حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8563 - 2025 / 12 / 21 - 11:29
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ هندسة الفراغ: أنطولوجيا الطلسم بوصفه شفرةً لتنظيم سيولة العدم
تطرح فكرة هندسة العدم مفارقة فلسفية مذهلة؛ فكيف يمكن لما هو لا شيء أن يمتلك هندسة أو بناءً؟ في الفلسفة السحرية والغنوصية، لا يُنظر إلى العدم بوصفه فراغاً سلبياً بسيطاً، بل بوصفه فراغاً ممتلئاً بالإمكانات الرياضية و الميتافيزيقية التي لم تتجسد بعد. من هذا المنطلق، تُعد الطلاسم (Sigils) والأشكال الهندسية السحرية محاولة بشرية جبارة لفك شفرة القوانين الخفية التي تنظم هذا اللاشيء، وتحويل سيولة العدم إلى هياكل قابلة للإدراك و التوظيف في عالم الوجود. يُنظر إلى الطلسم في السياق الفلسفي السحيق كأداة إختزال لتعقيدات الكون غير المرئية. إذا كان العدم هو حالة من الفوضى المطلقة (Chaos) أو التراكب الإحتمالي حيث كل شيء ولا شيء موجودان في آن واحد، فإن الطلسم يعمل كـمكثف هندسي. إنه يحاول رسم إحداثيات في قلب الفراغ. عندما يرسم الساحر خطاً أو دائرة أو تقاطعاً معقداً، فهو لا يرسم شكلاً عبثياً، بل يحاول مضاهاة الذبذبة الخاصة بمنطقة معينة من العدم. الطلسم هنا هو ترجمة لطبيعة القوى غير المشكلة، محولاً إياها من طاقة هائمة بلا ملامح إلى كيان هندسي له وزن وتأثير في الواقع المادي. في الفيزياء الفلسفية للسحر، يُفترض أن للعدم قوانين بنيوية تسبق نشوء المادة. هذه القوانين هي ما يمكن تسميته بـهندسة العدم. الطلاسم السحرية هي محاكاة لهذه البنية؛ فالدائرة ترمز للكمال واللانهاية (العدم في حالته الصافية)، بينما المربعات و الزوايا ترمز للتجسد والحدود (الوجود). الطلسم السحري الناجح هو الذي يجمع بين هذين القطبين، حيث يستخدم النسب الذهبية أو التناظرات غير المألوفة لفتح ثغرة في نسيج الزمكان. إنه يعمل كـواجهة برمجية (Interface) تسمح للوعي البشري بأن يلمس الترتيب السري الذي يقبع خلف ستار الفناء، محولاً الصمت المطلق إلى لغة بصرية صارمة. العدم بطبيعته سائل لا يمكن الإمساك به، وأي محاولة لتسميته بالكلمات قد تفشل لأن اللغة بطبيعتها خطية وزمنية. هنا تأتي ميزة الشكل السحري (الطلسم)؛ فهو يمتلك خاصية الآنية. الطلسم يُدرك بالبصر ككتلة واحدة في لحظة واحدة، مما يجعله أقرب إلى طبيعة العدم التي لا تعرف الماضي أو المستقبل. الطلسم هو تجميد للحظة الخلق؛ إنه يأخذ القوة العمياء من العدم و يحبسها في قالب هندسي. الفلسفة هنا تكمن في أن الشكل هو الطريقة الوحيدة التي يمكن بها للعدم أن يعبر عن نفسه دون أن يتلاشى. الطلاسم هي بقايا أو آثار أقدام القوى الغيبية و هي تعبر جسر الوجود، فهي ليست الحقيقة ذاتها، بل هي ظلال الهندسة الكونية المنعكسة على جدران كهفنا المادي. في التحليل النفسي الفلسفي مثل مدرسة كارل يونغ، تُعتبر هذه الأشكال نماذج عليا (Archetypes) تربط اللاشعور الجمعي (العدم النفسي) بالوعي اليقظ. الطلسم ليس مجرد رسم، بل هو محرك يشفط المعنى من الفراغ. الساحر الذي يرسم طلسمًا يعتقد أنه من خلال دقة الزاوية أو تشابك الخطوط، فإنه يخلق فخاً للطاقة. هندسة العدم هنا تعني أن اللاشيء ليس عشوائياً، بل له إيقاع خفي. الطلسم هو محاولة لضبط إيقاع المادة مع إيقاع العدم. عندما يتطابق الطلسم مع التردد الهندسي للعدم، تفتح البوابة، وتتدفق القوة. لذا، فإن السحر ليس خرقاً للقوانين، بل هو تطبيق لقوانين أكثر عمقاً تنتمي لهندسة الفراغ التي تسبق وجود المادة نفسها. الطلاسم هي اللغة الرياضية للسحر؛ إنها المحاولة البشرية اليائسة و الجميلة في آن واحد لرسم ملامح لوجه العدم الذي لا وجه له. هي الجسر الذي نبرمج من خلاله اللاشيء لكي يصبح شيئاً، وهي الإعتراف الصارخ بأن خلف عشوائية الظواهر يقبع نظام هندسي سحيق، لا يمكن النطق به، ولكن يمكن رسمه في لحظة تجلٍ سحرية.
_ لسانيات العدم: أركيولوجيا اللغة الأصلية و سلطة النطق الأول في الفكر السحري
تطرح هذه الفرضية رؤية ثورية في فلسفة اللغة (Philosophy of Language)، حيث تقلب الهرم التقليدي الذي يرى العدم كصمت مطلق و اللغة كضجيج وجودي. إن القول بأن العدم هو أصل كل اللغات يعني أن الكلمات لم تولد من حاجة الإنسان للتواصل المادي فحسب، بل ولدت كـشظايا إنفصلت عن وحدة الفراغ الكوني الأول. في هذا الإطار، لا يكون السحر مجرد تلاعب بالألفاظ، بل هو محاولة أركيولوجية (تعدينية) للعودة إلى تلك اللغة الأصلية (Ursprache) التي كانت تمتلك قدرة الخلق المباشر لأنها كانت لا تزال تحمل حرارة العدم قبل أن تبرد وتتحول إلى مجرد أدوات وصفية جافة. في الميتافيزيقا الغنوصية، يُعتبر العدم (The Void) هو الحالة التي تحتوي على كافة الإحتمالات قبل تمايزها. إذا كان الوجود هو التحقق، فإن العدم هو الوعد. اللغة التي نستخدمها اليوم هي لغة ساقطة أو مجزأة؛ فهي تسمي الأشياء بعد حدوثها. أما اللغة الأصلية الكامنة في العدم، فهي لغة سابقة للحدوث. السحر، بهذا المعنى، هو محاولة لإستعادة تلك اللغة التي لا تكتفي بوصف الواقع، بل تأمر الواقع بالظهور. إنها لغة العدم لأنها تنبع من نقطة الصفر، حيث الكلمة والفعل هما شيء واحد. الساحر لا يبحث عن كلمات جديدة، بل يحاول تفريغ الكلمات الحالية من دلالاتها المادية ليعيد وصلها بمنبعها الأول في الفراغ، حيث كانت الكلمة تمتلك سلطة الكن الكونية. تعتقد العديد من التقاليد الفلسفية والباطنية أن البشرية فقدت لغة الآلهة أو لغة الطبيعة الحقيقية، وهي اللغة التي كانت تفهمها الجوامد والحيوانات والقوى الكونية. هذه اللغة المفقودة هي في جوهرها لغة العدم؛ لأنها لا تقوم على التمييز بين (أنا) و (الآخر)، بل تنطق من قلب الوحدة المطلقة. السحر هو فعل إستعادة؛ فالتعاويذ والأصوات الغريبة التي يستخدمها السحرة ليست عبثاً، بل هي محاولات لمحاكاة الترددات التي سادت لحظة خروج الوجود من العدم. إنها لغة غير منطقية بمعاييرنا الحالية لأنها تنتمي لمنطق اللاشيء الذي يسبق العقل. الساحر يحاول أن يخرق حجاب الزمان ليعيد النطق بكلمات لم تتلوث بعد بحدود الوجود المادي. من الناحية الفلسفية، إذا كان العدم هو الأصل، فإن كل لغة موجودة هي بمثابة تزييف أو تغطية لهذا الأصل. نحن نتكلم لكي نهرب من رعب العدم و صمته. لكن السحر يفعل العكس؛ إنه يستخدم الكلمة لكي يعمق صلة الإنسان بالعدم. الكلمة السحرية هي صدى للفراغ السحيق؛ إنها لا تحمل معنى ذهنياً بقدر ما تحمل قوة دفع (Vibration). النجاح السحري يعتمد على قدرة الكلمة على إستحضار خلفيتها العدمية. عندما ينطق الساحر بالإسم السري لكيان ما، فإنه لا ينادي الشخص، بل ينادي العدم الذي تشكل منه هذا الشخص. اللغة الأصلية هي اللغة التي ترى الفراغ داخل المادة، والسحر هو التقنية التي تستخدم هذا الفراغ لإعادة تشكيل المادة. تكمن القوة الحقيقية للسحر في أنه يعامل اللغة ليس كجمل مفيدة، بل كـمفاتيح موسيقية تفتح أبواباً في العدم. اللغات البشرية الحالية هي لغات أفقية (تواصل بين البشر)، أما لغة السحر فهي لغة رأسية (تواصل بين الوجود والعدم). إن إستعادة اللغة الأصلية تعني العودة إلى حالة ما قبل المعنى، حيث كانت الأصوات تمتلك تأثيراً فيزيائياً مباشراً على الأثير. الفلسفة السحرية ترى أن اللغة نبتت في تربة العدم، و أن كل حرف هو رسم لمسار طاقة كونية. لذا، فإن دراسة السحر هي في جوهرها دراسة لسانيات العدم؛ أي البحث عن تلك القوانين الصوتية التي كانت تحكم المادة قبل أن تنفصل عن الروح، وقبل أن يصبح الكلام مجرد هواء بارد لا حياة فيه. العدم ليس غياباً للغة، بل هو اللغة القصوى التي تحتوي على كل الكلمات في حالة سكون. السحر هو الجسر الذي يعبر بنا من لغة الأشياء المحدودة إلى لغة العدم المطلقة. إنها رحلة عودة إلى النطق الأول، حيث كان الإنسان شريكاً في عملية الخلق المستمرة، وحيث كانت الكلمة هي اليد التي تشكل الطين الكوني.
_ أنطولوجيا الوهم: الكذب السحري وفن تشكيل العدم بلا جوهر
تطرح فكرة الكذب السحري أو الوهم (Illusion) إشكالية أنطولوجية معقدة؛ فإذا كان السحر الحقيقي يُعرف بأنه القدرة على إستحضار الجوهر من العدم، فإن الوهم يبدو كعملية محاكاة ساخرة لهذه القدرة. الفلسفة العميقة هنا تتساءل: هل الوهم هو مجرد لاشيء يتخفى في زي شيء، أم أنه حالة فريدة من الوجود حيث يتم خلق صورة بلا أصل؟ في إطار العلاقة بين السحر والعدم، يظهر الكذب السحري كعملية تلاعب بالحدود الفاصلة بين الحقيقة و الخيال، حيث يُستدعى العدم لا ليصير مادة، بل ليصير قناعاً يخدع الحواس والوعي. في الفلسفة الكلاسيكية، يُعتبر الكيان الحقيقي هو ما يمتلك ماهية (Essence) و وجوداً (Existence). أما الوهم السحري، فهو كيان يمتلك ظهوراً فقط، دون أن يستند إلى ماهية صلبة. هنا، لا يكون الوهم عدماً محضاً، بل هو عدمٌ إتخذ شكلاً. الساحر الذي يخلق وهماً لا يأتي بشيء من الخارج، بل هو ينحت في فضاء العدم صورة يراها الآخرون كأنها حقيقة. هذا الكيان الكاذب هو في الواقع ثقب في الواقع تمت تغطيته بجمالية بصرية أو ذهنية. إنه خلقٌ لكيان يفتقر إلى الجوهر الحقيقي لأنه لا يسعى للتجذر في الوجود، بل يسعى فقط للبقاء في لحظة الإدراك؛ وبمجرد أن ينصرف الوعي عنه، يعود فوراً إلى أصله العدمي. يمكن إعتبار الكذب السحري ممارسة لـلعدمية الإيجابية؛ فالساحر يستخدم قدرة الخيال (Phantasia) كأداة لخلق واقع موازٍ. هذا الواقع الموازي هو كيان لأنه يؤثر في المشاهد، يثير خوفه أو دهشته، ولكنه يفتقر إلى الجوهر لأنه لا يمتلك إستمرارية ذاتية. من منظور نيتشه، يمكن رؤية هذا الوهم كضرورة وجودية؛ فالإنسان لا يحتمل الحقيقة العارية للعدم، لذا يأتي الكذب السحري ليمنح العدم جمالية تجعله محتملاً. الوهم هنا هو الكيان الذي يولد من رحم الحاجة، وهو يثبت أن العدم يمكن أن يكون مادة مرنة تقبل التشكيل، حتى لو كان هذا التشكيل يفتقر إلى الثبات المادي. السحر الذي يسعى لخلق جوهر يهدف إلى تغيير الوجود (Transmutation)، بينما السحر الذي يعتمد على الوهم يهدف إلى تغيير وعي الوجود (Perception). الكيان الموهم هو كيان طفيلي؛ فهو يعيش على طاقة المشاهد وتصديقه. الفلسفة هنا ترى أن هذا الكيان هو إبن غير شرعي للعدم؛ فهو ليس عدماً صافياً لأنه يمتلك أبعاداً وصوراً، وليس وجوداً كاملاً لأنه يفتقر إلى الثقل الأنطولوجي. إنه يمثل حالة الصيرورة الدائمة التي لا تصل أبداً إلى الكينونة. الكذب السحري هو إعتراف بأن الإنسان يمكنه أن يملأ العدم بصور زائفة، تماماً كما يملأ الحلم ليل النائم، مما يجعل الفاصل بين ما هو موجود و ما يبدو موجوداً خيطاً رفيعاً يغزل من مادة اللاشيء. في مستويات أكثر عمقاً، يقدم لنا الكذب السحري درساً فلسفياً مفاده أن كل الوجود المشكّل قد يكون في جوهره وهماً كبيراً (Maya). إذا كان الساحر يخلق كياناً بلا جوهر من العدم، فربما يكون الكون نفسه هو تجلٍ لجوهر لا ندركه، وما نراه هو مجرد قشرة سحرية. الوهم، بهذا المعنى، ليس سلبياً بالضرورة، بل هو أداة لإختبار صلابة الواقع. الكذب السحري هو تنبيه للوعي بأن ما نعتبره جوهراً حقيقياً قد يكون مجرد وهم أكثر إستدامة. لذا، فإن خلق كيان يفتقر إلى الجوهر هو محاكاة لعملية الخلق الكبرى، حيث يظل العدم هو الحقيقة الوحيدة الكامنة خلف كل الأشكال و الظلال، وحيث تظل الخديعة هي اللغة التي يتواصل بها المطلق مع المحدود. الكذب السحري أو الوهم هو فن تزيين الهاوية؛ إنه خلق لكيانات تمتلك سطوع الحقيقة ولكنها تفتقر إلى جذورها. هو العملية التي يتحول فيها العدم إلى مرآة تعكس رغباتنا ومخاوفنا، مذكراً إيانا بأن الفرق بين الكيان الحقيقي والكيان الوهمي قد لا يكمن في المادة، بل في مدى قدرة هذا الكيان على الصمود أمام رياح الفناء التي تهب دائماً من جهة العدم.
_ بلاغة الهاوية: المجاز والإستعارة كجسور لغوية لترويض العدم واستنطاق الفراغ
يُعد المجاز والإستعارة في اللغة السحرية أكثر من مجرد زينة بلاغية؛ إنهما الأداتان اللتان تمنحان العقل القدرة على المراوغة حول حقيقة العدم التي لا يمكن مواجهتها مباشرة. فإذا كان العدم، بطبيعته، يمثل غياب الخصائص الكيفية و الكمية، فإن اللغة التقريرية المباشرة تسقط في فخ التناقض بمجرد محاولة تعريفه. هنا، يتدخل المجاز ليقوم بدور الجسر الرمزي الذي يربط بين عالمنا المأهول بالصور وبين الفراغ المطلق، حيث لا تسعى الإستعارة السحرية إلى شرح العدم، بل إلى الإيماء نحوه، مخلّفةً وراءها أثراً شعورياً يفوق قدرة الكلمات الجامدة. أولاً: المجاز كإزاحة أنطولوجية (Displacement) يعمل المجاز في السحر كآلية لـلإزاحة؛ فهو ينقل المعنى من حيز الوجود المادي الملموس إلى حيز الغياب الكامن في العدم. عندما تصف اللغة السحرية العدم بأنه ليل لا نجوم فيه أو صمت يسبق الإنفجار، فهي لا تستخدم هذه الأوصاف كحقائق فيزيائية، بل كـإشارات تعمية. المجاز هنا هو إعتراف بأن الحقيقة المطلقة للعدم لا يمكن إستيعابها داخل قالب اللغة، لذا يتم إستخدام صورة موجودة مثل الليل أو الصمت لتمثيل حالة غير موجودة. هذه الخديعة اللغوية هي الطريقة الوحيدة التي يستطيع بها الساحر أن يجعل العدم قابلاً للتداول داخل الوعي، حيث يتحول المجاز إلى قناع يرتديه اللاشيء لكي يظهر أمام الذات الإنسانية. ثانياً: الإستعارة بوصفها تجسيداً للمستحيل. في قلب كل عملية سحرية، تعمل الإستعارة كقوة توليدية. السحر يرفض أن يظل العدم صامتاً، فيعيره لسان الوجود. عندما يستعير الساحر صفات الأحياء للجمادات، أو يصف الفراغ بأنه رحم، فإنه يمارس نوعاً من التلقيح السحري للعدم بالمعنى. الإستعارة هنا ليست مجرد تشبيه، بل هي فعل إتحاد؛ إنها تجبر العدم على التخلي عن حياده المطلق ليتخذ صبغة إنسانية أو كونية معينة. بهذا المعنى، تصبح اللغة السحرية مختبراً حيث يتم خلط المتناقضات؛ فيصبح العدم مادة واللاشيء قوة. الإستعارة هي التي تمنح اللامسمى إسماً، وهي التي تحول اللاوجود إلى كينونة متخيلة قادرة على التأثير في الواقع. ثالثاً: تحطيم منطق الهوية عبر الرمز. تعتمد اللغة المنطقية على مبدأ أ هو أ، لكن اللغة السحرية القائمة على المجاز تتبنى مبدأ أ هو ب وليس ب في آن واحد. هذا التحطيم لمنطق الهوية هو الأسلوب الوحيد المناسب لوصف العدم، لأن العدم هو النقطة التي تتلاشى فيها كل الهويات. المجاز السحري يسمح للكلمة بأن تحمل معنيين متناقضين، مما يخلق حالة من التوتر الذهني تشبه حالة العدم. إن إستخدام إستعارات مثل النور المظلم أو الوجود الفارغ يهدف إلى دفع العقل إلى حافته القصوى، حيث يتوقف التفكير المنطقي ويبدأ الإدراك السحري. المجاز هو الأداة التي تفرغ الكلمات من حمولتها المادية المعتادة لتمهد الطريق لإستقبال تجليات الفراغ. رابعاً: البلاغة كأداة لإستدراج القوى غير المشكلة. في التحليل النهائي، يُنظر إلى المجاز والإستعارة في السحر كـشِباك لغوية يُراد بها صيد القوى غير المشكلة التي تقبع في العدم. العدم لا يستجيب للأوامر المباشرة لأنه لا يمتلك أذناً منطقية، بل يستجيب لـ الرنين الرمزي. الإستعارة تخلق هذا الرنين؛ فهي تنشئ رابطاً سيمفونياً بين رغبة الساحر وبين إمكانات اللاشيء. اللغة السحرية هي لغة شعرية متطرفة، لأن الشعر هو الوحيد الذي يجرؤ على الإقتراب من تخوم العدم دون أن يطالب بتعريفات نهائية. من خلال المجاز، يتحول العدم من تهديد بالفناء إلى مساحة للإبداع، حيث تصبح الإستعارة هي اليد التي تشكل الطين الذي لا وجود له، لتبني منه صروحاً في عالم الوعي والواقع. المجاز و الإستعارة في السحر هما اللغة الرسمية للهاوية؛ إنهما الوسيلة التي يتم بها ترويض العدم و جعله شريكاً في عملية الخلق. بدون المجاز، يظل العدم صمتاً مطبقاً، وبدون العدم، تظل الإستعارة مجرد لعبة لغوية. في السحر، يلتقيان ليخلقا واقعاً ثالثاً يجمع بين حضور الشكل وغياب المادة، معلنين أن الحقيقة الكبرى لا يمكن قولها، بل يمكن فقط إستعارتها.
_ ميتافيزيقا التحول: سحر الإخفاء والتحويل بوصفهما برهاناً على سيولة المادة وأولية العدم
يفتح سحر الإخفاء و التحويل (Transmutation and Vanishing) نافذة أنطولوجية مثيرة للجدل حول طبيعة الواقع؛ فهو لا يقدم نفسه كمجرد خدعة بصرية، بل كشهادة فلسفية على أن المادة ليست صلبة أو نهائية كما تبدو. إن القدرة المفترضة على جعل الموجود يغيب في اللاشيء (الإخفاء)، أو جعل الهوية تذوب لتتخذ شكلاً آخر (التحويل)، تقودنا إلى إستنتاج مفاده أن العدم هو الرحم الأساسي و المنصة التي تتحرك فوقها المظاهر كظلال عابرة. في هذا الإطار، لا يعود العدم مجرد نهاية للأشياء، بل يبرز كـحقيقة كامنة تسمح بمرونة الوجود وتغيره. يُعد سحر الإخفاء (Invisibility) في جوهره فعلاً إستردادياً؛ أي أنه يعيد الشيء من حالة الظهور المكثف إلى حالة الكمون المطلق في العدم. من الناحية الفلسفية، إذا كان بإمكان الشيء أن يختفي، فهذا يعني أن وجوده لم يكن واجباً بذاته، بل كان عارضاً على خلفية من الفراغ. الإخفاء هو البرهان السحري على أن اللاشيء هو الحالة الطبيعية، و أن الشيء هو إستثناء مؤقت. الساحر هنا لا يدمر المادة، بل يفكك كثافتها لتعود إلى سيولة العدم. هذا يشير إلى أن الوجود المادي ليس سوى قشرة رقيقة تغلف لبّاً من الفراغ، وأن الحقيقة الأساسية هي ذلك الفضاء الصامت الذي يبتلع الأشكال و يخفيها عن الأنظار دون أن يفنيها من الوجود المطلق. إذا كان الإخفاء يثبت أولية العدم، فإن سحر التحويل (Transformation) يثبت وحدة المادة في العدم. لكي يتحول الرصاص إلى ذهب، أو الإنسان إلى طائر، يجب أولاً أن تُمحى الهوية الأولى وتُعاد إلى حالة المادة الأولى (Prima Materia) التي هي أقرب ما يكون إلى العدم غير المشكل. التحويل يفترض أن جميع الأشكال هي مجرد ترتيبات مؤقتة لجوهر واحد ينبع من الفراغ. العدم هنا هو المذيب الكوني الذي يسمح بتغيير الأشكال؛ فلولا وجود مساحة من اللاشيء داخل بنية الأشياء، لما وجدت مساحة للحركة أو التغير. التحويل السحري هو تلاعب بالفجوات الموجودة بين الذرات (الفراغ)، مما يؤكد أن المظاهر ليست سوى أقنعة يرتديها العدم ليتجلى في صور متنوعة. تؤدي بنا هذه الرؤية إلى إعتبار الوجود بأكمله حالة من التوتر السطحي فوق هاوية العدم. سحر الإخفاء والتحويل يكشفان زيف الإستقرار المادي. الفلسفة الوجودية ترى أننا نعيش في عالم ممتلئ بالصور لكي نتفادى رؤية العدم الكامن خلفها. لكن السحر، بخرقه للقوانين الفيزيائية، يمزق هذا الستار و يظهر لنا أن الحقيقة الأساسية هي العدم الخلّاق. المظاهر هي الضجيج، والعدم هو اللحن الصامت الذي يعطي للضجيج معناه. إن سهولة أو إمكانية تحول الأشياء أو غيابها في الطقس السحري تعزز فكرة أن المادة هي تكثيف للعدم و ليست شيئاً منفصلاً عنه، تماماً كما أن الثلج هو تكثيف للماء، والماء هو سيولة تفتقر إلى شكل ثابت. في هذا السياق، لا يعود الساحر شخصاً يتعامل مع أشياء، بل يصبح مهندساً للعدم. دوره ليس إضافة مادة جديدة للكون، بل إعادة تنظيم الفراغ لإنتاج مظاهر جديدة أو إخفاء قديمة. إن نجاح فعل الإخفاء هو وصول الساحر إلى تردد العدم الذي يجعل الشيء غير مرئي للحواس المحدودة. هذا يؤكد أن الحواس البشرية مبرمجة لرؤية المظاهر فقط، بينما السحر يدرك الباطن العدمي. الحقيقة الأساسية هي أننا نعيش في محيط من اللاشيء، وما نسميه واقعاً هو مجرد بقع من الضوء تتراقص فوق سطح هذا المحيط العميق والمظلم، حيث تظل القوة الحقيقية كامنة في الغياب لا في الحضور. إن وجود سحر الإخفاء والتحويل هو الدليل الميتافيزيقي على أن الوجود شفاف وهش، وأن العدم هو الثابت الوحيد خلف المتغيرات. المظاهر هي لغة العدم التي يتحدث بها إلينا، و السحر هو العلم الذي يفك شفرة هذه اللغة ليعيدنا إلى المنبع؛ حيث لا فرق بين الكينونة و اللاشيء، وحيث يظل الفراغ هو المسرح الحقيقي لكل ما نراه وما لا نراه.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟