أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عبدالباقي عبدالجبار الحيدري - الماء واستمرارية الحياة في قلعة أربيل قراءة تاريخية–عمرانية في ضوء النقوش الآشورية














المزيد.....

الماء واستمرارية الحياة في قلعة أربيل قراءة تاريخية–عمرانية في ضوء النقوش الآشورية


عبدالباقي عبدالجبار الحيدري

الحوار المتمدن-العدد: 8565 - 2025 / 12 / 23 - 00:58
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


تُعدّ قلعة أربيل واحدة من أقدم مواقع الاستيطان الحضري المستمر في العالم، إذ تقوم على تلٍّ اصطناعي تراكمت طبقاته عبر آلاف السنين، وبلغ ارتفاعه نحو 28–30 مترًا فوق مستوى السهل المحيط. وقد منح هذا الموقع المرتفع المدينة خصائص دفاعية ورمزية، لكنه في المقابل فرض تحديًا بنيويًا دائمًا يتمثّل في تأمين المياه لسكان القلعة، وهو تحدٍّ لم يكن تقنيًا فحسب، بل مسألة وجودية تتوقف عليها استمرارية الحياة والاستقرار الحضري.

من هنا، فإن دراسة علاقة أربيل بالماء لا يمكن اختزالها في منشأة واحدة أو فترة زمنية بعينها، بل ينبغي النظر إليها بوصفها سلسلة متراكمة من الحلول العمرانية التي تعاقبت عليها الحضارات، بدءًا من العصور القديمة وصولًا إلى العصر الحديث.

احتلّت أربيل (Arbela) مكانة بارزة في العصر الآشوري الحديث، ليس فقط باعتبارها مدينة إدارية، بل بوصفها مركزًا دينيًا مهمًا مرتبطًا بمعبد الإلهة عشتار الأربيلية. وقد انعكس هذا الدور في اهتمام الملوك الآشوريين بالمدينة، وحرصهم على إدراجها ضمن مشاريعهم العمرانية الكبرى.

وتؤكد النقوش الملكية الآشورية أن الدولة لم تكن تنظر إلى أربيل كمدينة هامشية، بل كجزء فاعل من الجغرافيا الإمبراطورية، الأمر الذي يفسّر توثيق تدخلات ملكية مباشرة في شؤونها، ومنها ما يتعلّق بالبنية المائية.

يمثّل النقش الحجري المنشور في مجلة سومر (المجلد 2، 1946، ص 50–52)، والذي أعاد نشره لاحقًا Grayson وNovotny ضمن النقوش الملكية للعصر الآشوري الحديث (RINAP)، شاهدًا مهمًا على مشروع مائي نُفِّذ في أربيل خلال عهد الملك سنحاريب (704–681 ق.م).

ويندرج هذا المشروع ضمن سياسة سنحاريب المعروفة في مجال إدارة المياه، إذ اشتهر بإنشاء القنوات والسدود وتنظيم الإمدادات المائية في نينوى وخنس ومدن أخرى. غير أن أهمية المشروع في أربيل تتضاعف بسبب طبيعة موقعها المرتفع، ما يجعل أي تدخل مائي فيها أكثر تعقيدًا ودلالة.

ولا يقدّم النقش تفاصيل تقنية دقيقة، لكنه يستخدم الصيغة الملكية الآشورية المألوفة، حيث يُبرز الملك بوصفه المنفّذ لإرادة الآلهة، ويُقدَّم المشروع كعمل يضمن رخاء المدينة واستقرارها. ومن خلال هذا الخطاب، يتضح أن الماء لم يكن مجرد مورد طبيعي، بل عنصرًا أساسيًا في شرعية الحكم واستدامة المدينة.

لا يمكن فهم المشروع المائي الآشوري في أربيل بمعزل عن بعدها الديني. فالإلهة عشتار الأربيلية كانت تُعدّ من أبرز آلهة البانثيون الآشوري، وكان معبدها مقصدًا للملوك طلبًا للنصر والشرعية. ومن ثمّ، فإن تزويد المدينة بالماء كان يحمل بعدًا رمزيًا يتمثل في خدمة المعبد وضمان رضى الإلهة.

ويعكس هذا التداخل بين الديني والعمراني إحدى سمات التخطيط الحضري في المدن الرافدينية، حيث تتداخل الوظائف المعيشية والرمزية ضمن منظومة واحدة.

يُنسب حوض ماء قلعة أربيل المعروف اليوم في الذاكرة الشعبية إلى فترات متأخرة، غالبًا ما تُربط بالعهد العثماني أو بفترة الانتداب البريطاني. غير أن غياب نقش تأسيسي واضح للحوض الحالي لا يعني أن الموقع لم يكن مستخدمًا مائيًا في فترات أقدم.

وفي ضوء النقش الآشوري، يمكن طرح فرضية علمية مفادها أن فكرة الخزن المائي أو تنظيم الماء داخل القلعة تعود إلى عصور مبكرة، وأن ما نراه اليوم ليس سوى حلقة متأخرة في سلسلة طويلة من التدخلات المائية. وبذلك، فإن الحوض الحديث قد يكون استمرارًا وظيفيًا لموقع مائي أقدم، حتى وإن تغيّر شكله وتقنيته.

تكشف دراسة الماء في قلعة أربيل عن نمط حضري قائم على التكيّف والاستمرارية. فالمدينة لم تغيّر موقعها رغم التحديات، بل طوّرت حلولًا متراكمة مكّنتها من البقاء. ويُعدّ المشروع الآشوري المبكر مثالًا على هذا التراكم، حيث وضع أساسًا ذهنيًا وتقنيًا لفهم علاقة القلعة بالماء.

ومن هذا المنظور، فإن أربيل تقدّم نموذجًا فريدًا في تاريخ المدن، إذ تمثّل حالة نادرة لاستمرارية حضرية حافظت على نواتها الأساسية، مع تطوير أدوات العيش فيها عبر العصور.

إن الربط بين نقش أربيل الآشوري ومشكلة الماء في قلعة أربيل يفتح أفقًا جديدًا لدراسة تاريخ المدينة، لا بوصفه تسلسلًا زمنيًا من الأحداث فقط، بل باعتباره تاريخًا للحلول العمرانية. ويُظهر مشروع سنحاريب المائي أن أربيل كانت، منذ العصر الآشوري الحديث، مدينة واعية بتحدياتها، وقادرة على إنتاج استجابات حضرية ضمنت لها الاستمرار حتى يومنا هذا.
............................
المراجع

1- صفّار، فؤاد. «مشروع سنحاريب لتزويد أربيل بالماء»، مجلة سومر، المجلد 2، بغداد، 1946، ص 50–52.

2- Grayson, A. K. & Novotny, J., The Royal In-script-ions of the Neo-Assyrian Period (RINAP), Vol. 3/2، نقش رقم 229 (أربيل).

3- Oates, J., Assyrian Cities, Oxford University Press.



#عبدالباقي_عبدالجبار_الحيدري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القلعة والجبل: أخلاقيات النضال وسيرة جيلٍ لم يُساوم شباب قلع ...
- منظومة سنحاريب المائية في وادي باستورة: قراءة تاريخية وأثرية
- عشتار أربيل: القلب الروحي لتاريخ المدينة الديني
- تعدّد الأحزاب التركمانية في أربيل: تعددية سياسية أم تشتت يقو ...
- الجبهة التركمانية في أربيل: من ذروة القوة إلى نكسة نوفمبر قر ...
- انتخابات بلا وعي… ووطن يكرر جراحه
- المرشح والناخب بين الوهم والحقيقة: مسرحية انتخابية متكررة
- قلعة أربيل بين الأيادي الأصيلة والأيادي الحزبية
- إشكالية تشكيل الحكومة في إقليم كردستان: قراءة تحليلية في أسب ...
- العراق على أعتاب انتخابات نوفمبر 2025: 22 سنة من الخراب والف ...
- مشروع أكاديمي مقترح بيت المؤتمرات العلمية في قلعة أربيل
- الاستفتاء الكردي: استحقاق مؤجَّل لا حلم عابر
- الماء بين الأمس واليوم: مقارنة بين مشروع سنحاريب المائي ومشر ...
- الإرهاب الأميركي المقنّع بالديمقراطية: تحليل وثائقي وسياسي خ ...
- جامع باشا في أربيل: ذاكرة دينية ومعمارية نابضة
- أسرار المئذنة المظفرية: قراءة معمارية وسياسية وعسكرية
- عقارات هوب زون… 22 عاماً من الثقة والتميّز في سوق أربيل العق ...
- تحولات مدينة أربيل الحضرية بين دوكسيادس وبول سيرفيس: من النم ...
- فن تخطيط المدن في فكر روبير أوزيل: من الفلسفة إلى التطبيق
- الكيان الصهيوني بين حماية الدروز وإبادة الفلسطينيين: ازدواجي ...


المزيد.....




- تركيا تعلن فتح تحقيق بشأن سقوط طائرة رئيس الأركان الليبي
- مقتل رئيس أركان الجيش التابع لحكومة الوحدة الوطنية الليبية ب ...
- -لن ننسحب مليمترًا-.. كاتس يعلن نية إسرائيل إنشاء مستوطنات ج ...
- إعلان مقتل قائد الجيش الليبي ومرافقيه في حادث تحطم طائرتهم ف ...
- من ميلانيا ترامب إلى البابا..صور فاضحة في ملفات إبستين؟
- ماذا وراء الحملة الإسرائيلية شمالي القدس؟
- مسؤول إسرائيلي سابق يكشف كيف حاول نتنياهو التنصل من مسؤولية ...
- لماذا تبقي واشنطن على شركة شيفرون في فنزويلا؟
- عاجل | حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا: إعلان الحداد الرسمي في ...
- كرة لهب وحطام.. لقطات لسقوط طائرة رئيس أركان حكومة الدبيبة


المزيد.....

- معجم الأحاديث والآثار في الكتب والنقدية – ثلاثة أجزاء - .( د ... / صباح علي السليمان
- ترجمة كتاب Interpretation and social criticism/ Michael W ... / صباح علي السليمان
- السياق الافرادي في القران الكريم ( دار نور للنشر 2020) / صباح علي السليمان
- أريج القداح من أدب أبي وضاح ،تقديم وتنقيح ديوان أبي وضاح / ... / صباح علي السليمان
- الادباء واللغويون النقاد ( مطبوع في دار النور للنشر 2017) / صباح علي السليمان
- الإعراب التفصيلي في سورتي الإسراء والكهف (مطبوع في دار الغ ... / صباح علي السليمان
- جهود الامام ابن رجب الحنبلي اللغوية في شرح صحيح البخاري ( مط ... / صباح علي السليمان
- اللهجات العربية في كتب غريب الحديث حتى نهاية القرن الرابع ال ... / صباح علي السليمان
- محاضرات في علم الصرف ( كتاب مخطوط ) . رقم التصنيف 485/252 ف ... / صباح علي السليمان
- محاضرات في منهجية البحث والمكتبة وتحقيق المخطوطات ( كتاب مخط ... / صباح علي السليمان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - عبدالباقي عبدالجبار الحيدري - الماء واستمرارية الحياة في قلعة أربيل قراءة تاريخية–عمرانية في ضوء النقوش الآشورية