أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - أوزجان يشار - نبوخذنصر الثاني: -الفصل الأول- سيرة ملك بين الطين البابلي والنار اليهودية














المزيد.....

نبوخذنصر الثاني: -الفصل الأول- سيرة ملك بين الطين البابلي والنار اليهودية


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 15:01
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الفصل الأول

المقدمة: ملك بين مرآتين

نبوخذنصر الثاني (605–562 ق.م) هو أحد أعظم ملوك بابل، لكنه أكثرهم جدلية. في سجلات أمة بابل، هو الملك الذي رفع المدينة إلى السماء، الذي شاد الزقورات، وأعاد للعاصمة عظمتها، وصنع من بابل مرآة للسماء. أما في ذاكرة اليهود، فهو نار تمشي على قدمين، ملك دمّر أورشليم وأحرق الهيكل، رمز للقسوة المطلقة. هذه الازدواجية تجعل منه شخصية حقيقية وملحمية في آن واحد: رجلٌ من لحم ودم، تربى على الطين، تعلم فنون الحصار والدبلوماسية، لكن التاريخ حوله إلى أسطورة أكثر من كونه مجرد حاكم.

الدهشة تكمن في أن نبوخذنصر جمع في حياته بين البناء والهدم، بين العظمة والدمار، بين المدينة التي تصعد نحو السماء والمدينة التي تحترق. هذا التناقض يوضح كيف أن أعمار المدن لا تُقاس فقط بطول أسوارها أو ضخامة أبراجها، بل بطول الذاكرة التي تخلّدها بعد سقوطها. وفي هذا السياق، يصبح نبوخذنصر رمزًا مزدوجًا: رمز للقوة المطلقة، ورمز للعواقب التي تلحق بالممالك حين يمتدّ الكبرياء إلى حد الجنون.



المرآتان – بابل من ذهب، والنار اليهودية

ولد نبوخذنصر في قلب بلاد الرافدين، في زمنٍ كان فيه العالم يتغيّر بسرعة، ويموج بالصراعات الإقليمية والسياسية. لم يكن مجرد وريث، بل نتاج سلسلة طويلة من الأحداث التي شكلت مصير بابل والمنطقة المحيطة بها. كانت الإمبراطورية الآشورية في أواخر القرن السابع قبل الميلاد تتصدع، تهتز من الداخل بفعل الحروب المتواصلة والانقسامات، بينما تتنافس القوى الإقليمية على السيطرة على الشام، منطقة الممرات الحيوية بين مصر وبلاد الرافدين.

نشأ نبوخذنصر في ظل هذه التوترات، وهو يتربى على الطين والآجر، ويشاهد كيف أن القوة ليست حكرًا على الجيش فقط، بل على القدرة على إدارة التحالفات، التحكم في الموارد، وفرض النفوذ على المدن التابعة. تعلم مبكرًا أن الملوك يُقاسون ليس بما يبنون فقط، بل بما يدمرون، وأن التاريخ يحكم على السلاطين من خلال التأثير على شعوبهم وشعوب خصومهم.

حين بلغ سن الرشد، كانت بابل على أبواب مرحلة جديدة من تاريخها. تولى أبيه نبوبلاسر زمام الأمور، مؤسسًا ما عرف بالسلالة الكلدانية. نبوخذنصر، الابن الطموح، شهد انهيار آشور وسقوط نينوى على يد تحالف بين الكلدانيين والميديين سنة 612 ق.م، وهو حدث جسّد بداية عهد جديد لبابل، وعرف الملك الشاب أن مصير البلاد لن يُحدد إلا بيد من يمتلك مزيجًا من الشجاعة العسكرية والحنكة السياسية.

كانت المعركة الحاسمة في قرقميش سنة 605 ق.م، حيث واجه الجيش المصري بقيادة الفرعون نخو الثاني، الذي جمع جيشًا متنوعًا من المصريين والمرتزقة الكاريين والليبيين واليونانيين، جيش متعدد الأعراق لم يكن يمكن التفوق عليه إلا بالاستراتيجية والقيادة الفذة. انتصر نبوخذنصر، وبهذا الانتصار تراجع النفوذ المصري في الشام إلى الأبد، وعاد الابن ليجلس على العرش بعد وفاة والده، حاملًا إرث القوة والسيطرة، في الثلاثين من عمره، ليصبح السيد الوحيد لبلاد الرافدين.

لكن السيطرة على الأرض كانت لا تعني السيطرة على التاريخ أو الذاكرة. فالملك الشاب أدرك منذ البداية أن القوة المطلقة تتطلب أكثر من الحروب والانتصارات العسكرية؛ تحتاج إلى رؤية، إلى القدرة على تحويل المدن إلى رمز، وإلى استخدام الدين والرموز لتقوية سلطته. هنا يبرز التناقض: في الوقت الذي يرفع فيه الزقورات، يبسط القسوة على المتمردين؛ حين يبني بوابات الجنائن المعلقة، يحرق القلوب في أورشليم؛ بينما يتحدث النقش الطيني عن المجد والآلهة، تتحدث الأسفار اليهودية عن النار والخراب.

بعد انتصاره في قرقميش، تحوّل اهتمامه جنوبًا نحو يهوذا، المدينة الصغيرة التي تمثل رمزية عظيمة في ذاكرة شعوبها. لم تكن مجرد حملة عسكرية، بل كانت محاولة لإعادة ترتيب المشهد السياسي، لضمان ولاء المنطقة، ولإرسال رسالة أن بابل الجديدة لا تُهدّد من أحد. أخذ نبوخذنصر نخبة الشباب من يهوذا كرهائن، ضمن برنامج تعليمي صارم، منهم دانيال ورفاقه، الذين سيصبحون لاحقًا رموزًا للتحدي الروحي في قلب العاصمة التي أحرقها.

هنا تتضح المرآتان بوضوح: بابل ترى ملكًا من ذهب وطين، يصنع مدينة عظيمة ويعيد للعاصمة مجدها، بينما اليهود يرونه نارًا تمشي على قدمين، يُجبر أبناء الملوك على السبي، ويُحرق الهيكل. هذا التناقض ليس مجرد حدث عابر، بل محور يكشف عن طبيعة السلطة، عن العلاقة بين القوة المادية والقوة الرمزية، وعن الصراع الأزلي بين الإنسان والذاكرة التي يسجّلها التاريخ عنه.

نبوخذنصر إذًا لا يُفهم إذا فصلنا البناء عن الهدم، الذهب عن النار، الطين عن الرماد. الرجل ذاته هو الذي أسس لأعظم مدينة عرفها التاريخ، وذاتها أحرقت في ذاكرة الآخرين. وهنا تكمن الدروس الخالدة: أعظم الملوك يخلدون بقدر ما يبنون، ولكن أيضًا بقدر ما يثيرون، بقدر ما يدهشون، وبقدر ما يجعلون البشر يتذكرونه، سواء بحب أو بكراهية.



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل الثاني- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- رايان الذي روى عطش مليون إنسان
- ومضات من بريق ضوء في ماريلاند: رحلة باميلا واتسون عبر سكون ا ...
- الهندسة الأخلاقية للكون: قراءة في فلسفة براين لويس ومشروعه ف ...
- الوجه الخفي لليابان: من صليل سيوف فرسان الساموراي إلى رقة تل ...
- ليوبولد الثاني: الملك الذي امتلك قارّة وأباد شعباً
- ومضات من فن الرسام الإيراني -محمود فرشجيان- رائد المدرسة الر ...
- هيباتيا: شمس الأسكندرية المشرقة في عتمة التطرف والإرهاب
- أصدقاء الله: مأساة -الأنقياء- النور المقموع في جنوب فرنسا
- الوجه الآخر للعبث الإنساني في رحله صيد: حين يتحوّل الإنسان إ ...
- ذو نواس: القصة الأقرب إلى الواقع بين النقوش والروايات والتفس ...
- الوظيفة المرتبكة بين كفاءة الغرباء وثقة الأقرباء: حين تُدار ...
- التفكير التحليلي النقدي: وعي في زمن الفوضى الرقمية
- حياة تتجدد بعد تشيرنوبل: بين أثر الإشعاع النووي وقوة التكيف ...
- العنصرية: ضلال الروح البشرية في عتمة صندوق الاختلاف اللامتنا ...
- خلق الأعداء: آلية الهيمنة الأمريكية من خلال الدعاية والعمليا ...
- ديني: عظمة صغيرة في كهف سيبيري تحمل في طيّاتها سرّ التميز
- فنّ سرقة الفقراء بالوهم: من “رأس المال الوهمي” إلى رهن البيت ...
- قراءة في كتاب “سحر التفكير الكبير” لديفيد شوارتز
- سجن الأوهام والبحث عن الذات: رحلة الإنسان بين الخوف والحرية


المزيد.....




- عاجل | مراسل الجزيرة: جيش الاحتلال الإسرائيلي ينفذ عملية نسف ...
- -والي دمشق الداعشي-.. لماذا وصفت السلطات السورية القبض عليه ...
- ألمانيا و13 دولة أخرى تندد بخطة إسرائيل إقامة مستوطنات بالضف ...
- الرجال يبكون عجزا.. قصص مروعة تنقلها مقررة أممية من مخيمات ا ...
- الجيش الأردني يعلن شن غارات على -شبكات تهريب المخدرات- في جن ...
- واشنطن تلاحق مسؤولاً بارزًا في الحرس الثوري الإيراني.. ماذا ...
- ألمانيا و13دولة أخرى تندد بخطة إسرائيل إقامة مستوطنات بالضفة ...
- اتفاق غزة يراوح مكانه.. نزع السلاح شرط أم ذريعة؟
- لماذا لا تريد إسرائيل عبور اتفاق غزة إلى مرحلته الثانية؟
- كنائس فلسطين تحيي عيد الميلاد المجيد رغم تضييقات الاحتلال


المزيد.....

- معجم الأحاديث والآثار في الكتب والنقدية – ثلاثة أجزاء - .( د ... / صباح علي السليمان
- ترجمة كتاب Interpretation and social criticism/ Michael W ... / صباح علي السليمان
- السياق الافرادي في القران الكريم ( دار نور للنشر 2020) / صباح علي السليمان
- أريج القداح من أدب أبي وضاح ،تقديم وتنقيح ديوان أبي وضاح / ... / صباح علي السليمان
- الادباء واللغويون النقاد ( مطبوع في دار النور للنشر 2017) / صباح علي السليمان
- الإعراب التفصيلي في سورتي الإسراء والكهف (مطبوع في دار الغ ... / صباح علي السليمان
- جهود الامام ابن رجب الحنبلي اللغوية في شرح صحيح البخاري ( مط ... / صباح علي السليمان
- اللهجات العربية في كتب غريب الحديث حتى نهاية القرن الرابع ال ... / صباح علي السليمان
- محاضرات في علم الصرف ( كتاب مخطوط ) . رقم التصنيف 485/252 ف ... / صباح علي السليمان
- محاضرات في منهجية البحث والمكتبة وتحقيق المخطوطات ( كتاب مخط ... / صباح علي السليمان


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - أوزجان يشار - نبوخذنصر الثاني: -الفصل الأول- سيرة ملك بين الطين البابلي والنار اليهودية