والرمز والأسطورة، لذلك لا يمكن التعامل معها بوصفها وثائق تاريخية مباشرة. هذه المصادر تزعم أن فيثاغورس سافر إلى بابل، وتعلم هناك الحساب والفلك من الكهنة الكلدانيين، غير أن هذا الادعاء لا تدعمه أي وثيقة معاصرة لزمانه، لا بابلية ولا يونانية، ولا يظهر اسم فيثاغورس في أي لوح طيني أو سجل شرقي مكتشف ومعروف حتى اليوم. ما يجعل الرحلة ممكنة من حيث السياق الجغرافي، لكنها غير مؤكدة تاريخيًا.
في المقابل، من الثابت علميًا أن الرياضيات البابلية سبقت فيثاغورس بقرون طويلة، وأن البابليين عرفوا علاقات عددية مكافئة لما يُسمى اليوم "نظرية فيثاغورس"، كما تشهد على ذلك الألواح الطينية العائدة إلى الألف الثاني قبل الميلاد، غير أن هذه المعرفة كانت معرفة تطبيقية عملية تستخدم في القياس والبناء والفلك، ولم تصَغ في صورة برهان تجريدي. من هنا يميل أغلب مؤرخي الرياضيات إلى القول إن إسهام فيثاغورس، سواء اطّلع مباشرة على معارف بابلية أم وصلته عبر قنوات غير مباشرة، لا يكمن في اكتشاف العلاقة العددية ذاتها، بل في نقلها إلى أفق نظري برهاني، وربط العدد ببنية الكون والتناغم والوجود، وهو تحول نوعي ميّز الفكر اليوناني عن تقاليد الشرق القديم، وجعل من "نظرية فيثاغورس" تعبيرًا عن نقلة في طريقة التفكير، لا عن مجرد استعارة من الرياضيات البابلية.
الصمت في المدرسة الفيثاغورية لم يكن امتناعا عن الكلام بوصفه سلوكًا شكليًا، وإنما كان ممارسة تربوية عميقة تهدف إلى إعادة تشكيل ذات الإنسان من الداخل. فيثاغورس فهم الحكمة بوصفها ثمرة نضج داخلي طويل، لا نتيجة غزارة الكلام ولا التعجل بإبداء الرأي، لذلك جعل الصمت عتبة أولى للسير في طريق الفلسفة.
في مدرسته التي تأسست في كروتونا بجنوب إيطاليا، خضع المبتدئون لصمت صارم امتد لسنوات، تذكر مصادر متأخرة مثل بورفيريوس ويامبليخوس أن مدته قد تبلغ خمس سنوات، لا لأن الكلام شر، وإنما لأن النفس لا تتهيأ للإنصات ما دامت أسيرة اندفاعها ورغبتها في الظهور. الصمت هنا يتجلى بوصفه أداة لترويض الذات، وكبح نزعة الاستعراض، وتدريب النفس على الانضباط، وحماية الداخل من الفوضى، كي يتشكل الوعي في أفق السكينة. بهذا المعنى كان الصمت شرطًا لتعلم الإنصات، والإنصات شرطًا لتلقي الحكمة، إذ لا تنكشف المعاني العميقة في ضجيج الأصوات ولا في استعجال الأحكام. كما ارتبط الصمت عند الفيثاغوريين بفكرة السرية، ليس بدافع الغموض، وإنما انطلاقًا من وعي بأن بعض المعارف، خاصة ما يتصل بالعدد وانسجام الكون ونظامه الخفي، تتطلب استعدادًا تربويًا وأخلاقيًا وروحيًا، وأن كشفها لمن لم ينضج داخليًا يفرغها من معناها ويحولها إلى معلومات جوفاء. هكذا غدا الصمت في المدرسة الفيثاغورية فعلًا تربويًا يسهم في بناء الإنسان، ويهيئه للدخول في نظام وجودي متناغم، حيث يتعلم أن الحكمة لا تقال قبل أوانها، وأن الصمت أحيانًا أبلغ من الكلام، لأنه يفتح للإنسان بابًا نحو معرفة تنبع من الداخل، وتترسخ فيه بوصفها أسلوب حياة لا مجرد معرفة عابرة.
كان هذا الصمت تدريبًا مقصودًا لتهذيب الروح قبل تعليم العقل، الفيثاغوريين أدركوا أن العقل لا يثمر حكمة ما لم يستند إلى ذات مصفّاة ومنضبطة. بالصمت اختبر المبتدئ صبره، وتعلم كبح اندفاع الأنا، وتحرير نفسه من الثرثرة والانفعال وردود الفعل السريعة، حتى يغدو قادرًا على الإصغاء العميق لا إلى المعلم وحده، وإنما إلى ذاته والعالم من حوله. لم يكن الصمت عزلة سلبية، وإنما فعل تربية متواصل، يعاد فيه تشكيل العلاقة مع الكلام، فيتحول من أداة استعراض إلى ثمرة نضج.كما شكّل الصمت وسيلة لحفظ سرية المعرفة في زمن لم تعرف فيه الفلسفة التدوين العام ولا النشر المفتوح، إذ جرى تداول الحكمة شفويًا داخل جماعات مغلقة تقوم على الثقة والاختبار الطويل. اعتقد الفيثاغوريون أن بعض الحقائق، خاصة ما يتصل بالعدد وانسجام الكون، إذا انكشفت لمن لم يتهيأ لها، أُسيء فهمها، وتحولت من معرفة محرِّرة إلى أداة اضطراب أو هيمنة. لذلك ارتبط الصمت لديهم برؤيتهم للنظام العددي بوصفه لغة خفية للكون، وبفكرتهم عن موسيقى الأفلاك التي لا تسمع بالأذن، وإنما تنكشف للبصيرة. هذا الإدراك لا يتحقق في ضجيج الجدل ولا في كثرة الكلام، وإنما في صمت اللسان والباطن، حيث يتعلم الإنسان أن الكون يتكلم بلغة التناسق، وأن الإنصات إليه يستلزم صمتًا يوقظ الحس، ويمنح الروح فرصة لمعاينة النظام الكامن خلف الظواهر، فيغدو الصمت شرطا لمعرفة تتجاوز المعلومات، وتتحول إلى نمط عيش وتناغم مع الوجود.
بعد انقضاء سنوات الصمت الخمس كان يُؤذن للمبتدئ بالكلام والمشاركة، لا بوصفه من اكتسب حق النطق فحسب، وإنما بوصفه إنسانًا أعاد الصمت تشكيل ذاته من الداخل، فصار كلامه أشد إيقاعًا، أدق دلالة، أثقل معنى، وغدا امتدادًا للصمت الذي سبقه، لا قطيعة معه ولا نقيضًا له. في هذا الأفق لم يكن الصمت غاية نهائية، وإنما مرحلة تأسيسية تتهذب فيها الذات ليولد منها قول مسؤول، موزون، ومقتصد. مع أن الصمت شكّل أحد أبرز تقاليد المدرسة الفيثاغورية، فإن هذه المدرسة لم تكن جماعة تهمل الكلام أو تقصيه، إذ كان للكلام فيها وظيفة تربوية ومعرفية دقيقة، لا يمارَس اعتباطًا، بل يضبَط بزمانه ومقامه واستعداد المتلقي له، فالكلام لم يكن نقيض الصمت، بل امتدادًا له وثمرة من ثماره بعد نضج الذات وتكاملها. كانت المدرسة الفيثاغورية مجتمعًا مغلقًا ذا نظام صارم، تتكامل فيه التربية الروحية الزهدية مع التأمل الفلسفي العقلي، وتفهم الفلسفة فيه بوصفها نمط عيش متكامل، لا مجرد خطاب نظري، حيث يسبق تهذيب الذات وانضباطها الكلامَ والتعليم، ويغدو الصمت تهيئة لولادة المعنى، والكلام كشفًا محسوبًا عنه، في لقاء يتجاور فيه البعد الديني مع البعد العقلي ضمن رؤية واحدة للإنسان والعالم.
يميز الفيثاغوريون بين فئتين من أعضائهم: الأكوسماتيكوين، الذين يلتزمون بالتعاليم الشفوية والطقوسية ويجعلون الإصغاء محور تكوينهم، والماثيماتيكوين، الذين ينصرفون إلى دراسة الرياضيات والعلوم انطلاقًا من قناعتهم بأن العدد جوهر الوجود ومفتاح انسجامه. الانضمام إلى هذه المدرسة لم يكن متاحًا لكل راغب، وإنما يخضع لاختبارات قاسية تقوم على الجدارة والانضباط والاستعداد الذاتي، تلتزم بحياة يومية زهدية منظمة، يعيش فيها الأعضاء في جماعات مشتركة خارج أسوار المدن، ويلتزمون بقواعد دقيقة في السلوك والملبس والعلاقات. يندرج النظام الغذائي النباتي لهذه المدرسة ضمن هذا الأفق التربوي بوصفه سعيًا إلى تطهير النفس وتهذيب الرغبات، لا رفضًا للجسد ولا عداء للطبيعة، كما أدت الطقوس الموسيقية دورًا في إعادة التوازن الداخلي، عبر إيقاع ينسجم مع تصورهم لموسيقى الأفلاك. اللافت في هذا السياق أن التعليم لم يقتصر على الرجال، إذ أتيح للنساء أيضًا، كما تشهد على ذلك أسماء مثل ثيانو، بما يكشف أن المدرسة الفيثاغورية سعت إلى بناء إنسان متكامل، يتوازن فيه الصمت والكلام، الزهد والمعرفة، الداخل والعالم، في إطار رؤية ترى الفلسفة تربية للنفس قبل أن تكون علمًا للعقل.
انحسرت المدرسة الفيثاغورية نتيجة تضافر عوامل سياسية واجتماعية وثقافية متشابكة، تجاوزت حدود الاختلاف الفكري لتلامس بنية المدينة اليونانية نفسها. فقد نشأت هذه المدرسة داخل جماعة مغلقة ذات نظام أخلاقي صارم وطرق تعليمية وروحية حذرة، منكفأة على نفسها.كل جماعة شديدة الانغلاق، مثل المدرسة الفيثاغورية، تحمل في بنيتها الأساسية بذور فنائها، إذ يتحول الانضباط الصارم مع الزمن إلى جمود، وتغدو السرية التي وضعت لحماية المعنى حجابًا يحجبه، فينقلب ما كان شرطًا للبقاء إلى عامل استنزاف داخلي، ويغدو الانغلاق الذي حفظ كيانها في البدايات سببًا في عجز الجماعة عن التجدد والتكيف مع تحولات الواقع، فتبدأ عوامل الموت تتوالد داخلها قبل أن تأتيها الضربات من الخارج.
انغلاق المدرسة الفيثاغورية الشديد أثار ريبة القوى السياسية في مدن جنوبي إيطاليا، ولا سيما في كروتونا، كما أن انخراط بعض الفيثاغوريين في الشأن العام، وتأثيرهم في التشريع وتوجيه القرار، ولّد شعورًا متزايدًا بالخوف من تحولهم إلى نخبة حاكمة تعمل داخل مجتمع مغلق لا يخضع للرقابة العامة. في مناخ سياسي مضطرب، شهد صعود الصراعات بين الأرستقراطيات والديمقراطيات الناشئة، تحول هذا الخوف إلى عداء صريح، فاستهدفت الجماعة بوصفها خطرًا سياسيًا وأخلاقيًا في آن واحد. إلى جانب العامل السياسي، أسهم الطابع السري للمدرسة في تعميق سوء الفهم حولها.
رأى كثيرون في التزام الصمت، وحفظ التعاليم داخل الدائرة المغلقة، وتقديس النظام العددي، ممارسات غامضة توحي بالتآمر أو السحر، لا بمشروع فلسفي تربوي. هذا الغموض غذى الشائعات، وسهل تعبئة العامة ضد الفيثاغوريين، خاصة في مجتمعات اعتادت الجدل العلني والخطابة في الساحات العامة في المدن. كما أن نمط العيش الزهدي المنظم، والانضباط الصارم في السلوك والغذاء والعلاقات، جعل الجماعة تبدو منفصلة عن الحياة اليومية للمدينة، كأنها كيان قائم خارج النسيج الاجتماعي، لا جزءًا منه.
تزامن ذلك مع تحولات أعمق في الفلسفة اليونانية نفسها، إذ بدأت الفلسفة تنتقل تدريجيًا من كونها نمط عيش جماعي إلى كونها نشاطًا تعليميًا وخطابيًا أكثر انفتاحًا، كما يظهر لاحقًا في الأكاديمية الأفلاطونية والمدرسة الأرسطية. في هذا السياق، فقد النموذج الفيثاغوري القائم على التربية الطويلة والصمت والسرية جاذبيته أمام نماذج فلسفية تتيح النقاش العام والتعليم المنهجي دون اشتراط الانتماء إلى جماعة مغلقة. ومع غياب فيثاغورس نفسه، ثم تشتت تلامذته، ضعفت القدرة على الحفاظ على وحدة المدرسة وتماسكها الداخلي.
لم يؤد هذا الانحسار إلى اختفاء الفيثاغورية من التاريخ، وإنما دفعها إلى التحول من جماعة حية إلى تراث فلسفي وروحي مبثوث في مدارس لاحقة. لذلك أعيد إحياء عناصرها الأساسية في حركة النيوفيثاغورية في القرن الأول قبل الميلاد. النيوفيثاغورية أو الفيثاغورية الجديدة، هي تيار فلسفي روحي ظهر في القرن الأول قبل الميلاد وازدهر في القرنين الأول والثاني الميلاديين، في سياق ثقافي امتزجت فيه الفلسفة اليونانية بالنزعات الروحية الشرقية، ولم يكن حركة مدرسية منظمة بقدر ما كان محاولة لإحياء تراث فيثاغورس وتأويله تأويلًا أخلاقيًا وميتافيزيقيًا يركّز على خلاص الذات وتناغم الكون، إذ نظرت إلى العالم بوصفه نظامًا متناسقًا تحكمه علاقات عددية لا بمعناها الرياضي المحض، بل بوصف العدد مبدأ وجوديًا وروحيًا يكشف عن عقل كوني أعلى، ورأت أن اختلال الأخلاق هو اختلال في النسبة والانسجام، وأن الفضيلة عودة إلى التوازن الداخلي، لذلك جعلت من الزهد والانضباط وتطهير الذات شروطًا للمعرفة لا نتائج لاحقة لها، واحتل الصمت فيها موقعًا مركزيًا بوصفه تربية تكوينية لا امتناعًا سلبيًا عن الكلام، صمتًا يدرّب الإنسان على كبح الأنا وتعليق العجلة وتفريغ الداخل من الضجيج، كي يغدو العقل قادرًا على الإصغاء للنظام الكوني. الصمت يسبق القول ويؤسس له، والمعرفة التي لا تمر عبره تظل سطحية، ولهذا تبدأ التربية بالصمت وتنتهي بالكلام الموزون، حيث يصبح القول امتدادًا للصمت لا نقيضًا له، ويغدو الصمت شرطًا للعودة إلى العالم بوعي أعمق لا انسحابًا منه. عاد الاهتمام بتطهير النفس، والعدد، والانسجام الكوني، ضمن سياق فلسفي جديد يربط الفلسفة بالبحث الروحي الفردي أكثر من ارتباطها بجماعة مؤثرة. في هذا الواقع ظل الصمت حاضرًا بوصفه رمزًا لتقدم الحكمة على الكلام، غير أن وظيفته تغيرت من ممارسة جماعية صارمة إلى دلالة روحية وأخلاقية.
على الرغم من ذلك، لبث الدرس الفيثاغوري حيًا في عمق التراث الفلسفي، إذ تجاوز مصير المدرسة الفيثاغورية بوصفها جماعة تاريخية، ليغدو رؤية ترى أن الحكمة لا تبدأ من الخارج ولا تختزل في براعة الجدل، بل تنبع من الذات، من تهذيب النفس وضبط الرغبات وتكوين الإنسان قبل صناعة الأفكار، وأن أي فكر لا يتأسس على هذا العمل الباطني يظل هشًا، سريع الانكسار، مهما بدا متماسكًا في صيغته النظرية، إذ ينهار عند أول عاصفة خارجية تكشف فراغه الأخلاقي وافتقاره إلى الجذر الذي يمنحه الصمود والمعنى.
تكشف تجربة انحسار المدرسة الفيثاغورية عن توتر دائم بين الفلسفة بوصفها تربية للوعي تراهن على تهذيب الذات وبناء المعنى في العمق، وبين المدينة بوصفها فضاء للصراع والتنازع وتدافع المصالح، حيث لا يحتمل الغموض طويلًا ولا يستساغ المختلف بسهولة. عندما يشتد هذا التوتر وتختار الفلسفة الانكفاء حماية لنفسها، تدفع ثمن عزلتها وتفقد قدرتها على التأثير في المجال العام، بينما تمضي السياسة في تضخيم خوفها من كل ما لا يخضع لمنطقها وقراراتها، فتتحول الحكمة إلى تهمة، ويغدو الصمت تهديدًا، ويقصى التفكير العميق لأنه لا يتكلم بلغة ما تفرضه السياسة الحاكمة، في مشهد تتكسر فيه إمكانية اللقاء بين الفلسفة والمدينة.



#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صمت الفيلسوف اليوناني سيكوندوس
- الحق في الكرامة والهوية المغلقة
- ثرثرات السياسة تفسد الوعي
- الذكاء الاصطناعي تحدٍّ وفرصة
- مقدمة كتاب الهوية في شِراك الأيديولوجيا
- الصمت مرآة لقوة الإرادة
- أنين الأرض من استباحة مواردها
- يتطور النحو عند المخزومي بتطور اللغة
- الصمت فعل مقاومة للثرثرة والابتذال
- تغلغل المنطق في النحو وعلوم اللغة
- مغامرة تأسيس دار نشر للكتاب الورقي
- اللغة مرآة للدين والهوية والثقافة
- تتعدد اللغات بتنوع سياقات استعمالها ومجالات تداولها
- تحديات اللغة في العصر الرقمي
- اغتراب اللغة عن الواقع اغتراب للإنسان عنها
- كتاب دروب المعنى
- تجديد الرؤية للعالم يمر عبر اللغة
- عجز العلوم عن قراءة لغة الغيب
- الأسماء الإلهية في سياق لغة الغيب
- لغة الغيب لغة رمزية


المزيد.....




- مطالب فرض الشريعة.. كيف روجت حسابات يمينية مشاهد مضللة للتحر ...
- اعتقال 125 شخصا في تركيا يشتبه بانتمائهم لتنظيم -الدولة الإس ...
- تركيا: عملية أمنية كبيرة تستهدف تنظيم -الدولة الإسلامية-
- تركيا: اعتقال العشرات في إسطنبول وفي عدة محافظات يشتبه بانتم ...
- -الانتقالي- يحمّل العليمي والإخوان مسؤولية ما جرى في المكلا ...
- العميد -أحمد وحيدي- يتولى منصب نائب القائد العام لحرس الثورة ...
- تعيين العميد -أحمد وحيدي- نائبًا للقائد العام لحرس الثورة ال ...
- كتاب -استمرارية الشريعة-.. كيف تعامل الفقهاء مع القوانين الج ...
- باحثون فلسطينيون ومغاربة يقاربون الأبعاد الروحية والإنسانية ...
- حين لا يجد المسلمون مكانهم الأخير.. الدفن اختبار الاندماج في ...


المزيد.....

- رسالة السلوان لمواطن سعودي مجهول (من وحي رسالة الغفران لأبي ... / سامي الذيب
- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - الصمت في المدرسة الفيثاغورية