أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - احمد صالح سلوم - ما التحديات التي تطرحها وثيقة ترامب الاستراتيجية على محور المقاومة ؟















المزيد.....


ما التحديات التي تطرحها وثيقة ترامب الاستراتيجية على محور المقاومة ؟


احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية

(Ahmad Saloum)


الحوار المتمدن-العدد: 8554 - 2025 / 12 / 12 - 15:00
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


من الممكن تصنيف وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025 الصادرة في الرابع من ديسمبر على أنها فرصة تاريخية لقوى المقاومة في المنطقة لفك الارتباط (الدلينكينج) عن منطق التراكم الرأسمالي العالمي، خاصة في سياق القضية الفلسطينية التي تعتبر مظهراً للاستعمار الاستيطاني الذي يخدم الإمبريالية الأمريكية. في هذه المادة، سنستعرض ما يترتب على قوى المقاومة – من غزة إلى جنوب لبنان، ومن إيران إلى صنعاء والحشد الشعبي – أن تفعله كرد على هذه الاستراتيجية الحالية، معتمدين على الإطار النظري التقدمي الذي يدعو إلى الانفصال الاستراتيجي عن التبعية الإمبريالية لإعادة بناء اقتصاد وطني مستقل يخضع لقوانين شعبية وليس لقوانين السوق العالمية والاحتكارات. الوثيقة تُعلن تحولاً جذرياً في السياسة الأمريكية، حيث يُصبح الشرق الأوسط ليس "مسرحاً رئيسياً للمنافسة بين القوى العظمى"، بل مصدراً للاستثمارات في الطاقة النووية والذكاء الاصطناعي، مع نقل الأعباء الأمنية إلى الشركاء الإقليميين ورفض "الحروب الأبدية". هذا التحول، كما كان سيفسره الفكر التقدمي، ليس تنازلاً طوعياً، بل نتيجة لأزمة الرأسمالية العالمية التي أدت إلى إهدار الموارد في تدخلات فاشلة مثل العراق وأفغانستان واليمن وغزة ، مما يُضعف القدرة على الحفاظ على الهيمنة الدائمة. في سياق القضية الفلسطينية، التي تعتبر جزءاً من النضال ضد الاستعمار الاستيطاني الذي يُمارس "الأبارتهايد" لصالح الثالوث الإمبريالي، تُكشف الوثيقة عن تقليل الالتزام العسكري الأمريكي، حيث يُشيد بإنهاء "الحرب في غزة" عبر التفاوض على وقف إطلاق النار وإعادة الاسرى الصهاينة ، مع "تدهور نفوذ دعاة حماس الرئيسيين". هذا النهج "الجراحي"، الذي يرفض "بناء الأمم الفاشل"، يُعزز العزلة الإقليمية للمقاومة الفلسطينية، لكنه في الوقت نفسه يُكشف عن ضعف المركز الإمبريالي، مما يفتح باباً لقوى المقاومة لتحويل فك الارتباط إلى واقع عملي. أن الدلينكينج ليس عزلة، بل خضوع الاقتصاد الوطني لمنطق التنمية الداخلية الشعبية، وفي المنطقة يعني ذلك بناء تكامل إقليمي يجمع بين غزة والضفة وجنوب لبنان وصنعاء ودمشق وبغداد، بعيداً عن سلاسل التوريد الإمبريالية. بالنسبة لقوى المقاومة في فلسطين، يترتب عليها استغلال هذه الشقوق لإعادة بناء اقتصاد مقاوم يعتمد على الاكتفاء الذاتي، حيث يُصبح الدلينكينج أداة لتحرير الأرض من خلال تحرير الاقتصاد. في غزة، التي شهدت "حرب العامين" (2023-2025) وأدت إلى خسائر إنسانية هائلة تجاوزت 68 ألف قتيل، يجب على الفصائل الفلسطينية تحويل المقاومة العسكرية إلى نموذج تنموي مستقل، معتمدين على الزراعة المحلية والطاقة المتجددة والصناعات الصغيرة لتجاوز الاعتماد على المساعدات الإمبريالية عبر محمياتها الخليجية الصهيو أمريكية أو التنسيق الأمني مع إسرائيل. ان هذا الدلينكينج يتطلب رفض أي صفقة تُعزز التبعية، مثل تلك المبنية على "اتفاقيات أبراهام" التي تُوسعها الوثيقة لتعزيز العزلة الاقتصادية عن الفلسطينيين، واستبدالها بتحالفات جنوبية مع دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية لتوثيق الجرائم الإسرائيلية وتعزيز الضغط العالمي. في جنوب لبنان، يترتب على حزب الله بناء جبهة موحدة مع الفلسطينيين لإجبار إسرائيل على التراجع، مع الاستثمار في " فك الارتباط الإقليمي" من خلال تعزيز الروابط الاقتصادية مع إيران و العراق واليمن لتجاوز العقوبات الأمريكية، حيث يُصبح الاقتصاد المقاوم نموذجاً يجمع بين الدفاع والتعليم والصحة، مستفيداً من تراجع الالتزام الأمريكي في المنطقة كما تُكشفه الوثيقة. أن هذا يمكن اعتباره فرصة لتحويل المقاومة إلى حركة اجتماعية شاملة، ترفض "القبول كما هي" للدول التابعة وتبني تكاملاً إقليمياً يعتمد على تبادل الغذاء والأدوية خارج الدولار. أما في إيران، فإن الوثيقة تُكشف عن إضعاف دراماتيكي لبرنامجها النووي عبر "عملية مطرقة منتصف الليل"، مما يُمثل محاولة إمبريالية للحفاظ على السيطرة، لكن يترتب على طهران تحويل هذا الإضعاف إلى قوة داخلية من خلال إعادة بناء البرنامج كأداة ردع مدني، مع الدلينكينج الاقتصادي عبر تحالفات مع الصين وروسيا لتعويض الخسائر في الطاقة والتكنولوجيا. أن إيران، كقوة انتقالية في الجنوب، يجب أن تدعم المقاومات مالياً و تكنولوجياً، مع تعزيز الدبلوماسية الجنوبية لعزل إسرائيل دولياً، مستفيدةً من رفض الوثيقة لـ"الحروب الأبدية" كدليل على ضعف المركز. في صنعاء، يترتب على الحكومة استغلال ضعف الوجود الأمريكي في اليمن كما تُشيره الوثيقة، التي تُبرز "تدهور نفوذ الوكلاء "، لتعزيز السيطرة على الموانئ وبناء اقتصاد مستقل يعتمد على "رؤية يمنية" للزراعة والتجارة الإقليمية، مع التنسيق مع إيران لتحويل الردع البحري إلى أداة ضغط اقتصادي تُكسر التبعية على مضيق هرمز. أن هذا يمثل أيضا فرصة لتحويل المقاومة إلى نموذج تنموي يجمع بين الدفاع عن السيادة والاكتفاء الذاتي، رفضاً لأي صفقة تُعيد اليمن إلى دائرة الاستغلال الإمبريالي. أما الحشد الشعبي في العراق، فإن الوثيقة تُكشف عن تراجع الالتزام الأمريكي في المنطقة، مما يترتب عليه تعزيز الوحدة الشعبية لمواجهة التدخلات، مع الدلينكينج من خلال إعادة بناء الصناعة المحلية وتعزيز الروابط مع إيران وسوريا القادمة ما بعد الجولاني لتجاوز العقوبات. أن الحشد يجب أن يتحول إلى حركة اجتماعية تجمع بين الدفاع والتنمية، مستفيداً من أزمة الإمبريالية لإثبات أن الجنوب يمكنه الاستقلال دون الخضوع لمنطق السوق العالمي. في سياق القضية الفلسطينية تحديداً، التي تعتبر مفتاحاً لفهم الإمبريالية كآلية عنصرية، تُقدم الوثيقة فرصة لقوى المقاومة لتحويل الدلينكينج إلى استراتيجية تحرر شاملة، حيث يُصبح رفض "السلام الجراحي" الأمريكي باباً لإعادة بناء الوحدة الفلسطينية بعيداً عن التبعية، مع الاستثمار في اقتصاد مقاوم يجعل غزة نموذجاً للجنوب المقاوم. من الممكن التحذير من أن هذه الفرص ليست تلقائية، بل تتطلب نضالاً موحداً يجمع بين المسلح والاقتصادي، لتحقيق "الخروج من الرأسمالية" كمشروع تاريخي ينهي الهيمنة الإمبريالية في المنطقة. الوثيقة، بتركيزها على "نقل الأعباء" و"المنافسة المسؤولة" مع الصين وروسيا، تُكشف عن تفكك الثالوث الإمبريالي، حيث يُصبح الجنوب قادراً على بناء تحالفات مستقلة، لكن ذلك يتطلب من قوى المقاومة رفض أي تنازلات تُعزز التبعية، وتحويل الدلينكينج إلى واقع عملي يجمع بين السيادة الاقتصادية والنضال التحرري. في النهاية، إن الاستراتيجية الأمريكية الحالية، كما يُفسرها البناء النظري التقدمي، ليست نهاية للإمبريالية، بل مرحلة انتقالية تفتح أبواباً للجنوب ليصبح فاعلاً في تاريخه، شرط أن تتحد قوى المقاومة في مشروع دلينكينج ( فك ارتباط ) شامل يبدأ من فلسطين ويمتد إلى المنطقة بأكملها.
ما تكشفه الوثيقة عن شقوق في جدار الهيمنة، مهم لشعوب غرب آسيا والقضية الفلسطينية حيث يُجبر المركز الإمبريالي على إعادة ترتيب أولوياته لمواجهة الركود الداخلي والمنافسة المتزايدة من الجنوب.


.........


استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025
نظرة عامة وتقييم ماركسي

في الرابع من كانون الأول (ديسمبر) 2025، أصدر البيت الأبيض وثيقةً تاريخيةً لا تقلّ أهميةً عن إعلان نهاية حقبة بأكملها. ثلاثٌ وثلاثون صفحةً فقط، لكنها كافية لتعلن موت مشروع «الهيمنة الليبرالية العالمية» الذي حكم العالم منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وولادة مرحلة جديدة يُعاد فيها ترتيب الإمبريالية نفسها تحت شعار «أمريكا أولاً». ليست الوثيقة تراجعاً عن الإمبريالية، بل إعادة تموضعٍ ذكيةٍ لها في ظلّ أزمة تراكمٍ هيكليةٍ أنهكت مركز النظام الرأسمالي العالمي وكشفت استحالة استمرار الهيمنة الشاملة.

المركز، لأول مرة منذ خمسة وسبعين عاماً، يعترف صراحةً أن «الهيمنة الأمريكية الدائمة على العالم بأكمله هدفٌ غير مرغوب فيه ومستحيل». هذا الاعتراف ليس تواضعاً أخلاقياً، بل هو اعتراف ماديٌّ بأن تكلفة الحفاظ على النظام العالمي القديم قد تجاوزت قدرة الاقتصاد الأمريكي على التحمل، وبأن الرأسمالية المعولمة التي قادتها الولايات المتحدة دخلت مرحلة الركود الطويل وفقدان القدرة على إعادة إنتاج شروط هيمنتها السابقة.

الوثيقة إذن ليست «استراتيجية انسحاب»، بل استراتيجية إعادة تجميع قوى المركز في مواجهة صعود الأطراف وتعمّق تناقضات التراكم على المستوى العالمي. إنها تعكس وعي الطبقة الحاكمة الأمريكية بأن الإمبريالية الجماعية للثالوث (الولايات المتحدة ـ أوروبا الغربية ـ اليابان) قد انتهت فعلياً، وبأن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على حمل أعباء الحلفاء الذين تحوّلوا إلى أحمال ميتة على كاهلها.

أولى علامات هذا التحول هي إعلان أمن الحدود الجنوبية «العنصر الأساسي في الأمن القومي»، وإعادة إحياء مبدأ مونرو تحت اسم «ملحق ترامب». هنا يظهر الوجه العنصري الأصيل للإمبريالية الأمريكية دون أقنعة «حقوق الإنسان» أو «نشر الديمقراطية». النصف الغربي من الكرة الأرضية يُعاد تعريفه كـ«حديقة خلفية» يجب تطهيرها من الهجرة الجماعية ومن نفوذ الصين منافسين (الصين وروسيا)، وتحويله إلى مصدر مباشر للمعادن الحرجة والطاقة يُدار بعقلية استعمارية صريحة. استخدام القوة الفتاكة ضد الكارتلات ليس مجرد مكافحة مخدرات، بل إعلان حرب على الشعوب الطرفية التي لم تعد تُقبل إلا كمورّدين خاضعين أو كقوى عاملة محرومة من حق الحركة.

في الوقت ذاته، تُعلن الوثيقة أن الاقتصاد هو «مصدر القوة الحقيقي»، وتضع هدفاً كمياً واضحاً: رفع الناتج المحلي الأمريكي من ثلاثين تريليون دولار إلى أربعين تريليوناً خلال عقد. هذا الهدف لا يمكن تحقيقه إلا بإعادة تصنيع واسعة وتأمين سلاسل التوريد وكسر الاعتماد على الأطراف، أي بتعميق استغلال الجنوب العالمي تحت شعار «المنافسة المسؤولة» و«التبادلية». إنها محاولة يائسة لعكس عملية التدهور النسبي لمركز النظام أمام صعود الصين والهند وغيرهما من القوى الطرفية التي بدأت تُعيد توجيه فائض القيمة نحو تطوير قواها المنتجة الذاتية.

أما أخطر ما في الوثيقة فهو محاولتها تفكيك «الإمبريالية الجماعية للثالوث» من الداخل. وصف أوروبا بأنها في «تراجع حضاري» و«فقدان الثقة الذاتية الحضارية» ومطالبتها بتخصيص 5% من ناتجها للدفاع بحلول 2035 ليس مجرد إهانة ديبلوماسية، بل إعلان انفصال عملي عن الحليف الأوروبي الذي لم يعد يؤدي وظيفته التاريخية في تمويل الهيمنة الأمريكية وتوزيع أعبائها. إنها لحظة تاريخية تُعلن فيها الولايات المتحدة أنها لن تستمر في دفع فاتورة أمن أوروبا، وأن على الأخيرة إما أن تتحول إلى تابع عسكري مباشر أو أن تواجه مصيرها وحدها أمام روسيا والصين.

هنا يكمن التناقض الأعمق: الوثيقة تُدرك أن التحالف الروسي-الصيني يُشكل التهديد الحقيقي على الهيمنة الغربية، لكنها تختار بدلاً من المواجهة الشاملة سياسة «الفصل» بين موسكو وبكين عبر تقديم تنازلات تكتيكية (إنهاء الحرب في أوكرانيا بسرعة، إعادة توازن العلاقة الاقتصادية مع الصين). هذا خيارٌ يعكس ضعف المركز لا قوته، لأنه يعترف ضمناً بأن المواجهة المباشرة مع التحالف الآسيوي-الأوراسي قد تكون مكلفة أكثر من قدرة الاقتصاد الأمريكي على التحمل في مرحلة الركود الطويل.

النتيجة الموضوعية لهذا التحول هي تسريع تفكك الثالوث الإمبريالي وفتح شقوق واسعة في جدار النظام الرأسمالي العالمي. أوروبا، التي وُصفت بأنها توشك على «المسح الحضاري»، تُركت لمصيرها، ويُطلب منها أن تتحول إلى كيان عسكري مستقل أو أن تنهار. الجنوب العالمي، وخاصة أمريكا اللاتينية وأفريقيا، يُعاد تعريفه كمصدر للمواد الأولية والطاقة دون أي التزام تنموي، أي كمحض مستعمرة جديدة تحت إدارة مباشرة أكثر فجاجة.

لكن هذه الشقوق نفسها تُشكل فرصة تاريخية. فكلما انسحب المركز إلى قوقعته القومية، كلما اتسعت مساحة المناورة أمام قوى الأطراف لكسر التبعية الاقتصادية وبناء تحالفات جنوبية مستقلة. إن إعلان الولايات المتحدة أنها لن تستمر في لعب دور «شرطي العالم» هو، بمعنى موضوعي، بداية نهاية النظام الإمبريالي القديم، حتى وإن جاء هذا الإعلان من فم الإمبريالية نفسها.

استراتيجية 2025 ليست إذن «استراتيجية سلام» ولا «عودة إلى العزلة»، بل هي الشكل الجديد الذي تتخذه الإمبريالية في مرحلة انحطاطها الطويل: إمبريالية انكفائية، عنصرية صريحة، براغماتية بلا أقنعة، تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الهيمنة عبر التخلي عن الأطراف غير الضرورية وتركيز الموارد في الداخل وعلى الأطراف القريبة جغرافياً.

ما يحدث اليوم ليس مجرد تغيير إدارة أو شخصية سياسية. إنه لحظة تاريخية يكشف فيها المركز عن عجزه عن قيادة النظام العالمي الذي بناه بنفسه، ويبدأ فيه، رغم إرادته، عملية تفكيك هذا النظام من الداخل. على شعوب الأطراف أن تفهم أن هذه اللحظة ليست لحظة انتصار الإمبريالية، بل لحظة ضعفها العميق، وأن استغلال هذا الضعف يتطلب بناء قوة مادية مستقلة وتحالفات حقيقية بين الشعوب المقهورة، لا الرهان على «التوازنات» التي يرسمها المركز المنهار.

الإمبريالية لم تمت، لكنها بدأت تترنح. والتاريخ، كما علمنا دائماً، لا يرحم المترنحين.


….

المادة الساخرة


استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025
تقرير ساخر جداً، ومؤلم جداً لأنه صادق

في الرابع من ديسمبر عام 2025، وبينما كان العالم يستعد لعيد الميلاد بشراء ألعاب صينية الصنع، فاجأنا البيت الأبيض بوثيقة تاريخية من ثلاث وثلاثين صفحة فقط، أي أقصر من قائمة مشترياتي في والمارت يوم الجمعة السوداء، لكنها كافية تماماً لتعلن طلاقاً رسمياً بين الولايات المتحدة وبقية الكوكب. الشعار الجديد: «أمريكا أولاً»، وفي الهامش بخط صغير جداً: «وإن شاء الله آخر الطابور يطفئ النور».

الوثيقة، بأسلوب أدبي يذكّرنا بـ«فن الصفقة» مخلوطاً بكتيّب تعليمات مجفف شعر، تعلن بكل فخر أن فكرة «الهيمنة الأمريكية الدائمة على العالم بأكمله» كانت مجرد نزوة شباب، حماقة مراهقة، شيء من قبيل «كنتُ أظن أني أستطيع أكل بيتزا كل يوم وأبقى نحيفاً». الآن، وبعد أن اكتشفنا أن الحساب البنكي للإمبريالية قد وصل إلى اللون الأحمر الفاقع، قررنا أن نكون واقعيين: لن نهيمن على العالم كله، سنكتفي فقط بجيراننا في النصف الغربي، ونترك الباقين يلعبون لوحدهم في الملعب الكبير.

أولوية الأولويات الآن هي الحدود الجنوبية. لقد أُعلن رسمياً أن «أمن الحدود هو العنصر الأساسي في الأمن القومي»، وهي جملة تثير فينا الحنين إلى أيام كان الأمن القومي يُقاس بعدد القواعد العسكرية في الخليج، لا بعدد الجدران الإسمنتية في تكساس. تم إحياء مبدأ مونرو باسم جديد أكثر أناقة: «ملحق ترامب»، وهو في الحقيقة ملحق عقاري فخم جداً يضم المكسيك وأمريكا الوسطى والجنوبية، مع شرط جزائي يقضي باستخدام القوة الفتاكة ضد أي كارتل يرفض دفع الإيجار بالدولار نقداً أو بالكوكايين المصفّى.

أما الاقتصاد، فيا للعجب، فقد اكتشفنا أخيراً أنه «مصدر القوة الحقيقي». يا إلهي، من كان يظن؟ كل هذه السنين ونحن نرسل حاملات طائرات بـ13 مليار دولار للقطعة الواحدة، واتضح أن المصانع والوظائف كانت الحل من الأول. الهدف الجديد نبيل وبسيط: نرفع الناتج من 30 تريليون إلى 40 تريليون خلال عشر سنوات، أي نطبع عشرة تريليونات إضافية ونوزعها على شركات الأسلحة والنفط، ثم نعلن أننا انتصرنا على الفقر والصين معاً في جلسة واحدة.

أوروبا؟ آه، يا عزيزتي أوروبا. حصلت على فقرة خاصة بها في الوثيقة، وكانت ألطف من رسالة فراق على الواتساب. وصفت بأنها في «تراجع حضاري» و«فقدان الثقة الذاتية الحضارية»، وهي عبارات دبلوماسية تعني بالعربي الفصيح: «يا بنت الحلال، أنتم انتهيتم، خذوا 5% من ناتجكم المتواضع واشتروا به سلاح، وإذا ما عجبكم الحال فاتصلنا بـبوتين، عنده عروض خاصة هذا الموسم». أوروبا الآن مطلوب منها أن تتحول إلى قوة عسكرية مستقلة، أي أن تصبح مثل ذلك الصديق الذي كنت تدفع له فاتورة العشاء ثلاثين سنة، ثم تقول له فجأة: «من اليوم كل واحد يدفع نصيبه، وبالمناسبة أنا هآكل في البيت».

الصين؟ تم تخفيض رتبتها من «العدو الوجودي» إلى «زميل في العمل مزعج شوية». لم تعد «المنافسة الكبرى»، بل مجرد شريك تجاري يحتاج إلى «إعادة توازن» و«تبادلية»، وهي كلمات جميلة تعني: «ارجعوا تشترون منا فول صويا ونحن نشتري منكم كل شيء، وكلنا سعداء». أما روسيا فلم تُذكر إلا بين قوسين، كما نذكر الزوجة السابقة في حفل زواج جديد: «بعض الأصدقاء الأوروبيين يعتقدون أنها تشكل تهديداً، الله يعينهم».

الشرق الأوسط؟ تم شطبه من الخريطة الأمنية تماماً، وأصبح مجرد محطة بنزين كبيرة مع إمكانية استثمار في الذكاء الاصطناعي، على طريقة «يا رجالة، خلّصنا منكم، نريد فقط نفطكم ورأس مالكم السيادي، والباقي خذوه معك». أفريقيا؟ تحولت من «قارة الأمل» إلى «قارة المعادن الحرجة»، وهي ترقية مشرفة جداً، من كونها مصدراً للصور المؤثرة في حملات التبرعات إلى كونها مصدراً لليثيوم الذي يشغّل هواتفنا.

الخلاصة، أيها السادة، أننا نشهد لحظة تاريخية نادرة: الإمبريالية الأمريكية قررت أن تأخذ إجازة طويلة، تترك الحساب على الطاولة، وتطلب من بقية الزبائن أن يدفعوا أو يغسلوا الصحون. ليست نهاية الإمبريالية، لا سمح الله، بل مجرد حمية قاسية، نظام غذائي جديد اسمه «أمريكا أولاً، والباقون يصومون».

والأجمل أن الجميع صفق: الكرملين قال «أخيراً تكلموا لغة نفهمها»، بكين قالت «سنزيد الإنتاج احتفالاً»، وبرلين ما زالت تبحث في القاموس عن معنى كلمة «تراجع حضاري» وهي تبكي بهدوء في حمام المستشارية.

في النهاية، الوثيقة ليست استراتيجية أمن قومي، بل رسالة اعتذار متأخرة إلى التاريخ: «آسفون، كنا نظن أننا نستطيع إدارة الكوكب كله، اتضح أننا بالكاد نستطيع إدارة حدودنا مع المكسيك. نرجو المعذرة، وبالمناسبة، من يدفع فاتورة الناتو هذا الشهر؟»

وتبقى الشعوب تنتظر، بعضها بفرح خبيث، وبعضها بحسرة، وبعضها الآخر يبحث عن تطبيق ترجمة لفهم ما الذي حدث للتو. أما نحن، فسنكتفي بتسجيل اللحظة: اليوم الذي قررت فيه أكبر إمبراطورية في التاريخ أن تكون «واقعية»، وهي كلمة أنيقة جداً لقول «خلاص، فلوسنا خلصت».



#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)       Ahmad_Saloum#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية : أنفاسٌ لا تُقاس أو اسم اخر للرواية (عبودية في ثياب ا ...
- استراتيجية الأمن القومي الأمريكية لعام 2025: نظرة عامة وتقيي ...
- حول رواية ( لماذا ؟ ..صرخة في قصر أصم )..مقدمات نقدية لمدارس ...
- رواية «لماذا في قصر أصم» توثيقٌ لستين عاماً من حكم مملكة الظ ...
- سوريا في السنة الأولى لما بعد الأسد: تقرير من قلب الخراب
- اكتشاف جبل الكرمل: رحلة في أعماق التاريخ والطبيعة من خلال كت ...
- رواية: في قلب الإمبراطورية المالية: ملحمة الضمير الذي استيقظ ...
- رواية : مفتاحٌ في صدر ميت
- استثمارات بلاك روك في قطاع السلاح: رؤية معمقة نحو الثراء الذ ...
- بلاك روك للمبتدئين: كيف تكون ناشطاً بيئياً وتاجر سلاح في نفس ...
- لماذا يجب على العالم أن يسترد سيادته من الاحتكارات الخمس
- من أنبوب كولن باول إلى أنابيب غاز ترامب: نفس النكتة،
- سوريا تحت ظلال الفصل السابع رحلة نحو نهاية مكتوبة بأيدي من ظ ...
- عندما تصبح الدراسات الجامعية برنامجاً حكومياً: رؤية حزب العم ...
- عندما التقت الدبّة بالتنين: سقوط الهيمنة الغربية بهدوء
- عبوديةٌ بثياب الحرية.. تحقيقٌ في استلاب الكرامة الإنسانية تح ...
- من بغدادَ العلم إلى رياضِ و دوحة الخيانة: سقوطُ الضمير العرب ...
- عندما يصبح الربحٌ إلهاً: سيرة الإبادة الرأسمالية:من بوتوسي إ ...
- مجرمو السيليكون: من وادي الكاليفورنيا إلى قبور غزة
- القرم إلى الأبد والغاز بالروبل


المزيد.....




- من غزة إلى منصة التكريم في لندن.. ملاك طنطش صحافية تروي الحر ...
- الإمارات تجرد الجزائر من لقبها.. وإصابة يزن تخيم على فوز الأ ...
- في فترة عصيبة.. ماذا أراد الرئيس الإندونيسي من زيارته إلى با ...
- -معكم حكومة بريطانيا-.. المكالمة التي تلقتها الجنائية الدولي ...
- مسيّرة تقصف مركبة عسكرية بالسويداء والأمن يتوعد الفصائل بالر ...
- من خارج هوليود.. أفضل المسلسلات غير الأميركية لعام 2025
- باكارايما.. الممر البري الوحيد بين فنزويلا والبرازيل
- -لا تضيعوا وقتكم بتصريحات براك-.. عون ينفي التزامه بورقة مع ...
- تونس ـ الحكم بسجن المعارضة البارزة عبير موسي القابعة في السج ...
- كأس العرب: الإمارات تفوز على الجزائر بركلات الترجيح وتنتزع ت ...


المزيد.....

- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - احمد صالح سلوم - ما التحديات التي تطرحها وثيقة ترامب الاستراتيجية على محور المقاومة ؟